الجلابية المصرية... إرث ممنوع لأسباب "عنصرية"
يثير منع دخول بعض الذين يرتدون الجلابية إلى النوادي الرياضية في مصر غضب هؤلاء، إذ يرفضون التمييز القائم على الزي، خصوصاً أن الجلابية إرث ثقافي مصري عريق.
تحوّلت الجلابية، وهي أحد أبرز الملابس التقليدية الشعبية وجزء من التراث الثقافي المصري، خصوصاً في الريف والصعيد، إلى سبب للجدال على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد منع مسؤولين في الدولة أحد أولياء الأمور من دخول نادٍ لكرة القدم لمشاهدة حفل تكريم ابنه الفائز بميدالية دولية، بسبب ارتدائه الجلابية. أمرٌ أثار حفيظة مصريين وصفوا التصرف بالعنصري المرفوض، وخصوصاً أن النظام ظلّ يروّج شعبيته وشرعيته في الحكم منذ جاء إلى السلطة عقب ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 بأنه مناصر لأصحاب الجلابية والقضاء على الإقطاعيين، ممن صادر أموالهم وألغى ألقابهم من الباشاوات والبكوات. روّج النظام رؤيته عبر خطب مؤثرة ومسلسلات وأفلام.
وبدأت الأزمة بالمنشور الذي شاركه وائل رياض، لاعب نادي الأهلي ومنتخب مصر الأسبق، على صفحته الرسمية في موقع فيسبوك، حول ما وصفه بـ "التمييز الصامت" الذي تمارسه بعض الأندية المصرية بحق الزوّار وأولياء الأمور ممن يرتدون الجلابية.
رياض، المعروف بلقب "شيتوس"، تساءل في منشوره: "يعني إيه (ماذا يعني) أمنع ولي أمر من دخول النادي علشان لابس جلابية (لأنه يرتدي جلابية)؟ الجلابية مش (ليست) وصمة عار، ده تراثنا وأصولنا"، معرباً عن استيائه من ممارسات وصفها بـ "المهينة" تطاول شريحةً واسعةً من المصريين.
ويؤكد رياض أنه لم يكن هدفه من المنشور إثارة الجدل بل إعادة النظر في هذه اللوائح غير المنصفة، مشدداً على أن "الرياضة يجب أن تكون باباً مفتوحاً للجميع، لا حكراً على من يرتدون زيّاً معيناً". تفاعل مع المنشور آلاف المتابعين، خاصة من أبناء الريف والصعيد، الذين اعتبروا أن ما أشار إليه رياض يعكس واقعاً مؤلماً يعيشه كثيرون عند أبواب الأندية الرياضية.
وأعربت الإعلامية مي حلمي عن استيائها الشديد، واستنكارها لبعض اللوائح الداخلية التي تتبعها بعض الأندية، والتي تمنع أولياء الأمور من دخول النادي أو ملاعب الأكاديميات بسبب ارتدائهم الجلابية، معتبرةً أن هذا الأمر "عنصرية" غير مقبولة تمثل إهانة للهوية والتراث المصري الأصيل.
ولم تظهر مراجعة لوائح عدد من الأندية المصرية الكبرى وجود نصوص رسمية تمنع دخول الزوار وهم يرتدون الجلابية. ويقول مصدر إداري في نادي سموحة في الإسكندرية شمالي مصر، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ "العربي الجديد": "لا توجد لائحة مكتوبة تمنع دخول من يرتدي الجلابية، لكن موظفي الأمن يتصرفون باجتهاد شخصي، بناءً على تعليمات شفهية من الإدارة، أو تصور عن ضرورة الحفاظ على شكل المكان".
في نادي الصيد المصري الذي تتوزع فروعه بين القاهرة والإسكندرية وبورسعيد ورشيد، يبين مصدر من إدارة الأمن أن هناك تعليمات تقضي بمنع دخول من يرتدون الملابس غير الرياضية إلى صالات الألعاب فقط. لكن شهادات عدد من أولياء الأمور تشير إلى تعرضهم للمنع أو الإحراج عند محاولتهم الدخول بالجلابية، مؤكدين أن "عدداً من الأندية الكبرى تعتمد على تعليمات شفهية أو توجيهات داخلية لا تُعلن، لكنها تُطبّق بصرامة، خاصة من قبل موظفي الأمن أو مسؤولي الاستقبال، الذين قد يتجاوزون حدود مهامهم بحجة الحفاظ على صورة النادي كياناً اجتماعياً راقياً".
الباحث في التراث الشعبي مصطفى الجندي يؤكد في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "الجلابية كانت في الأصل زياً موحداً يجمع المصريين بمختلف طبقاتهم، ولم تتحول إلى رمز للتهميش إلا مع صعود طبقة وسطى أرادت تقليد الغرب، فربطت الزي الشعبي بالتخلف".
ويلفت إلى أنه "خلافاً للصورة النمطية التي تربط الجلابية بالفقر أو الأمية، فإن هذا الزي الشعبي لطالما كان جزءاً من الأناقة والوجاهة الاجتماعية في مصر. خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت الجلابية المطرزة والمقلمة علامة مميزة لأبناء الطبقة الوسطى والتجار والأعيان. ويكفي أن الزعيم أحمد عرابي وقف أمام الخديوي توفيق بجلابيته وعمامته، فخوراً بانتمائه إلى ريف مصر".
ويشير الجندي إلى أن الجلابية لا تزال تُرتدى في الأفراح والمناسبات الدينية، وتُصنع من أقمشة فاخرة تصل أسعارها إلى آلاف الجنيهات، ما ينسف تماماً المزاعم التي تختزلها في صورة الفقر.
إلى ذلك، تقول الباحثة في علم الاجتماع نجلاء عبد المنعم: "تُحاول الأندية الرياضية في مصر تسويق ذاتها بوصفها فضاءات شاملة للترفيه والرياضة، لكن الواقع على الأرض يكشف عن ممارسات تمييزية تتجلى أحياناً في شروط العضوية المرتفعة، وأحياناً في قواعد غير مكتوبة تتعلق بالمظهر أو طريقة الحديث". تضيف: "بعض الأندية تعكس تحوّلاً طبقياً في المجتمع، وقد أصبح الشكل الخارجي مقياساً للقبول أو الرفض، في انتكاسة صريحة لقيم العدالة والمساواة. فالجلابية، كونها رمزاً للريف أو الفلاح، أصبحت ضحية لهذه الثقافة الاستبعادية التي لا تليق بمجتمع متنوع مثل مصر".تتابع في حديثها لـ"العربي الجديد": "هذا السلوك أقرب إلى ترسيخ ثقافة الإقصاء، خاصة بالنسبة للمصريين البسطاء، إذ تُمارس قواعد غير مكتوبة على من يبدو مظهرهم خارجاً عن التصور النمطي للطبقة الوسطى العليا، بما في ذلك مَن يرتدي الجلابية، أو يأتي بصحبة أسرته من مناطق ريفية أو شعبية". وتؤكد أن "التمييز بالمظهر" يعكس انزلاقاً نحو مجتمع يعطي الأولوية للشكل. وتوضح: "حين يُمنع مواطن من دخول ناد لأنه لا يرتدي الزي الذي يرونه مناسباً، فإن ذلك يتجاوز الذوق الشخصي إلى حدود التمييز الطبقي".
من الناحية القانونية، لا يحق لأي مؤسسة رياضية أو اجتماعية، طالما كانت تعمل تحت مظلة القانون المصري وتخضع لرقابة وزارة الشباب والرياضة، أن تفرض قيوداً على دخول الأفراد استناداً إلى مظهرهم أو زيهم الشعبي، ما لم يكن هذا المظهر مخالفاً للنظام العام أو يتضمن عناصر مُخلة بالآداب العامة.ويؤكد المحامي الحقوقي حسام بهجت، في تصريح صحافي، أن مثل هذه الممارسات يمكن أن تُدرج تحت بند "التمييز غير المشروع"، بل وقد تكون مخالفة للدستور المصري نفسه. يضيف: "منع شخص من الدخول إلى مرفق رياضي لمجرد ارتدائه جلابية هو تمييز اجتماعي صريح، لا سند له، ويقع تحت طائلة القانون إذا رغب المتضرر في تقديم شكوى إلى وزارة الرياضة أو جهاز حماية المستهلك أو حتى القضاء الإداري".
بدوره، يقول المتحدث الرسمي باسم وزارة الشباب والرياضة، محمد الشاذلي، إن قانون الرياضة المصري يتيح لكل نادٍ أو اتحاد رياضي وضع لائحته الخاصة، بما يشمل نظامه الأساسي والقواعد التنظيمية المتعلقة به، مشدداً في الوقت نفسه على أن الوزارة تعمل حالياً على تعديل قانون الرياضة بما يتوافق مع المستجدات، وقد أرسل المشروع لرئيس الجمهورية للموافقة عليه.
ويوضح أن الوزارة تملك الرأي النهائي في الموافقة على أي لائحة خاصة بالأندية أو الاتحادات الرياضية، مؤكداً أن هناك قواعد عامة للسلوك والانضباط تلتزم بها كل المؤسسات الرياضية، وأن الوزارة تتابع تنفيذ هذه القواعد بما يحقق العدالة ويصون كرامة جميع المرتادين. يتابع أن الانتماء للهوية المصرية لا يُقاس بالمظهر الخارجي، وأنه لا يحق لأي جهة اتخاذ قرارات تمييزية أو تقييد دخول أولياء الأمور بسبب زيهم التقليدي، ما دام ذلك لا يخالف اللوائح المعتمدة أو يخل بالنظام العام.
اجمالي القراءات
20