ولقد قدمت في مقالتي السابقتين صورا من الأخطاء الشنيعة التي لم نكن نتصور أن تقع في هذه الكتب, لأن الخطأ فيها ليس مجرد نقص في المعلومات, وإنما هو قبل كل شئ خطأ المنهج الذي وضع لهذه الكتب, والهدف الذي رسم لها والذي نستطيع بكل بساطة أن نسميه تديين التعليم كجزء من خطة شاملة تهدف لتديين الحياة الوطنية في كل مجالاتها, بحيث لا يبقي إلا تغيير أشخاص الحكام لتعود مصر من جديد إلي العصور الوسطي وتصبح الدولة المصرية دولة دينية, يقطع فيها اللصوص الكبار أيدي اللصوص الصغار!.
أقول لكم إن تديين التعليم ـ كما تشهد به رسالة الدكتور مراد وهبة ـ هو الخطة التي تسير عليها الآن وزارة التربية والتعليم ويعمل لها رجالها, كما رأينا في كتب اللغة العربية التي عرضت بعضها في المقالتين السابقتين, وكما سنري في الكتاب الذي أعرضه في هذه المقالة, وهو عقبة بن نافع المقرر علي الصف الأول الإعدادي.
وعقبة بن نافع قائد عربي مسلم عاش في القرن الأول الهجري ـ السابع الميلادي ـ وقاتل تحت لواء عمرو بن العاص في الشام ومصر, ثم تولي قيادة الجيوش العربية التي توغلت في شمال إفريقيا, وتغلبت علي جيوش البيزنطيين المستعمرين وجيوش الأمازيغيين ـ البربر ـ سكان البلاد الأصليين, ووصلت إلي أقصي بلاد المغرب, حيث حوصر عقبة بن نافع مع قوة من المسلمين قاتلت عن نفسها حتي قتل أفرادها جميعا وفي مقدمتهم عقبة.
كيف قدم كتاب وزارة التربية والتعليم قصة هذا القائد الفاتح للتلاميذ؟
لقد ناقض الكتاب نفسه فأعلن في المقدمة أن انتشار الإسلام لم يكن بحد السيف, ثم قص علي التلاميذ قصة عقبة فإذا هي شهادة نفي لما جاء في المقدمة, وإذا هي دليل علي أن الإسلام انتشر بحد السيف في البلاد التي دخلها عقبة بن نافع, وظل يقاتل أهلها نحو أربعين سنة, وهم يقاتلونه ويقاتلون من حل محله إلي نهايات القرن السابع الميلادي, وهكذا استغرق فتح شمال إفريقيا نحو ستين سنة خاض فيها العرب الفاتحون عشرات المعارك في طرابلس, وفزان, وودان, وسبيطلة, وخاوار, وبجاية, وأدنة, وتيهرت, والسوس الأقصي, والسوس الأدني, وفي هذا يتناقض الكتاب ويتناقض مؤلفوه الذين يتحدثون عن هذه المعارك, بعد أن ذكروا في صحفات الكتاب الأولي أن القبائل البربرية تري في الفتح العربي بشائر الفجر الجديد الذي سيطل عليهم بنور العدالة, ويزيل ظلام الاستعباد, والاستبداد الذي عاشوا فيه قرونا عديدة تحت الحكم البيزنطي!.
هذه التناقضات التي وقع فيها الكتاب ومؤلفوه مصدرها الخلط الذي لابد أن يقع فيه أمثالهم من دعاة الدولة الدينية, حين يجعلون أنفسهم مرجعا للعقيدة ويظنون أن ما يقولونه باسم الإسلام هو الإسلام, وأن ما يفعلونه باسمه هو حقيقته وجوهره. هؤلاء يخلطون بين العقيدة والسلوك, بين الإسلام كما يعبر عنه كتابه, والإسلام كما يتمثل في أعمال الذين يؤمنون به ويتحدثون باسمه.
الإسلام يقول لا إكراه في الدين, ويقول من شاء فليؤمن, ومن شاء فليكفر ويقول ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, لكن الفتوح الإسلامية لم تتحقق إلا بالسيف, ولقد انتشر الإسلام في بعض البلاد بالكلمة الطيبة والمثل الصالح, كما حدث في إندونيسيا, لكن الأمر لم يكن كذلك في بلاد أخري, ولا شك في أن الحماسة الدينية كانت دافعا أساسيا في الفتوح الإسلامية, وكانت عاملا حاسما في تحقيق النصر للفاتحين, لكن الغنائم كانت دافعا آخر لا يقل إغراء ولا حسما. ونحن نعرف أن بعض أبطال الفتوح لم يكونوا من السابقين للاسلام, ولم ينطقوا بالشهادتين إلا قبل فتح مكة بقليل. ومن هؤلاء خالد بن الوليد, وعمرو بن العاص, وعبدالله بن سعد بن أبي السرح.
وفي بعض الذين ركضوا وراء هذه الغنائم يقول الشاعر العربي القديم:
فما جنة الفردوس هاجرت تبتغي
ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر!.
المؤرخون المسلمون يحدثوننا عن الثروات التي انهالت علي الفاتحين, وعن آلاف الرجال والنساء الذين تحولوا الي رقيق مستعبدين في قصور الأمراء والخلفاء.
ولقد كان بوسع مؤلفي الكتاب أن يبرئوا الإسلام من التهمة التي يرميه بها بعض المستشرقين الذين لم يروا من الإسلام إلا هذا الجانب, ولم يلتفتوا إلي أن العنف لم يكن مقصورا علي المسلمين, وإنما اندفع إليه المتعصبون في كل الديانات والمذاهب, وعرفه اليهود في ماضيهم وحاضرهم, وعرفه المسيحيون في الحروب الصليبية التي اشتعلت بينهم وبين المسلمين, وفي الحروب المذهبية التي اشتعلت بين الكاثوليك والبروتستانت, أقول إن مؤلفي الكتاب كانوا يستطعيون تبرئة الإسلام من العنف لو أنهم ميزوا بينه وبين المؤمنين به, لكنهم بالعكس كانوا حريصين علي الخلط بينهما, لأن الإسلام في نظرهم ليس دينا فحسب, ولكنه دين ودولة, مصحف وسيف, من هنا كان كتابهم تبريرا للعنف وتحريضا عليه, وتصديقا للخرافة, وتزويرا لحقائق التاريخ, عيون الماء تتفجر في الصحراء تلبية لدعوات عقبة بن نافع, والبربر, وثنيون يعبدون الاصنام, وهذا كذب وتضليل, فقد دخلت المسيحية شمال إفريقيا منذ القرون الميلادية الأولي, واعتنقها كثير من البربر, وفي شمال إفريقيا ظهر عدد من آباء الكنيسة في مقدمتهم القديس أوغسطين صاحب الاعترافات ومدينة الله, فإذا كان أبناؤنا يذهبون إلي المدارس ليجدوا من يعلمونهم أن الدين قهر وإكراه وأن الايمان يمكن صاحبه من الخروج علي قوانين الطبيعة, وأن انتماءنا للاسلام يعطينا الحق في خلط الدين بالسياسة, وإخفاء الحقائق, وتزوير التاريخ فالنتيجة هي ما نواجهه في هذه الأيام!.
الأخ العزيز الشاعر
الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي
قرأت بالتقدير والإعزاز مقالكم المنشور بجريدة الأهرام والمعنون من هم الأولي بالرسوب: المدرسون أم التلاميذ؟ مسار المقال يشي بالجواب وهو أنهم المدرسون, وأظن أن جوابك علي صواب, فالمدرسون, في مجملهم, خريجو كليات التربية, وتأتي في مقدمة هذه الكليات الكلية الأم والمقصود بها كلية التربية الملحقة بجامعة عين شمس.
وسميت كذلك لأنها المسئولة عن إعداد هيئات بكليات التربية. وهذه الكلية الأم هي كلية أصولية بمعني أنها تمنع إعمال العقل, وتحرض علي التعصب الديني, فتقف ضد إصلاح التعليم وتحافظ علي فساده.
مراد وهبة
|