مشروع الحوار القروي(6:6)
نظراً لما تروجه بعض الجهات في القرية بأن مقابل الدين هو الانحراف والشذوذ، ينبغي أولاً وضع مفهوم محدد ومعين للدين المقصود ويجري الحوار بشأنه، هل هو من الكتاب والسنة، أم من العقل الذاتي، أم من الفقهاء، أم من الصالحين، وهل يمكن اجتماع تلك الجهات في جهة واحدة أم جهتين أم ثلاثة، أم أن الإنسان قادر على التمييز بين الغث والسمين بمفرده؟..وهل حدث وأن تعارضت تلك الأسس والجوانب التي تُغذّي .."مفهوم الدين"..عند أهل القرية أم أنها متفقة دائماً ودون شكٍ أو لبس؟
مبدأياً فالدين ليس عملية حسابية تُؤخذ بالتعليم، ولكنه إشعاع نوراني ويقين قلبي وتصديق بالجوارح، فما يأتي بالتعليم يزول من خلاله، وهذا رد على من تطوع لغرس الدين في النفوس من أقوال فلان وعلان-التعليمية- دون مشورة الناس وإطلاق عقولهم للتفكير، فالدين بالأصل هو شعور ويقين وخلوة ذاتية لا علاقة لأحدٍ بها على الإطلاق، ولا يستطيع أحد-مهما بلغ موقعه-أن يتحكم أو أن يرصد تلك العلاقة، فالعاقل وصاحب الفطرة السليمة ومن جاهد نفسه للصلاح سيسهُل عليه فهم الدين ببساطته دون تدخل من أحد، وما تبقى بعد ذلك من حدود وحواجز وطقوس هو أقدر على الالتزام بها ضمن دائرة هذا الدين.. طالما ارتضاه لنفسه ووافق عليه فلكلٍ جعل الله شِرعةً ومنهاجا.
هكذا نصل إلى الطبائع الإنسانية وتكوينها للعقل والفطرة معاً، فالطبع هو ما يُحدد العلاقة بين الإنسان وغيره سواء الخالق أو المخلوق، وعن طريقه تدخل السعادة والقناعة بَدَن الإنسان، فالبشر مأمورون للتحكم ولتطوير طبائعهم وتوظيفها في خدمة المجتمع كوسيلة لنجاة النفس وإسعاد الآخرين..أي أن الحوار القروي يجب أن يتعرض بالأساس إلى مسألة الطِباع، فرُبّ صالحاً دَمِثاً كان كافرا، ورُبّ فاسداً فاحشاً كان مسلما، فليس بالضرورة أن يكون الكافر منحرف وشاذ عن الفطرة السليمة، وإلا لبقيت آثار انحرافه عليه إذا أسلم وتكون نكبة عليه وعلى دينه الجديد، والعكس صحيح ...
ويُمكن أن نلحظ ذلك على من عُرِفَ بصلاحه في الجاهلية ثم أسلم كي نرى أنه وكما يُقال في الريف.."الطبع غلّاب"..أو ما يسميه المفكرون.."الطبع يغلب التطبع"..وقد نختلف في تسمية الطبائع فنُطلق عليها.."العادات"..وهذا غير صحيح فليست العادة من الطبائع، إنما العادة من الأُلفة..يُُقال .."أَلِفَ الشئ"..أي تعوّد عليه، والطبع يأتي من صراع المبدأ مع المألوف والرغبة، ولذلك نجد أصحاب المبادئ يتمردون على العادات، ويحاولون أن يجدوا لهم صوتاً بين أشواكها التي يعتقدونها السبب في تخلفهم، وعلى الضد سنرى إنساناً آخر يَقطُر طمعاً وجَشعاً في سبيل رغباته حتى لو كان متحدثاً باسم الدين، فهو في النهاية يتكلم من طبعه وليس من دينه.
بترجمة بسيطة أنه يجب عودة مفهوم الدين الأخلاقي للقرية من جديد، وأن الطبائع هي عماد هذا المفهوم، فمن حَسُنَ طبعه وأخلاقه كان صالحاً، ومن ساءت طبائعه كان فاسداً حتى لو كان شيخ المسجد، وأقترح في هذا المضمار أن الدعوة إلى الدين بين أهل القرى يجب أن يتصدرها أهل المبادئ، وهم الذين نعرفهم بأنهم يتمردون على العادات الريفية، أو التي لا تتوافق مع مبادئهم وفهمهم للدين، هؤلاء وإن ظن فيهم أهل القرى ظناً سيئاً إلا أنهم سيخلقون رأياً آخر في القرية يؤسس بعد ذلك لفكرة.."الرأي والرأي الآخر"..وهي الفكرة التي سيقوم عليها الحوار بعد ذلك، وقد أحببت أن أختم هذه الحلقات بتلك الجزئية نَظراً لأهميتها.
كذلك التعرض في الحوار للثلاثية المقدسة.."الدين والسلطة والجنس"..فإذا امتلك القرويون الشجاعة للخوض في خلافات الدين أو نقد السلطة الحاكمة فلن يُمكنهم الحديث أو البحث في مسائل الجنس وما يتعلق به من ثقافة، ربما كان أهل المُدن هم الأقرب لرفع هذا الغطاء والتحدث فيه بحَذَر، ولكن لا زالت قيم وأعراف أهل القرية تمنع ذلك سداً للذرائع، وهم بهذا التوجه سلفيون- نسبةً لشيوع نزعة سد الذرائع عند السلفيين- فكلام الحُبّ والغزل ممنوع حتى مجرد الشعور بالشهوة يجلب العار والشنار، وقد خلق ذلك بعضاً من البَداوَة على أهل القرية، فظن بعضهم أن ما تعارفوا عليه هو الدين، وهذا غير صحيح، فالدين لم يُحرم الشهوة ولم يُجرم كلام الحُبّ والغزل، بينما في تراثنا شُعراءً وأدباءً صاغوا تلك المسألة بمهارة وجُرأة.. إلا أنه يجري كتمهم بنفس الذريعة.
الخطأ هو في اعتبار الشعور أو الفعل الذاتي تعدٍ يستوجب الإنكار، وهنا تظهر ملامح المحافَظَة المُسيطِرة على قِيَم الريف، بينما الصحيح أن هذا الشعور هو شعور فطري غريزي لا يمكن السيطرة عليه أو كتمانه، بل في كتمانه أضرار نفسية وعضوية قد تؤثر على مستقبل الإنسان بعد ذلك، والأفضل هو الحديث عنه دون إخلال بحقوق الغير وكامل حُرّيته، يأتي الخلط من رؤيتنا لموقف الغرب من تلك المسألة التي يتبنون فيها مسألة الحرية دون ضابط قوي أو مرئي يُحافظ على الأخلاق والآداب العامة، وبين موقف الغرب نفسه- والمُعلَن-من تناول مسألة الجنس، فيظنون أن الغرب تشيع فيه الفاحشة والاعتداءات الجنسية، بينما في منطقتنا تُسجّل أقوى المعدلات في الاعتداءات الجنسية والفاحشة بقوة حتى في المجتمعات التي تزعم تطبيقها للشريعة.
من الممكن أن نخلق في القرية قيماً تختلف عن قيم الغرب المتحررة والمنفتحة، وعن قيم العرب المحافِظة والمتشددة، فقط في الوقوف على حاجات الإنسان الغريزية وتوفيرها بما يناسب المجتمع القروي، فلا يمكن إهمال زواج الشباب وما يتعلق به من جوع جنسي يُماثل –في خطورته- جوع الطعام وعطش الماء، وهذه قضية لن تُحل إلا بعد التعرض للاقتصاد القروي وإحياء قيم التكافل والرعاية للكيان القروي الاعتباري، قديماً كان يوجد بيت مال للمسلمين يساهم فيه الجميع، الآن من الممكن تجديد هذه الفكرة وتوسيعها بما يضمن حل مشاكل القرية وإصلاح الوضع الخدمي والتعليمي فيها كأساس.
إن فتح المجال للحوار حول الدور الاقتصادي للقرية سيفتح مجالات أخرى كثيرة ومن أهمها الدين والسياسة، وهذا ما نهدف للوصول إليه، أن يتمتع الكيان القروي بالثقافة والجُرأة كذلك، قديماً كان يمكن الفصل بين الاقتصاد من جهة والدين والسياسة من جهة أخرى، والسبب كان في فصل السابقين بين تلك المجالات واعتبارها علوماً منفصلة، أما الآن فقد توحدت جميع تلك العلوم في بوتقة واحدة، بل أزعم أنه لا علوم منفصلة حقيقية في هذا الزمان، الجميع يرتبط ببعضه في تناغم وتناسق وتكامل، حتى العلوم العقلية فقد أثبتت نظريات إينشتين النسبية بأنه لا يوجد فارق بين تلك العلوم وعلوم الطبيعة، وكأن العلم في أصله واحد وله أشكال مختلفة حسب الاستخدام .
من هنا أرى أنه وفي تقديري بأن أي تعرض لمسألة ضمن حوار هو في حقيقته تعرض لجميع العلوم الإنسانية المعاصِرة، هي سلسلة تشد بعضها بعضا في تآزرٍ عجيب، فالاقتصاد سيأتي بالاجتماع ومنه إلى السياسة ومنه إلى الدين..وهكذا، الأهم أن يكون هناك حواراً سواء ترعاه الدولة ومؤسساتها الاجتماعية أو الثقافية أو حتى الأمنية..فالمسألة لها بُعد أمني نعيش أحداثه الآن، أو أن يرعى هذا الحوار بعض المتطوعين ومن يتحمسون للفكرة، شريطة أن تأتي دعوات الحوار من جهات وأفراد مقبولة لدى المجتمع القروي، فالريف بالعموم يُعظّمون لقاءات التصالح، فما بالنا وقد تؤدي تلك الحالة الحوارية إلى إحداث حالة من السلام والوِفاق لم تشهدها القرية المصرية من قبل؟..هي دعوة إنسانية لكل مهتم وعلينا أن نتحمل مسئولياتنا تجاه هذا المجتمع المنسي.
اجمالي القراءات
8013