الاختفاء القسري في سوريا... هل تداوي العدالة الجرح المفتوح؟
يعد الاختفاء القسري في سوريا واحدا من أكثر الملفات المأساوية والمعقدة التي نجمت عن احتجاجات 2011 قبل أن تتحول إلى نزاع دام خلف مئات آلاف الضحايا. في هذا السياق، وتزامنا مع اليوم الدولي لمساندة ضحايا الاختفاء القسري الذي يوافق 30 أغسطس آب من كل سنة، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان السبت الماضي تقريرا مكملا لمسار عملها المتمثل في كشف الحقائق ودعم حق المتضررين في العدالة والمساءلة. يأتي ذلك فيما تواصل آلاف العائلات السورية اقتفاء آثار مفقوديها أملا في العثور عليهم.بمناسبة اليوم الدولي لمساندة ضحايا الاختفاء القسري الذي يوافق 30 أغسطس آب من كل سنة، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان السبت الماضي تقريرها السنوي الرابع عشر حول جريمة الاختفاء القسري في سوريا، والذي وثقت من خلاله حالات آلاف الضحايا.
التقرير الذي يأتي متمما لعمل الشبكة المنكبة منذ عام 2011 على كشف الحقائق ودعم حق المتضررين في العدالة والمساءلة، يكتسب أهمية خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر كانون الأول 2024 وما أعقبه من إخلاء بعض المعتقلات وكشف جانب إضافي من حجم الكارثة الإنسانية. إذ بقي مصير عشرات الآلاف مجهولا رغم الإفراج المحدود، مما يعكس الطابع الهيكلي والواسع للظاهرة.
"عقاب جماعي"
وفقا للتقرير، اعتمد النظام السابق سياسة الاختفاء القسري بشكل منهجي منذ 2011 لترهيب المجتمع ومعاقبته جماعيا، واستُخدمت هذه الممارسة جنبا إلى جنب مع الاعتقال التعسفي والتعذيب وإنكار المحاكمات العادلة. كما يشير إلى الدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية والقضائية في ترسيخها.بحسب قاعدة بيانات الشبكة حتى أغسطس آب 2025، فإن ما لا يقل عن 181,312 شخصا لا يزالون قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري، بينهم 5,332 طفلا و9,201 امرأة. ومن هؤلاء 160,123 شخصا لدى النظام السابق (منهم 3,736 طفلا و8,014 امرأة)، و21,189 شخصا لدى أطراف أخرى (منهم 1,596 طفلاو1,187 امرأة).
ويُسجل العدد الإجمالي للمختفين قسريا 177,057 شخصا، بينهم 4,536 طفلا و8,984 امرأة.
بحسب الشبكة، فالنظام السابق "مسؤول عن نحو 90% من الحالات، أي تسعة من كل عشرة مختفين".
الشبكة التي تعمل بالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية، وتنسق مع اللجنة الوطنية للمفقودين التي أُنشئت بمرسوم رئاسي في 17 مايو 2025 إلى جانب اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية، ترى أن نجاح هاتين المؤسستين مرهون باستقلاليتهما، وبإشراك الضحايا والمجتمع المدني، واعتماد مقاربة شاملة للعدالة تقوم على كشف الحقيقة، المساءلة، التعويض، وضمان عدم التكرار.
"اختطفوا شقيقي وأخذوه بالقوة إلى وجهة مجهولة
الحديث عن الاختفاء القسري يقتضي بالضرورة وفقا لمختصين الإشارة إلى تورط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية الذي أقر بعض قادته غير ما مرة بتنفيذ عمليات خطف وإخفاء قسري. أحمد، أحد أولئك الذين فقدوا واحدا على الأقل من أقاربهم، يحكي لفرانس24 آثار ذلك ومسار اقتفاء أثر شقيقه الذي لايزال في عداد المفقودين إلى اليوم فيقول: "خُطف أخي في الرقة بتاريخ 21 تموز/يوليو 2013، مع بداية سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المدينة. كان ناشطا مدنيا، واعترضته مركبة مسلحين أثناء وجوده مع صديقه في السيارة، وأُخذ بالقوة إلى جهة مجهولة. ومنذ ذلك اليوم، لا نعرف عنه شيئا. لدي أيضا ابن عم وعدد من الأصدقاء ما زالوا في عداد المفقودين".
يضيف المتحدث "بالنسبة لنا، أي مسار للعدالة مهم. نعتبر أن بعض المتهمين في المحاكمات الجارية قد يكونون مصدرا لمعلومات تكشف مصير أحبائنا. نتمنى أن تسمح السلطات القضائية بتوسيع التحقيقات، وألا تقتصر فقط على دعاوى فردية محدودة. أما فيما يتعلق بالدور الدولي، لا يمكن إنكار أن تأسيس مؤسسة للمفقودين خطوة إيجابية. لكن هذا غير كاف، لأن كشف الحقيقة يحتاج إلى برنامج شامل للعدالة الانتقالية، وهو أمر لا يمكن أن يبدأ من دون استقرار سياسي في سوريا، ورفع للعقوبات، وتهيئة الظروف لعملية كشف الحقيقة والمساءلة".
من "قيصر" إلى "صيدنايا"
بدأ البحث عن المفقودين في سوريا فعليا مع اندلاع الاحتجاجات في مارس/آذار 2011 وتحولها إلى نزاع مسلح، إذ بدأت حالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري تتوسع بشكل كبير على يد أجهزة الأمن والميليشيات التابعة للنظام، ثم لاحقا من قبل أطراف أخرى في النزاع مثل تنظيم الدولة الإسلامية وفصائل مسلحة مختلفة.
لعرض هذا المحتوى من اليوتيوب من الضروري السماح بجمع نسب المشاهدة وإعلانات اليوتيوب.
قبول
أعدل اختياراتي
01:27
لكن المطالبة المنظمة والعلنية بالبحث عن المفقودين تعود تقريبا إلى عام 2012–2013، حين بدأت عائلات الضحايا توثيق الحالات ورفع الصوت عبر منظمات مثل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير والشبكة السورية لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى مبادرات "رابطة عائلات قيصر" و"رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا".
على المستوى الدولي، برز الملف بقوة بعد تسريب صور قيصر عام 2014 التي كشفت آلاف الجثث لضحايا التعذيب في المعتقلات، ما جعل قضية المفقودين في قلب النقاش الأممي. ثم جاءت خطوة مهمة في يونيو/حزيران 2023 عندما أنشرت الأمم المتحدة المؤسسة المستقلة لشؤون المفقودين في سوريا (IIMP) بقرار من الجمعية العامة، وهي أول هيئة أممية مكرسة حصريًا للبحث عن المفقودين السوريين.
"جريمة ضد الإنسانية"
يعد الاختفاء القسري جريمة بموجب القانون الدولي، وترقى في سياقها السوري إلى جريمة ضد الإنسانية. فاستمرار وجود 181,312 ضحية حتى أغسطس آب 2025 يعكس الأبعاد الإنسانية والقانونية العميقة للجريمة.
بحسب الشبكة، يتحمل النظام السابق المسؤولية الكبرى، مع مسؤولية متفاوتة لأطراف أخرى.
الجريمة التي ألحقت أضرارا جماعية نفسية واجتماعية واقتصادية وقانونية، تستوجب وفقا للمدافعين عن حقوق الإنسان جبر ضرر شامل، مع ضرورة التوثيق المستقل أساس لأي مسار للعدالة أو التعويض.
من جهة أخرى، فتجاهل المساءلة سيكرس بحسبهم الإفلات من العقاب ويقوض العدالة الانتقالية.
رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني يقول موضحا لفرانس24 "منذ سقوط نظام الأسد، واصلنا جهودنا في توثيق حالات المختفين قسرا، وهي جهود استمرت دون توقف، وأتاحت لنا بناء علاقات مباشرة مع آلاف العائلات. من خلال هذا التواصل، تمكنا من توثيق أكثر من 21 ألف حالة إضافية خلال الأشهر الثمانية الماضية فقط، ما رفع الحصيلة الموثقة بشكل كبير كما أوردنا في تقريرنا الأخير".
ويضيف "نحن نؤمن أن هناك فرصة حقيقية للتعاون مع الحكومة الجديدة، وخاصة مع هيئة المفقودين والوزارات المعنية، لأن هذا الملف بالغ التعقيد ولا يمكن التقدم فيه دون تنسيق فعّال مع وزارات مثل الداخلية والعدل، وغيرها من الجهات المعنية".
بحسب عبد الغني فالقضية "لا تتعلق فقط بكشف مصير المختفين، بل أيضا بمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات الجسيمة. العدالة والمساءلة عنصران أساسيان لا يمكن تجاهلهما إن أردنا بناء مستقبل أكثر إنصافًا وكرامة لكل الضحايا وعائلاتهم."
"صدمة العائلات"
قبل الشبكة، تناولت منظمات أممية وعدد من الجمعيات الحقوقية الدولية موضوع الاختفاء القسري في سوريا ونقلت شهادات لكثير من ضحاياه، منظمة العفو الدولية واحدة من هؤلاء، إذ حذرت في آخر تقرير لها على ضرورة إثبات الحكومة السورية التزامها القاطع بكشف الحقيقة وتحقيق العدالة ومنح التعويضات لعشرات الآلاف من المفقودين، عبر إعطاء الأولوية لعملية بحث شاملة على المستوى الوطني عن جميع الذين ما زالوا مفقودين، بالإضافة إلى تحقيق المحاسبة.
ويصف التقرير الموجز بعنوان الحقيقة لا تزال مدفونة: نضال عائلات المفقودين في سوريا من أجل العدالة، كيف هرعت العائلات المكلومة إلى السجون، ومراكز الاحتجاز السابقة، والمشارح، والمقابر الجماعية، للبحث عن أحبائها، في أعقاب الإطاحة ببشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
ويسرد التقرير الموجز تفاصيل المعاناة البالغة والصدمات المتجدِدة التي يكابدها أفراد هذه العائلات، حيث عاشوا لسنوات على أمل رؤية ذويهم يخرجون من السجون ومراكز الاحتجاز سيئة السمعة في سوريا، ولكنهم لم يحصلوا حتى اليوم على إجابات. ويستند هذا التقرير الموجز إلى مقابلات مع 21 من أفراد عائلات المفقودين، والناجين من الاحتجاز، وممثلي روابط الضحايا، أُجريت في الفترة من مايو/أيار إلى يونيو/حزيران 2025، وأُجري كثير منها خلال زيارةٍ إلى سوريا في مايو/أيار 2025.
ويصف التقرير الاستياء الشديد للمعتقلين السابقين وأفراد عائلات المفقودين من فقدان أو إتلاف أدلة جوهرية بعد سقوط حكومة الأسد، ومن رؤية الجناة المزعومين أحرارا. كما يُلقي الضوء على النضال المستمر لعائلات المفقودين من أجل المطالبة بحقوقها، بما في ذلك إقامة "خيام الحقيقة" في مختلف أنحاء سوريا، حيث أصبح بوسعها أن تتجمع علنا، وأن تكرم ذويها، وأن تطالب بالعدالة.
أبرز التوصيات
من أبرز توصيات تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وجوب كشف الحقيقة وانتزاع حق العائلات من خلال إجراء تحقيقات مستقلة تشمل جميع المسؤولين، وإشراك خبراء دوليين وممثلي الضحايا، وتزويد العائلات بتقارير دورية.
كذلك، تدعو الشبكة إلى تحديد مواقع المقابر الجماعية بالتقنيات الحديثة، وحماية الأدلة، وإجراء فحوص DNA، ثم إعادة الرفات للعائلات بكرامة ودعم نفسي.
فيما يرتبط بحقوق العائلات، دعا معدو التقرير إلى توفير معلومات دقيقة عن مصير المختفين وظروف الوفاة، وتقديم دعم نفسي واجتماعي، وتوثيق أسباب الوفاة بدقة.
لعرض هذا المحتوى من اليوتيوب من الضروري السماح بجمع نسب المشاهدة وإعلانات اليوتيوب.
قبول
أعدل اختياراتي
06:03
مسألة العدالة والمساءلة احتلت حيزا مهما في الوثيقة حيث حثت المنظمة على إنشاء آليات قضائية وطنية أو مختلطة أو دولية، التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وإصدار مذكرات توقيف دولية، وإنشاء صندوق تعويض للضحايا وعائلاتهم.
وفيما أكد التقرير على ضمان عدم تكرار الجرائم المذكورة حض على إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية، وتجريم الاختفاء القسري بالدستور والقوانين الجديدة، إلى جانب حملات توعية وطنية، وترسيخ ثقافة حقوق الضحايا، لكن أيضا إبرام اتفاقيات قضائية دولية لتبادل الأدلة وملاحقة الجناة عبر الحدود.
بحسب أحمد الذي فقد شقيقه وآخرين من أفراد أسرته "من الناحية الإنسانية، كل أسر المفقودين في سوريا تعيش المعاناة نفسها". ويضيف بنبرة ملؤها الألم "عقب ما يمكن تسميته بصدمة ما بعد صيدنايا، تبددت آمال آلاف العائلات التي كانت تنتظر لقاء أحبائها أحياء، ليتضح لاحقا أن معظم المفقودين قضوا داخل السجن. ومن هنا بدأ فصل جديد من البحث، ليس عن الأحياء هذه المرة، بل عن رفات الضحايا. أما بالنسبة للمفقودين لدى النظام، فلم يعد هناك أي أمل واقعي بالعثور عليهم أحياء. ومع ذلك، ما زالت بعض العائلات تأمل في العثور على أبنائها المخطوفين، خاصة لدى تنظيم الدولة الإسلامية. فعندما انسحب التنظيم من الرقة نحو الباغوز، وباتفاق مع التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، أخذ معه نحو 400 معتقل ومختطف، واستخدمهم كدروع بشرية لتأمين طريقه. لهذا تعتقد كثير من الأسر أن أبناءها قد يكونون من بينهم.
محاكمة غير مسبوقة
في مايو أيار 2024، جرت محاكمة غير مسبوقة في باريس انتهت بالحكم غيابيا بالسجن المؤبد على ثلاثة من كبار مسؤولي النظام السوري، هم علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود، بعد إدانتهم بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب شملت التعذيب والقتل والاختفاء القسري لمواطنين سوريين-فرنسيين هما مازن داباغ وابنه باتريك، الذين اختفيا بين عامي 2013 و2018.
المحكمة أكدت أن ما جرى لم يكن حادثا فرديا بل جزء من سياسة قمعية ممنهجة للنظام استهدفت عشرات الآلاف من السوريين، معتبرة المتهمين "مهندسين أساسيين" في آلة القمع.
ورغم أن الحكم صدر غيابيا، إلا أن فرنسا أبقت على مذكرات التوقيف الدولية بحقهم، ما منح القضية بعدا رمزيا وقانونيا كبيرا، ورسالة واضحة مفادها أن الجرائم المرتكبة في سوريا لن تسقط بالتقادم وأن الإفلات من العقاب لم يعد مضمونا، مما منح عائلات الضحايا بصيص أمل في مسار العدالة الدولية.
الهيئة الوطنية للمفقودين
في 17 مايو/ أيار الماضي، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، مرسوما بتشكيل "الهيئة الوطنية للمفقودين"، بهدف الكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرا في البلاد. استنادا إلى أحكام الإعلان الدستوري السوري لعام 2025.
الهيئة المستقلة التي تهدف إلى الكشف عن مصير عشرات آلاف الأشخاص المفقودين والمغيبين قسرا في البلاد، وإنصاف ذويهم.
في هذا السياق، أكدت الحكومة السورية الأسبوع الماضي التزامها بكشف مصير المفقودين وضمان العدالة.
ووفقا بيان لوزارة الخارجية، بمناسبة اليوم العالمي للمفقودين والمختفين قسرا، فإن دمشق "تؤكد التزامها الأخلاقي والوطني والإنساني تجاه واحدة من أعقد المآسي التي أثقلت كاهل شعبنا لعقود طويلة".
وأضافت الخارجية السورية، أنها تجدد "العهد بأن هذا الملف سيبقى أولوية وطنية لا يمكن طيها إلا بإنصاف الضحايا وكشف الحقيقة وإعادة الاعتبار لعائلاتهم".
واعتبرت أن "إنشاء الهيئة الوطنية السورية للمفقودين شكل خطوة تاريخية تعكس الإرادة الوطنية في معالجة هذا الملف بمرجعية مستقلة".
ولفت البيان، إلى أن "الهيئة الوطنية السورية تضع في أولوياتها صون السيادة السورية وتجسيد العدالة كمسار وحيد لمعالجة الجراح بعيدا عن محاولات التسييس أو الاستغلال".
اجمالي القراءات
155