الضربة الاستباقية: دفاع أم اعتداء؟

د.محمد العودات Ýí 2025-10-14


 
قال الله تعالى:
 
«وقاتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعتَدوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ»
(سورة البقرة، الآية 190)
 
ترسم هذه الآية الكريمة ميزانًا دقيقًا بين الحق في الدفاع وتحريم العدوان.
ومع تطور أدوات الحرب وتبدّل أساليب الصراع، أصبح من الصعب التمييز بين «الدفاع المشروع» و«الضربة الاستباقية» التي قد تُتخذ ذريعةً لاعتداءٍ مموّه.
 
مفهوم الاعتداء والضربة الاستباقية
 
الاعتداء في جوهره هو مهاجمة خصمٍ بدافع تحقيق منفعة مادية أو معنوية.
أما الضربة الاستباقية، فهي عمل عسكري يُنفّذ قبل وقوع الهجوم الفعلي، بهدف إجهاض تهديدٍ وشيك أو تعطيل قدرة الخصم قبل أن يستخدمها.
 
الفرق بينهما دقيق لكنه جوهري:
فالضربة الاستباقية لا تهدف – في أصلها – إلى مكاسب مادية، بل إلى منع ضررٍ أكبر.
لكنها تتحول إلى عدوانٍ صريحٍ حين تُتخذ ستارًا لتحقيق مصالح أو مطامع سياسية أو توسعية.
 
الشروط التي تجعل الضربة الاستباقية دفاعًا مشروعًا
 
من منظور فقهي وقانوني وعسكري، يمكن اعتبار الضربة الاستباقية دفاعًا مبررًا إذا توفرت الشروط التالية:
 
وجود تهديد وشيك ومؤكد — لا مجرد نوايا أو ظنون.
 
استنفاد الوسائل السلمية والدبلوماسية قبل اللجوء إلى القوة.
 
تناسب الرد مع حجم التهديد دون إفراط أو توسّع في الأهداف.
 
الاعتماد على معلومات استخبارية موثوقة لتجنب الخطأ الكارثي.
 
عدم اتخاذها ذريعة لمكاسب مادية أو سياسية.
 
أمثلة واقعية على الضربات الاستباقية والوقائية
1. حرب الأيام الستة (1967)
 
في الخامس من يونيو عام 1967، شنت إسرائيل هجومًا جويًا مباغتًا على قواعد الطيران المصرية، مدعيةً أن التحركات المصرية وقطع طريق إيلات وإغلاق خليج العقبة مؤشرات على هجومٍ وشيك.
تم تدمير معظم سلاح الجو المصري خلال ساعات، وتوسّع الصراع ليشمل سوريا والأردن.
تُعد هذه الحالة في الأدبيات العسكرية ضربة استباقية (Preemptive Strike)، إذ استندت إلى وجود خطر وشيك وملموس — رغم الجدل الأخلاقي والسياسي حول شرعيتها.
 
2. هجوم إسرائيل على المفاعل النووي العراقي (1981)
 
في السابع من يونيو 1981، نفذت إسرائيل عملية «أوبرا» عبر غارة جوية على مفاعل «أوسيراك» العراقي الذي كان قيد الإنشاء قرب بغداد.
بررت إسرائيل الهجوم بأنه لمنع خطرٍ مستقبلي محتمل يتمثل في حصول العراق على سلاح نووي.
لكن القانون الدولي وصف الهجوم بأنه ضربة وقائية (Preventive Strike) لا استباقية، لأن التهديد لم يكن وشيكًا بعد.
وقد أدانت الأمم المتحدة العملية باعتبارها عملًا عدوانيًا مخالفًا للشرعية الدولية.
 
3. غزو العراق (2003)
 
قادت الولايات المتحدة تحالفًا لغزو العراق في مارس 2003، مبررة ذلك بامتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل تشكل خطرًا على الأمن العالمي.
لكن لاحقًا تبيّن أن المعلومات كانت خاطئة أو مضخّمة، ما جعل الغزو مثالًا كلاسيكيًا على الضربة الوقائية الفاشلة.
فقد أدى إلى حرب طويلة ودمارٍ واسع، وأثبت أن الضربات المبنية على الظنون السياسية لا على الأدلة الواقعية تؤدي إلى نتائج مدمّرة.
 
حوار مع أبي العميد الركن المتقاعد حول خلفيات حرب 1967
 
في جلسةٍ هادئة جمعتني بوالدي، العميد الركن المتقاعد عبدالله العودات، دار بيننا حديثٌ مطوّل حول خلفيات حرب حزيران عام 1967، وأسباب الهزيمة المفاجئة التي ما زالت تثير الجدل حتى اليوم.
 
قلتُ له:
– يا أبي، لماذا لم يحارب جيش عبد الناصر بعد تدمير سلاح الطيران؟ وهل الجيوش لا تستطيع القتال من دون غطاءٍ جوي؟
 
ابتسم وقال بهدوء:
– المسألة ليست بهذه البساطة يا بني. انهيار سلاح الطيران في الساعات الأولى أصاب القيادة بالشلل، لكن خلف الكواليس كانت هناك عوامل أعمق، تتعلق بالسياسة والاستخبارات أكثر من التكتيك العسكري.
 
قلتُ له مستفسرًا:
– وما الذي جرى خلف الكواليس؟
 
قال أبي:
– هنالك زاويتان يمكن النظر منهما إلى ما حدث.
 
الزاوية الأولى:
كان من المقرر أن تبدأ الضربة الجوية ضد إسرائيل في 4 أو 5 حزيران، وتم تجهيز الطائرات وإخراجها إلى المدارج استعدادًا للهجوم، لكن في اللحظة الأخيرة أجّل عبد الناصر الضربة من دون مبرر واضح.
وفي هذه الأثناء سبقت إسرائيل بالهجوم، فدمّرت الطائرات المصرية وهي على الأرض.
ثم جرى تحميل عبد الحكيم عامر المسؤولية، واتُّهم بالتقصير والخيانة.
 
الزاوية الثانية:
ذكر حسين الشافعي، نائب الرئيس آنذاك، أنه قام بجولةٍ في المطارات قبل الحرب وطرح سؤالين لافتين:
 
كيف تُوضع الطائرات كلها في مكانٍ واحد حتى يكاد الجناح يلامس الجناح؟
 
ولماذا بدا عبد الناصر غير مصدوم أو متفاجئ بعد القصف، بل كانت ملامحه عادية تمامًا؟
 
قلتُ معترضًا:
– ربما السبب هو الإهمال وضعف الجاهزية في الجيش آنذاك؟
 
أجاب أبي متأملًا:
– قد يكون ذلك جزءًا من الصورة، لكن الحقيقة أن الجيشين المصري والسوري لم يطلقا رصاصة واحدة في بداية الحرب، لأن عبد الناصر – كما يبدو – كان على علمٍ مسبقٍ بالضربة قبل وقوعها.
المسألة لم تكن "تواطؤًا" مباشرًا، بل تفاهمًا ضمنيًا بين الأنظمة العربية لإعادة ترتيب المشهد السياسي.
 
قلتُ متعجبًا:
– وكيف نصدق أن رجل الثورة نفسه كان خائنًا؟
 
قال أبي:
– لا تنسَ أن عبد الناصر انقلب على محمد نجيب واستأثر بالسلطة عام 1954، فاعتُبر خائنًا لرفاقه في البداية.
لكن بعد تأميم قناة السويس عام 1956 – وهو قرارٌ يُقال إنه تم بتفاهمٍ غير معلن مع الولايات المتحدة – تغيّر المشهد.
ففي 26 يوليو 1956 أعلن عبد الناصر من الإسكندرية تأميم القناة، لتصبح ملكًا للدولة المصرية.
ثم شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان الثلاثي، لكن بضغطٍ من أمريكا والاتحاد السوفييتي انسحبت القوات، وأصبحت القناة تحت السيادة المصرية.
ومن هنا تحوّل عبد الناصر من “خائنٍ للثورة” إلى “بطلٍ قومي”، رغم أن اللعبة – كما قال أبي – كانت أعمق من الشعارات.
 
قلتُ:
– وما الرابط بين حرب 1956 وحرب 1967؟
 
قال أبي:
– اللعبة نفسها يا بني. يُنتزع جزء من الأرض، ثم تبدأ الشعارات لاستعادته. نخسر الأرض ونكسب الخطابات، بينما تُرسّخ إسرائيل وجودها أكثر فأكثر.
وكأنما أُريد لعبد الناصر أن يكون “بطل السلام” بعد أن كان “بطل المقاومة”.
 
ثم ختم أبي حديثه قائلًا:
 
"بعد الحرب، تمكنت إسرائيل من احتلال ثلاثة أضعاف أراضيها الأصلية.
الجيش السوري ترك سلاحه وانسحب، والمصري تمركز في سيناء بلا خطة، بينما تعطّل سلاح المدفعية في الجولان ليُوهب لإسرائيل دون قتال."
 
تحليل ومقارنة
 
في حرب 1967: وُجد تهديد وشيك، فكانت الضربة الإسرائيلية استباقية دفاعية من منظور عسكري، لكنها تبقى موضع جدل أخلاقي.
 
في هجوم أوسيراك 1981: كان الخطر بعيد المدى، لذا تُعد وقائية لا استباقية.
 
في غزو العراق 2003: انعدم التهديد الحقيقي، فأصبحت الحرب عدوانًا مغطى بذريعة الأمن، وهو ما يرفضه الإسلام والقانون الدولي.
 
الرؤية الدينية والأخلاقية
 
الإسلام أقرّ مبدأ الدفاع المشروع، لكنه قيّده بعدم الاعتداء.
قال تعالى:
 
«فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»
أي لا تبدأوا بالعدوان، ولا تتجاوزوا حدود الرد.
 
فالضربة الاستباقية لا تُعتبر «جهادًا مشروعًا» إلا إذا وُجد تهديد فعلي، وغاية دفاعية لحماية النفس والبلاد، لا لتوسيع النفوذ أو كسب الغنائم.
 
الخلاصة
 
الضربة الاستباقية سلاح ذو حدين:
 
قد تكون دفاعًا مشروعًا إن استندت إلى أدلة قاطعة على خطرٍ وشيك.
 
لكنها تصبح عدوانًا محرّمًا إذا قامت على الظن أو لتحقيق مطامع سياسية.
 
لقد أثبت التاريخ أن النية والمعلومة والغاية الأخلاقية هي ما يحدد طبيعة الفعل العسكري.
فحين يكون الهدف منع عدوان مؤكد تُسمّى استباقية دفاعية،
أما حين يكون ابتداء نزاع لتحقيق مكسب فذلك هو الاعتداء المحرّم الذي نهى الله عنه بقوله:
 
«إن الله لا يحب المعتدين»
اجمالي القراءات 275

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الأربعاء ١٥ - أكتوبر - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً
[95849]

اكرمك الله جل وعلا ابنى الحبيب د محمد العودات ، وأقول


من وجهة نظر قرآنية أستشهد بقول ربنا جل وعلا : (   وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) الانفال ). أى عند توقع الشر وخيانة العهد فقم بإعلامهم . وهذا يستلزم أن تكون قويا مسالما قد أعددت جيشك للدفاع .  

أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-05-14
مقالات منشورة : 14
اجمالي القراءات : 26,643
تعليقات له : 31
تعليقات عليه : 11
بلد الميلاد : Jordan
بلد الاقامة : USA North Carolina