من أفريقيا إلى الشرق الأوسط... كيف أدى "رسم" الحدود إلى صياغة العالم المعاصر
من أفريقيا إلى آسيا والشرق الأوسط، ومن الصحراء الغربية إلى كالينينغراد، غالبا ما تتسبب مجرد خطوط مرسومة على الخريطة في دفع الشعوب إلى النزاعات وتضارب المصالح. للتعمّق في هذه المسألة وانعكاساتها الاجتماعية الجيوسراتيجية، يشرح جان-باتيست فيبر في حوار مع فرانس24 كيف تسببت الخرائط في توترات جيوسياسية ورسمت عالمنا المعاصر. من المؤكد أن الحدود تلعب دورا (بارزا) في النزاعات"، يؤكد جان-باتيست فيبر ودافيد بيرييه في كتابهما رسم الحدود، عشرة ملفات خرائط في قلب النزاعات المعاصرة، الذي صدر الصيف الماضي عن دار النشر "نوفيس" باللغة الفرنسية.
يشرح المؤلفان كيف أن مجرد خطوط مرسومة على خريطة، تفرضها في غالب الأحيان القوى العظمى، قد حولت أراض إلى دول، ما أدى إلى تغيير حياة ومصير شعوب متجذرة تم فصلها بشكل وحشي بواسطة جدران وهمية.
من أفريقيا إلى آسيا، ومن الصحراء الغربية إلى متاهة الشرق الأوسط، ومن كابيندا (أنغولا) إلى كالينينغراد (روسيا)، تحرّكت الحدود قبل أن تستقر، تاركة انطباعا بأنها تجمدت في الزمن.
في هذا الحوار مع فرانس24، يشرح جان-باتيست فيبر كيف رسمت الخرائط ملامح العالم المعاصر.
رسم الحدود، تاريخ وقصص وصراعات عبر العصور.
فرانس24: هل الصراعات الحدودية الرئيسية في العالم اليوم مرتبطة بترسيم الحدود، الذي بدأ في عام 1648 بمنطقة وستفاليا الألمانية؟
جان-باتيست فيبر: بشكل ما، نعم. إن الصراعات الحدودية الرئيسية مرتبطة بمبادئ الحدود التي تم تحديدها في معاهدة وستفاليا في عام 1648. في ذلك الوقت، كان الهدف هو إعادة السلام إلى أوروبا بعد قرن ونصف من الحروب الدينية، ولا سيما حرب الثلاثين عاما (التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648)، والتي أحدثت صدمة في أوروبا مشابهة بصدمة الحروب العالمية في القرن العشرين. ثم تم وضع منطق الدول الطائفية، القائم على حدود محددة، والتي لا تسمح أراضيها إلا بدين واحد، لتجنب النزاعات الداخلية.
في الوقت الحاضر، تؤدي الحرية الدينية أو حتى العلمانية إلى احتواء الحدود في بعض الأحيان على عدد كبير من الطوائف. مع التطورات التاريخية (الثورة الفرنسية، ربيع الشعوب، الاستعمار...)، انتقلنا من مفهوم الدولة الطائفية إلى مفهوم الدولة القومية: أراض تتوافق مع شعب له هوية وثقافة متعددة إلى حد ما. تعد الحدود الوطنية والإقليمية أحد المبادئ الأساسية لبناء المجتمعات الحديثة. فمن يريد ممارسة السلطة يجب أن يمتلك حدودا سيادية.فأسباب الصراعات متعددة، أبرزها القومية، الموارد، الأقليات (الثقافية، الدينية، العرقية) غير المعترف بها. ولكن في عدد من الحالات، تشكل مبادئ وستفاليا أحد عوامل النزاع، لأنها تفرض تقسيما دقيقا وصارما، وتمنع الإدارة المشتركة أو فوق الوطنية، التي من شأنها تجاوز المواجهات.
أما الإدارة المشتركة والسيادة فوق الوطنية، فهما أداتان قانونيتان وجيوسياسيتان جديدتان تم تشكيلهما في القرن الحادي والعشرين ولا سيما منذ إنشاء النظام الدولي للأمم المتحدة.
هل من الصواب القول بأن أوروبا مسؤولة عن تقسيم القارة الأفريقية؟
تتحمل أوروبا جزءا من مسؤولية تقسيم القارة الأفريقية، التي توصف أراضيها بـ"الدول القومية"، وهو مفهوم بعيد أحيانا عن الواقع، بسبب العدد الكبير من الأعراق، والتنوع الديني والثقافي واللغوي، أو الحقائق السياسية الداخلية التي نجت من الاستعمار.
لكن الدول الأفريقية تلعب دورا هاما في النزاعات الحالية: تتميز بعض النخب والأعراق والأغلبية أو الأقليات الثقافية أو الدينية، برغبة في التعبير عن نفسها مما يثير استياء المجتمعات الأخرى. تتم هذه المنافسة في إطار الحدود التي ورثتها من الأوروبيين، ومن هنا جاءت الفكرة الصحيحة، ولكن جزئيا فقط، بأن هذه الحدود مسؤولة أيضا عن المشاكل المستقبلية. ويمكن أن يؤثر الاستعمار الجديد لبعض القوى، لا سيما في مجال استغلال الموارد، على هذه الحدود ويؤدي إلى اختيار طرف ضد آخر، مما يعزز الشعور بمسؤولية المستعمر السابق.
ومع ذلك، عند تحليل أسباب الصراعات الحالية، من الواضح أن الدول تتحمل مسؤولية في استمرارها، بسبب سعيها للوصول إلى الموارد، والقومية، والتوسع الإقليمي، أو التبشير الثقافي أو الديني... يعود تاريخ الاستعمار إلى ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، ولم تعرف الأجيال التي تولت السلطة سوى الاستقلال والحدود الموروثة من التاريخ، والتي تعتبر حدودا وطنية ومتكاملة إلى حد كبير في ممارسة السلطة.
ونلاحظ أن غالبية الأفارقة متمسكون بها، وأنهم أنفسهم يعزون النزاعات الحدودية إلى النخب المحلية. وتستغل هذه النخب أحيانا "رواية الحدود الاستعمارية" لتحويل الانتباه عن طموحاتها الخاصة.تنبع التوترات بين المغرب والجزائر، حسب ما جاء في الكتاب، "من سوء فهم وعدم قبول الحدود القديمة التي فرضت بالقوة". ألا ترتبط التوترات بين الجارتين المغاربيتين بشكل أكبر بقضية الصحراء الغربية؟
تنبع قضية الصحراء الغربية من التقسيم الإداري الذي تم خلال الاستعمار، أو بالأحرى من عدم إجرائه أو إجرائه بشكل ضئيل، وهو ما يفسر عدم تمكن المغرب والجزائر، لدى استقلالهما، من استعادة الحدود الاستعمارية لتقسيم المنطقة بينهما، كما كان الحال في الغالبية العظمى من الحالات الأخرى. المنطقة هي منطقة مرور بالنسبة للسكان الرحل، في وسط الصحراء حيث الاستقرار البشري ضئيل للغاية منذ الأزل.
لم يضع المستعمر الفرنسي حدودا إدارية واضحة بين مستعمراته في منطقة لم يتخيل أنها ستكون يوما ما موضوعا لمطالبات حدودية، لأن العوامل المختلفة التي غذت الصدام بين الجزائر والمغرب لم تكن متوقعة في ذلك الوقت، منها ظهور نزعة قومية لدول مستقلة أصبحت قوى إقليمية ومصرة على إثبات وجودها. ومن هذه العوامل أيضا: الموارد الأحفورية، الأراضي ذات الواجهة البحرية الطويلة والمتمتعة بموقع جيد، فضلا عن الموارد السمكية الهامة. هذا هو تفسير "عدم فهم" إرث الاستعمار.
فيما يتعلق بفكرة "عدم القبول"، فإنها مرتبطة بحجج الأطراف المعنية، التي تعتبرها مختلف الجهات بأنها زائفة أو غير مشروعة: فبينما يستند المغرب في مطالباته إلى الحدود التي وضعتها إمبراطورية المرابطون في القرن الحادي عشر، تقدم الجزائر نفسها مدافعا عن الشعب الصحراوي، الذي ينتمي إلى العرق الأمازيغي، الذي تعتبر الجزائر أنها موطنه الأصلي – لأنها البلد المغاربي الذي يضم أكبر مساحة صحراوية.
تتسم هذه الحجج (سواء المغربية أو الجزائرية) بطابع "انتهازي"، وهو ما ترفضه الأطراف المتنازعة لأن ذلك سيكون الخطوة الأولى للتنازل عن مطلب السيادة الإقليمية. من وجهة نظر أوروبا، لا يمكننا على الأرجح أن ندرك مدى عمق التنافس الذي دام لقرون بين المغرب والجزائر - أو الدول التي كانت تشكل قبل الاستعمار السيادة السياسية على هذه المنطقة من شمال أفريقيا.غالبا ما يوصف الشرق الأوسط بأنه برميل بارود قابل للانفجار. فهل ترسيم الحدود هو السبب الوحيد وراء الاضطرابات المستمرة في هذه المنطقة؟
إن ترسيم الحدود في الشرق الأدنى والأوسط، الذي جمع بين شعوب متنافسة وثقافات وأديان مختلفة، قد يشكل في بعض الأحيان سببا في اندلاع النزاعات المعاصرة. فقد كان تقسيم منطقة كانت في السابق خاضعة بشكل موحد لسيطرة الدولة العثمانية هو السبب في تزايد النزاعات على السلطة. كانت هذه الحجة أكثر صحة في زمن الاستعمار، ولكن كما هو الحل بالنسبة لأفريقيا، فإن السلطات والنخب والأديان والأيديولوجيات المحلية تتحمل أيضا مسؤولية كبيرة، أو رئيسية، في النزاعات.
وكما هو الحال في أفريقيا، فإن الحدود الاستعمارية، مثل حدود الأردن على سبيل المثال، مقبولة على نطاق واسع من قبل السكان، بل وأصبحت مصدر فخر وطني. تعود جذور الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إلى فترة ما قبل الاستعمار؛ فعدم الاعتراف بدولة كردية مثلا يرجع إلى أن تركيا، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، احتفظت بنفوذ جيوسياسي كبير يسمح لها بالتأثير في تقسيم الأراضي، حتى بصفتها دولة مهزومة، ونرى ذلك اليوم في تدخل الرئيس رجب طيب أردوغان خلال الحرب الأهلية السورية. منذ ستينيات القرن الماضي، اكتسب حزب البعث أهمية حاسمة في المنطقة، وتلقيه الدعم من الاتحاد السوفياتي يفسر العديد من الانحرافات القومية التي أدت إلى حروب، لا سيما تلك التي اندلعت في العراق (ضد إيران والكويت).
فمنذ سبعينيات القرن الماضي، منحت ثروات النفط والغاز بعض الأطراف، ولا سيما المملكة العربية السعودية، وزنا جيوسياسيا جعلها شبه مستقلة عن القوى الاستعمارية الجديدة، خاصة في المنطقة. واليوم، هي على الأقل على قدم المساواة مع القوى الاستعمارية القديمة (التي ظلت إلى جانب الولايات المتحدة، قوى دبلوماسية كبرى)، إن لم يكن أكثر منها. هذه الأطراف تلعب لعبة شطرنج جيوسياسية، حيث تتحكم بشكل شبه كامل في اختيار قطع اللعبة.
تبدو بعض النزاعات غير قابلة للحل، ولكن هذا ليس بسبب الحدود الأصلية، بل بسبب عدم قدرة الأطراف الفاعلة على التوصل إلى حلول وسط. فالتاريخ والحدود بين السيادات، قبل وستفاليا وبعدها، هي دائما نتاج حلول وسط. "قانون الأقوى" ليس سوى أحد أبعاد التسويات، فلم تنجح أي إمبراطورية في فرض سيطرتها بشكل كامل، ناهيك عن أي دولة قومية، ملزمة من حيث المبدأ باحترام القانون الدولي.فيما يتعلق بالنزاعات البحرية، تصفون الوضع بين الصين وجيرانها بأنه متفجر. ما السبب؟
هناك وجود عسكري أمريكي كبير على الساحل الشرقي لبحر جنوب آسيا (قواعد عسكرية، أساطيل..). هذا الوجود يعتمد بشكل كبير على تعاون خصوم الصين، مقابل "صفقات" متنوعة. إذا كانت المنطقة ذات أهمية استراتيجية كبيرة للصين، لا سيما من الناحية التجارية، فهي كذلك بالنسبة للأمريكيين. علاوة على ذلك، فإن المناطق الاقتصادية الخالصة (ZEE) - في قانون البحار - هي مناطق سيادة اقتصادية، وهذا لا يمنع إرسال سفن عسكرية إلى المناطق البعيدة عن السواحل للقيام بدوريات لضمان احترام القانون الدولي، وضمان حرية التنقل أو مكافحة عمليات القرصنة، وهو ما لا يتردد الأمريكيون في القيام به.
النقطة الرئيسية في هذه البقعة البحرية المتفجرة هي وجود تايوان على حدود الصين الشمالية، حيث تشكل الجزيرة والقناة التي تفصلها عن الصين القارية ما يشبه ممرا بين بحر الصين الجنوبي (بحر جنوب آسيا) وبحر الصين الشمالي (البحر الأصفر). استخدمنا مصطلح "متفجر" في الكتاب وهو يشير إلى فكرة أنه إذا حدثت مواجهة، فمن المرجح أن تكون في هذه المنطقة في المقام الأول وعلى الأقل في البداية (حسب حجم المواجهة).
وهنا تركز الصين من جانبها معظم استثماراتها العسكرية البحرية، ناهيك عن القواعد البحرية التي شيدتها، أحيانا على شعاب مرجانية يمكن وصفها بالأحجار الصخرية، ولكنها أصبحت بفضل ارتفاعها عن سطح البحر جزرا، يمكنها من خلالها المطالبة بتوسيع نطاق منطقتها الاقتصادية الخالصة.
عند النظر إلى خريطة المواقع العسكرية الصينية والأمريكية، نرى كيف تتواجه القوتان العظيمتان عبر العديد من القواعد، ناهيك عن المناطق التي تسيطر عليها وتدافع عنها القوى الأخرى. إنها "نقطة ساخنة" في البحار العالمية، سواء بسبب أهميتها الاقتصادية والتجارية أو بسبب المواجهة العسكرية بين الطرفين والتوتر شبه المستمر حول جزيرة تايوان.
فلم يعد السؤال هل ستتعرض تايوان لمحاولة (إعادة) ضمها، بل متى سيحدث كذلك؟
اجمالي القراءات
20