ضغوط متزايدة على الجنيه المصري: تصاعد الديون وتحديات التضخم يهدّدان مسار الإصلاح والنمو
سجل سعر الدولار ارتفاعاً مقابل الجنيه المصري في الأسواق المحلية، بعد أيام قليلة شهدت تحسّناً لأداء العملة المحلية، بما يعكس تذبذب سعر الصرف، عند حدود أقل من 48 جنيهاً للدولار، بينما تسبب ارتفاع سعر الدولار الجمركي إلى مستوى غير مسبوق، عند 50.31 جنيهاً للدولار، في تعميق المخاوف من مستقبل العملة الوطنية، وتأثيرها تراجعها على أسعار الواردات ومستلزمات الإنتاج بالمصانع والشركات والسلع المحلية.
ورغم التفاؤل الحذر الذي ساد الأسواق المصرية خلال الأشهر الأخيرة بعد تحسن مؤشرات البورصة وتراجع مؤقت في معدلات التضخم، عادت المخاوف مجدداً بشأن مستقبل الجنيه المصري مع توالي التقارير الدولية والمحلية التي حذّرت من ضغوط هيكلية قد تؤدي إلى تراجعه أمام الدولار خلال الفترة المقبلة. وأجمعت تقديرات صادرة عن وكالة فيتش وصندوق النقد الدولي ومركز حلول للدراسات البديلة بالجامعة الأميركية والمركز المصري للدراسات الاقتصادية على مدار الأسبوعين الماضيين، على تقديرات تشير أن مزيجاً من ارتفاع الديون، وضعف الاستثمار الأجنبي، وتزايد فاتورة الواردات، يشكل عناصر ضغط متنامية على الجنيه المصري، ويهدد بتقويض مكاسب الإصلاح الاقتصادي الأخيرة.
اتجاه مزدوج للاقتصاد المصري
تُجمع تقارير دولية ومحلية على أن الاقتصاد المصري يسير في اتجاه مزدوج، إذ يتقدم تدريجياً في مؤشرات النمو والإصلاح، ويقابله ضغط متزايد على العملة بسبب ارتفاع الديون والعجز التجاري وضعف تدفقات الاستثمار. وبينما تراهن الحكومة على جني ثمار الإصلاح الهيكلي في المدى المتوسط، تظل الأسواق تترقب بحذر قدرة البنك المركزي على الموازنة بين استقرار الجنيه المصري والحفاظ على وتيرة النمو دون إشعال موجة جديدة من التضخم. وفقاً لأحدث استطلاع أجرته وكالة رويترز مطلع الأسبوع الجاري، توقع 16 خبيراً اقتصادياً أن ينخفض سعر صرف الجنيه إلى 49.85 جنيهاً للدولار بنهاية العام المالي الجاري، مقارنة بنحو 47.50 جنيهاً حالياً، مع استمرار التراجع التدريجي ليصل إلى 52 جنيهاً في يونيو 2027 و54 جنيهاً في يونيو 2028. ويرى المشاركون في الاستطلاع أن ضعف الجنيه قد يكون "أداة تصحيح ضرورية" لتعزيز الصادرات وتقليص العجز التجاري، لكنّه في المقابل سيُبقي على مستويات التضخم مرتفعة لفترة أطول ويزيد من أعباء خدمة الدين الخارجي.
وبحسب بيانات البنك المركزي المصري، ارتفع الدين الخارجي إلى أكثر من 168 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران الماضي، فيما بلغت مدفوعات خدمة الدين خلال العام المالي الأخير نحو 3.5 مليارات دولار مقارنة بـ2.4 مليار دولار في العام السابق، بما يعكس تصاعد الالتزامات الدولارية في ظل تباطؤ تدفقات النقد الأجنبية.
وأشارت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في تقريرها الأخير، إلى أن ارتفاع الدين الخارجي يُعد أحد أبرز المخاطر التي تواجه استقرار الجنيه، محذّرة من أن"الضغوط التمويلية ستظلّ مرتفعة حتى مع تحسّن تدفقات الاستثمار في المدى المتوسط"، وذكرت الوكالة أن تصنيف مصر الحالي عند B- مع نظرة مستقبلية مستقرة يعتمد على قدرة الحكومة على الحفاظ على وتيرة الإصلاحات، وتحقيق فائض أولي مستدام، وزيادة الإيرادات الدولارية من الصادرات والسياحة وقناة السويس.
في تقرير المركز المصري للدراسات الاقتصادية (ECES) الأخير، كشف عن اتساع العجز في الميزان التجاري غير النفطي بنسبة 16.3% على أساس سنوي ليصل إلى 37.1 مليارات دولار، مدفوعاً بزيادة الواردات من الحبوب وقطع الغيار والمواد الخام، بينما لم تكن زيادة الصادرات كافية لتعويض هذا العجز رغم ارتفاعها إلى 34.6 مليار دولار بفضل صادرات الذهب والفواكه والملابس الجاهزة.شار التقرير إلى تضاعف عجز الميزان التجاري النفطي تقريباً ليصل إلى 13.9 مليار دولار نتيجة ارتفاع واردات المنتجات البترولية وتراجع صادرات الغاز، وهو ما شكل ضغطاً مزدوجاً على ميزان المدفوعات واحتياطيات النقد الأجنبي. وأظهرت بيانات المركز أيضاً أن إيرادات قناة السويس تراجعت بنسبة 45.5% لتصل إلى 3.6 مليارات دولار خلال العام المالي الماضي، بسبب اضطرابات البحر الأحمر وتراجع حركة السفن بنسبة 38.5%.
وفي المقابل، انخفض صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 12.2 مليار دولار فقط، مقارنة بـ46.1 مليار دولار في العام السابق الذي شهد تدفقات استثنائية عقب صفقة بيع مدينة "رأس الحكمة"، للصندوق السيادي الإماراتي، فيما تراجع صافي استثمارات المحافظ إلى 1.6 مليار دولار مقابل 14.5 ملياراً في العام السابق، بما يعكس هشاشة مصادر العملة الأجنبية قصيرة الأجل.
بطء وتيرة الإصلاحات الهيكلية
وفي مراجعته للمرحلة الخامسة والسادسة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، التي جرت الأسبوع الماضي، أشار ممثل صندوق النقد الدولي بالقاهرة إلى جهود الحكومة في تحرير سعر الصرف وخفض الدعم وزيادة الإيرادات الضريبية، لكنه شدّد على ضرورة تسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية، خصوصاً في ملفات الشفافية المالية وإدارة الدين العام وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي. وحذّر خبراء الصندوق من أن "تأخر الإصلاحات أو تذبذبها قد يؤدي إلى عودة الضغوط على سعر الصرف وارتفاع التضخم مجدداً"، مشيرين إلى أنّ تحقيق نمو مستدام يتطلب زيادة الإنتاجية والاستثمار في القطاعات القابلة للتصدير، وليس الاعتماد فقط على التمويلات الخارجية.
وجات توقعات الصندوق بالنسبة للتضخم متوافقه مع نتائج استطلاع رويترز التي تتنبأ بتراجع متوسط التضخم إلى 12.3% خلال العام المالي 2025/2026 ثم إلى 10.2% في العام التالي، بشرط استقرار سعر الصرف وتراجع أسعار السلع الأساسية، بينما أطلق خبراء مركز حلول للدراسات والسياسات البديلة بالجامعة الأميركية تحذيراً في أحدث تقارير المركز الصادرة الأحد الماضي، من أن الضغوط التضخمية الحالية لها أبعاد اجتماعية خطيرة، إذ تآكلت القوة الشرائية للطبقة المتوسطة، وارتفعت تكاليف الإنتاج بنسبة تجاوزت 25% في بعض الصناعات خلال الأشهر الستة الماضية، ما يهدّد ببطء التعافي الاقتصادي وضعف الطلب المحلي.
وأكد المركز ضرورة تبنّي الحكومة" مقاربة أكثر تدرجاً في تطبيق إجراءات الإصلاح المالي" وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية لتخفيف آثار ارتفاع الأسعار وتراجع قيمة الجنيه. وتأتي تلك التحذيرات مواكبة مع توقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد المصري بنسبة 4.3% خلال العام المالي الجاري، بينما رفع استطلاع رويترز التوقعات قليلاً إلى 4.6%، مع تسارع محتمل إلى 4.9% العام المقبل، لكن هذه المعدلات، وفق خبير التمويل والاستثمار عمر الشنيطي، لا تزال أقل من المستوى المطلوب لامتصاص الضغوط السكانية وخلق فرص العمل الكافية.
ويشير الشنيطي، في تقريره للمركز المصري للدراسات الاقتصادية في "بارومتر الأعمال" الأخير، إلى أن نحو 58% من الشركات الصناعية تعاني من نقص المواد الخام وصعوبة الحصول على العملة الأجنبية، فيما أبدى 65% من المستثمرين قلقاً من استمرار ارتفاع تكلفة التمويل، رغم التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة تدريجياً إلى 16% منتصف 2026 و13% في 2027. يخلص تقرير المركز المصري للدراسات الاقتصادية إلى أن الحل يكمن في "توسيع قاعدة الإنتاج المحلي، وتحسين مناخ الأعمال لجذب استثمارات طويلة الأجل، وتسريع خطوات خفض الدين العام إلى أقل من 80% من الناتج المحلي خلال ثلاث سنوات".
فجوة تمويلية تضغط على الجنيه المصري
ويرى الخبير الاقتصادي وائل النحاس، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الضغوط الواقعة على الجنيه المصري ليست نتيجة المضاربات فحسب، بل هي انعكاس مباشر لـ"فجوة تمويلية مزمنة" بين احتياجات الدولة من الدولار وقدرتها على توليد العملة الصعبة. وقال النحاس إن المديونية الخارجية تخطت الحدود الآمنة، والفوائد المرتفعة على أدوات الدين المحلي تستنزف الموارد، في وقت تتراجع فيه إيرادات الصادرات ولا تحقق السياحة قفزات واسعة، بسبب التباطؤ العالمي.
وأشار إلى أن هذه الحلقة "لا يمكن كسرها إلّا عبر زيادة الإنتاج الحقيقي والصادرات الصناعية"، وأضاف خبير التمويل والاستثمار أنه كلما ارتفع الدين زادت حاجة الدولة إلى تمويل جديد، ومع كل تمويل جديد تزداد فاتورة خدمة الدين، وهذا ما يخلق ضغطاً دائماً على الجنيه، ويؤخر أي استقرار حقيقي في سوق الصرف.في الأسواق المحلية، أدى ارتفاع سعر الدولار عالمياً إلى صعود أسعار الذهب لمستويات قياسية، وهو ما يخشاه المحللون الذين يعتبرون أنّ التحرك الصعودي للذهب في السوق المصرية عادة ما يسبق موجات جديدة من تراجع الجنيه، خاصة حين يرتبط بتزايد الإقبال على التحويلات الدولارية وتحويل المدخرات إلى أصول حقيقية كالذهب والمعادن النفيسة واقتناء السلع المعمرة.
اجمالي القراءات
18