مشروع الحوار القروي(2:6)
الدين هو مكون ثقافي عند أهل القرية، وهو الذي يرسم محاور الشخصية القروية، وهو المُغذّي الأول لأبعادها، وهذا يحدث عبر الطقوس اليومية للدين والقيم القروية المتفاعلة مع تلك الطقوس، كمثال أن النساء في القرية لم تعتاد الصلاة في المساجد، وهذا بخلاف أهل المدينة، فالنساء يذهبون إلى المساجد، وهذا يتسق مع أعراف وقيم أهل القرية التي تحظر الاختلاط حين التعرض للدين، بينما لا يوجد ذلك في المدينة، وبذلك تصلح مسألة الاختلاط كمادة حوار بين أهل القرية، وكذلك ماهية تلك الطقوس وشعائر الدين التي يمارسونها وفق قيمهم وأعرافهم وحقيقة علاقتها بالدين.
أنا لا أزعم اختلاف الطقوس بشكل كلي أو جزئي بين أهل القرية والمدينة، ولكن أزعم أن الدين –كمعتقدات وطقوس-هو مرهون بممارسة الناس له في واقع اجتماعي متغير..أيا كان ذلك حتى في المدينة نفسها سنجد تلك الاختلافات، وكذلك القرية ،فالوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو البيئي قد يفرض على الناس تعدد طقوسهم وتنوع ممارساتهم للدين، لابد لأهل القرية أن يتعرضوا لتلك الأشياء ويضعونها مادة للحوار، فالغالب على أهل القرية هو وحدة صورتهم عن الدين، ومع ذلك هم لا يلحظون تلك الاختلافات، وكما قلت فغالبية أهل القُرى هم أسرى لشيوخ السلفية والإخوان الذين خلطوا ما بين الدين والعقيدة والأخلاق، حتى صار قبول أي اختلاف-حتى لو في الشعائر أو الطقوس-هو أمر مرفوض ويُثير الشُبهات.
جانب آخر لابد من مناقشته هو حقيقة موقف أهل القرية من النظام السياسي الديني، والذي تمثل في نظام الإخوان والرئيس المعزول محمد مرسي، فالقرية المصرية لم تختلف عن المدينة في هذا الجانب، وهذا يعود بالأساس –وكما أشرت في السابق-إلى قضية الهوية، فجماعة الإخوان قد خلقت لها واقعاً اجتماعيا ودينياً وسياسياً خاصاً في قلب المجتمع المصري، ولم يُفرقوا بين القرية والمدينة، ولكن كان نشاطهم أكثر في القرية لتعدد مشاكلها من الفقر والأمية وتردي الأوضاع الخدمية والمعيشية، فأصبح جمهورهم أكبر في تلك المناطق الريفية القروية، ولكنه كان جمهوراً يعاني من مشاكل الهوية، فأصبح أتباعهم بين ساعة وأخرى هم أعداء، والسبب كان لقوة منطق المنافس وإظهار جماعة الإخوان وكأنها متمردة على المجتمع المصري، فلم يقوى الأنصار لنفس العامل الذين جاءوا من أجله وهو عامل المال والعلم معاً.
ففور ظهور فشل الإخوان في الجانب المالي وعدم سد حاجة هؤلاء الفقراء حينها تساوت الرؤوس، وعادت الصورة المنطبعة في الوعي واللاوعي القروي مرة أخرى، تلك الصورة التي أسسها نظام حُكم عبدالناصر الشعبي، وهو حُكم أصاب الوجدان القروي في الصميم، وهو الذي أنتج لنا الفلاح المعاصر بكل إمكانياته، فكان ولابد أن تكون للرؤية الناصرية للجماعات دورها في الكيان القروي.
ولكن لا زالت أحد عيوب القرية هي السلبية وعدم الانطلاق الذي يمكنهم من صنع المبادرة أو تقدمها، فالإبداع في تلك المناطق قليل أو معدوم، بينما المدينة تتمتع بتلك المزايا ،وهي التي أخذت زمام المبادرة بالانقلاب على النظام الديني الإخواني... لذلك كان انقلاب القرية على الإخوان متأخراً عن المدينة، ولكنه كان أشد عنفاً وضراوة تمثل في شبه محاكم تفتيش على الفكر الإخواني، وهو العيب الذي كنا ولا نزال نرصده ونحذر منه، أن بذور الإقصاء -ومن ثم بذور الإرهاب- هي موجودة في القرية للعوامل التي سبق الحديث عنها.
فالإرهاب والإقصاء ليس محصوراً على فئة المتدينين المنحرفين، ولكنه يطال كل من يُقصي غيره بحُجة الحق والباطل والخير والشر وإلى ذلك من غايات هي نسبية في تحققها عند الإنسان..نعم هي مُطلقة في ذاتها ولكن حين يتصورها الإنسان فلا تكن مُطلقة إلا بشروط أهمها توافر .."البعد الإنساني"..فيها، وهو الذي يعني توافق البشر جميعهم على هذا الحق وهذا الباطل، عدا ذلك فالمفروض أن تكون هناك مساحة قبول عامة للآخر يتحرك الإنسان من خلالها ليتعايش ويُنتِج.
أزعم أن أهل القرية هم أقل دراية بهذا البُعد الإنساني من أهل المدن، فالنسيج القروي لا تتعدد فيه أوجه الخلاف لسيطرة طبقة.."المهتمين السلبيين"..عليه كما سيأتي شرحه ، وكذلك كون الأخلاق لدى القرويون ظاهرية، أي أنها لا تشترط الإحساس الداخلي وتعبيره عن ذات الإنسان، فيُمكن للفاسد-حينها- أن يكون خلوقاً لدى أهل القرية بمجرد ثراءه أو تعدد أعماله الخيرية والاجتماعية، والسبب أن نسبة الفقر في الريف المصري هي أعلى من معدلاتها في المُدن، وأينما وُجِدَ الفقر سيُوجَد الاستغلال والتسلق والتزلف وتلك السلوكيات المنحطة، فالقيود على الأخلاق في الريف عاجزة لطبيعة القرية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك لشيوع رأي الفقهاء فيما بينهم على أنه دين، وكلما اختلف الفقهاء سيختلف أهل القرية.
لذلك أرى أن الخلاف في القرية المصرية هو أعمق من مثله في المدينة، فالتواصل المدني يصنع إدراكاً عقلياً من الناحية النظرية، وطَبقاَ لطبيعة المدينة الصناعية يتحول هذا الإدراك النظري إلى عملي بسرعة أكبر من حدوثه لدى القرويين، بمعنى أن المدني يتعرض لتجارب حياتية نتيجة لتواصله مع فئات المجتمع المختلفة إضافة إلى الأجانب، ولكن القروي لا يمتلك تجارب تؤسس لديه مرحلة إدراك عقلي نظري مبكر، وفي غالب الأحيان يأتي في سن متأخرة، فيصنع هذا الفارق لديه يقيناً مزعوماً يتصادم به مع أول رأي آخر به مَسحة من المنطق، لذلك أقول أن مجتمع القرية عملياً هو أغبى من مجتمع المدينة، والغباء ليس فطرياً ولكنه صنيعة لليقين الزائف.
فكلما زاد اليقين في مكان ما –من حيث العدد والكمّ- سيزداد الغباء بالضرورة، لأن الذكي لا يتقين بسهولة، فتجريده للأشياء لا يملكه أحداً سواه، وقياساته وسؤالاته دقيقة وشجاعة، بينما الذي يسارع إلى اليقين هو في الحقيقة يسلك مسلك واحد من اتجاهات البشر ويغفل عن أخرى قد يكون الحق أو المنطق فيها، وأعظم الشواهد الدالة على ذلك هو أن الحروب في المجمل تكون بين .."يقين ويقين"..إلا لو كان هناك شك فسيكون السلام، بينما السلام هو حالة افتراضية ساكنة تطرأ عليها الحرب، وهذا يعني أن اليقين بالأصل هو نتيجة لمجهود وسلسلة تبني وتشد بعضها بعضا فيما نسميه.."المذهب".
هذا لا يعني أن مجتمع المدينة شكاكاً أو مقدار اليقين لديه قليل، فالمصريون قد.."تريفوا"..-نسبةً إلى شيوع قيم الريف في المدينة-منذ عقود، وبالتحديد منذ عصر الانفتاح الساداتي الذي أعقبته الهجرة التاريخية من الريف إلى الحَضَر، فلم يجد المهاجرون سوى العشوائيات والمناطق الشعبية، بينما ظلت الأحياء.."المتمدنة"..على طبيعتها دون تغير ملموس، وإن كان هناك تغييراً طفيفاً أصاب الشكل، إلا أن جوهر.."التمدن"..في تلك المناطق قد حافظ على أصالته، ومع ذلك فالمدينة بتمدنها ومناطقها الشعبية والعشوائية هي بالأصل تمتلك فرص التواصل أكثر من القرية، لذلك قلنا أن مجتمع المدينة أذكى من مجتمع القرية نسبةً إلى تواصله الذي يخلق لديه انفتاحاً حراً على الأفكار.
اجمالي القراءات
8093