طريق مصر إلى تشاد... مشروع محفوف بالمخاطر
بات مشروع الطريق بين مصر وتشاد عبر ليببا تمهيداً لربط القاهرة بالقارة السمراء برياً، محفوفاً بالمخاطر في ظل وجود جبهات اشتباك وقتال نشطة ومفتوحة في ليبيا وتشاد وعلى تخوم دارفور في السودان التي تشهد حرباً طاحنة بين الجيش ومليشيا الدعم السريع.
وتأتي طموحات القاهرة في ظلّ الرهان على إنشاء ممر اقتصادي ضخم يصل مصر بقلب أفريقيا يجلب إليها العديد من الفوائد الاقتصادية على القطاعات المختلفة ومنها التجارة والمقاولات، ورغم المخاطر الأمنية والتحديات المالية، نفّذت القاهرة نحو 15% من مشروع الطريق بالجزء الموجود داخل الأراضي المصرية.
وكان نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية وزير الصناعة والنقل المصري، كامل الوزير، أكد يوم الثلاثاء الماضي، أن طريق (مصر – تشاد) محور استراتيجي يساهم في تعزيز التواصل بين شمال ووسط أفريقيا ويفتح آفاقاً جديدة للتجارة البينية ويخدم حركة الأفراد والبضائع بصورة غير مسبوقة. وأضاف، أن نطاق التعاون المشترك يمتد ليشمل تشكيل لجنة فنية مشتركة دائمة لمتابعة مراحل تنفيذ مشروع طريق الربط البري بين مصر وتشاد، تكون معنية بوضع جدول زمني تنفيذي مشترك وحل أي تحديات أولاً بأول.
اشتباكات وجبهات قتال
وبينما أعلنت وزارة النقل المصرية عن مواصلة تنفيذ مشروع الطريق البري مع تشاد مروراً بليبيا بطول 2570 كيلومتراً، وقالت إنه يجري حالياً إنشاء طريق شرق العوينات / الكفرة بطول 370 كيلومتراً، والذي يمثل مسار الطريق داخل حدود الدولة المصرية، كشف مصدر مصري مطّلع لـ"العربي الجديد" أن دوائر التقدير داخل عدد من الأجهزة المصرية ترى أن الوقت غير مناسب إطلاقاً للمضي في مشروع إنشاء الطريق، مشيراً إلى أن المشروع في صورته الحالية يستحيل تنفيذه بسبب مروره عبر مناطق اشتباك نشطة وجبهات قتال مفتوحة في ليبيا وتشاد وعلى تخوم دارفور.وأوضح المصدر أن التحليل الأمني للمشهد الإقليمي المحيط بالمسار المقترح يجعل المضي قدماً في المشروع "غير منطقي"، وأنّ القاهرة تدرك أن الظروف الميدانية لا تسمح ببناء خط نقل عابر للقارة في منطقة تتغيّر خرائط السيطرة فيها بصورة يومية.
وقال المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، إنّ الخطة الأصلية للمشروع، حين كانت تُناقَش قبل الحرب السودانية، تضمنت مرور الطريق داخل السودان بوصفه المسار الأكثر أمناً والأكثر واقعية من الناحية السياسية والاقتصادية. غير أن اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وانهيار منظومات الأمن على امتداد مساحات واسعة من البلاد، دفع الجانب المصري إلى تعديل المسار جذرياً، وتحويله نحو ليبيا ومنها إلى تشاد، في محاولة للحفاظ على المشروع الاستراتيجي الذي تراهن عليه القاهرة للتواصل البري مع وسط أفريقيا. لكن التطورات اللاحقة كشفت، وفق المصدر، أن البديل الليبي-التشادي لا يقل خطورة وتعقيداً عن المسار السوداني الأصلي.
وأوضح المصدر أن المناطق التي من المفترض أن يعبرها الطريق داخل ليبيا، وتحديداً من شرق العوينات إلى الكفرة ثم جنوباً نحو الحدود مع تشاد، تخضع لنفوذ عسكري مضطرب، وأن الجنوب الليبي يشهد منذ شهور توترات متصاعدة على خلفية إعادة انتشار قوات خليفة حفتر، وتحركات مجموعات قبلية مسلحة، وتزايد الوجود الروسي عبر "الفيلق الأفريقي" في قاعدة السارة القريبة من المثلث الحدودي، وأضاف قائلاً: "هذه ليست بيئة يمكن أن يُشق فيها طريق دولي أو تؤمَّن فيها حركة شاحنات على مدار العام. الوضع غير محسوم، والسيطرة العسكرية نفسها غير مستقرة".
أما في تشاد، فيشير المصدر إلى أن المناطق الشمالية التي يمر بها المسار المقترح تقع على تماس جغرافي وسياسي مع امتدادات الحرب السودانية، فضلاً عن الوضع الداخلي التشادي الذي لا تزال ملامحه هشة بعد الانتخابات الأخيرة، وعمليات التمرد المتقطعة في الشمال، والصراع المستمر داخل الجيش، وتوتر العلاقات مع المعارضة المسلحة، ويضيف: "تشاد ليست مستقرة بما يسمح بإنشاء طريق عابر للصحراء، وهذه حقيقة يدركها الجميع. المسار التشادي–الليبي في صورته الحالية مسار مهدد بالكامل"، وأكد المصدر أن المشروع الذي تروج له بعض الجهات التنموية على أنه "شريان للتجارة القارية" يحتاج إلى بيئة مستقرة كي يتحول إلى ممر اقتصادي فعّال، بينما المشهد الحالي يشير إلى العكس تماماً: حرب واسعة في السودان، صراع نفوذ في الجنوب الليبي، اضطرابات داخلية في تشاد، وتدخلات دولية متزايدة في المثلث الحدودي بين الدول الثلاث، ويضيف: "كيف يمكن بناء طريق في قلب هذه الأعاصير السياسية والعسكرية؟".
ممر اقتصادي ضخم
تراهن مصر على جعل المشروع ممراً اقتصادياً ضخماً، يتولى تأمين التجارة بين مصر وغرب السودان وتشاد، حيث تكثر من حوله المراعي التي توفر نسبة كبيرة من احتياجات مصر من الثروة الحيوانية، والمنتجات الزراعية، وتستقبل واردات، تصل قيمتها إلى نحو مليار دولار، تشمل المنتجات الغذائية، كالسكر والدقيق والمصنوعات المحلية من المنتجات الكهربائية والأواني المعدنية والبلاستك والمواد الكيماوية، بالإضافة إلى تأمين حركة النقل بين المناطق الحدودية مع ليبيا وشمال السودان، امتداداً إلى العاصمة التشادية.وحسب المصدر، فإنّ القاهرة تنظر الآن إلى المشروع على أنه رؤية استراتيجية مؤجلة أكثر منه مشروعاً جاهزاً للتنفيذ، وأن الأولوية الحالية هي مراقبة تطورات الإقليم وتحديد اللحظة المناسبة لإعادة تقييم المسار أو تعديله من جديد إذا سمحت الظروف، ويختم قائلاً: "الربط البري مع أفريقيا هدف استراتيجي لمصر، لكنه لن يتحقق عبر المغامرة في مناطق غير مستقرة. الطريق يمكن أن يُبنى حين تستقر الأرض التي سيمر فوقها، لا قبل ذلك".
ويشير المصدر إلى وجود مخاوف من ارتفاع التكلفة الهائلة للمشروع الممتدة لأكثر من 1500 كيلومتر وسط الصحراء الأفريقية مترامية الأطراف، في مناطق تكثر بها الكثبان الرميلة التي تغطي الطرق على ارتفاعات تصل إلى أمتار عدّة بما يقطع القائم منها ويتطلب تعديلها كل فترة زمنية أو صيانة دورية دائمة على مدار الساعة مكلفة للغاية وسط صحراء شاسعة، غير آمنة للعيش الدائم، مؤكداً حاجة المشروع إلى ضخ استثمارات هائلة، تجعله غير اقتصادي في الوقت الحالي، وهو الأمر الذي يدفع مصر إلى استيراد اللحوم من تشاد عبر طائرات نقل عسكرية، تتولى ذبح المواشي في تشاد وغرب السودان ونقلها طازجة للأسواق المحلية، لتقليل التكلفة، ومواجهة مشاكل النقل عبر الطرق الوعرة.
لحظة إقليمية شديدة التعقيد
ويأتي مشروع الطريق البري بين مصر وليبيا وتشاد في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، إذ لم يتجاوز حتّى الآن مرحلة التنفيذ الجزئي داخل الحدود المصرية، ولم ينتقل في ليبيا وتشاد إلى ما هو أبعد من مذكرات تفاهم ودراسات أولية. والمسار المقرّر للطريق يمر في واحدة من أكثر المناطق هشاشة في شمال أفريقيا ووسطها، وهي المنطقة التي تمتد من شرق العوينات إلى الكفرة داخل ليبيا، ثم نحو الحدود الليبية التشادية وصولاً إلى تخوم دارفور.
هذه الجغرافيا التي تبدو على الخرائط مجرد صحراء مفتوحة، تمثل في الواقع عقدة صراعات عسكرية وسياسية ونفوذية متشابكة، ما يجعل المشروع ذاته محاطاً بجملة من التعقيدات التي تتجاوز الاعتبارات الاقتصادية التي يروّج لها رسمياً.
وتزداد حساسية المشروع بالنظر إلى الوضع في الجنوب الليبي، الذي يشكّل قلب المسار المقترح. فالمنطقة الممتدة من الكفرة إلى القطرون وغات تشهد منذ سنوات إعادة تشكيل لنفوذ اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي وسّع حضوره العسكري هناك عبر كتيبة "سبل السلام" وكتيبة 101، مع إقصاء مكونات قبلية فاعلة مثل التبو. ويتداخل مع هذا المشهد الوجود الروسي المتنامي في الجنوب الليبي، إذ أصبحت قاعدة السارة الجوية، القريبة من المثلث الحدودي بين ليبيا وتشاد والسودان، نقطة ارتكاز للفيلق الأفريقي الذي حل محلّ مجموعات "فاغنر".وتبرز أيضاً الحرب السودانية بوصفها عاملاً شديدَ التأثير على مستقبل الطريق، فالجزء التشادي المقترح للمسار يمرّ في مناطق ملاصقة لدارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، التي تعتمد على طرق إمداد تصل إلى ليبيا. وتتكرر الاتهامات لحفتر بتقديم دعم لوجستي لهذه القوات، وآخرها ما كشفته منظمة "ذا سنتري" بشأن إمدادات الوقود، يعني أنّ الطريق قد يتحول، إذا اكتمل دون ضمانات أمنية، إلى ممر تستخدمه أطراف الصراع السوداني، ولا سيّما في حال امتداد المعارك أو حدوث تغيرات جديدة في الميدان.
نحو القارة السمراء
رغم هذه التقديرات المتحفظة داخل القاهرة، فإنّ المشروع يحظى بدعم واضح من عدد من الخبراء المتخصّصين في الشؤون الأفريقية، وفي مقدمتهم الدكتورة نجلاء مرعي التي تحدثت مطولاً لـ"العربي الجديد"، معتبرة أن الطريق يمثل "مشروعاً عملاقاً لإعادة رسم خريطة التجارة الدولية"، وهو خطوة استراتيجية تعزّز الحضور المصري في وسط أفريقيا وتعيد إحياء التجارة البينية الأفريقية. وتؤكّد مرعي أن فكرة المشروع ليست جديدة، إذ طُرحت قبل عام 2011، لكن (ثورة) "25 يناير عطّلت استكمالها. غير أنّ القاهرة عادت للعمل عليه تدريجياً، وجرى حتّى الآن إنجاز نحو 15% من الجزء المصري، بالتوازي مع إنشاء منفذ الكفرة الحدودي".
وترى الخبيرة أن مشاركة شركات مصرية، وفي مقدمتها "المقاولون العرب"، في تنفيذ المشروع داخل ليبيا وتشاد "تعكس الثقة الأفريقية في القدرات الفنية المصرية". وتعتبر مرعي أن الطريق ليس بنية تحتية فحسب، بل "ركيزة لمستقبل اقتصادي يربط البحر الأحمر بالمحيط الأطلسي"، ويوفر مسارات آمنة للحركة الاقتصادية، ويساهم في مكافحة الهجرة غير الشرعية والتطرف، كما يمنح الدول الحبيسة في وسط أفريقيا، مثل تشاد وأفريقيا الوسطى والكونغو، منفذاً برياً إلى الشمال عبر مصر، وهو ما يفتح أمامها آفاقاً جديدة للتصدير، وتشير إلى أن ليبيا تخطط لإنشاء موانئ جافة في الكفرة ومدن صحراوية أخرى لخدمة الطريق، ما يعزز دوره ممراً تجارياً إقليمياً.
اجمالي القراءات
11