الكيمياء السياسية" لزعزعة الأوطان: عندما يصبح الدين مطية
في خضم التحولات العميقة والتحديات المتجددة التي تواجه مجتمعاتنا، تبرز على السطح أحياناً دعوات ومحاولات تسعى، بوعي أو بغير وعي، إلى إحداث خلل في منظومة المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الوطنية. إن التاريخ، وخاصة تاريخ الجزائر الحديث، يقدم لنا دروساً بليغة حول العواقب الوخيمة التي قد تترتب على مثل هذا الخلل، وتحديداً عندما يتم تقديم الولاءات الفرعية أو الأيديولوجيات العابرة للحدود على حساب الانتماء الأسمى للوطن.
شهدت الجزائر خلال سنوات التسعينيات، تلك الفترة التي عُرفت بـ"العشرية السوداء"، محاولة مريرة من قبل تيارات رأت في الدين أداة للتغيير السياسي الراديكالي. بدعم من بعض أركان النظام آنذاك، سعت هذه التيارات إلى إعادة ترتيب أولويات المواطن الجزائري، جاعلة من تفسير معين للإسلام الأولوية المطلقة، متجاوزة بذلك مفهوم الوطن وضاغطة به إلى مرتبة ثانوية. هذا الانقلاب في سلم القيم، حيث أصبح البعض مستعداً للتضحية بالوطن من أجل ما يراه تطبيقاً للشريعة أو تحقيقاً لمشروع "إسلامي" شامل، كان أحد أبرز الأسباب التي دفعت بالبلاد إلى أتون حرب أهلية مدمرة.
إن ما حدث لم يكن عفوياً، بل يمكن قراءته ضمن ما يمكن تسميته بـ"الكيمياء السياسية" لزعزعة استقرار الدول: فإحداث الخلل في المبادئ الجامعة هو الخطوة الأولى نحو الفوضى. تم "حقن" المجتمع الجزائري آنذاك بتيار فكري، وُصف بـ"الوهابية"، بدا غريباً عن التقاليد الدينية السمحة والمتنوعة للشعب الجزائري. لم يعرف أجدادنا دعوات لقطع الرؤوس، ولم يكن لباسهم التقليدي أو هيئتهم الخارجية تتطابق مع ما روّج له هذا التيار. تسللت هذه الأفكار حتى إلى بعض المناهج التربوية، مركزة على احاديث شيطانية معينة توحي بالتشدد، ومتجاهلة كنوزاً من آيات قرانية تدعو إلى التسامح والعفو والرحمة، وهي قيم أصيلة في الإسلام.
لقد كان سقوط الجزائر في فخ الإرهاب مخططاً له في "غرف مظلمة"، ولم يكن وليد الصدفة. وعندما عاد الرئيس الراحل محمد بوضياف من منفاه، كان شعاره "الجزائر قبل كل شيء" نابعاً من فهم عميق لهذا الخطر، وإدراك بأن البعض قد جعل من الوطن مسألة ثانوية.
وهنا تكمن الإشكالية الجوهرية: هل الوطن هو الوعاء أم أن الأيديولوجيا هي الوعاء؟ إن المنطق السليم والتجربة التاريخية يؤكدان أن الوطن هو البيت الحاضن، هو السقف الذي يستظل تحته الجميع. تحت سقف الوطن، يمارس المسلم إسلامه، والأمازيغي يعتز بهويته ولغته، والعربي بثقافته، والمزابي بخصوصيته. بدون هذا الوطن الجامع والآمن، كيف للمواطن الأمازيغي أن يدافع عن ثوابته أو يمارس لغته في ظل وطن منهار؟ كيف للمسلم أن يعيش شعائره في سلام إذا انفرط عقد الوطن؟
إن الوطن هو الأساس الذي تقوم عليه كل الثوابت الأخرى. القول بأن الإسلام أو العروبة أو أي هوية أخرى هي السقف، وأن الوطنية مجرد "ديكور" يمكن توظيفه، هو قول يقود إلى الخراب. الأخطر من ذلك هو الادعاء المنافق بأن الوطن والأيديولوجيا (كالإسلام مثلاً) في مرتبة واحدة لا تفاضل بينهما. هذا الطرح، عند مواجهته لأصحاب المشاريع العابرة للحدود، يكشف عن نية مبيتة لتقديم الأيديولوجيا على الوطن عند أول اختبار حقيقي.
لماذا يثار هذا الحديث اليوم؟ لأن هناك ملاحظات مقلقة حول محاولات جديدة لإحداث خلل مشابه في توازن المجتمع، عبر إثارة نعرات أو تقديم أفكار تسعى لجعل فكرة معينة هي السقف المهيمن، بدلاً من الوطن. سواء كان ذلك باسم "صحوة إسلامية" من نموذج الخلافة الممتدة من المحيط إلى الخليج، أو باسم قومية عربية تعتبر اللغة وحدها محور الدولة، أو حتى انسياقاً خلف مشاريع إقليمية زائفة، فإن النتيجة واحدة: إضعاف الدولة الوطنية وتقويض سيادتها.
إننا جميعاً - الموطنون الجزائريون -، بكل تنوعنا، صغار أمام الجزائر. كلنا أفراد تحت سقف الجزائر، ولا يمكن القبول بالانخراط أو الذوبان في أي مشروع آخر، حتى لو رفع راية الإسلام أو أي شعار نبيل آخر، إذا كان ذلك على حساب وحدة الوطن وسيادته. من يزعم أن هذا "كفر" أو "خروج عن الإسلام" فهو إما جاهل أو متاجر بالدين لخدمة أجندات لا تمت لمصلحة الوطن بصلة.
إن تسليم السيادة الوطنية بأيدينا، سواء بشعار الإسلام أو غيره، هو خسارة فادحة. لذا، تقع على عاتق الدولة والمؤسسات مسؤولية حماية مبادئ الجمهورية، ورفعها فوق كل اعتبار، وعدم تركها عرضة للتلاعب من قبل أفراد أو جماعات. يجب أن يكون الوطن فوق كل اعتبار، وخارج مجال المقارنة أو المساواة مع أي ولاء آخر. هذه هي القاعدة الذهبية لضمان استقرار الجزائر وازدهارها، وحماية مستقبل أجيالها.
اجمالي القراءات
27