مسرحية نبش القبور: عندما تُصنَّع الخرافة لخلق الوصاية

عادل بن احمد Ýí 2025-06-12


كمواطن جزائري، وجدت نفسي خلال الأيام العشرة الماضية أراقب مشهداً سريالياً، أقرب إلى مسرحية رديئة الإخراج منها إلى واقع نعيشه. انتشرت فجأة "حملة" منظمة لنبش القبور، ليس بحثاً عن تاريخ أو أثر، بل لاستخراج "أدلة" على السحر والشعوذة: طلاسم، عُقَد، وصور لأشخاص. لم يكن هذا عملاً فردياً منعزلاً، بل كان عرضاً متكاملاً تم بثه على نطاق واسع، وبأبطال يمكن تمييزهم بسهولة بهيئتهم الموحدة تقريباً: قمصان الصلاة واللحى التي تم تقديمها كعلامة على "التقوى" و"الخبرة" في محاربة الشرور الخفية.

لكن ما حوّل هذا المشهد من مجرد ظاهرة مثيرة للاستغراب إلى قضية رأي عام مقلقة، هو التعبئة الإعلامية المنسقة التي قامت بها ثلاث قنوات تلفزيونية كبرى، والتي كرست ساعات بثها لتضخيم هذه المسرحية، وتحويلها إلى حدث وطني جلل.

وفي خضم هذا الضجيج الإعلامي، جاء بيان السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري، ليكون بمثابة الصفعة التي أيقظت الكثيرين، وأكد الشكوك التي كانت تراودني وتراود كل عقل نقدي. لم يكن البيان مجرد لوم، بل كان تشريحاً دقيقاً وفاضحاً لما يحدث. وهذا نصه الكامل:

بيان السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري:

"عبرت السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري عن استيائها لتفشي بعض الممارسات الإعلامية غير المهنية التي تمس بوعي المواطنين وتضرب في الصميم الجهود الوطنية المبذولة لمواجهة الدجل والشعوذة والترويج للخرافة. وأدانت سلطة الضبط في بيان لها، الانزلاق المهني لقناة النهار TV والشروق نيوز TV وقناة الحياة TV لتقديمها بعض البرامج التي تروج لمفاهيم غير مثبتة علميا وترويج لخطابات خرافية. وأضافت السلطة، "هذه البرامج التي تكرس استغلالا سافرا لمعاناة الناس وتهدف في الحقيقة إلى رفع نسب المشاهدة وهي لا تشكل فقط استخفافا بعقول المواطنين بل تندرج ضمن ما يعاقب عليه القانون"."

هذا البيان كان الدليل الأول، لكن الدليل الثاني جاء سريعاً وقاطعاً: بمجرد صدوره، اختفت ظاهرة نبش القبور تماماً من شاشاتنا ومنصات التواصل الاجتماعي، وكأنها لم تكن! هذا التلاشي المفاجئ لا يمكن تفسيره إلا بأن "الحملة" لم تكن عفوية، بل كانت عملية موجهة توقفت بأمر الجهة التي حركتها أو بمجرد فضح أدواتها الإعلامية.

وهناك تفصيل آخر لافت للانتباه في الفيديوهات المنتشرة، تفصيل يكاد يكون كوميدياً لولا خطورته، وهو أن الصور التي زُعم أنها مدفونة منذ شهور أو سنوات كانت تبدو جديدة ولامعة، وكأنها طُبعت بالأمس خصيصاً لهذا العرض.

بصفتي جزائرياً يعيش في هذا المجتمع ويفهم تركيبته النفسية، أرى أن ما حدث ليس مجرد بحث عن "الرايتنغ" أو سبق صحفي. القضية أعمق من ذلك بكثير، وتستغل وتراً حساساً في شخصيتنا : الخوف من الجن والعالم الخفي، وهو خوف يتغلغل في اللاوعي لدى الكثيرين، وقد يفوق أحياناً الخوف من تحديات الواقع الملموس.

وهنا يكمن جوهر التحليل الذي أطرحه: إن الهدف الحقيقي من هذه المسرحية لم يكن محاربة السحر، بل كان صناعة عدو وهمي ومرعب اسمه "الجن والعفريت".
إنها عملية "هندسة الخوف" بامتياز. فعندما يتم تضخيم هذا العدو الخفي وجعله الخطر الأكبر الذي يتهدد المواطن في أمنه وصحته ورزقه، يصبح البحث عن "منقذ" ضرورة ملحة. وهنا، يتم تقديم "أصحاب اللحى" وبعض رجال الدين كخبراء حصريين ومنقذين أوصياء، يمتلكون وحدهم مفاتيح الخلاص من هذا العدو.

إنها محاولة واضحة لتكريس وصاية فكرية وروحية على المجتمع. فالحملة الإعلامية لم تكن تهدف فقط لنشر الخرافة، بل لترسيخ فكرة مفادها أن السلطة الحقيقية في مواجهة الأزمات غير المرئية ليست للعقل أو العلم، بل لرجال الدين. وهذا الإخضاع الطوعي للمجتمع، المبني على الخوف، قد يكون مقدمة لتمرير مخططات أعمق، أو مؤامرة لتوجيه الرأي العام نحو قضايا معينة، أو ببساطة لفرض نموذج مجتمعي لا مكان فيه للنقد والعقلانية.

إن معركتنا الحقيقية اليوم ليست ضد الجن والسحرة، بل ضد من يستغلون مخاوفنا لتخدير عقولنا، وضد من يتاجرون بالخرافة لفرض وصايتهم علينا. وكما قال ابن خلدون: "عندما تنتشر الخرافة في مجتمع ما، فاعلم أن انهياره وشيك". فهل نعي حجم الخطر، ونتسلح بالوعي والعلم، أم نترك أنفسنا فريسة سهلة لأوهام صنعها غيرنا من أجل السيطرة علينا؟

اجمالي القراءات 59

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2013-01-07
مقالات منشورة : 11
اجمالي القراءات : 4,922
تعليقات له : 87
تعليقات عليه : 0
بلد الميلاد : Algeria
بلد الاقامة : Algeria