أزمة انتخابية غير مسبوقة تشعل صداماً بين الهيئات القضائية في مصر
لم تشهد مصر في العقود الأخيرة أزمة قضائية – انتخابية كالتي انفجرت عقب انتهاء المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب؛ فبعد إعلان بطلان نتائج التصويت في 19 دائرة فردية بسبب ما عزته الهيئة الوطنية للانتخابات إلى "الخروقات والانتهاكات الجسيمة"، انتقلت الأزمة من نطاق الطعون القانونية، التي وصلت حتى اليوم (الخميس) إلى 200 طعن انتخابي، إلى معركة مفتوحة بين هيئات قضائية كان يفترض أن تتعاون لضمان نزاهة الاستحقاق الانتخابي.
وتبادلت هيئات قضائية الاتهامات وسط تلاسن غير مسبوق، وبيانات تحمل رسائل مبطنة، بسبب محاولة كل جهة التنصل من المسؤولية، في واحدة من أكثر الانتخابات إثارة للجدل في مصر منذ سنوات طويلة. البداية كانت مع نادي قضاة مصر، الذي أصدر بياناً بدا في ظاهره توضيحياً، غير أنه حمل في باطنه رسالة لا تخطئها العين: القضاة وأعضاء النيابة العامة لم يشاركوا في الإشراف على الانتخابات، التزاماً منهم بأحكام الدستور الذي أنهى هذا الدور بمرور عشر سنوات على إصداره في 2014.
البيان أثار عاصفة، ليس فقط لنفيه علاقة القضاة بالعملية الانتخابية، بل لأنه تضمن لغة اعتبرتها جهات قضائية أخرى تلميحاً إلى فشلها في مهمة الإشراف على الانتخابات، وهي النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة. ودفعت الصياغة نادي مستشاري هيئة النيابة الإدارية إلى الرد ببيان مضاد، الذي جاء دفاعياً ومشحوناً برسائل مباشرة وغير مباشرة، إذ نفى النادي وجود أي تقصير من أعضاء الهيئة، واعتبر أن الإشراف جرى "بحياد كامل"، وأن مسؤولية ما حدث في الدوائر المبطلة نتائجها تقع على عاتق الهيئة ولم يمر وقت طويل حتى دخلت هيئة قضايا الدولة على خط الأزمة، حيث حاول رئيس الهيئة، المستشار حسين مدكور، عبر بيان داخلي الغرض منه تهدئة أعضائها، من خلال مطالبتهم بـ"عدم الالتفات إلى الضجيج". ووجّه رئيس الهيئة رسائل دعم معنوي لهم، بعد موجة انتقادات واسعة للهيئات التي أشرفت على انتخابات المرحلة الأولى، وواجهت اتهامات، منها "التلاعب في النتائج" عبر الطعون الرسمية المقدمة من المرشحين.
ولم يأتِ الانفجار الأكبر من الهيئات الرسمية، بل من النادي البحري للنيابة الإدارية، الذي أصدر بياناً يمكن اعتباره الأكثر صدامية في تاريخ الخطابات القضائية في مصر. واستخدم البيان لغة غير معتادة بوصفه بيان نادي القضاة بأنه "نرجسي"، وشن هجوماً مباشراً على الهيئة الوطنية للانتخابات باعتبارها "المقصّرة في تجهيز اللجان، وإهمال احتياجات أعضاء الإشراف الذين عملوا في ظروف غير إنسانية".
ولم يقف البيان عند هذا الحد، بل حمّل الهيئة الوطنية مسؤولية عدم تسليم وكلاء المرشحين "النموذج العددي النهائي" الخاص بنتائج الفرز في اللجان الفرعية، في مخالفة صريحة للإجراءات. وذكر البيان أن الهيئة كلفت رؤساء اللجان عدم تسليم وكلاء المرشحين نموذج نتيجة الفرز، قبل أن "تتنصل" من ذلك أمام وسائل الإعلام. هذه الحالة من السجال العلني مثلت – كما وصفها المستشار أشرف مصطفى، الرئيس السابق لمحكمة استئناف القاهرة – "اهتزازاً واضحاً في هيبة الهيئات القضائية أمام الرأي العام".
وقال في تصريحات لـ"العربي الجديد" إن ما جرى لا يمكن اختزاله في مجرد بيانات متبادلة، بل يكشف عن أزمة تنظيمية حادة داخل الهيئة الوطنية للانتخابات التي "تركت المشرفين يواجهون مصيراً إدارياً مرتبكاً"، وفق تعبيره. وأضاف أن تصريحات المستشار أحمد بنداري، مدير الجهاز التنفيذي للهيئة الوطنية، بشأن عدم تسليم الوكلاء الكشوف العددية مثلت "اعترافاً رسمياً بخطأ إجرائي جسيم أطاح نتائج 19 دائرة انتخابية على النظام الفردي".
أما المحامي مصطفى علوان، رئيس مجلس إدارة مؤسسة "رايتس" للاستشارات القانونية، فاعتبر أن الأزمة أكبر من مجرد خطأ إداري، بيد أن الدولة تواجه للمرة الأولى اختباراً عملياً تمثل بغياب الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات. وقال في حديث خاص: "إن الخلل الحقيقي كان في غياب النظام، وتضارب التعليمات، وسوء تجهيز اللجان، وترك المشرفين يواجهون فوضى تنظيمية بلا سند واضح". وأكد علوان أن الهيئة الوطنية لم توفر الحد الأدنى من الدعم اللوجيستي، في ضوء شكاوى المرشحين من عدم تسلمهم محاضر الفرز، وهي "مسألة كافية لإسقاط أي عملية انتخابية".
بينما رأى المحامي الحقوقي صالح حسب الله، أن المشهد لم يكن ليصل إلى هذه الدرجة من الانفجار "لو كانت لجان متابعة المال السياسي – المسندة إلى رؤساء المحاكم الابتدائية – قد أدت دورها المنصوص عليه في المادة الرابعة من قرار الهيئة الوطنية رقم 44 لسنة 2025". وأوضح حسب الله أن "المال السياسي كان اللاعب الأكبر في المرحلة الأولى من الانتخابات، من خلال ظاهرة شراء الأصوات، نتيجة غياب الرقابة الفعلية"، وهو ما سمح بانفلات غير مسبوق في إدارة المشهد الانتخابي، وصفه بأنه "الأوسع نطاقاً في السنوات العشر الأخيرة". وتابع قائلاً إن عدم تحرير محاضر رسمية في العديد من الدوائر بشأن وقائع شراء أصوات الناخبين "كان سبباً مباشراً في انهيار الثقة بين المرشحين والهيئة الوطنية، وفتح الباب للطعن على النتائج".
من جهته، قال المدير التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات، في مؤتمر صحافي عقدته الهيئة مساء الخميس، إن كل من ثبت تقصيره من أعضاء الهيئات القضائية في الإشراف على الدوائر "لن يشارك في المرحلة الثانية من الانتخابات"، مشدداً على "عدم تهاون الهيئة مع أي مسؤول أو موظف يثبت إخلاله بواجباته، أو مخالفته للضوابط المنظمة للعملية الانتخابية". وادعى أن قرار الهيئة إلغاء نتائج عدد من الدوائر الفردية، بعد توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بذلك، يعكس التزاماً منها بـ"ضمان أعلى درجات النزاهة والشفافية"، ومراجعتها الدقيقة لكل الشكاوى والتقارير الواردة بشأن المخالفات التي شابت العملية الانتخابية.وعن تفشي ظاهرة المال السياسي، قال إن له أشكالاً عديدة مثل تبرع رجال الأعمال للأحزاب من أجل الدعاية، أو التورط في وقائع الرشى الانتخابية؛ ولإثبات ذلك لا بد من تقديم بلاغ رسمي، لأن رئيس اللجنة الفرعية غير معني بما يحدث خارج المقر الانتخابي، التي من المعلوم أنها "مسؤولية أفراد التأمين أمام اللجان"، في إشارة إلى قوات الشرطة. وكانت الهيئة قد عقدت اجتماعاً مع رؤساء ومسؤولي 24 حزباً مشاركاً في الانتخابات البرلمانية، طالبتهم فيه بتقديم الأوراق والمستندات المتعلقة بحجم الإنفاق على الدعاية خلال المرحلتين الأولى والثانية من الانتخابات، وذلك بحد أقصى خلال 48 ساعة.
ونبهت الهيئة الوطنية على رؤساء اللجان الفرعية والعامة باستعمال صحيح القانون، وتسليم صورة من الحصر العددي لأصوات الناخبين في كل دائرة، لكل من يرغب من المرشحين والوكلاء، مع السماح لممثلي الصحف حضور أعمال الفرز، ومعرفة الحصر العددي للأصوات، شرط مراجعة بطاقات اعتمادهم من الهيئة. وشملت قائمة الدوائر الملغاة في المرحلة الأولى سبع محافظات من إجمالي 14 محافظة، هي: الجيزة، والفيوم، وأسيوط، وسوهاج، وقنا، والإسكندرية، والبحيرة. وطاولت عملية الإلغاء أغلب الدوائر التي طعن مرشحون في نزاهتها بسبب ظاهرة شراء الأصوات، والتلاعب في نتائج الفرز، وتوثيق ذلك بعشرات مقاطع الفيديو التي نُشرَت على مواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم إبطال ما يقرب من ثلث عدد الدوائر الفردية في الجولة الأولى من الانتخابات، اعتمدت الهيئة الوطنية نتائج التصويت في الدوائر نفسها على نظام القائمة المغلقة؛ لتعلن فوز "القائمة الوطنية من أجل مصر" بجميع المقاعد المخصصة للنظام، بعد ترشّحها منفردة في دائرتي قطاعي شمال ووسط وجنوب الصعيد وغرب الدلتا. والقائمة تضمّ 11 حزباً مؤيداً للنظام الحاكم بقيادة حزب مستقبل وطن، الحائز للأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.الوطنية بوصفها صاحبة القرار، والتي تدير المشهد الانتخابي منذ فتح باب الترشح، وحتى إعلان النتائج.
اجمالي القراءات
5