مائة عام على "روز اليوسف": تكريم باهت

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ٠٤ - نوفمبر - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العربى الجديد


مائة عام على "روز اليوسف": تكريم باهت

بين احتفاءٍ خافت ومقالاتٍ خاطفة، مرّت مئوية إصدار مجلة روز اليوسف مرور الكرام على العاملين في الوسط الصحافي والنخبة المصرية. وجاء الاحتفال الوحيد من داخل المؤسسة على يد أبناء الجيل الخامس باهتاً، ليعكس حجم التحولات في الدار، التي أسستها "نابغة الشام" فاطمة اليوسف. إذ أصدرت عددها الأول صباح 26 أكتوبر/تشرين الأول 1925، لتكون مجلة فنية راقية، فإذا بها تتحول إلى قنبلة صحافية زلزلت الأرض تحت أقدام مجتمعٍ ذكوريٍّ لا يرحّب بالمرأة في أي عمل.
تدريجياً تحوّلت هذه التجربة الصحافية إلى مدرسةٍ رائدة في الكتابة السياسية والنقد الفني والكاريكاتير، فتخرّج منها أفضل الكتّاب والصحافيين، وبرز بين صفحاتها عشرات المفكرين والأدباء، وناطحت مقالاتها السلطة وكافحت الاستبداد.
مع خفوت الاحتفالات بمئوية "روز اليوسف"، التقت "العربي الجديد" الحفيد الكاتب الصحافي محمد إحسان عبد القدوس، الذي مثّل عائلة صاحبة الدار في الحفل.
بغضب يتحدّث عبد القدوس، عمّا يصفه بـ"التهاونٍ في حق جدّته"، ثمّ يوسع النقاش لينتقد تهاوي مستوى الصحافة في "روز اليوسف"، فيرى أنها تواجه خطر الانقراض في بلدٍ يرزح تحت قيود مهنيةٍ عقيمة وتطورٍ تكنولوجيٍّ هائل لم تستطع الجهات المسؤولة مجاراته، بما يهدد مستقبل الصحافة والدار معاً.
يروي عبد القدوس "اللحظات المريرة" التي عاشها خلال حفل التكريم الذي نظمته إدارة "روز اليوسف"، قائلاً: "تخيل أن الاحتفال بالعيد المئوي، في 25 أكتوبر الماضي، لم يُدعَ إليه أيّ من أفراد العائلة سوى شخصي، بينما وُجّهت مئات الدعوات إلى شخصياتٍ من خارج الوسط الصحافي، مع قلةٍ من كتّاب المؤسسة. وفي النهاية، وجدنا حفلاً خُصص لتكريم وزراء وسياسيين، ومنحهم دروع دار روز اليوسف، فيما حصلت العائلة على نسخةٍ ورقيةٍ مصوّرة من العدد الأول، مدوّن عليها تاريخ الاحتفال، تُمنح للقاصي والداني".
وبينما يُبدي الحفيد حنقه الشديد من تعامل المسؤولين في الدار والوسط الصحافي، الذين لم يكرّموا صاحبة الدار كما تستحقّ، يفتح ذاكرته لـ"العربي الجديد" ليروي قصة جدّته "العنيدة النابغة والصلبة"، التي تحدّت الآلام التي مرت بها وحيدةً في الدنيا، وتحولت من فتاةٍ يتيمةٍ لم تنل قسطاً من التعليم الأولي إلى فنانةٍ مسرحية، وكاتبةٍ وصحافيةٍ يخشاها أهل السلطة.
يقول عبد القدوس: "نشأت وحيدةً في مدينة طرابلس (شمالي لبنان)، في نهاية القرن التاسع عشر. توفيت والدتها بعد ولادتها بقليل، فتولّت أسرة بسيطة من الجيران تربيتها مقابل نفقةٍ يدفعها والدها محمد محيي الدين اليوسف، التاجر المتجول، الذي توفي وهي في العاشرة من عمرها. فأعطاها الجيران لأحد معارفهم المسافرين إلى البرازيل، ليتخلصوا من أعبائها، لكن الأقدار شاءت أن تتجه السفينة من لبنان إلى الإسكندرية، فيمنحها الرجل لصديقٍ يُدعى إسكندر فرح، يعمل في أحد المسارح بالثغر المصري، فتتولى أسرته تربيتها مع أربعٍ من بناته الصغيرات".
ويضيف: "كان طبيعياً لفتاةٍ صغيرةٍ فقيرةٍ ووحيدة أن تضيع في بيئةٍ لا ترحب بتغييرٍ، خصوصاً في حياة النساء، لكنها علّمت نفسها وتدربت على التمثيل، حتى جسدت شخصية سيدةٍ عجوزٍ في الثمانين وهي في الرابعة عشرة، لتصبح نجمةً في فرقة عزيز عيد المسرحية، الذي أطلق عليها اسم (روزا). ومع تحوّل المسرح إلى وسيلةٍ للضحك والترفيه بدعمٍ من الاحتلال البريطاني وبعض الساسة، رفضت روزا هذا الانحدار الفني، واعتزلت العمل مؤقتاً".
تلك التحولات - كما يروي عبد القدوس - لم تُرضِ جدته، التي كانت تُعرف بـ"سارة برنار الشرق"، فأرادت تأسيس مجلةٍ فنيةٍ تحارب "الإسفاف والانحراف والفساد المستشري بين أهل الفن"، وتُهيئ الجمهور لتقدير الفن الرفيع، فاختارت اسماً يجمع بين بهجة الورد وجذورها الشامية واسم أبيها، لتصدر أول مجلةٍ تؤسسها امرأة في مصر، وتقتحم مجالاً ظل حكراً على الرجال. أصبحت "روز اليوسف" بذلك هرماً ثقافياً جديداً يناطح مؤسساتٍ صحافيةً كبرى أسسها الشوام، كعائلة تقلا (الأهرام) وآل زيدان (دار الهلال).
بشخصيتها العنيدة، حولت المجلة الفنية إلى منبرٍ سياسيٍّ منذ عددها السابع، لتصبح لسان حال التيارات المدنية المطالبة بالحرية والديمقراطية واحترام الإنسان. وانحازت لحزب الوفد الليبرالي الوسطي، لكنها كثيراً ما اختلفت مع مصطفى النحاس باشا حين شعرت بتناقض بعض سياساته مع مبادئ الحريات التي آمنت بها. وتعرّضت بسبب مواقفها لحملاتٍ شرسة، وأزمات إفلاس، بل وسُجنت بعدما رفضت التفتيش المهين لمقر مجلتها. لتُصبح أول امرأةٍ تُحبس في مصر لأسبابٍ سياسية في ثلاثينيات القرن الماضي، ما فجّر ضجةً كبرى رفعت توزيع المجلة وأحرجت الحكومة التي اضطرت للإفراج عنها أمام الضغط الشعبي.
كانت "روز اليوسف" أول من أدخل الكاريكاتير السياسي إلى الصحافة المصرية، واكتشفت محمد التابعي الذي عمل معها عشر سنوات قبل أن يؤسس "أخبار اليوم" مع تلميذيها مصطفى وعلي أمين. وهي التي جذبت أحمد بهاء الدين من المحاماة إلى الصحافة، وأسندت إليه لاحقاً رئاسة تحرير مجلة صباح الخير عام 1956، لتكون منبراً "للعقول الشابة والقلوب المتحررة"، تنقل النقد السياسي المغلف بالصور، وتتجاوز الرقابة التي فرضها ضباط يوليو.ويعترف عبد القدوس بأن جدته كانت تعلم بعلاقة ابنها إحسان بجماعة الضباط الأحرار قبل 23 يوليو/تموز 1952، لكنها حذرته من الانجراف وراء دعم النظام العسكري المطلق، حتى لا يفقد استقلاليته كونه كاتباً. وحين بدأ الضباط في تعطيل دستور 1923 وحلّ الأحزاب، تصدت روز اليوسف للاستبداد بشجاعة، خصوصاً بعد اعتقال ابنها عام 1954 إثر مقاله "الجمعية السرية التي تحكم مصر"، والذي دعا فيه إلى عودة الحياة السياسية.
ووجّهت "روز اليوسف" رسائل لعبد الناصر تطالبه باحترام الاختلاف والسماح للأجيال الجديدة بحرية التعبير، وسخرت من جعل الصحف متشابهة العناوين والمضامين. وعاقبته بطريقتها، إذ استمرت في إصدار المجلة دون ذكر اسمه طوال فترة اعتقال ابنها، في موقفٍ جمع بين الكبرياء والمبدأ.
وظلت روز اليوسف تخوض معاركها المهنية والإنسانية بقوة، لم تمنحها الهدوء الأسري الذي تنشده النساء، لكنها عاشت لأسرتها وحفيدَيها محمد وأحمد عبد القدوس، اللذين منحتهما "دلع الجدّات" وأشهى المأكولات، كأنما تكافئ طفولتها القاسية بما حُرمت منه، حتى رحلت في إبريل/نيسان 1957.
ويرى محمد عبد القدوس اليوم أن "الجمعية السرية التي تحكم مصر"، حسب وصف والده، ما زالت تمارس دورها حتى الآن، تناقش كل شؤون الدولة بعيداً عن البرلمان والصحافة، ويفاجأ الشعب بقراراتٍ مفروضةٍ عليه. ويؤكد أن هذا النهج، إضافةً إلى عسكرة المجتمع، هو ما جعل السلطة تتجاهل مئوية مؤسسة جدّته، بعدما أزالت نصف مقبرتها في منطقة الدراسة شرق القاهرة لإقامة "محور جيهان السادات"، من دون مبالاةٍ بحرمة القبور والمباني التاريخية.
ويختم بحسرة: "أخشى ألا تمر مئوية أخرى على مؤسسة جدّتي، فالقيود الأمنية والمهنية والتخلف التكنولوجي هما أكبر خطرين يهددان الصحافة المصرية، خصوصاً (روز اليوسف) التي لطالما كانت بيتاً للفكر والحرية، لكنها اليوم تواجه خطر الاندثار، بعد أن كانت منارةً تصنع الأجيال".
اجمالي القراءات 23
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق