30مليار جنيه مديونيات حكومية تهدد بغلق عشرات شركات الدواء بمصر.. ومخاوف من “تصفية” لصالح شركات أجنبي
انعكست الأزمات التي تواجهها صناعة الدواء في مصر على سوق الأدوية الذي يعاني في الوقت الحالي شحاً في بعض العقاقير المرتبطة بالأمراض المزمنة، والتي اختفى بعضها من الصيدليات، ويجري توفيرها فقط في الصيدليات الحكومية.
يأتي هذا في وقت تشكو فيه شركات الأدوية والموزعين من وجود مديونيات مالية مستحقة لهم لدى الحكومة المصرية ممثلة في هيئة "شراء الدواء الموحد" والتي تبقى مهمتها توصيل الدواء إلى الصيدليات والمستشفيات الحكومية وتقدر قيمتها بـ"30 مليار جنيه".تأثيرات كبيرة على السوق الشهرين المقبلين
وقال صاحب أحد شركات الأدوية المحلية، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن كثير من الشركات العاملة في السوق المصري تعاني أوضاعاً مضطربة بسبب صعوبات على مستوى توفير السيولة اللازمة لاستيراد مكونات تصنيع الدواء، وانعكس ذلك سلباً على حجم الإنتاجية.
وأشار إلى أن هناك الكثير من الاجتماعات التي انعقدت مع الحكومة المصرية خلال الأشهر الماضية، ووعدت خلالها بتقديم دعم مادي للشركات لكي تتجاوز عثراتها، لكن ذلك لم يحدث، كما أنها لم تسدد ديونها إلى الشركات ومن ثم فإن الأزمة تتفاقم دون معرفة هوية الطرف المستفيد.
وأوضح أن ثلثي مصانع الدواء تقريباً تعمل بنسبة لا تتجاوز 60% من طاقتها، وأن عمليات الاستيراد من الخارج تراجعت بشكل ملحوظ، وهو ما ترتب عليه اختفاء بعض الأصناف من الأسواق، وقد يقود ذلك لأزمة متفاقمة على نحو أكبر بعد أن أضحت شركات الدواء المحلية مسيطرة على أكثر من 90% من إجمالي الأدوية المتوفرة في السوق المصري، لافتاً إلى أن الأمر لم يتوقف فقط على مصانع إنتاج الدواء بل إن شركات التوزيع التي تتسلم منها الدواء أيضاً تأثرت بالأزمة، وبدأ العشرات منها في غلق أبوابها، في حين أنها كانت تستحوذ على نسبة كبيرة من سوق التوزيع في مصر.
وشدد على أن انهيار هذه الشركات التي يعتمد بعضها في تمويل عملياته على تسهيلات ائتمانية من البنوك ذات حدود قصوى، سيترك تأثيرات كبيرة على السوق خلال الشهرين المقبلين، وأن تجاوز الأزمة الراهنة بحاجة إلى ستة أشهر على الأقل.
ولفت إلى أن أصحاب مخازن التوزيع الصغيرة هم الأكثر تضرراً لأن هؤلاء وجدوا أنفسهم غير قادرين على تسديد ديونهم، حيث يعتمدون بالأساس على سداد مديونياتهم بناء على ما يحققونه من أرباح البيع، ومع تأثر السوق دخل هؤلاء في مشكلات متفاقمة، وبعد أن بذلت هيئة الدواء المصري جهود لضبط عمل هذه المخازن التي كانت تعمل دون ضوابط عادت مرة أخرى لحالة الفوضى المنتشرة في عملية التوزيع تأثراً بما حدث للشركات الكبرى.
وذكر أن الأزمة وصلت أيضاً إلى الصيدليات والتي لم تتأثر سلباً فقط بسبب نقص الأدوية، بل إن مشكلات المخازن التي تتعامل معها انعكست عليها بعد أن سعى أصحاب تلك المخازن للمضاربة في أسعار الدواء وتقليص هامش ربح الصيدليات، وبالتالي فإن كثير من الصيدليات رفضت استلام الأدوية وكان البديل تسريب تلك الأدوية بأسعار مرتفعة لدى السوق السوداء الذي عاد مرة أخرى للانتشار مؤخراً بعد أن جرى تضييق الخناق عليه خلال الأشهر الماضية.
وأكد أنه حدث لأول مرة في مصر أن ارتفعت أسعار بعض الأدوية دون أن يحدث تغييرات في آلية التسعير الجبري، وأن بعض الصيدليات اتجهت لتلك الحيل للحفاظ على معدلات أرباحها، وهو أمر بالغ الخطورة ويهدد بفوضى في سوق الدواء، ما لم يكن هناك تدخل حكومي يتعامل مع الأزمة من جذورها ويتيح وضعية مناسبة للشركات المحلية لكي تنتظم في عملية الإنتاج.
وتعددت اللقاءات التي عقدتها الحكومة المصرية مع اللجنة التي جرى تشكيلها من جانب هيئة الدواء المصرية وهي معنية بحل مشكلات ومعوقات صناعة الأدوية في مصر، وتضمنت الأزمات التي شكا منها أصحاب الشركات المحلية خلال آخر اجتماع انعقد قبل ثلاثة أشهر ضعف الملاءة المالية لشركات التصنيع، واحتياجات الشركات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، وعدم مرونة نظام التسعير، وارتفاع تكلفة الأدوية المستوردة مقارنة بالمحلية، إلى جانب ضريبة القيمة المضافة المفروضة على مواد التعبئة والتغليف الدوائي. كما تم تناول سبل دعم المصانع المتعثرة لإعادة تشغيلها، وتعزيز قدرة المصانع الصغيرة على المنافسة والاستدامة.أزمة سيولة غير مسبوقة
خلال اجتماع حكومي في يونيو/ حزيران الماضي، أوصى وزير الصحة المصري، خالد عبدالغفار، هيئة الشراء الموحد، وهيئة الدواء المصرية، بإعداد دراسة تفصيلية لحصر جميع الأدوية المتداولة، وتحليل وضعها من حيث التوافر والتسعير ومعدلات الاستهلاك، مع التركيز على الأدوية الحيوية والأساسية، على أن تشمل الدراسة تقييماً دقيقاً لسلاسل التوريد، والعقبات التي قد تواجه توفير الأدوية، سواء على مستوى الإنتاج المحلي أو الاستيراد، بما يضمن عدم حدوث أي نقص في الأدوية داخل السوق أو المنشآت الصحية.
وبحسب مصدر مطلع بشعبة الأدوية وهي تابعة لاتحاد الغرف التجارية، فإن سوق الدواء يعاني في تلك الأثناء أزمة سيولة لم تمر بها شركات الأدوية منذ فترة طويلة، ويمكن القول بأنها غير مسبوقة – بحسب المصدر – وأن الحكومة هي السبب في تلك الأزمة لأن هيئة الشراء الموحد ترفض الالتزام بسداد ديونها إلى الشركات وقادت التراكمات لأن وصلت إلى 30 مليار جنيه، دون أن تتدخل لحل الأزمة رغم العديد من المناشدات على مدار الأشهر الماضية.
وشدد المصدر ذاته، على أن هيئة الشراء منحت شركات الأدوية شيكات بدون رصيد وهو ما فاقم الأزمة بين الطرفين، ولم يعد هناك ثقة متبادلة وهناك مخاوف من أن يكون هناك أطراف بعينها تهدف إلى إرغام الشركات على الإغلاق، إذ من المتوقع أن تتزايد وتيرة الدعاوى القضائية المرفوعة لحصول الشركات على حقوقها.
كما ذكر المصدر أن شركات الأدوية سوف تركز في عملها على أصناف الأدوية التي تضمن توزيعها مباشرة إلى الصيدليات دون المرور على هيئة الشراء الموحد، وهو ما قاد لوجود أزمة نواقص في أدوية الأورام، والمناعة، والهرمونات، والمفاصل الصناعية، والأدوية المستخدمة قبل وبعد زراعة الكلى والكبد.
وذكر أن الحكومة تحاول إلصاق تهمة زيادة أسعار الدواء إلى الشركات التي تطالب بزيادة أسعار 1000 صنف دوائي كجزء من حلول التعامل مع الأزمة الراهنة، في حين أنها المتسببة فيها دون أن تراعي أن الدواء في حد ذاته سلعة لها تكلفة، كما أن معظم موادها الخام يتم استيرادها من الخارج، فضلاً عن أن الحكومة ذاتها تفرض على القطاع الخاص الالتزام بالحد الأدني للأجور والذي تزايد أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، وهؤلاء يعيشون في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تتطلب زيادة رواتبهم لضمان استمرار الإنتاج بجودة مرتفعة.
وأكد المصدر على أن زيادة أسعار الدواء حق أصيل للشركات في ظل هذه الظروف والحكومة يجب أن تتحمل التأثيرات السلبية على المواطنين لأنها المتسبب الأول في انخفاض قيمة الجنيه، وتساءل عن دور التأمين الصحي حيث إنه لو كان مفعلا بصورة حقيقية في مصر فإنه من الأولى أن يتحمل أسعار الدواء وزياداتها وليس المواطنين، كما أن شركات الدواء طالبت مرارا وتكرارا بدعم الخدمات الواردة إليها مثل الكهرباء أو الغاز لكنها رفضت أيضا ويتم التعامل وفقا لأسعار السوق التجاري، وبالتالي لا يمكن اللوم على الشركات التي تسعى لزيادة أسعار الدواء للحفاظ على استمراريتها.
وذكر أن شركات الأدوية قدمت مقترحاً إلى الحكومة برد جزء من مديونيتها إلى الشركات وقدرت المبلغ بشكل مبدئي ليصل إلى 7 مليارات جنيه إلى جانب تقديم مبلغ مماثل للشركات المتعثرة لكي تتمكن من ممارسة عملها، كما تضمن أيضا رفع سقف تمويل الشركة الواحدة ضمن مبادرة تمويل القطاعات الصناعية إلى 300 مليون جنيه بدلا من 70 مليون، لكنها مقترحات لم يتم الرد عليه بعد.
تم تأسيس هيئة الدواء المصرية بموجب القانون رقم 151 لسنة 2019، وهي هيئة عامة خدمية ذات شخصية اعتبارية تتبع مباشرة رئيس مجلس الوزراء. حلت محل عدة جهات رقابية مثل الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية والجهات المنظمة للمستحضرات البيولوجية والمختصة بالصيادلة.
فساد بين هيئة الدواء الموحد وشركات الأدوية
في عام 2023 وبداية 2024، واجهت مصر أزمة نقص حادة في العديد من الأصناف الدوائية نتيجة أزمة العملة وقيود الاستيراد، وعدم تحريك الأسعار بالنسب المطلوبة، لكن في أكتوبر الماضي أعلنت الحكومة حل أزمة نواقص الأدوية بالكامل، بعد تحريك عدد من الأصناف بنسب زيادات تراوحت بين 35% إلى 40%، قبل أن تعود بوادر الأزمة مرة أخرى منذ الشهر الماضي.
ووفق تقارير رسمية، فإن شركات الأدوية تستعد لتقديم طلب رسمي إلى الهيئة المصرية للدواء لرفع أسعار 1000 صنف دوائي بنسبة لا تقل عن 10%، مشيرة إلى أن تكاليف التشغيل والوقود والتأمين على النقل باتت تثقل كاهل المصانع، وسط أزمات في استيراد المواد الخام من الهند والصين.
تنتج الشركات المحلية حالياً نحو 93% من الاحتياجات الدوائية للبلاد. وارتفعت قيمة مبيعات الأدوية في السوق المصرية أكثر من 40% إلى 307 مليارات جنيه خلال العام الماضي.
صورة لشركة الدواء التي أنشأتها الحكومة المصرية- جوجل إيرث
وأشار رئيس هيئة الدواء المصرية، الدكتور علي الغمراوي، إلى أن مصر تمتلك 179 مصنعا للأدوية البشرية و150 مصنعا للمستلزمات الطبية، بالإضافة إلى 130 مصنعا لمستحضرات التجميل و5 مصانع للمواد الخام لافتا إلى أن المصانع الوطنية بها 2370 خط إنتاج، و1200 شركة أدوية مصنعة لدى الغير، وتنتج الشركات المصرية 17 ألف مستحضر دوائي.
ويشير مصدر مطلع، بمركز الحق في الدواء وهو منظمة حقوقية، إلى أن الأزمة الراهنة في مصر مركبة بين حكومة لا تقوم بأدوارها تجاه شركات الدواء المحلية الواجب عليها دعمها، وبين شركات الدواء ذاتها والتي تصرف أموالها ببذخ على دعاية تحولت إلى أحد أبرز أشكال الفساد مع توجيه الأطباء لصرف أدوية بعينها مقابل تنظيم رحلات وهدايا باهظة إلى الدرجة التي أضحت فيها الدعاية تشكل 35% من قيمة إجمالي قيمة تصنيع الدواء، في حين أن المادة الخام قد لا تتجاوز قيمتها 10%.
وذكر أن هناك أوجه فساد لا يتم الكشف عنها بين هيئة الدواء الموحد وشركات الأدوية لأن الهيئة الحكومية مسؤولة عن عملية إجراء مراجعة دورية لأسعار الأدوية وبناء عليها يتم تحديد سعر الدواء وذلك من خلال مقارنة أسعار الأدوية المصرية بنظيرتها في أكثر من 40 دولة حول العالم، غير أن تلك الهيئة تتجاهل فكرة مقارنة أسعار الأدوية في مصر بنظيرتها في دول تبيعها بأسعار زهيدة مثل بنجلاديش، وقد يكون هناك تفاهمات خفية غير ظاهرة للعيان.
مخاوف من استحواذ شركات أجنبية
ولم يستبعد المصدر ذاته أن يكون الخلاف المتفجر حاليا لمصلحة شركات أجنبية تجد أرضية مناسبة للاستثمار في سوق الدواء بمصر انعكاساً على انخفاض قيمة العملة المحلية في مصر مقارنة بالدولار وانخفاض أسعار العمالة المصرية، مع وجود خطة مصرية تستهدف تحويل منطقة "جيتو فارما" التي افتتحها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل أربع سنوات وهي منطقة صناعية دوائية إلى استقطاب شركات عالمية لتصنيع مستحضراتها داخل المدينة ضمن خطة أوسع لأن تتحول المنطقة إلى مركز إقليمي للتعاون بين الشركات العالمية.
وشدد على أن الشركات الأجنبية قد لا يروق لها وجود منافسة قوية من الشركات المحلية التي تسيطر على إجمالي حجم السوق المصري، بخاصة وأن هناك توجه نحو شركات الدواء العربية العملاقة في الاستحواذ على نسب من شركات أدوية أجنبية وافتتاح أفرع لها في تلك المنطقة، كما حدث بالنسبة لشركة الحكمة الأردنية، والتي تتوسع حالياً في السوقين المصري والتونسي، وكذلك شراء شركة أبوظبي القابضة حصة شركة "بوش هيلث" الكندية في شركة آمون المصرية.
وافتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مدينة الدواء المصرية، بمنطقة الخانكة، بمحافظة القليوبية في أبريل 2021، أكبر صرح للأدوية في البلاد، إذ تم إقامتها على 180 ألف متر مربع.
وبحلول عام 2028، من المتوقع أن يصل حجم سوق الدواء في الشرق الأوسط إلى 36 مليار دولار، وفي إفريقيا إلى 28 مليار دولار.
اجمالي القراءات
36