محمود علي مراد Ýí 2012-09-26
الوثيقة "ألف"
معاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي (الأمة)
الإطار التاريخي
سرجنت
·هذه الوثيقة هي أول الحلفين اللذين عقدا في دار أنس بن مالك في السنة الأولى من الهجرة. ونظراً إلى أن هذا الحلف كان أساس الأمة الجديدة فلا بد أنه جاء نتيجة لمفاوضات دارت في يثرب في فترة مبكرة من ذلك العام. وتتفق المصادر على حقيقة أنه كان موضع اتفاق بين المهاجرين، والأوس، والخزرج، واليهود.
·من المهم مع ذلك أن نراعي الصياغة الدقيقة التي استخدمها ابن إسحاق لتقديم هذه الوثيقة. فابن إسحاق يقول:
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم.
·والنقطة الأساسية هنا هي أن الوثيقة كما يوردها ابن إسحاق ليست معاهدة مع اليهود؛ يؤكد هذا دليل مستمد من الوثيقتين ذاتهما. لقد عُقدت المعاهدة بين المهاجرين والأنصار. والنص يتحدث عن يهود، لا عن اليهود، أي عن اليهود لا باعتبارهم مجموعة بل باعتبارهم قبائل، وقد أُدرج اليهود في المعاهدة الأصلية باعتبارهم عنصراً سياسياً خاضعاً للطرفين المتعاقدين. وليس معنى هذا أن القبائل اليهودية لم يكن لها من السلطة ما يسمح لها بالضغط على اتحاد الأمة - الأمر الذي تكثر شواهده في السيرة ذاتها.
ملحوظاتنا
1- لم يرد في سيرة ابن إسحاق أن هذه الوثيقة وُقِّع عليها في دار أنس بن مالك.
2- "سرجنت" حين يجزم بأن هذه الوثيقة اتفاق أو معاهدة لم يأخذ في حسبانه حقيقة أشرنا إليها في ملحوظاتنا بشأن الجملة التي يقدِّم بها ابن إسحاق الصحيفة والتي مؤداها أن هذه الوثيقة تبدو أيضاً كعمل من طرف واحد أي كإعلان أو مرسوم صادر من سلطة عليا.
3- تأكيد أن المعاهدة عُقدت بين "المهاجرين" و"الأنصار" فيه استعارة لمصطلحي ابن إسحاق اللذين اعترضنا عليهما واللذين لم يردا في الوثيقة.
4- الفرق بين اليهود و يهود غير واضح، والتسميتان مذكورتان كمرادفين.
5- ليس صحيحاً أن اليهود يصورون فيما يسميه "سرجنت" بالمعاهدة الرئيسية، أي الوثيقة "ألف"، كعنصر سياسي خاضع لطرفيها المتعاقدين، والمادة 8 (=18) من هذه الوثيقة تنص على الأسوة أي المساواة.
سرجنت
يقدم ابن إسحاق حديث المؤاخاة التي قررها محمد في يثرب بعد "الدستور" مباشرةً. أفليس من الجائز أن هذه المؤاخاة إنما هي نتيجة للمادة 3أ (=2)؟
ملحوظاتنا
1- عبَّرنا في دراستنا لحديث ابن إسحاق، في الفصل الأول (الجزء الأول) من هذا العمل، عن كثير من التحفظات بشأن صحة عملية المؤاخاة([1]) من الناحية التاريخية. إنها، في نظرنا، اختراع من جانب هذا المؤلف قُصد به الإيحاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأفراد قبيلته - التي هي قبيلة الخليفة العباسي - كانوا يشكلون كياناً مستقلاً عن باقي الأمة؛
2- كذلك أعربنا عن شكوك هامة فيما يتعلق بالمادة 3أ (=12)، وذلك للأسباب التي سنفصح عنها عند دراسة هذه المادة. على أن بوسعنا مع ذلك أن نقول أنه مع افتراض أن مؤاخاة عُقدت بين مسلمي المدينة ومهاجري مكة، فإن مسألة العقل والفدية لم تكن مطروحة على المجتمع الإسلامي في السنة الأولى من الهجرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
المادة 1 (=1)
هذا كتاب من محمد النبي، صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومَن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم.
سرجنت
قريش تعني هنا "المهاجرين" أي أولئك الذين ذهبوا إلى يثرب بحثاً عن ملجأ (حماية) لدى الأنصار. لقد ذُكر المهاجرون أولاً على القائمة على أساس أنهم يمثلون أسرة دينية أرستقراطية، ومن المحتمل أن يكون الرسول قد ظهر فيها باعتباره رئيساً وممثلاً لهم.
ملحوظاتنا
1- "سرجنت" باستخدامه هنا كلمتي "المهاجرون" و "الأنصار" يفسد المناقشة، وذلك لسببين: الأول هو أن تعريفه للهجرة والمهاجرين، كما رأينا، ليس تعريف القرآن الكريم، والثاني هو أن لفظتي "المهاجرين" و "الأنصار" لم تردا في الصحيفة. إنهما لفظتان مغرضتان استخدمهما ابن إسحاق في "السيرة" ليوحي بأن المهاجرين كانوا الأشخاص الوحيدين الذين اعتنقوا الإسلام في الفترة المكية، وأن جميع أهل المدينة كانوا أنصاراً للرسول صلى الله عليه وسلم وأن "المهاجرين" لم يكونوا في الوقت ذاته أنصاراً، وما أبعد ذلك عن الحقيقة.([2])
2- "الأسرة الدينية الأرستقراطية" ليست، فيما يبدو لنا، وصفاً سليماً للمهاجرين. إن فكرة الأرستقراطية، سواء كانت دينية أو غير ذلك، فكرة أجنبية على الإسلام. وإذا كان بين المهاجرين عدد قليل كان ينتمي إلى الأرستقراطية المكية، فإن ما حدث من قطيعة بينهم وبين قبائلهم لم يترك لهم شيئاً من نبالتهم القديمة.
3- محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في يثرب رئيساً وممثلاً للمهاجرين فحسب؛ بل كان كذلك، بلا منازع، لجميع المسلمين بما في ذلك "الأنصار".
4- ليس صحيحاً أن قريشاً في هذه المادة تعني "المهاجرين". إن المادة تتحدث عن المؤمنين والمسلمين من قريش، لا عن المهاجرين. وهذا خطأ جسيم من جانب "سرجنت" فلو كانت كلمة قريش تعني المهاجرين، لكان المقصود بعبارة "المسلمين من قريش" المسلمين من بين المهاجرين. ومفاد ذلك أنه كان هناك غير مسلمين بين هؤلاء. ولما كانت قريش هي الاسم الذي يرمز إلى القبائل المكية في مجموعها، فإن تعبير "المسلمين من قريش" لا يمكن أن يعني سوى المسلمين الذين ينتمون لهذه القبائل.
المادة 2أ (=2)
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
["سرجنت" يترجم كلمة أمة ب "اتحاد كونفدرالي"]
سرجنت
·فيما يتعلق بجملة "ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم"، التي وردت في المادة الأولى يشير "سرجنت" إلى الآية القرآنية (72) من سورة الأنفال، التي تقول: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ…"، وهو يقول إنه أعطى لفعل "هاجر" معنى الهجرة اليمنية لأن هذا بالضبط ما يحدث حين يقوم سيد من سادة اليمن بالهجرة لدى القبائل الزيدية. ويفسر الطبري كلمة "أولياء" في هذه الآية بأنها تعني نفراً من المهاجرين الذين كانوا أنصاراً وأعواناً للطرف الآخر في مواجهة المشركين الذين فارقوهم.
·وتقول الآية بعد ذلك: "… وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا…". وتبدو باقي الآية لـ "سرجنت" إضافة لاحقة، ولكن ذلك ليس في نظره أمراً مهماً.
·وينبغي تفسير جزء الآية الذي يقول: "وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ …" بأنه رفض من جانب الأمة لتحمُّل مسئولية نصرة الأشخاص الذين وثقوا (trusted)، أي اتبعوا محمداً دون أن ينقضوا ولاءهم القبلي بالعدول عن حماية قبائلهم والاستعاضة عنها بحماية الاتحاد الكونفدرالي (أي الأمة التي أقامها محمد).
·والآية (75) تبدو كإضافة إلى الآية التي سبقتها. وهي تقول: "وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ …". هذا النص يرخص بانضمام التابعين المتأخرين إلى الاتحاد الكونفدرالي. فمن الممكن أن يستنتج من استخدام كلمة "لحق" في مادة 1 أن انضمام قبائل أو أفرادٍ آخرين كان ممكناً، بل ربما كان مرتقباً.
·يقول الطبري إن الأنصار وفروا مثوىً ومسكناً للرسول والمهاجرين. وهذا قريب مما تفعله القبائل الزيدية، فهي تخصص مكاناً لإيواء المهاجر إليها.
·الهجرة تعني قطع العلاقات والولاء القبلي والاستعاضة عنهما بالانضمام إلى الاتحاد الكونفدرالي (الأمة) مع تحويل مسئوليات الحماية من القبيلة إلى الأمة. ولم يكن محمد يعتبر نفسه مسئولاً عن المسلمين الذين لم يقوموا بهذا التحويل لولائهم وترك الجماعات غير الإسلامية. ويصور ذلك حديث نبوي رواه أبو داود والترمذي بشأن غزوة شُنَّت ضد خثعم في السنة التاسعة من الهجرة، فقد أراد نفر من الناس حماية أنفسهم من المقاتلين المسلمين فسجدوا لإظهار أنهم مسلمون ولكنهم قُتلوا ولما علم الرسول بذلك أمر بدفع نصف الدية عنهم وقال: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". ولما سئل عن السبب قال إنه لا يجب أن يرى أيٌ من المسلمين والمشركين نار الآخر (أي ألا يكون قريباً منه بحيث يرى ناره). وقد علق ابن الأثير على هذا الحديث بقوله إن المشركين ليس لهم عهد ولا أمان وأن المسلمين لا ينبغي بالتالي أن يقيموا بقربهم.
·ويقول "سرجنت" إنه علم في محمية عدن الغربية أنه إذا كان فرد من قبيلة ما موجوداً لدى قبيلة أخرى وأغارت قبيلته على قرية لهذه القبيلة الأخيرة، كان من واجبه أن يدافع عن مضيفيه إذا لم يكن بوسعه أن يهرب. ومن الجائز جداً أن هذا كان العرف القبلي في الحجاز في زمن الرسول. على أن هذا الوضع وضع غير واضح المعالم. ولهذا سمح محمد بدفع نصف الدية وحدد موقفه بدقة فيما إذا حدث نفس الشيء في المستقبل. وقصة خثعم هذه ليست واردة في معظم كتب السيرة. وسواءٌ كانت الواقعة المشار إليها صحيحة أو غير صحيحة فإن المبدأ الذي أعلنه الرسول بشأنها ليس مغايراً لأحكام الاتحاد الكونفدرالي الذي أعلنته الوثيقة "ألف".
ملحوظاتنا
1- في هذه المادة، كما في المواد التي من نوعها من الوثائق الأخرى، يعطي "سرجنت" لفعل "آمن" دائماً معنى الثقة (trust)ولفعل "هاجر" معنى «seek protection by emigrating»، أي التمس الحماية بالهجرة. وقد أعربنا عن رأينا بشأن هذين اللفظين. على أننا نود أن نقرر هنا أن هناك شيئاً من التعارض بين نشدان الحماية بالهجرة وبين واجب الجهاد الذي كثيراً ما يقترن في القرآن الكريم بالإيمان والذي يفرض على المؤمن أن يجاهد في سبيل الله، مع كل ما يتضمنه هذا الجهاد من مخاطر.
2- "سرجنت"، حين يولي كل هذه الأهمية لموضوع الحماية، يوافق ابن إسحاق، الذي جعل من الحماية المحور الذي يدور حوله كل حديثه عن الفترة المكية. ذلك أن ابن إسحاق:
أ ) جعل من قبيلة عبد المطلب التي كانت، في رأينا، تضطهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأعضاءها المسلمين، تظهر في السيرة حامية لمحمد صلى الله عليه وسلم حيال قبائل قريش الأخرى؛
ب) تحدث عن "مهاجري" المسلمين في الحبشة، الذين كانوا في الواقع منفيين، كما لو كانوا يعيشون في سلام في هذا البلد تحت حماية النجاشي؛
ج) جعل نشدان الحماية لدى قبائل العرب همَّ الرسول الأول بعد موت عمه و"حاميه" أبي طالب؛
د ) جعل من حماية الرسول صلى الله عليه وسلم أهم موضوع في الاجتماع الذي تمخض عن عقد بيعة العقبة الثانية، التي يصورها ابن إسحاق على أنها كانت العامل الحاسم في موضوع الهجرة.
3- نحن لا نتفق مع رأي "سرجنت" الذي فحواه أن الهجرة تعني قطع العلاقات والولاء القبلي والاستعاضة عنهما بالانضمام إلى الاتحاد الكونفدرالي (الأمة) مع تحويل مسئولية الحماية من قبيلة الشخص إلى الأمة، وذلك:
أ ) لأن الأمة، في نظرنا، ليست اتحاداً "كونفدرالياً" ذا طابع تعاقدي وذا إطار محدد بل هي كيان مفتوح ينضم إليه أي رجل أو امرأة بصورة آلية وبمحض إرادتهم بنطق الشهادة؛
ب) لأن الشخص حين يعتنق الإسلام وينضم نتيجة لذلك إلى الأمة يدخل في عالم جديد يغلب فيه الاهتمام بالأمان بعد الموت الاهتمام بالأمان في هذه الدنيا، وتصبح الحماية الربانية فيه هي الحماية الوحيدة ذات القيمة؛
ج) لأن الاهتمام بالأمن لم يكن الشاغل الأول للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة؛
د ) لأن الإسلام لا يطلب من عضو الأمة أن يقطع كل علاقة مع أسرته أو قبيلته. بل إن القرآن الكريم، على العكس، لا يكف عن حض المسلم على الإحسان إلى أمه وأبيه وأعضاء أسرته وأقاربه عموماً ويجعلهم في مقدمة من يجب على المؤمن مساعدتهم والحدب عليهم. ويقول القرآن الكريم في هذا المعنى:
–وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ … ﴿36﴾[النساء]
4- لم يكن في يثرب خدمات فندقية كتلك التي كانت موجودة في مكة والتي كانت تسمح بتسكين أو بإقامة الحجاج والتجار الوافدين من خارجها، وترتب على ذلك أن مسلمي يثرب آووا الرسول صلى الله عليه وسلم وإخوانهم في الدين الوافدين من مكة في الفترة الأولى من الهجرة. وكان ذلك شيئاً طبيعياً ومثله يحدث في كل مجتمعات العالم حين يصل مهاجرون أو زائرون من بلاد أخرى. والتشابه بين أهل يثرب وبين زيدية اليمن ليس له هنا بالتالي أي مغزى خاص.
5- ليس من شأننا أن نناقش هنا حادثة خثعم التي ذكرها "سرجنت" أو مدى صحة الحديث النبوي المتعلق بها، فهي لم ترد عند ابن إسحاق. وما نجده في حديث بيعة العقبة الثانية من سيرة ابن إسحاق هو أن حجاج يثرب المسلمين وصلوا إلى مكة بصحبة حجاج مشركين. ولم تكن هناك بعد الهجرة أي توجيهات من الرسول صلى الله عليه وسلم لمسلمي هذه المدينة بقطع علاقاتهم بقبائلهم المشركة أو بالذهاب للإقامة بعيداً عنها.
6- إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أغار على خثعم فالاحتمال أن ما دفعه إلى ذلك هو أعمالٌ عدائية صدرت منهم ضد المسلمين. وللمرء أن يتساءل في هذه الظروف عما جعل مسلمي هذه القبيلة، المفترض أنها مشركة، لا ينفصلون عنها. ومن المستغرب أن هؤلاء المسلمين سجدوا ليُظهروا أنهم مسلمون بدلاً من أن يعلنوا أنهم مسلمون أو أن ينطقوا بالشهادة. وأخيراً، وهذا هو أهم ما في الموضوع، فإن الدية لم تكن تُدفع إلا حين يقتل فرد من قبيلة فرداً من قبيلة أخرى في وقت السلم. ولم تكن هناك دية واجبة الدفع عن قتلى في عمل حربي كغزوة النبي صلى الله عليه وسلم ضد خثعم. ومن الغريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدفع دية إلى القبيلة المشركة إلا عمن قُتل من أعضائها المسلمين.
المادة 2ب (=3)
المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
سرجنت
·شرح لتعبير "على ربعتهم" (ابن الأثير، السهيلي، أبو عبيد).
·من المحتمل أن أشخاصاً غير أولئك الذين يؤسَرون في الحرب كانوا يُسجنون لجريمة من الجرائم.
·شرح لمعنى كلمة "معروف" (القرآن، ابن الأثير، الطبري). و"المعروف" في السياق هنا يعني "الشرع"، وهي كلمة تستخدم دائماً في جنوب غرب الجزيرة بمعنى القانون العرفي.
·شرح لكلمة "قسط" (النسائي).
ملحوظاتنا
1- عبارة "على ربعتهم" لا تعني، كما يقول "سرجنت"، "المكلفين بإدارة أمورهم"، بل هي تعني "حالتهم التي كانوا عليها عند ظهور الإسلام".
2- هناك، فيما يتعلق بهذه المادة والمواد التسع التي تتبعها، نقطة أساسية للتاريخ هي معرفة ما إذا كانت أحوال المجتمع الإسلامي في الفترة التي يدرج "سرجنت" فيها هذه الوثيقة تستوجب فرض أحكام قانونية لحل مشكلات عاجلة تتعلق بما يأتي:
– حالات قتل كثيرة ارتكبها مسلمون من المهاجرين ومسلمو البطون الثمانية المذكورة في المواد المشار إليها، تستدعي دفع الدية؛
– احتمال قيام حرب يؤسر فيها مهاجرون أو أعضاء من البطون الثمانية المذكورة وتقتضي دفع فدية لإطلاق سراحهم.
والحاصل أن الإطار التاريخي للوثيقة "ألف"، طبقاً لـ "سرجنت"، لا يذكر شيئاً عن هذين الأمرين. لقد اكتفى "سرجنت" بقوله في جملة واحدة إن قبائل يثرب التي ورد ذكرها في الوثيقة "ألف" اتفقت على معالجة المشكلة التي هي أهم جميع مشكلات القبائل، أي القتل أو "الاغتيال". ولكن في الإمكان أن يرد على ذلك بأن موضوع الدية إذا كان أهم المواضيع القبلية في زمن الجاهلية قدْ فقدَ هذه الأهمية مع ظهور الإسلام الذي يحرم القتل والاعتداء بأقوى العبارات. وتاريخ أحداث الفترة، كما سبق أن لاحظنا، لا يشير إلى أي عملية قتل أو اعتداء تستوجب دفع دية.
3- حين يقول "سرجنت" إن قبائل يثرب كانت تسوي مسألة الدية وفقاً للإجراء المعترف به عرفاً فإنه لا يراعي حقيقة كبرى هي أن ظهور الأمة قد غير بشكل كامل معطيات المشكلة في يتعلق بالمسئولية عن دفع الدية والفدية، وذلك بالنسبة للمهاجرين بوجه خاص، لأنهم قطعوا علاقاتهم مع قبائلهم المشركة. ومن الغريب في هذا الصدد أن "سرجنت"، الذي يرى أن الهجرة تنطوي على قطع لعلاقات الولاء القبلي وإحلال حماية الأمة المدنية محل حماية القبيلة المكية، لم يتنبه إلى نتائج مثل هذه القطيعة على الإجراءات العرفية فيما يتعلق بالدية.
4- "سرجنت" لا يراعي كذلك حقيقة أن الإجراء العرفي فيما يتعلق بالفدية لم يعد سارياً، وذلك أولاً لأن الحروب التي كان يمكن أن يخوضها المسلمون لم تعد حروباً بين قبائل مشركة بل بين هذه القبائل ومجموع المسلمين الذين ينتمون إلى قبائل عديدة من بينها، ثم لأن أسباب هذه الحرب المحتملة لم تكن تمت بصلة لأسباب الحروب في الجاهلية.
5- وقد سبق أن شرحنا أن كلمة "معروف" لا تعني العرف بل تعني الإحسان.
المادة 2 ج(=4)
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
سرجنت
من الملاحظ أن المهاجرين ليسوا مسئولين عن دفع الديات السابقة مسئولية الأنصار، الذين كانوا يتبعون في ذلك عرفهم السابق.
ملحوظتنا
هذا ليس مستغرباً. ولم تكن هناك حاجة إلى النص عليه لو أن جميع أعضاء البطن قد أسلموا. ولم يكن هذا حال المهاجرين الذين تركوا وراءهم بطوناً وقبائل مشركة.
المادة 2 د (=5)
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
المادة 2 ه (=6)
وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
المادة 2 و (=7)
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
المادة 2 ز (=8)
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
المادة 2 ح (=9)
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
المادة 2 ط (=10)
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
المادة 2 ي (=11)
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ملحوظتنا
المواد 2ج (=4) إلى 2ي (=11)
بنو عوف، وبنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو الأوس، الذين تتحدث عنهم هذه المواد الثماني، فيما يبدو، بطون من الأوس والخزرج، القبيلتين العربيتين الكبريين في يثرب. ولكن ماذا كانت نسبتها المئوية إلى مجموع بطون هاتين القبيلتين وما هي النسبة المئوية لأعضائها إذا قورنت بمجموع بني الأوس والخزرج؟ هذه أسئلة رئيسية لم يتوقف عندها "سرجنت". صحيح أن كتب السيرة لا تقدم جواباً في هذا الموضوع، إلا أن من الممكن عن طريق مقابلة وتجميع بعض المعلومات التي تزودنا بها هذه السير تكوين فكرة تقريبية عن المكان الذي تحتله هذه البطون الثمانية بين سكان يثرب من العرب. ونظراً إلى أن "سرجنت" لم يقم بهذه العملية ولا بعملية مماثلة تتعلق باليهود فقد اعتبر أن هذه الوثيقة تنسحب على سكان المدينة من المسلمين واليهود جميعاً، مع أن الواقع أنها لم تكن تُعنى إلا بجزء فقط من هؤلاء السكان. وخلافاً لرأي "سرجنت"، لم تكن هذه الوثيقة، على افتراض صحتها، وثيقة كبرى عن الفترة المدنية.
المادة 3 أ (=12)
وإن المؤمنين لا يتركون مفرجاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
سرجنت
شرح لكلمة مفرج.
يقول "لين" Laneإن المفرج شخص وجده الناس ميتاً نتيجة لقتله في الصحراء؛ أو شخص أصبح مسلماً دون أن يكون له حلف أو صداقة مع أي من المسلمين… وإذا ارتكب مثل هذا الشخص جريمة فإن عبء التعويض عنها ودفع ديته يقعان على الله. ويقول الجعفي إن المفرج شخص يعيش بين أشخاص لا ينتمي إليهم؛ وعلى هؤلاء بالتالي أن يدفعوا عنه الفدية؛ شخص ليس له أقارب. والقراءة البديلة، أي كلمة "المفرح"، بالحاء، تعني المثقل بالدين وكثير العيال، وهذا المعنى يبدو أقل ملاءمة للمراد. أما إذا كان يقتضي فهم الكلمة بهذا المعني فقد يكون لها صلة بمسألة الإخاء لمساعدة المهاجرين الفقراء.
ملحوظاتنا
1- شرحنا في ملحوظاتنا بشأن المادة المقابلة (رقم 12) أن هذا النص لا يضيف شيئاً إلى القاعدة التي سنها القرآن الكريم في الآية (2) من سورة المائدة.
2- شرح كلمة المفرج الذي قدمه Laneغير مفهوم؛ ذلك أنه إذا كان المقصود شخصاً وُجد مقتولاً في الصحراء فإنه يشير إلى الضحية لا إلى القاتل أو إلى قبيلته التي يقع عليها عبء دفع الدية. أما إذا كان المقصود بالمفرج الشخص الذي أصبح مسلماً ولم يكن له حلف مع أي شخص بين المسلمين إذا ارتكب جريمة، فإن المادة الحالية التي تحث المسلمين على معاونته في دفع الدية تتعارض مع الآية (2) من سورة المائدة التي تقول: "… وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ…". وإعانة مسلم مجرم على دفع ثمن جريمته نوع من مساعدته على الإثم والعدوان.
3- الاعتراض ذاته قائم إذا كان تعريف المفرج هو ذلك الذي ذكره الجعفي.
4- الترجمة البديلة أي المفرح هي تلك التي استخدمت في الطبعة التي استخدمناها في السيرة. وكلمة مفرح في شرح ابن هشام تعني المثقل بالدين والكثير العيال. وخلافاً لرأي "سرجنت"، ليس لهذه الكلمة أي صلة بإجراء المؤاخاة لمساعدة المهاجرين الفقراء، إذ أن المسلم إذا أصبح مجرماً، سواءٌ كان فقيراً أو غنياً، ما كان يستطيع أن يطمع في عونٍ أياً كان من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم أو من جانب المسلمين، فعونهم لا محل له إلا في حالة الفعل الذي تم خطأ عن غير قصد.
المادة 3ب (=13)
ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
المادة 4أ (=14)
وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين.
سرجنت
·شرح لمعنى كلمة اتَّقى (البيضاوي، الحيري، حسن بن موسى، النوبختي، ابن حبيب،
(H. Ringgren): المعنى القديم لمصدر هذه الكلمة مازال مستخدماً في جنوب الجزيرة العربية، ففي سلطنة الواحدي مثلاً، تستخدم كلمة الدعوى للاتهام والتقوى للدفاع.
·شرح لمعنى كلمتي دسيعة ظلم: إن الخروج على القاعدة النحوية في هذا التعبير دليل إضافي على صحة الوثيقة.
ملحوظاتنا
1- هذه المادة، كما سبق القول، لا تضيف شيئاً إلى القواعد الأولية المتبعة في كل المجتمعات والتي نجدها أيضاً في القرآن الكريم.
2- الخطأ النحوي، إن صحت ملحوظة "سرجنت"، وهذا غير مؤكد، لا تكفي كدليل على صحة الصحيفة.
3- من الجائز أن كلمة "تقوى" في سلطنة الواحدي، من فعل اتقى، تعني الدفاع في قضية ولكن هذا استخدام محلي. وهذه الكلمة في معناها الأصلي لا تعني الدفاع؛ كما أنها لا تعني «free of dishonorable acts or offenses»"عدم ارتكاب عمل مخل بالشرف أو جريمة" كما في ترجمة "سرجنت" للمادة. بل تعني في المعجم الوسيط الخشية والخوف؛ و"تقوى الله" تعني خشية الله سبحانه وتعالى، وطاعة أوامره واحترام نواهيه. وفعل اتقى واسم التقوى يستخدمان في القرآن الكريم في نفس المعنى مع إضافة اسم الجلالة أو بدونه. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
– …وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا﴿2﴾[الطلاق]
– ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنـزلَهُ إِلَيْكَم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴿5﴾[الطلاق]
– إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴿128﴾[النحل]
– لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴿93﴾[المائدة]
المادة 4ب (=14)
وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.
المادة 5 (=15)
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
سرجنت
هذا المعنى وارد في الآية (4) من سورة الممتحنة التي تقول: "… إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُم … وَبَدا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ…". وكان هذا، بطبيعة الحال، هو بالضبط الموقف بين محمد وقريش مكة. لقد زالت صفته كعضو في مجموعتهم القبلية، وكان في موقف عدائي معهم. فالمسألة المطروحة في هذه المادة تتعلق بالقانون الجنائي. أما بالنسبة لإبراهيم عليه السلام، فالمسألة مسألة دينية جاءت كذلك في القرآن الكريم بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولسائر الأنبياء فحواها أن كل شخص مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عن أفعاله وأن الأنبياء لا يُسألون عن كفر شعوبهم وعن آثامها.
ملحوظتان
1- نحن لا نرى الصلة بين هذه المادة والآية (4) من سورة الممتحنة التي تقول:
–قَد كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُم وَمِمَّا تُعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ …
2- قلنا في دراستنا لهذه المادة إنها تتعارض مع التشريع القرآني الذي لا يفرِّق، في المسائل الجنائية، بين المجرم المؤمن والمجرم الكافر، وأن واجب المؤمن الذي يفرض عليه ألاَّ ينصر كافراً على مؤمن ليس له محل إلا إذا لم يخرق المؤمن قاعدة من قواعد القانون.
المادة 6(=16)
وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم.
المادة 7(=17)
وإن المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون الناس.
سرجنت
أنظر المادة 3ب (=13) أعلاه والقرآن (التوبة : 71):"وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ…".
ملحوظتنا
الإحالة إلى المادة 3ب (=13) إحالة في غير محلها، فإن هذه المادة تحظر على المؤمنين الدخول في حلف مع مولى (عبد) مؤمن آخر، من النوع الذي كان معروفاً قبل الإسلام، دون موافقة سيده. ولكن المادة 7 (=17) تتعلق بمسألة مختلفة تماماً، كما أوضحنا في بحثنا للمادة 17، والأمر فيها يتعلق بطبيعة علاقات المسلمين فيما بينهم.
المادة 8 (=18)
وإنه مَن تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
سرجنت
عبارة "مَن تبعنا" تشير إلى أن اليهود كانوا في موقف تبعية حيال قبائل يثرب، ولكنها لا تعني بالضرورة أنهم كانوا أدنى منهم مرتبة. وكتصوير لهذه المادة، نقرأ في سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام أن أبا بكر ضرب وجه فنحاص اليهودي ضرباً شديداً في مشاجرة قامت بينهما وقال له: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك. فذهب فنحاص إلى الرسول باعتباره رئيس المهاجرين ليشكو أبا بكر وعنَّف الرسول أبا بكر.
ملحوظتان
1- كلمتا "من تبعنا" تثيران تساؤلات تعرضنا لها في بحثنا للمادة 18، ولكن "سرجنت" لم يقف عندها.
2- واقعة أبي بكر مع فنحاص ترتبط، في سيرة ابن هشام، بالآيات القرآنية موضوع الاقتباس رقم 34 في الفصل الخامس من الجزء الأول من هذه الرسالة. وقد أبدينا في ملحوظاتنا على نص ابن إسحاق تحفظات كبيرة بشأن هذا الاقتباس.
المادة 9 (=19)
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
سرجنت
شرح لمعنى كلمة سلم (Wright، ابن الأثير).
ملحوظتنا
في ملحوظاتنا بشأن المادة 19، شرحنا أن هذه المادة لا داعي لها وأن الافتراض الذي بنيت عليه غير واقعي.
المادة 10(=20)
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً،
سرجنت
أي أن كل فرقة يجب أن تخلف الفرقة التي قبلها في الدور بحيث لا يبقى أحد في الخدمة على الدوام (ابن الأثير).
ملحوظتنا
هذه المادة تثير عدداً من المشكلات تعرضنا لها في ملحوظاتنا بشأن المادة 20.
المادة 11(=21)
وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
سرجنت
توضح هذه المادة أنه إذا قُتل فردٌ في الأمة كانت الأمة مسئولة عن الانتقام له.
ملحوظاتنا
1- معنى هذه المادة غامض للغاية.
2- إذا كان "سرجنت" في تفسيره لهذه المادة يعني أن الأمة يجب أن تنتقم لفرد من أفرادها قُتل في سبيل الله فللمرء أن يتساءل: ما هي الحالة العملية التي يمكن أن تنطبق عليها هذه المادة ؟ ذلك أن المسلم الذي يُقتل في سبيل الله يموت إما في معركة بين المسلمين وأعدائهم أو أثناء قيامه بالدعوة لدينه بصورة فردية. والحاصل أنه ليس هناك انتقام في الافتراض الأول. أما في الافتراض الثاني فإن من قتلوه مطالبون بدفع ديته. كان هذا هو العرف السائد في بلاد العرب، ورفض قبيلة القاتل دفع الدية في مثل هذه الحالة هو الذي كان يتسبب في نشوب نـزاع مسلح مع الأمة.
3- حدد القرآن الكريم بدقة الأسباب التي تسوِّغ الحرب، وهي موجزة في الآية 190 من سورة البقرة التي سبقت الإشارة إليها والتي تقول: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ". وليس الانتقام واحداً من هذه الأسباب؛ بل إن في القرآن الكريم، على النقيض، آيات عديدة تحضُّ على العفو.
المادة 12(=22)
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
سرجنت
جاء في القرآن، الآية (22) وما بعدها من سورة الزخرف: "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ" فاقترح محمد أمة أهدى. وتتضمن الآية (42) من سورة فاطر عبارة "أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ". والصيغة النهائية في الوثيقة "ألف" تعلن أن المؤمنين على أحسن هدى. وكلمة "هدى" غير موجودة في أية صيغة نهائية أخرى باستثناء الوثيقة "باء"، التي تتبع النموذج القديم في الجاهلية (أنظر الآية 9 من سورة الإسراء): "إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ". واستخدام كلمة "اتَّقَى" بمعنى التزم أحكام العقل واضح في الآية (56) من سورة الأنفال التي تقول: "الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُون".
ملحوظاتنا
1- أرهق "سرجنت" نفسه كثيراً لشرح كلمة "هدى" في هذه المادة، ولم يكن في الحقيقة محتاجاً إلى ذلك لأن هذه المادة:
– لا تضيف شيئاً قط إلى ما تحتويه الصحيفة؛
– ليست إلا تكراراً لحقيقة معروفة وبدائية في جميع الديانات لا في الإسلام وحده، وهي حقيقة أن المؤمنين على أهدى سبيل؛ وهي تكرر كذلك ما جاء في الآيات الأولى من أول السور المدنية وهي الآيات التي تقول:
ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ﴿2﴾ [البقرة]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴿3﴾ [البقرة]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴿4﴾ [البقرة]
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴿5﴾ [البقرة]
2- "سرجنت" لا يتحدث عن الصيغ النهائية الأخرى للوثائق التي تتكون منها الصحيفة، التي يقول إنها نُسجت على منوال النماذج الجاهلية القديمة. والواقع أن الوثيقة "باء"، ليس لها، كما سنرى، صيغة نهائية: والوثيقتان "جيم" و"هاء" تنتهيان بصيغة تورد كلمتي البر والإثم وهما من كلمات القرآن الكريم. وأخيراً فإن الوثائق "دال" و"واو" و"زاي" تتضمن صيغاً فيها ذكر لله تعالى. ومن المستغرب مع ذلك أن يتخلى الرسول صلى الله عليه وسلم في وثيقة رسمية، وهو محرر الصحيفة، عن ثروة اللغة القرآنية وأن يستخدم صيغة جاهلية لاختتام كل من أجزائها.
3- فعل "اتَّقَى" لا يمت بصلة إلى التزام أحكام عقد من العقود. إنه يعني في اللغة الدينية، كما رأينا، اتقاء غضب الله. وعبارة "وهم لا يتقون"، في الآية (56) من سورة الأنفال، واردة بعد عبارة "الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة"، ولكنها لا ترتبط معها بالمعنى. ومثل هذا الاستخدام كثير في القرآن الكريم.
الوثيقة "باء"
تكملة لمعاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي
الإطار التاريخي
سرجنت
·تعتبر الوثيقة "باء" ثاني الحلفين اللذين عقدهما الرسول في يثرب في السنة الأولى، بعد الحلف المبدئي للاتحاد الكونفدرالي بقليل. والغرض الأساسي من هذه الوثيقة هو الحفاظ على الأمن الداخلي: ويبدو أنها تحمل أحكام الوثيقة "ألف" خطوة إلى الأمام بالتشديد على العمل المشترك للاتحاد الكونفدرالي كله ضد القاتل الذي قتل دون تحرش. كذلك فإنه يعزل المشركين عن كل تأثير على المهاجرين. والمادة 1 (=23) تستبعدهم فيما يبدو من ترتيبات الإخاء التي وضعها محمد في يثرب. ويقول السمهودي أنه كان في المدينة مشركون حتى بعد المواجهة التي تمت أمام الخندق والنصر المعنوي الذي أحرزه الرسول على خصومه الخارجيين.
·وللمادة النهائية أهمية كبرى إذ أنها تجعل من محمد الحكم النهائي لمختلف الطوائف الموجودة في يثرب.
·والمادتان 3أ و 3ب (=25) تتعلقان على وجه التحديد بمآخذ معاوية على الطريقة التي عالج بها عليٌ بن أبي طالب رضي الله عنه موضوع قتل الخليفة عثمان (سنة 35/656).
ملحوظاتنا
1- ما نقرأه تحت عنوان "الإطار التاريخي للوثيقة باء" ليس في الحقيقة إطاراً تاريخياً بل هو تعليق على الوثيقة في مجموعها.
2- رأينا في مختلف وجهات النظر التي أبداها "سرجنت" وارد في ملحوظاتنا على مختلف مواد هذه الوثيقة.
3- نحن لا نرى علاقة بين المادتين 3أ و 3ب (=25) والنـزاع بين معاوية وعلي: وأياً ما كان الأمر فإن هذا الموضوع لا يدخل إطار دراستنا.
المادة 1 (=23)
وإنه لا يجير مشرك ٌمالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
سرجنت
·كلمة "قريش" تعني المهاجرين وكلمة "مشرك" تعني مشركي يثرب، والمادة تحظر عليهم التوسط في نـزاع بين مهاجري قريش ومؤمني يثرب.
·وردت الكلمات الأربع الأخيرة في صيغة أبي عبيد كالآتي: "ولا ينصروهم (قريش) على المؤمنين".
ملحوظاتنا
1- ليس من الواضح إلى أي شيء استند "سرجنت" لتأكيد أن "قريشاً"، في حالتنا الراهنة، تعني "المهاجرين". وحيث أن عبارة المادة لا تذكر ذلك؛ فإن اسم قريش هنا يُقصد به على وجه التحديد مجموع قبائل مكة المشركة، ولا شيء غير ذلك.
2- لو أن المقصود بقريش في هذه المادة كان المهاجرين، كما يدعي "سرجنت"، فمعنى هذا:
– أن المهاجرين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا جميعاً مؤمنين مادام هذا الوصف قد خُصَّ به المؤمنون الذين ينتوون الاعتداء على أشخاص من قريش أو الاستيلاء على أموالهم؛
– أن كل مؤمن في يثرب كان في حلٍ من قتل المهاجر أو الاستيلاء على ماله حتى إذا لم يمسه هذا الأخير بسوء، إذ أن المادة لا تضع شروطاً في هذا الشأن؛
– أن الانتماء للمهاجرين، وهم طرف متعاقد فيما يسميه "سرجنت" بحلف الاتحاد الكونفدرالي، لا يضع مسلمي قريش المتواجدين في يثرب في مأمن من القتل أو من فقدان أموالهم على أيدي مؤمني هذه المدينة؛
– أن مصير المهاجرين الأحرار كان، من الناحية القانونية، أسوأ في المدينة منه في مكة، إذ أن "السيرة" تخبرنا أن كل من قتلوا في مكة كانوا اثنين أو ثلاثة من الرقيق الذين اعتنقوا الإسلام، وأن الذي قتلهم هم سادتهم الذين كان لهم عليهم حق الحياة أو الموت، وأنه لم يكن في مكة أي قاعدة تحظر على أي إنسان أن يجير مسلماً.
3- النـزاع الوحيد بين المهاجرين والأنصار الذي أوردت سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام قصته هو ذلك الذي ورد ذكره في الاقتباس القرآني رقم 31([3]). ولم يكن أحد من المشركين حاضراً، وكان تدخل الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أنهاه.
4- لو أنه كان في المدينة مهاجرون حياتهم أو أموالهم في خطر ولو أن المسلمين كانوا عاجزين عن حمايتهم، فمن المؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجد أي حرج من حيث المبدأ في أن يمنحه المشركون جوارهم، وحديث الفترة المكية في سيرة ابن إسحاق يورد، كما رأينا، عدة حالات إجارة من هذا النوع.
5- يمكن أن نذكِّر في هذا المقام بأن الإسلام، سواءً في الفترة المكية أو في الفترة المدنية، لم يحظر على المسلمين أن تكون لهم علاقات مع المشركين. فالقرآن الكريم يقول:
– لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴿8﴾إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُم أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿9﴾[الممتحنة].
وإذا كان الله عزَّ وجلَّ لا يحظر على المسلمين أن يبروا ويقسطوا إلى المشركين من غير الأعداء فليس هناك سبب يدعو إلى الظن بأنه يحظر الإعراض عنهم إذا تصرفوا تصرفات فيها إحسان.
6- إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد حقيقةً منع مشركي المدينة من التدخل في شئون المهاجرين فلم تكن الوسيلة لذلك هي وضع مادة تتجه إلى المشركين، بل كان هذا الحظر يدرج في مادة تحرِّم على المهاجرين، الذين يقول "سرجنت" إنه كان رئيسهم، أن يلتمسوا الجوار من المشركين.
7- في الوثيقة "زاي" التي سنحللها فيما بعد، تحظر المادة 1 (=48) إجارة قريش أو من ينصرها. و"سرجنت" لا يوضح ما إذا كانت قريش، في هذه المادة أيضاً، هم المهاجرون أو ما إذا كان المقصود هو مجموع قبائل قريش.
المادة 2أ (=24)
وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قوْد به، إلا أن يرضى ولي المقتول.
المادة 2ب (=24)
وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
سرجنت
تعريف كلمة "اعتبط" عند أبي عبيد.
ملحوظاتنا([4])
المادة 3أ (=25)
وإنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه.
سرجنت
تعبير "أقر بما في" في المستندات التي تحرر في جنوب الجزيرة العربية اليوم هو الصيغة المستخدمة من موقعي أي اتفاق. ومن المحتمل أن موقعي الوثائق الثماني التي تشتمل عليها الصحيفة قد استخدموها أيضاً.
ملحوظتنا
صيغة العبارة المذكورة لا تستخدم فقط في جنوب الجزيرة؛ وهي مستخدمة في معظم البلدان العربية لتوقيع المعاهدات. وهي تعني "أوافق" أو "أعترف بـ"، وليس لها خارج هذا المعنى دلالة خاصة.
سرجنت
يعتمد "سرجنت" معنى "آمن" الذي ذكره "براﭬـمن" (Bravmann)، ولكنه يظن أن من الواجب تجاوز هذا المعنى وترجمة الكلمة بـ «finds security in»، أي "يجد الأمن في" أما المحدث فهو عنده الشخص الذي يدخل عنصراً جديداً في موقف من المواقف فيصبح سيئاً (الكميت، إكليل، ابن مسعود).
ملحوظتان
1- أنظر ما ذكرناه عن فعل "آمن"([5]).
2- ظاهرة الإحداث لم تظهر إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما في حياته فقد كان هو المرجع الوحيد في شئون الدين، وكان القرآن الكريم يأتي بالحل في كل مرة تعرض فيها مشكلة جديدة. ولكن الذي حدث منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أن تفجرت الخلافات داخل الأمة، لاسيما في السباق على الخلافة، واتخذ وضع الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أبعاداً هائلة. هذا في نظرنا هو المقصود بظاهرة الإحداث.
المادة 3ب (=25)
وإنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل،
سرجنت
·شرح لمعنى كلمتي "صرف وعدل" (القرآن، الطبري، أبو عبيد)، بمعنى الاستعداد لقبول حكم الله الذي يصدره محمد. ومن الواجب فهم الجملة على ضوء ما يحدث في حضرموت، حيث أن قبيلة القاتل تقدم إلى المنصب، إذا ارتكب أحد أعضائها قتلاً في حوطته، هدية تسمى بالسقطان، كخروف مثلاً. وفي وقت لاحق يوضع "رهن"، يعرف باسم العدل، في يد المنصب، علامةً على رغبة القبيلة في الفصل في القضية. وفي حالة خطيرة كما في المادة 3ب (=25)، من المفترض أن ترفع حماية القانون عن الجاني أو أن يُقتل.
·شرح لمعنى كلمة "شفاعة" (الطبري، القرآن).
ملحوظاتنا
1- من المدهش أن الوثيقة، خلافاً لما قررته بالنسبة للقتلة في المادة السابقة، لا تقول شيئاً عن الفاعل/ المحدِث ذاته ولكن تخصص مادة لمن ينصره أو يؤويه.
2- الاستشهاد بما يحدث عملاً في يومنا هذا في موضوع القتل في حضرموت ليس مفيداً لفهم معنى هذه المادة لأن الأمر هنا لا يتعلق بالقتل.
3- نظراً إلى أن المادة لا تنص على جزاء جنائي للمحدث فإن نطاقها هو نطاق أدبي. والمعاهدات لا تُعقَد لمسائل من هذا النوع.
المادة 4 (=26)
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
سرجنت
·المادة الختامية للوثيقة باء قريبة من الآية (10) من سورة الشورى التي تقول:"ومَا اخْتَلَفْتُم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَليهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيهِ أُنِيبُ".
·يلاحظ أن إحدى الآيات السابقة (أي الآية رقم 8) من نفس السورة تقول: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً"،وأن القرآن يقول في الآية (48) من سورة المائدة:"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً" ثم يقول بعد ذلك بقليل: "إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
·تفسير هذه الآية على ضوء الوثيقة ب4 (=26)، باعتبارها دعوة إلى رفع النـزاعات إلى محمد بصفته ممثلاً لله على الأرض تفسيرٌ يختلف كثيراً عن تفسير الطبري. وهناك آية أخرى، هي الآية (59) من سورة النساء، تقول: "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ".
والعلاقة بين هذه الآية والمادة ب4 (=26) بديهية. ومصادر الطبري تفسر هذه الآية بأنها تشير إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه، ولكن من الواضح أن هذا لم يكن المعنى الأصلي للآية. والقرآن بعد ذلك يهاجم من يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.
ملحوظتان
1- يبدو أن "سرجنت" يعقد مقارنة بين الآية (8) من سورة الشورى التي يقول الله تعالى فيها: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً"والآية (48) من سورة المائدة: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً"، من جهة، وبين الاتحاد الكونفدرالي موضوع الوثيقة، من جهة أخرى. والواقع أن الآيتين المذكورتين لا تشيران إلى مجتمع المدينة بل إلى البشر بوجه عام؛ لذلك فإنهما، أياً كان تفسيرهما، لا يمتان بصلة إلى مشروع يهدف إلى جمع طوائف مختلفة في اتحاد كونفدرالي واحد. وأخيراً فإن الأمة، في تفسير "المنتخب" للآية الأولى تعني "الطريقة"، والأمة الواحدة في الآية الثانية تعني "جماعة متفقة، ذات مشارب واحدة، لا تختلف مناهج إرشادها في جميع العصور".
2- هناك بالفعل تشابه في اللغة بين الآيتين الكريمتين اللتين تدعوان المؤمنين، إذا تنازعوا فيما بينهم، إلى الرجوع إلى الله ورسوله والمادة ب4 (=26). ولكن المهم في الأمر هو معرفة ما إذا كانت هاتان الآيتان تشيران إلى مادة في الوثيقة "باء" أو ما إذا كانت المادة المذكورة قد بُنيت على هاتين الآيتين وآيات أخرى مشابهة. وهذه مسألة مركزية لا تخص فقط هذه المادة بل تتعلق بجميع مواد الصحيفة الأخرى التي رأيناها. وسنعود إلى هذا الموضوع تحت العنوان التالي.
الإشارات القرآنية إلى الاتفاقين "ألف" و"باء" من الدستور
معاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي وملحقها
سرجنت
يبدو أن هناك آيات قرآنية عديدة تشير إلى واحدة أو أكثر من هذه الوثائق الثماني التي تتضمنها الصحيفة. وكان سيكون من المستغرب بالفعل ألا يشير القرآن على الأقل إلى الوثيقتين "ألف" و"باء" ذاتَي الأهمية البالغة، نظراً إلى أنهما كانتا تنشئان في يثرب الاتحاد الكونفدرالي الذي يمنح محمداً مكانة سياسية رفيعة.
ملحوظاتنا
1- صحيح أنه كان سيكون من المستغرب ألا يشير القرآن الكريم إلى الوثيقتين "ألف" و"باء"، ولكن بشرط: أن يكون لهما وجود فعلي. والحاصل أن تحليل مختلف مواد الصحيفة وتحليل تعقيبات "سرجنت" بشأنها تركت عندنا شكوكاً كبيرة في وجودها.
2- تأكيد أن الوثيقتين "ألف" و"باء" تمنحان محمداً مكانةً سياسية رفيعة، شيءٌ من الصعب التوفيق بينه وبين الأفكار التي أعرب عنها "سرجنت" والتي مؤداها:
– أن محمداً لم يكن سوى قاضٍ - حكم؛
– أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن، في الصحيفة، ممثلاً لجميع من وقَّعوها من المسلمين بل ممثلاً للمهاجرين وحدهم.
3- من المناسب أن نذكِّر في هذا الخصوص بأن "سرجنت" يدرج هاتين الوثيقتين في إطار السنة الأولى أو حتى في إطار الشهور الستة التالية لوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب؛ وكان محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت أبعد ما يكون عن حيازة مكانة تسمح له بتنظيم اتحاد كونفدرالي يحقق له سيادةً ما في المدينة. وحين نعلم أن جيش المسلمين في غزوة بدر، التي حدثت بعد الهجرة بسنة ونصف، كان يتكون من 83 من مهاجري مكة و 71 من الأوس و 170 من الخزرج، أي ما مجموعه 324 رجلاً فإن الذي يغلب على الظن، بالرغم مما يقوله ابن إسحاق، أن دخول المدينة في الإسلام لم يكن إلا في بداياته الأولى وأن أنصار محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إلا أقلية صغيرة بين سكان المدينة الذين كان عددهم يقدَّر ربما بعدة عشرات من الآلاف، وكان هؤلاء السكان يتكونون في غالبيتهم من المشركين واليهود، وكانت القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية لليهود في ذروتها.
4- ترتكز كل نظرية "سرجنت" بشأن عقد حلفين بين المهاجرين وقبيلتي يثرب الكبريين اللتين يسميهما بالأنصار، ومواليهم وحلفائهم اليهود، في الوثيقتين "ألف" و"باء"، على معلومة للواقدي مفادها أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة أراد استصلاح أهلها - الذين كانوا أخلاطاً - وموادعتهم. والحاصل أن هذا الرأي لمؤرخ ولد بعد أكثر من قرن من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكفي، في نظرنا، ليكون أساساً لنظرية بهذه الأهمية. لاسيما، وأن سيرة ابن إسحاق، هذا المؤلف الذي توفي قبل الواقدي بنصف قرن، لا تعزو إلى محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذه النية. وكل ما تقوله "السيرة" في هذا الصدد هو أن الستة من أهل المدينة (الخزرج) الذين لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة قبل الهجرة بسنتين قالوا له:"إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقْدِم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا أعز منك". أما بيعة العقبة الثانية، التي عقدت قبل الهجرة بقليل، فلم يرد فيها أي حديث عن توحيد مختلف طوائف أهل المدينة.
5- جمع مختلف هذه الطوائف في اتحاد كونفدرالي مشروع قد يفكر فيه زعيم من رجال السياسة. ولو أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان هذا الزعيم لاستغل ملكاته في مكة لتوحيد قبائلها في دولة واحدة، وكانت أمامه فرص كبرى للنجاح لكي يكافأ على ذلك بتعيينه رئيساً لها. ولكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت رسالة نبي، كغيره من الأنبياء الذين حكى القرآن الكريم قصصهم، ولم تكن رسالة زعيم سياسي.
6- لابد أنه صلى الله عليه وسلم كان واعياً تماماً بأن التوحيد الحقيقي والدائم للناس لا يكون بالمعاهدات أو بمواثيق الاتحادات الكونفدرالية في مدينة صغيرة، بل يتحقق على مستوى أوسع كثيراً بدين لا يعرف المرء فيه سوى إله واحد، ويعلِّم الناس أن البشر جميعاً أسرة واحدة، وأن الله تعالى ربطهم ببعضهم البعض بصلات الإنسانية؛ وأن أسوأ شيء هو قطع هذه الصلات؛ وأن الحواجز من كل نوع التي أقامها الناس بينهم هي أكبر داءٍ للجنس البشري؛ وأن شر الأعمال هو تحطيم الحياة، وأن خيرها هو بناؤها؛ وأن الله عزَّ وجلَّ أرسل أنبياء ليذكِّروا الناس بوجوده؛ وأن حياتهم في هذه الدنيا ليست سوى لحظة؛ وأن الحياة الحقيقية هي تلك التي يُبعث فيها الإنسان بعد موته؛ وأن الله أراد، لأسباب ليس لأحد أن يتدخل فيها، أن يكون مصير الإنسان في الحياة الأخرى أي الخلود في الجنة أو في النار، متوقفاً على أعماله الدنيوية؛ وأن المرء إذا أراد أن ينال رضاء ربه يجب أن يحترم قواعد السلوك التي كلف أنبياءه بإبلاغها إلى الناس، وأنه تعالى قد أرسل مع أنبيائه كتباً مقدسة تدعو الناس للتغلب على الخلافات التي تفرقهم وإلى العمل على أن يسود السلام بينهم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ "﴿208﴾ [البقرة].
7- تتكون أمة الإسلام من أولئك الذين اعترفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، أي من المسلمين دون غيرهم. ويلاحظ أن محمداً لم يكوِّن هذه الأمة، بل أنها نشأت حوله؛ وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بدينٍ معين، لم يكن يقبل في أمته أشخاصاً لا يعترفون بصفته كنبي ٍلهذا الدين. وهذه الأمة، كما سبق أن وضحنا، لم تبدأ في المدينة بل ظهرت في أوائل أيام دعوته. وكل شخص، رجل أو امرأة، حر أو عبد، يتخذ الإسلام ديناً، كان عضواً في هذه الأمة سواءٌ كان مكياً أو مدنياً أو كان ينتمي إلى قبيلة بعيدة. إنها أمة ليست لها حدود مكانية أو زمانية، وهي لم تكن تتفرد بذلك، فإن اليهود والنصارى كانوا يشكلون بدورهم أمتين قاصرتين عليهما. أما فكرة أن تجمع أمة الإسلام المسلمين واليهود والمشركين فهذا شيء غير طبيعي. نعم، كانت هناك أمة المؤمنين التي يجتمع فيها المؤمنون من الديانات الثلاث، ولكن لم يكن في الإمكان أن تكون مثل هذه الأمة موضوعاً لاتحاد كونفدرالي، لأنه ليست هناك معايير تسمح بمعرفة المؤمنين وغير المؤمنين من الديانات الثلاث.
8- الأوس والخزرج المسلمون، من جهة، والمهاجرون من جهة أخرى، لم يكونوا بحاجة إلى معاهدة اتحاد كونفدرالي ليجتمعوا في أمة؛ لقد كانوا جزءاً من أمة الإسلام منذ اليوم الذي دخلوا فيه هذا الدين. والقرآن الكريم حين يتحدث عنهم يصفهم بلا تمييز بالإخوة:
– إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ … ﴿10﴾[الحجرات]
– والَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴿10﴾[الحشر]
– … وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴿220﴾ [البقرة]
وبالإضافة إلى ذلك فإن الصلاة التي كانت تجمعهم في المسجد خمس مرات في اليوم، وحياتهم اليومية المشتركة، كانت توفر للمسلمين كل الفرص للربط فيما بينهم بعلاقات اجتماعية وعلاقات عمل. وأخيراً فإنهم، حين كانت الظروف تقتضي ذلك، كانوا يذهبون جنباً إلى جنب للدفاع عن نفس القضية. كل ذلك باعتبارهم مسلمين لا باعتبارهم مواطنين يثربيين.
المقابلة مع القرآن
سرجنت
·تشير الآيات 101 وما بعدها من سورة آل عمران، بشكل واضح لا شك فيه، إلى الميثاق الذي تتضمنه الوثيقتان "ألف" و"باء". وهذه الآيات هي:
… وَمَن يَّعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿101﴾يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴿102﴾وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿103﴾وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴿104﴾
·الصورة الأصلية لهذه الفقرة هي تلك التي تتكون من الجزء التالي:
وَمَن يَّعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا
وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ
ولكن النص القرآني روجع مرتين ومن المحتمل أن تكون المراجعة الأولى قد تمثلت في إضافة جملة:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.
أما المراجعة الثانية فتتمثل في إضافة:
وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ
·نـزلت هذه الآيات، طبقاً للطبري، حين حرَّك اليهود جذوة العداء القديم بين الأوس والخزرج فكادت تشتعل من جديد. وفي هذه الآيات يذكِّر القرآن الأنصار بالوثيقة "ألف" من الميثاق الذي جمعهم في اتحاد كونفدرالي (أمة) واحد. واستخدام كلمة "إخوان" يتصل على الأرجح بكلمة "أخ" حين يكون المقصود هو عضو القبيلة.
·جملة "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" لا يبدو أنها تتفق مع السياق التاريخي، إنها تتمشى مع الحالة التي كانت سائدة قبل غزوة أُحُد (سنة 3) مباشرة؛ وبعض الجمل الواردة في المجموعة الثانية من الآيات، وربما كلها، من الممكن أيضاً أن تكون بدورها موضوع المراجعة الثانية.
·على الرغم من أن كل الأسباب تحمل من الناحية التاريخية على قبول قول الطبري الذي يعزو هذه الفقرة بأكملها إلى واقعة الأوس والخزرج، فإننا نرى أن الصورة الأصلية لهذه الفقرة كانت فقط الجزء الوارد في المجموعة الأولى. صحيح أننا نقول هذا على سبيل الافتراض، وهذه سمة طبيعية في جزء كبير من النقد الأدبي حين يطبق على نص قرآني، إلا أن المعايير التي يرتكز عليها هذا الرأي هي المقابلة اللغوية ومقابلة المحتوى بين هذه الفقرة والوثيقتين "ألف" و/ أو "باء". وإذا كانت نظريتنا هذه في محلها تكون قد أُدرجت هنا في سورة آل عمران فقرة قرآنية (أو الفقرة القرآنية) التي تقر تكوين عهد يُنشأ بمقتضاه الاتحاد الكونفدرالي (الأمة) من قبل محمد النبي الأمي، أو بالأحرى، عهد الله، رب محمد، الذي يمثله محمد.
ملحوظاتنا
1- نحن لسنا، مثل "سرجنت"، على اقتناع بصواب رأي الطبري بشأن الظروف التاريخية التي نـزلت فيها الفقرة القرآنية المذكورة والتي تتعلق بالواقعة التي حدثت فيها مواجهة بين الأوس والخزرج. لقد ورد الشرح ذاته لظروف نـزول هذه الآيات في سيرة ابن إسحاق. وقد علقنا على هذا الشرح في ملحوظاتنا عن الاقتباس القرآني رقم 31([6])، وعبَّرنا عن شكنا في وجود أي علاقة بين واقعة الأوس والخزرج والفقرة التي يقتبسها "سرجنت". والشأن هنا، في رأينا، كما هو في معظم استشهادات ابن إسحاق بالقرآن الكريم، لا يعدو أن يكون عملية تزييف بُنيَت على الآيات ذاتها. والطبري لم يفعل، في نظرنا، إلا أن نقل ما ذكره ابن إسحاق.
2- تشابه اللغة بين الوثيقتين "ألف" و"باء" وفقرة من القرآن الكريم لا يكفي، حتى لو افترضنا صحة هاتين الوثيقتين، للقول بوجود صلة مباشرة بينهما وبين القرآن. ومن الممكن في الواقع إرجاع هذا التشابه إلى أسباب عديدة. ومن المعتاد في العالم الإسلامي أن تكون اللغة المستخدمة في بعض المحررات مشبعة باللغة القرآنية.
3- هناك شرط أساسي لقبول نظرية "سرجنت" هو مسألة التواريخ. ولكي نثبت وجود صلة بين بعض عبارات الوثيقتين "ألف" و"باء" وبين فقرة من سورة آل عمران، يتعين معرفة الوقت الذي حُررت فيه هاتان الوثيقتان على وجه اليقين وأن يكون هناك ما يثبت نـزول الفقرة المذكورة من سورة آل عمران بعدتحريرهما. والحاصل أن "سرجنت" لم يثبت أن الآيات من (101) إلى (104) من سورة آل عمران نـزلت بعد تحرير الوثيقتين المذكورتين. وكل جهود علماء المسلمين والمستشرقين لم تنجح حتى الآن في تحديد وقت نـزول هذه الآية أو تلك من القرآن الكريم على وجه الدقة.
4- كان من الواجب، لإثبات وجود صلة بين الوثيقتين "ألف" و"باء" والآيات من (101) إلى (104) من سورة آل عمران، التدليل على أن الأفكار الرئيسية في هذه الفقرة القرآنية لم ترد إلا فيها وأنه ليس في القرآن آيات أو فقرات تقول ما قالته. فما هي الأفكار الرئيسية في هذه الفقرة؟ إنها:
– أنه من يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم؛
– أنه من الواجب خشية الله والاستعداد ليوم الحساب؛
– ولا تفرَّقوا؛
– أنه يجب إزجاء الحمد لله الذي ألف القلوب وزرع فيها شعور الانتماء إلى أسرة كبيرة بدل العداوة التي تنشأ عن التفرق؛
– أنه بالإسلام ينجو المرء من النار؛
– أن الله سبحانه وتعالى يطلب من الناس أن يدعوا إلى الخير وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وأن يعتصموا به.
والواقع أن هذه هي الموضوعات الرئيسية في الإسلام وهي معروضة، بنفس العبارات أو بصياغة مختلفة، في عشرات من آيات القرآن الكريم الذي يتسم بالتكرار. وتقليص مثل هذه الآيات التي تعبِّر عن جوهر دين عالمي، إلى معنى نص يؤكد إنشاء اتحاد كونفدرالي في بلد من بلاد الجزيرة العربية، إنما هو جهل بأبعادها اللانهائية.
المقابلة بين الآيات (101) وما بعدها
من سورة آل عمران والوثيقتين "ألف" و"باء"
النص الأصلي
سرجنت
·الجملة القرآنية: "…وَمَن يَّعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿101﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ …﴿102﴾" [آل عمران] تقابل تقريباً المادة 12 (=22) من الوثيقة "ألف" التي تقول "وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه".
·وينتج عن ذلك منطقياً أمر: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا" الذي يعني عند الطبري: تمسكوا بدين الله الذي أمركم باتباعه وبعهد الله الذي نصَّ عليه في كتابه وبالألفة والاجتماع على كلمة الحق وقبول أوامر الله. على أن الطبري يعقِّد المهمة بكلمة "حبل" التي كانت تعني، حتى في الجاهلية، الصلة / الرباط / العهد. إنه يعطي للكلمة معاني أخرى ويقول أن الحبل هو الأمان. والواقع أن الغرض من الوثيقتين "ألف" و"باء" هو إرساء الأسس العامة للأمان.
ملحوظاتنا
1- الجزء الأول من المادة 12 (=22) ليس إلا تكراراً لمعنى عشرات الآيات القرآنية التي تثني على المؤمنين المتقين، مثل:
– وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿57﴾ [يوسف]
– … وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿179﴾ [آل عمران]
– … وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُم أُجَوُرَكُم وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴿36﴾ [محمد]
وعبارة "على أحسن هدى وأقومه" في نهاية المادة تكرر تقريباً ما ورد في سورة الفاتحة بعبارة "اِهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ" وفي عديد من السور الأخرى.
2- "سرجنت" يرى أن هناك مقابلة بين "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا" وبين الوثيقتين "ألف" و"باء" إذ أن الحبل عنده، وفقاً لتعريف الطبري، يعني الأمان، وأن الوثيقتين "ألف" و"باء" تهدفان إلى وضع الأساس العام للأمان. كلمة "حبل" هي إذاً المحور الذي تدور حوله كل حجج "سرجنت" بصدد هذه النقطة. ونحن نجد صعوبة في إقراره على ما يقول، إذ أن لكلمة "حبل" هنا معني رمزي أريدَ به تجسيد الصلة التي تربط الإنسان بخالقه، ولكن ليس لها قيمة تتعلق بالمعنى. وليست هي التي تعني الأمان والحماية، بل كلمة "اعتصم". ومعنى الجملة بدون كلمة حبل يظل كما هو، كما في الآية الكريمة (101) من السورة ذاتها التي تقول:
– وَمَن يَّعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.
وكما في:
– فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿175﴾ [النساء]
– … فَأَقِيمُـوا الصَّلاةَ وءَاتُوا الزَّكَاةَ واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿78﴾ [الحج]
معنى الآية (103) من سورة آل عمران إذاً معنى ذو طابع عام. لهذا فإنه لا يشير إلى الوثيقتين "ألف" و"باء".
3- تفسير الطبري لكلمة "حبل" باعتبارها "عهد الله الذي أخذه على المسلمين في كتابه"، في نظرنا، تفسير سليم. والإشارات إلى هذا العهد كثيرة في القرآن وقد تحدثنا عنها في الفصل السادس (الجزء الأول) من هذه الرسالة.
سرجنت
·كلمتا "وَلا تَفَرَّقُوا" يفسرهما الطبري بمعنى "لا تنقسموا في الدين وفي العهد الذي عقده الله معكم في كتابه الذي يفرض عليكم أن تتوادوا وتتحدوا في طاعته وطاعة رسول الله والاعتصام بأمره النهائي". وهذه المسألة الأخيرة تشكل كأمر واقع الجزء الأخير من الوثيقة "باء".
·آية: "وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ" تؤكد مهمة الاتحاد الكونفدرالي (الأمة)؛ وهي تنص على وجوب أن يقوم هذا الاتحاد على ما يعترف به؛ وما هو معلوم من أن قبائل يثرب المذكورة في الوثيقة "ألف" توافق على معالجة أهم مسألة من المسائل القبلية، أي مسألة القتل، وفقاً للإجراء المعترف به / العرفي (المعروف) بينهم. ويشرح الطبري كلمة "أمة" بأنها "جماعة" وهذا هو المعنى المبدئي لهذا السياق التاريخي. على أنه يضيف أن "الخير" يعني الإسلام وشريعته، وأن المعروف يعني اتباع محمد ودينه، وأن "المنكر" هو إنكار ما جاء به محمد من ربه. والشروح الثلاثة الأخيرة تتجاوز المعنى الأصلي البسيط لهذه الألفاظ القرآنية في سياقها التاريخي أي مع الوثيقة "ألف"، وتبتعد عنه.
·بعد بضع آيات مما سبق نجد في الآية (112) من سورة آل عمران: "… ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ"، وهو ما يعني أن اليهود، أو بعضهم، كانت لهم معاهدة / حبل مع الله وآخر مع الناس. ومن الجائز أن حبلهم مع الله كان الوثيقة "جيم". أما حبلهم الآخر فمن الجائز أنه عهود الحماية والحلف التي كانت تربط القبائل اليهودية بقبائل معينة من الأوس والخزرج.
ملحوظاتنا
1- ليس هناك صلة ما بين نهي: "وَلا تَفَرَّقُوا"في الآية (103) وبين الوثيقة "باء" / 4. ذلك أن المادة الرابعة لا تتحدث، في واقع الأمر، عن تفرق بين المؤمنين؛ بل هي تقرر الاختصاص القضائي لمحمد صلى الله عليه وسلم في النـزاعات التي قد تنشأ بين أطراف الأمة. ومن الملاحظ أن هذا النهي نهيٌ عام عن التفرق وهو يرجع إلى الفترة المكية كما يتضح من الآيتين:
– شَرَعَ لَكُمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا … ﴿13﴾ [الشورى]
– ومَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ العِلْمُ …﴿14﴾ [الشورى]
وفي قرآن الفترة المدنية نجد، بعد الآيتين من سورة آل عمران اللتين يستشهد بهما "سرجنت"، الآية الكريمة التي تقول:
– لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ …﴿105﴾ [آل عمران]
وغياب أي إشارة صريحة إلى اتحاد كونفدرالي متعدد الديانات في المدينة يسمح بافتراض أن الإشارة هنا إنما تنصرف إلى أهل الكتاب، بالمعنى الذي جاء في الآية الكريمة التالية من ثانية سور الفترة المدنية، التي تقول:
– وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴿4﴾[البينة]
2- النهي عن التفرُّق نهيٌ قرآني عظيم الأهمية لم تُدرَك أهميته إلا نادراً. وهو دعوة إلى ائتلاف البشر باعتباره الوسيلة الوحيدة لتفادي النـزاعات والحروب بين الشعوب والأمم.
3- الآية (104) من سورة آل عمران: "وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ" لا تؤكد، في نظرنا، تكوين اتحاد كونفدرالي (أمة) محلي في المدينة، ولا تمت بصلة إلى قبائل يثرب التي تذكرها الوثيقة "ألف" أو إلى موضوع الدية. ذلك:
أ ) إننا أثبتنا، حين تناولنا هذا الموضوع بصدد المادتين "ألف"/2أ (=2) و"ألف"/ 2ي (=11) وتعقيبات "سرجنت" بشأنها:
– أن موضوع الدية (والفدية الذي لا يذكره "سرجنت" هنا) لم يكن مطروحاً في الإطار الزمني الذي وضع فيه "سرجنت" الوثيقتين "ألف" و"باء"، بإلحاح يقتضي تنظيمه بتشريع خاص؛
– أن ظهور الإسلام عدَّل قواعد السلوك بشأن الجرائم والحرب والتضامن القبلي تعديلاً بلغ من عمقه أن فقدت قواعد القانون العرفي المنظِّم للمسئولية عن الدية والفدية كثيراً من أهميتها.
ب) المسألة المطروحة هنا هي معرفة ما إذا كانت القواعد التي وضعتها الوثيقة "ألف" بشأن القتل كانت واجبة التطبيق على الكافة أم أن تطبيقها كان قاصراً على البطون الثمانية المسماة. هذه نقطة لم يقف عندها "سرجنت" على الرغم من كونها في غاية الأهمية. ولو أن هذه القواعد كانت تشريعاً واجب التطبيق على الكافة لما كانت هناك حاجة إلى تسمية البطون الثمانية. أما إذا كانت لا تنطبق إلا على البطون المسماة فما هي القواعد التشريعية التي كان من الواجب تطبيقها على باقي قبائل المدينة ؟
ج) فكرتا المعروف والمنكر ليستا في القرآن الكريم تعزيزاً لتقاليد الآباء كما يقول "سرجنت"، بل يمكن تعريفهما على أنهما تصوران فكرتي الخير والشر في الضمير الإنساني كله، وهما فكرتان يأخذ بهما الإسلام. ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي ابتدعهما. لقد كانتا قائمتين قبله بزمن طويل، فلقمان مثلاً يقول، في القرآن المكي، مخاطباً ابنه:
– يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ … ﴿17﴾[لقمان]
وفي تنـزيل مكي آخر يقول القرآن الكريم:
– …فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
﴿156﴾الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ …﴿157﴾[الأعراف].
وبناءً على ذلك فإن من يستند إلى كون كلمة "المعروف" واردة في الوثيقة "ألف" في سياق دفع الدية (العقل) الواجبة على ثمانية بطون مدنية، وفي الآية (104) من سورة آل عمران، للتدليل على أن هذه الآية الكريمة التي تأمر مؤمني العالم بالدعوة إلى الخير واتباع مقتضيات الضمير العالمي، إنما نـزلت لكي يُبنى الاتحاد الكونفدرالي الذي أقامته الوثيقة "ألف" على ما هو معلوم، يشبه من يريد إفراغ البحر في كوب ماء.
د ) هناك آيات مدنية أخرى، كالآية (110) من سورة آل عمران ذاتها، والآيات (41) من سورة الحج و(71) من سورة التوبة و(2) من سورة البقرة، تدعو المؤمنين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهل يصح تأكيد إنها هي الأخرى تؤكد تكوين اتحاد كونفدرالي في المدينة عن طريق الوثيقة "ألف"؟
ه ) حين تقول الآيتان الكريمتان (113) و (114) من سورة آل عمران:
–…مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَّتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿113﴾يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ …﴿114﴾
فهل يصح لنا أن نفهم أن الأمة التي تشير إليها هاتان الآيتان هي أيضاً اتحاد كونفدرالي في المدينة وأن هاتين الآيتين تؤكدان تأسيسه وتنصان على وجوب أن يُبنى على ما هو معلوم ومعروف؟
4- العلاقة التي يقررها "سرجنت" بين الوثيقة "جيم" والآية (112) من سورة آل عمران تبدو لنا في غير محلها إذا أنها تستند إلى كلمة واحدة في سياق لا يجعلها تبدو معقولة. هذا السياق هو ما يأتي:
…وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ﴿110﴾ لَن يَّضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُّقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴿111﴾ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿112﴾[آل عمران]
إن بالإمكان تقسيم هذه الآيات الكريمة إلى جزأين: جزء - الآيتان (110) و (111) - يتعلق بالحاضر وجزء - الآية (112) - يتعلق بالماضي أو حتى بالماضي البعيد،حين قام أهل الكتاب - والقرآن الكريم لا يتحدث عن اليهود على وجه التحديد - بقتل أنبيائهم بغير حق. وهذه الآية بالذات هي التي ورد فيها ذكر "حبل من الله وحبل من الناس". فإذا كانت هذه الآية، خلافاً للظاهر، تتحدث عن الحاضر، فإننا لا نرى المنطق الذي جعل "سرجنت" يقول إن "الحبل من الله" في الآية (112) يشير إلى دخول اليهود في اتحاد المدينة الكونفدرالي وليس مثلاً إلى العهد الذي عقدوه مع الله عزَّ وجلَّ والذي كثيراً ما يرد ذكره في القرآن. وأياً ما كان الأمر فإن هؤلاء اليهود لم يكونوا إلا أقلية بينما يُدخل "سرجنت" يهود المدينة كافة في الاتحاد الكونفدرالي. وأهم من ذلك بكثير حقيقة أن الآيتين (110) و(111) تصفان غالبية اليهود بالفسق والكفر والعدوان وتنسب إليهم مشاعر عدائية حيال المسلمين، بل وتشير إلى احتمال أن يشنوا حرباً عليهم. وتدل هذه العناصر الواضحة، المتعلقة بالحاضر، على أن حالة العلاقات بين اليهود والمسلمين لم تكن على الإطلاق ملائمة لتنظيم اتحاد كونفدرالي يجمعهم تحت رعاية محمد صلى الله عليه وسلم ولم تكن تسمح بوجود تعاون عسكري بين اليهود والمسلمين يجعل اليهود يحاربون مع المسلمين ضد عدو مشترك. كذلك لا تسمح هذه الآيات بتصور أن "حَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ" تشير إلى اتفاقات حماية وتحالف معقودة بين القبائل اليهودية وبين قبائل معينة من الأوس والخزرج دخلت في الإسلام.
ملخص الاستنتاجات
سرجنت
·في أول النصوص القرآنية الثلاثة نـزولاً، تشير الآيات (101) إلى (104) من سورة آل عمران: "…وَمَن يَّعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿101﴾يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ …﴿102﴾وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا …﴿103﴾وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ …﴿104﴾" إلى الوثيقتين "ألف" و"باء" من "الدستور". وتعليق الطبري يدلل على أن الحبل المذكور في السورة هو معاهدة لإنشاء اتحاد.
·والنص الأول المقترح لهذه الفقرة يؤكد إنشاء هذا الاتحاد الكونفدرالي؛ أما النص القرآني الثاني الذي جاء فيه: "…وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا"،فإنه يحوِّل الفقرة إلى حضٍ للأوس والخزرج على احترام معاهدة الاتحاد الكونفدرالي التي هم طرف فيها؛ وأما الإضافة الثالثة التي يقال فيها: "…وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ …وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ …وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ" فإنها، إذا قُرئت مع بعض الآيات التي تتبعها، أمكن اعتبارها تشجيعاً لتابعي النبي على مواجهة القوات المكية التي انتهى بهم الأمر إلى مواجهتها في أُحد.
ملحوظاتنا
1- أوضحنا فيما سبق:
– أن كلمة "حبل" ليس لها في الآية (103) من سورة آل عمران إلا قيمة رمزية، وأنها وردت لإعطاء صورة محسوسة للصلة التي تربط الإنسان بخالقه؛
– أن تفسير الطبري لها باعتبارها العهد الذي يربط الله عزَّ وجلَّ بالمسلم في كتابه تفسيرٌ سليم.
2- سبق أن أوضحنا كذلك أن النص القرآني الأول الذي يقترحه "سرجنت" لا يؤكد إنشاء اتحاد كونفدرالي وأنه يقرر بعض الموضوعات الرئيسية في الإسلام.
3- ذكرنا فيما سبق:
– أن ما رواه الطبري وابن إسحاق بشأن الواقعة التي نـزل بصددها ما يسميه "سرجنت" بالتعديل الثاني يثير تحفظات؛
– أن الحديث في الآيات الكريمة غير موجه إلى بطون الأوس والخزرج الثمانية المذكورة في الوثيقة بل إلى عامة المسلمين في كل مكان يوجدون فيه، لا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل إلى أبد الآبدين.
4- الآية (102)، حين تهيب بالمسلمين: "وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ" تتحدث عن الموت، والموت موضوع من الموضوعات الأساسية في القرآن الكريم يجده المرء مذكوراً في عشرات من الآيات المكية والمدنية. وهذا أمر طبيعي إذ أن فلسفة الإسلام كلها تتلخص في أن جميع الناس سيُبعثون بعد الموت في عالم آخر، وسيحاسَبون، وأن من أنكروا منهم وجود الله سبحانه وتعالى، ومن ترجح سيئاتهم حسناتهم، سيقضون الأبدية في جحيم فظيع، وأن من ترجح حسناتهم سيئاتهم أو من تُغفر سيئاتهم سيكون مصيرهم جنة يتمتعون فيها بكل ما تشتهيه الأنفس، ويعيشون فيها إلى الأبد. لذلك لابد أن يكون الموت حاضراً في فكر كل إنسان يرجو لنفسه النجاة. والقرآن الكريم يذكِّر الناس بذلك دون هوادة في آيات كريمة مثل:
– الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا … ﴿2﴾ [الملك]
– أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ … ﴿78﴾ [النساء]
– كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … ﴿185﴾ [آل عمران]
– أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لمبْعُوثُونَ ﴿16﴾أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ﴿17﴾ [الصافات]
– أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿33﴾ [الأحقاف]
– حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿99﴾ [المؤمنون]
– وَلَيْسَتِ التَّوْبَةِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿18﴾ [النساء]
– مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ … ﴿16﴾يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴿17﴾ [إبراهيم]
5- وفي معنى الآية التي يشير إليها "سرجنت" نجد في القرآن الكريم آيات كريمة مثل:
– إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ ﴿116﴾ [البقرة]
– خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴿162﴾ [البقرة]
– إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُّقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿91﴾ [آل عمران]
– إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴿34﴾[محمد]
– …وَمَن يَّرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿217﴾ [البقرة]
هذا علماً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن النبي الوحيد الذي يهيب بأصحابه في القرآن الكريم بالحفاظ على دينهم فالقرآن يقول:
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴿131﴾[البقرة]
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴿132﴾[البقرة]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿133﴾[البقرة]
6- ولا يتغير هذا الرأي إذا أضفنا من النص الثالث جملة "وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا". ونظراً إلى أن "سرجنت" لم يذكر ما هي الآيات الأخرى التي كان يفكر فيها حين قال إن الآية المذكورة وآية "وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ" (مع بعض الآيات التالية) يمكن أن تعتبر تشجيعاً لمن تبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم على التصدي لجيش مكة في أُحُد، فليس لدينا ملحوظات أخرى في هذا الصدد.
لقد أوضحنا، باختصار، أنه لا يمكن إيجاد أي مقابلة أو شبه بين الآيات من (101) إلى (104) من سورة آل عمران والوثيقتين "ألف" و"باء". لذلك فإن تقسيم هذه الآيات إلى ثلاثة نصوص مستقلة والقول بأن بعضها نـزل في ظروف تاريخية مختلفة عن بعضها الآخر، والحجة المستمدة من هذا التقسيم للتدليل على إنشاء اتحاد كونفدرالي يجمع المهاجرين إلى قبيلتي الأوس والخزرج مع حلفائهما من اليهود، تخريجات ليس لها سند على الإطلاق.
وثائق الدستور الثماني
سرجنت
·لم تكن الصحيفة أو ما يُسمى بـ "دستور المدينة" وثيقة واحدة؛ بل كانت في الواقع ثماني وثائق جُمِّعت في وثيقة واحدة. ولكل وثيقة من هذه الوثائق موضوع خاص، وقد وُقِّع كل منها في تاريخ وظروف مختلفة عن تاريخ وظروف توقيع الوثائق الأخرى. وهذه الوثائق هي:
الوثيقة "ألف": معاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي (الأمة).
الوثيقة "باء": تكملة لمعاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي.
الوثيقة "جيم": معاهدة تحدد وضع القبائل اليهودية في الأمة.
الوثيقة "دال": تكملة للمعاهدة التي تحدد وضع القبائل اليهودية.
الوثيقة "هاء": إعادة تأكيد وضع اليهود.
الوثيقة "واو": إعلان يثرب كحرم.
الوثيقة "زاي": معاهدة عقدت قبل غزوة الخندق بين عرب يثرب ويهود بني قريظة للدفاع عن المدينة لحماية يثرب من قريش مكة وحلفائها.
الوثيقة "حاء": ملحق بإعلان يثرب كحرم
الموقعون على الوثائق
سرجنت
·لابد أن كلاً من الوثائق الثماني كانت تحمل توقيعات أو أختام الأطراف المتعاقدة.
·يمكن أن يقال بكل اطمئنان إن ختم النبي، وأسماء المهاجرين البارزين من قريش، وأسماء نقباء ممثلي الخزرج وقبائل الأوس الثلاث الذين كان على الرسول أن يبحث معهم شئون قبائل يثرب وأيضاً، فيما هو محتمل جداً، بعض المنافقين من بين شخصيات المدينة مثل عبد الله بن أُبي ومجموعة تنتمي إلى بني عوف بن قريظة، كانت واردة في الوثائق. والواقع أن احتمال أن يكون ابن أُبي من الموقعين أمرٌ لا مفر منه. كذلك فإن الوثائق التي تتحدث عن اليهود كانت تحمل على الأرجح أسماء موقعيها من اليهود مثل كعب بن أسد القريظي على الوثيقة "واو". ومن المفترض أن "الدستور"، كما أورده ابن إسحاق، نُقل من نسخة حُذفت منها قائمة التوقيعات المملة. ولو أن ابن إسحاق حصل على الأصل لذكر قائمة التوقيعات أو لعلَّق عليها. ومن المحتمل أن النسخة التي نقل عنها ابن إسحاق نصه كانت من تحرير علي بن أبي طالب نفسه.
·الطبري يُعرِّف "النقيب" بأنه الشخص الذي يكفل قبيلته. ووظائفه هي بالضبط وظائف شيخ الضمان عند اليمن الزيدية في يومنا هذا، وهو مسئول عن التحكيم وعن جمع الضرائب وعن دفع الدية أو التعويضات. و النقباء أو السادة، الذين يبدو أنه كان لهم مكانة أعلى، كانوا أيضاً يتولون إطعام الضيوف ويسمَّوْن بالمطعمين. وكان محمد يعيِّن أحياناً نقيباً في المدينة حين يتغيب هو عنها. فكان النقيب يوصف بأنه كفيل ومسئول عن القبيلة وكان هو الذي يمثلها.
·يبدو أن محمداً كان له بعض النفوذ في اختيار النقباء؛ وقد عيَّن نفسه نقيباً لبني النجار أخواله حين مات نقيبهم.
·حين نقارن قائمة النقباء في السيرة مع القبائل التي ذُكرت أسماؤها في وثائق المعاهدات "ألف" و"جيم" يلاحظ أن كل قبيلة من الخزرج كان يمثلها نقيب أو أكثر وأن ثلاثة نقباء كانوا يمثلون الأوس (الذين لم يُذكر منهم في كل من هذين العهدين إلا بطنا عمرو والنبيت). ويتمتع النقيب في الواقع بمكانة أعلى من السيد. والشبه بين النقباء الاثني عشر وأسباط إسرائيل الإثني عشر أو بينهم وحواريي السيد المسيح الإثني عشر يبدو شيئاً متأخراً عن محمد وليس له، على أي حال، صلة بدورهم في الأمة.
ملحوظاتنا
1- ما يقوله "سرجنت" عن موقّعي الوثيقتين "ألف" و"جيم" محض افتراض. والواقع أن واحدة من الوثائق التي علق عليها لا تذكر شيئاً عن أي من موقعيها. وعدم وجود ذكر للتوقيع هو في حد ذاته دليل على أن الصحيفة، سواء كانت وثيقة واحدة أو وثائق متعددة جُمِّعت في واحدة، لا تتوافر فيها سمات المعاهدة أو الميثاق.
2- يلاحظ، على سبيل المقارنة، أن بيعة العقبة الثانية التي عُقدت في مكة قبل الهجرة بزمن قليل والتي تعهد فيها حجاج المدينة بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم مقابل وعد رسمي بأن تكون لهم الجنة، مقدَّمة في "السيرة" على أنها ميثاق صحيح، وقد ورد ذكر "التوقيع" على هذه البيعة في "محضر الاجتماع" الذي أُعدَّ عنها. ولما كانت هذه البيعة غير مكتوبة فقد اتخذ التوقيع عليها شكل مصافحة بالأيدي بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنقباء الذين كانوا يمثلون "الأنصار". وكان "سرجنت" ولابد يفكر في هذا الاجتماع حين أشار إلى قائمة النقباء (الاثني عشر) الذين ذكرتهم "السيرة"، ولكن يبدو أنه لم يتنبه إلى أنه كان هناك "توقيع" في حالة دون الحالة الأخرى. كذلك فإن التوقيع في وثيقة هامة كدستور الاتحاد الفدرالي، إما موجود أو غير موجود، والافتراض في شأنه غير جائز.
3- لو أن الوثيقة "ألف" كانت حقاً معاهدة اتحاد كونفدرالي للمدينة ولو أن الوثيقة "باء" كانت ملحقاً مكملاً لهذه المعاهدة، ولو أن الموقِّعين كانوا: أ ) الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ب) الشخصيات البارزة من المهاجرين؛ ج) النقباء الممثلين لمختلف قبائل الأوس والخزرج؛ د ) عدد من المنافقين أو رئيسهم عبد الله بن أُبي؛ ه)ممثلي المشركين؛ و ) ممثلي بطون القبائل اليهودية، فإن توقيع هذه الوثائق المؤسِّسة لم يكن ليتم في السر، بل كان يتم في إطار حفل رسمي يجمع كل أهل يثرب. وكان لابد أن تنظَّم احتفالات لعدة أيام إحتفاءً بهذا الحدث التاريخي. ولابد أن خطباً عديدة قد قيلت فيه وأن الشعراء قد تباروا في إلقاء عشرات من القصائد على شرف الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار والمهاجرين والمشركين واليهود. ولابد أن كاتبي السيرة النبوية خصصوا صفحات كاملة في كتبهم لوصف الفرحة الشعبية التي ملأت المدينة بهذه المناسبة. والحاصل أنه لا ابن إسحاق ولا الواقدي ولا غيرهما من المؤرخين أفرد صفحات أو حتى سطوراً لحدث توقيع الصحيفة وأن التاريخ لم يسجِّل قصيدةً أو بيتاً أو خطبةً قيلت في شأنها.
4- المقارنة بين بيعة الحرب التي تمت في مكة وبين الصحيفة، هنا أيضاً، ذات دلالة كبرى. إن بيعة الحرب لا تقارن، من حيث أهميتها، بحدث تأسيس الاتحاد الكونفدرالي (الأمة) كما يعرضه "سرجنت"، فقد كان غرض البيعة يتلخص في جملة واحدة هي أن الأنصار تعهدوا بأن يمنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم ولم يكن أحدٌ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم - الذين هاجروا بعدها - حاضراً في هذه البيعة. ولم تكن هذه البيعة، إنْ صحَّ خبرها، إلا إعداداً للحدث الكبير الذي يصفه "سرجنت" بأنه معاهدة الاتحاد الكونفدرالي. والحاصل أن ابن إسحاق خصص لبيعة العقبة الثانية في سيرته مساحة أكبر من تلك التي خصصها لكل أحداث مكة خلال السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت الهجرة وخلال السنة الأولى من الفترة المدنية. وقد تحدث ابن إسحاق بالتفصيل عن النقباء الاثني عشر الذين وقَّعوا عليها، وعن كل من الحجاج الاثنين والسبعين الذين حضروها. والفارق بين هذه التفاصيل الكثيرة بشأن أصحاب بيعة العقبة والافتقار إلى أي عناصر بشأن صحيفة يثرب يسوغان كثيراً من الشك في تأكيدات "سرجنت" المتعلقة بموقِّعي وثائق هذه الصحيفة.
المنافقون
سرجنت
·من البديهي أن اسم "منافق" مشتق من كلمة "النفقة".
·الوثيقتان "جيم" و"هاء" يتضح منهما أن النفقة نوع من الضريبة يدفعها المسلمون واليهود.
·كانت هذه الضريبة تُدفع حين تكون الأمة في حالة حرب، ولهذا كانت النفقة مبلغاً يشبه "الغرم" الذي تفرضه القبائل الزيدية على نفسها في حالات الطوارئ أو الأحداث غير العادية.
·القرآن يفرِّق بين "المنفق"، الذي يؤدي النفقة والذي يستحق الثناء، والمنافقين، الذين يلامون هم واليهود الذين لم يؤدوها. وكانت هاتان الفئتان الأخريان تكرهان بطبيعة الحال دفع مال لأغراض لا تتفق مع مصالحهما. لهذا ينبغي أن يعَرَّف المنافق بأنه الشخص الذي يمتنع عن دفع النفقة، بعكس أولئك الذين يقبلون هذا الالتزام عن طيب خاطر. والمنافقون هم مَن يقول القرآن عنهم: "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا…" ﴿7﴾[المنافقون]. ويقول البيضاوي إن ابن أبي أُبي، رأس المنافقين، هو الذي كان يقول ذلك.
·تقول الآية (56) من سورة التوبة بشأن هؤلاء المنافقين: "وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ومَا هُم مِّنْكُمْ ولَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ". ولابد أن هذه الآية تشير إلى قَسَمٍ أقسمه الأطراف باحترام أحكام الوثيقتين "ألف" و"باء".
·يُستفاد من الآية (14) من سورة المجادلة، التي يرى "بل" (Bell)أنها نـزلت بعد أُحُد، أن المنافقين المتهمين بالتآمر مع اليهود اتخذوا أيمانهم درعاً يحمي أنشطتهم الهدامة ولكنهم "مَّا هُمْ مِّنْكُم وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
ويبدو من المنطقي أن يقال إن الحماية التي تمتعوا بها نتيجة لقسمهم لم تكن سوى تلك التي تضفيها على الأمة كلها الوثيقتان "ألف" و"باء" اللتان أقسم المنافقون، كما أقسم غيرهم، على احترامهما.
·تقول الآيات (98) وما بعدها من سورة التوبة: "وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَّتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا … وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ …" والمغرم (وهو مرادف الغرامة) شيءٌ مطابق للغُرُم الذي تدفعه القبائل الزيدية التي سبقت الإشارة إليها، وله في الغالب نفس المعنى. وتقول الآية بعد ذلك: "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ … ﴿101﴾[التوبة]. ويبدو، فيما يقول "بل" (Bell)، أن هاتين الآيتين متصلتان بفترة الحديبية، إلا أن "سرجنت" يرى أن الإشارة إلى أهل المدينة هي إضافة لاحقة. ويشرح الطبري أن هؤلاء الأعراب المنافقين كانوا يعلنون دفعهم للنفقة لكي يكونوا بمأمن من الغارات.
·وتكمن أهمية هذه الآيات في حقيقة أن القبائل العربية غرب المدينة وفيما وراء حدودها كان يُطلب منها دفع النفقة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ربما للمرة الأولى في حياته كحاكم ثيوقراطي (ديني). وعلى الرغم من أن السورة تتحدث عن المسألة الهامة المتعلقة بدفع النفقة، إلا أن لفظتي "منافق" و"نفاق" اكتسبتا في ذلك الوقت معنىً ثانوياً يقابل كلمة hypocriteالإنجليزية، حل محل مفهومهما الأصلي، وترتب على ذلك أن علماء اللغة في حيرة من إيجاد اشتقاقهما.
ملحوظاتنا
1- ليس من البديهي على الإطلاق، بل من الخطأ، القول بأن كلمة منافق مشتقة من كلمة النفقة، فإن اسم المنافق متأتٍ من فعل نافق، أما كلمة نفقة فتتأتى من فعل أنفق وهناك أيضاً اسم إنفاق.
2- فعل "ينفقون"، سواءً في المادة 1 (=27) من الوثيقة "جيم" أو في المادة 3أ (=43) من الوثيقة "هاء"، لا يعني على الإطلاق دفع شيء يشبه الضريبة؛ بل يعني ببساطة دفع مبلغ من المال، أو بالأحرى الاشتراك في نفقات الحرب أو ما يسمى اليوم ب "تمويل الحرب".
3- كلمة "النفقة" أو فعلها "أنفق" ليس لها معنى واحد في القرآن الكريم بل لها عدة معانٍ:
أ ) إنها قد تعني بذل المال كما في الآيات التالية:
– وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكَ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿42﴾[الكهف]
– إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ…﴿36﴾[الأنفال]
– وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴿67﴾[الفرقان]
– يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ …﴿264﴾[البقرة]
ب) وقد تعني ما يدفعه الزوج من مهرٍ أو هدية عند الزواج أو ما يدفعه عند الطلاق كما في:
– يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُم أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ وَاسأَلُوا مَا أَنْفَقْتُم وَلَيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا …﴿10﴾[الممتحنة]
– لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلِيْهِ رِزْقُهُ فَلَيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ …﴿7﴾[الطلاق]
– أَسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُم مِن وَجْدِكُم وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ… ﴿6﴾[الطلاق]
ج) وقد تعني أيضاً "المساعدة أو الصدقة" كما في:
– يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿215﴾[البقرة]
– وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ …﴿265﴾[البقرة]
– وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا ممَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ … ﴿47﴾[يس]
– آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّسْتَخْلَفِين فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾[الحديد]
– الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ … ﴿262﴾[البقرة]
4- وهذا المعنى لفعل "أنفق" ولاسمه هو أكثر المعاني وروداً في القرآن الكريم. ومن المهم أن نلاحظ هنا أنه ليس هناك، باستثناء مسائل الأحوال الشخصية، عنصر إجبار ولا عقوبة فيما ينفق المسلم أو لا ينفق. والإسلام يحض على مساعدة الأقارب والفقراء ولكن الإنفاق عليهم أو عدمه مسألة اختيارية بحتة. ولأن هذه مسألة دينية فإن الثواب والعقاب عنها يكونان في الحياة الأخرى، فما أنفقه الإنسان وما بخل به سيظهران في حسابه، تماماً كباقي العبادات (الصلاة والصوم الخ).
5- ليس في القرآن الكريم حالة واحدة يكون فيها الإنفاق إجبارياً؛ ولا حالة للإنفاق فيها طابع الضريبة. بل لقد جاء في القرآن الكريم أن الإنفاق، لكي يعتبر إحساناً، يجب أن يقدَّم بنفسٍ راضية أملاً في رضاء الله. وهناك أيضاً من النفقات ما يُرفَض:
– قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُّتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿53﴾[التوبة]
– وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ ولا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وهُمْ كُسَالَى ولا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وهُمْ كَارِهُونَ ﴿54﴾[التوبة]
6- نظراً لما تقدم، فإن تفسير "سرجنت" للآيات (56) من سورة التوبة و(16) من سورة المجادلة و(99) وما تلاها من سورة التوبة، والعلاقات التي يقترحها بين عباراتها وعبارات الوثيقتين "ألف" و"باء" تبدو لنا بغير أساس.
7- كذلك يبدو لنا بغير أساسٍ رأيه الذي فحواه أن محمداً صلى الله عليه وسلم، حين اقتضى من قبائل العرب غرب المدينة وفيما وراء حدودها دفع النفقة، كان يمارس سلطته كحاكم ثيوقراطي أي حاكم يحكم بمقتضى تفويض إلهي. والواقع أن حضَّ القرآن على الإنفاق ليس موجهاً فقط إلى أعراب غرب المدينة وما وراء حدودها؛ إنه موجه إلى المسلمين جميعاً كواجب ديني لا كعمل من أعمال الطاعة لسلطة محمد صلى الله عليه وسلم.
8- تكليف المسلمين بالإنفاق ليس قاصراً على الفترة المدنية فقد كان قائماً في الفترة المكية أيضاً كما يتضح من الآيات الكريمة التالية:
– والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿38﴾[الشورى]
– قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِّنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ … ﴿39﴾[سبأ]
– إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا ممَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴿29﴾[فاطر]
– ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ … ﴿75﴾[النحل]
– قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّنْ قَبْلِ أَن يَّأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ﴿31﴾[إبراهيم]
9- تهمة النفاق التي وجهها القرآن الكريم في الآية (7) من سورة المنافقون ضد من يقولون: "لا تُنْفِقُوا عَلَى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا" لا تختلف عن تلك التي جاء ذكرها في الآيات التالية من سورة الماعون:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴿1﴾فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ ﴿2﴾ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المسْكِينِ ﴿3﴾[الماعون]
وعلى الرغم من أن كلمتي "أنفق" و "منفق" لم تستخدما في هذه الآيات فإن معناها ظاهرٌ جليٌ، وهو أنه لا يمكن أن يكون المرء مؤمناً حقاً إذا لم يطعم الفقير. وكون هذه السورة واردة في تصنيف "بلاشير" تحت رقم (8) من سور الفترة المكية البالغ عددها (92) يثبت أن الأمر بالإنفاق على الفقراء يرجع إلى أوائل أيام البعثة المحمدية وإلى لحظة لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يملك فيها شيئاً من السلطة الثيوقراطية التي يتحدث عنها "سرجنت".
10- وأخيراً فإن الصلة التي يراها مؤلفنا بين النفقة بمعنى الضريبة والنفاق تقوده إلى اعتبار أن المنافق هو فقط الشخص الذي يمتنع عن دفع هذه الضريبة. وقد أثبتنا في فصل هذه الرسالة المخصص لظاهرة النفاق أن هناك منه في القرآن الكريم أنواعاً عديدة.
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثالث: علماء الإسلاميات الآخرون
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 5
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 4
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 3
دعوة للتبرع
الاسراء 39 : لا افهم كيف يهدد الله سبحان ه وتعال ى ...
نسبة الوصية : هل للوصي ة نسبة محددة وهل يجوز للوصي أن يوصي...
تحايل على الميراث: أبى وقع تحت تأثير زوجته الثان ية الصغي رة ...
نقد سريع لنا : الدكن ور احمد صبحي ، يطرح قضية سليمة باسلو ب ...
more