آحمد صبحي منصور Ýí 2010-10-10
مقدمة
هذه لمحة تاريخية تتجول داخل التراث السّنى لتقديم شخصية كانت مشهورة فى عصرها ، وكانت تعبر عن مكانة الدين السنى وصنّاعه ورواته، إنه عبد الله بن المبارك الذى عاصر هارون الرشيد وفاقه فى الشهرة ، هذا إذا صدقنا الروايات التى كتبوها فى سيرة ابن المبارك .
ولقد فحصناها بمنهجى الجرح والتعديل والبحث التاريخى ، ورأينا أن معظم تلك الروايات تتفق مع رؤية العصر وإيمانه المطلق بالحديث والسّنة ،و تقديره لصنّاع تلك الأحاديث ورواتها .
عملنا &Yacil; فى بحث سيرة ابن المبارك واعجابنا به على المستوى الانسانى و التاريخى لا يمنع كفرنا الحازم والجازم بتلك السنة التى آمن بها ابن المبارك ورواها عن غيره ورواها عنه غيره ، وصارت أساس شهرته .
فماذا قالت الروايات التاريخية عن ابن المبارك الذى كان مشهورا فأصبح فى عصرنا مجهولا ؟
أولا :
1 ـ كان ابن المبارك (118ـ 181هـ) أكثر علماء عصره شهرة ، لم تقتصر شهرته علي مجتمع العلماء بل امتدت إلي جموع الشعب المسلم بين خراسان والعراق والحجاز ومصر. ولم تقف شهرته علي نبوغه في العلم بالحديث والسنن وإنما امتدت إلي تفرده بالكرم والمروءة ورعاية المحتاجين من العلماء، ثم اشتهر مع ذلك بإسهامه بالغزوات وجهاد الروم بالسلاح والنفس والمال ، حسب مفهوم الجهاد وقتئذ..
وقد اعترف له العلماء في خلافة الرشيد بالفضل والسبق في ميدان العلم والأخلاق الحميدة وتوالت أقوالهم تشهد له بذلك، ومع أنهم أسهبوا في مدحه فإننا لا نجد من أقام له مذهبا علميا حمل اسمه بعد وفاته ، مع أن له تلامذة مشهورين بين علماء الحديث والفقه .
2 ـ هو عبد الله بن المبارك ، أبو عبد الرحمن المروزي ، نسبة إلي مدينة مرو.
كان أبوه تركيا من همدان وكانت أمه خوارزمية ، واكتسب ولاء عربيا لقبيلة حنظلة حسبما كان متبعا في ذلك الوقت من غير العرب بالانتماء بالولاء لإحدى القبائل العربية لاكتساب الشهرة.. وقد أدرك أبواه شهرته العلمية ، وكان إذا قدم ابن المبارك إلي همدان زارهما وعظمهما .
ويبدو من سيرته أنه كان عصاميا ، لم يرث ثروة عن أبيه الذي كان فقيرا أو كان مولى لبعض التجار كما يروي ابن الجوزي في المنتظم ، ومعني ذلك أن عبد الله ابن المبارك بدأ من الصغر فأسس نفسه بنفسه في ميدان العلم وميدان التجارة وجمع بينهما ففتح الله تعالي عليه أبواب العلم وأبواب الرزق معا ، وحين اشتهر بالعلم وسعة المال فإنه كان يوزع هذا وذاك بسخاء شديد علي كل من يريد.
وساعدته التجارة علي التقلب بين الأمصار فسمع العلماء في كل بلد وأخذ عنهم ، وقد سمع العلم عن هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان الأعمش وسليمان التيمي وحميد الطويل وعبد الله بن عون ويحيي بن سعيد الأنصاري وموسي بن عقبة وسعيد الجريري ومعمر بن راشد وبن جريج وابن أبي ذئب ومالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة والأوزاعي والليث بن سعد ويونس بن يزيد وإبراهيم بن سعد وزهير بن معاوية وأبي عوانة .
ومن التوقف مع أولئك العلماء نتعرف علي مدي الجهد الذي بذله ابن المبارك حين سافر إلي مصر فأخذ عن علمائها وأهمهم "الليث بن سعد" ورحل إلي المدينة فأخذ عن فقيهها "مالك بن أنس" وإلي الشام فأخذ عن "الأوزاعي" وإلي العراق وخراسان ليأخذ عن " الثوري وشعبة والأعمش" وغيرهم ..
ونتعرف أيضا علي أن ابن المبارك قد سمع الحديث والفقه والمغازي والتاريخ إذ أن هذه الثلة من العلماء ضمت أهل الفقه وأهل الحديث وأصحاب المغازي والتاريخ .. وأضاف إلي ذلك موهبة فائقة في الشعر والأدب وعقلية حافظة لاقطة مبدعة .
وما روي عنه من آثار يظهر منها أنه وقف موقفا معتدلا بين أصحاب الرأي والقياس وأصحاب المذهب المحافظ فيما يخص الفقه ، هذا مع أنه كان أميل إلي التبحر في علوم الحديث ، وكان يمثل بين علماء الحديث عقلية ناقدة للرواة ذات طابع خاص ، تأثر بها تلميذه يحيي بن معين بالذات ، واستمر تيار التأثر به في المدرسة المتأخرة لعلم الحديث حتي كان ابن القيم الجوزية في القرن الثامن الهجري يستشهد بأقواله ويعول عليه. وظلت آراء ابن المبارك تحظي بالاحترام بعد موته بين المتخصصين في علوم الحديث .
مدرسة ابن المبارك
ويكفينا بالتدليل علي نبوغ ابن المبارك أن نستعرض قائمة الذين تعلموا علي يديه والذين أشادوا به ، فمنهم داود بن عبد الرحمن العطار وسفيان بن عيينه وأبو إسحاق الفزاري ومعتمر ابن سليمان ويحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب ويحيي بن آدم وعبد الرازق بن همام وأبو أسامة ومكي بن إبراهيم وموسي بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم وعبد الله بن عثمان ويعمر بن بشر وأبو النضر هاشم بن القاسم ويحيي بن معين وأبو بكر بن أبي شيبة والحسن بن الربيع البواراني والحسن بن عرفة ويعقوب الدورقي وابن مجشر وغيرهم ..
وحيثما كان يحل ببلد يتوافد عليه الناس لتلقي العلم ، ومع أنه كان يزور بغداد قليلا إلا أن الخطيب البغدادي ترجم له ضمن أعيان بغداد افتخارا به وقال عنه " قدم بغداد غير مرة وحدث بها " وأفرد له ترجمة تقع في ست عشرة صفحة .
وكان تأثير ابن المبارك هائلا في بغداد إذ كانت الألسن تلهج بمدحه والإشادة به عالما ومؤمنا وصاحب مروءة ، وقد جمع الخطيب البغدادي شهادة أهل عصره فيه ونورد بعضها لنرى إلى أي حد كان ابن المبارك نجما ساطعا في خلافة الرشيد، ويزيد من أهميته أن عصره كان يموج بالعلماء وكان يعيش أزهى أيام الخلافة العباسية ،ومع كثرة النجوم فقد كان ابن المبارك هو البدر المنير بينهم ، وقد مدحه عمار بن الحسن فقال فيه هذا المعنى :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة .....
فقد سار منها نورها وجمالها
وإذا ذكر الأخيار في كل بلدة ....
فهم أنجم فيها وأنت هلالها
ويقول عنه ابن الجوزي" كان من أئمة المسلمين الموصوفين بالحفظ والفقه والعزيمة والزهد والكرم والشجاعة ، وله التصانيف الحسان والشعر المتضمن للزهد والحكمة وكان من أهل الغزو والمرابطة" . وابن الجوزي يلخص في القرن السادس الهجري ما قيل عن ابن المبارك في القرن الثالث الهجري .
أما الخطيب البغدادي فيقول عنه في القرن الخامس الهجري " كان من المتقدمين الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد " .
أما العلماء الذين عاصروه فقد أشادوا به أكثر وأكثر .. وعن تنوع معارفه العلمية قال عنه عبد الله العجلي " عبد الله بن المبارك خراساني ثقة ورجل صالح ، وكان يقول الشعر ، وكان جامعا في العلم " . وقال عنه العباس بن مصعب "جمع عبد الله بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس ــ أي التاريخ ــ والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق " . أي وصف علمه وشخصيته وحب جميع الفرق له ، أي أنهم افترقوا واختلفوا في الآراء ولكن اتفقوا علي الإشادة بابن المبارك .
ذيوع شهرته
نبغ ابن المبارك في موطنه خراسان إلا أن شهرته تعدت خراسان وغزت بغداد فتحدث علماؤها عنه ، وأثنوا عليه قبل أن يشاهدوه ، ومن الطريف أن ذلك كان يحدث أمامه وهم لا يعرفون أنه ابن المبارك . ويروي ابن سنان أن ابن المبارك أتي حماد بن زيد فنظر إليه ابن زيد وتحدث معه فأعجبه منطقه فقال له : من أين أنت ؟ قال من خراسان ، قال : من أي خراسان ؟ قال : من مرو ، قال : تعرف رجلا يقال له عبد الله بن المبارك ؟ قال : نعم ، قال : ما فعل ؟ قال : هو الذي تخاطب ، فسلم عليه ورحب به وتصادقا .
والأوزاعي عالم الشام الأشهر سأل بعضهم قائلا : أرأيت ابن المبارك ؟ فقال : لا ، قال له : لو رأيته لقرت عينك .. وسأل شعبة رجلا آخر فقال : أعرفت ابن المبارك ؟ فقال له الرجل : نعم فقال شعبة للرجل : ما قدم علينا من ناحيتكم مثله .. وذلك يعني أن ابن المبارك قد سبقه علمه ونبوغه إلي العراق قبل أن يأتي العراق .
ثم جاء للعراق أستاذا معلما سنة 141 تسبقه شهرته فالتف حوله الناس التفافا عظيما، وذلك ما نفهمه مما يرويه شعيب بن شعبة المعيصي يقول " قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة فانصرف الناس إلي عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال وارتفعت غبرة التراب من كثرة ازدحام الناس حوله ، فأشرفت زوجة للرشيد من برج قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان .."
ولو صدقنا هذه الرواية فإن مكانة بن المبارك فاقت مكانة هارون الرشيد ، وحاز دونه حب الناس وإعجابهم وتهافتهم عليه .. وكان الرشيد يحس بمنزلة ابن المبارك وقد قال الرشيد حين بلغتة وفاة ابن المبارك " مات سيد العلماء " ، لذا لا نعجب حين يقول أبو إسحاق الفزاري تلميذ ابن المبارك " ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين " ولعله يقصد المسلمين في عصره ، وكان أسود بن سالم يقول "كان ابن المبارك إماما يقتدي به وإذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه في إسلامه " ..
ولقد أنجبت خراسان علماء آخرين معاصرين لابن المبارك وإن كانوا دونه شهرة ولكن شهرة ابن المبارك جعلتهم يقفون إلى جانبه تحت الأضواء ، فيقول الفراء عالم اللغة والنحو " ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة ، ابن المبارك والنضر بن شميل ويحيي بن يحيي .. "
بينه وبين معاصريه
وشهرة بن المبارك كانت تستدعي عقد المقارنات بينه وبين غيره من علماء العصر الذي احتشد بكثير من النجوم الزاهرة في دنيا العلم والفكر . فكان ابن المهدي يقول " الأئمة أربعة ، سفيان الثوري ومالك بن أنس وحماد بن زيد وابن المبارك " . ويقول ابن المهدي " ما رأيت رجلا أعلم بالحديث من سفيان الثوري ولا أحسن عقلا من مالك ولا أقشف من شعبة ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك .." وكانت لبعضهم نظرات أخرى ، فيقول إبراهيم بن شماس " رأيت أفقه الناس وأودع الناس وأحفظ الناس ، فأما أفقه الناس فابن المبارك وأما أروع الناس فالفضيل بن العياض وأما أحفظ الناس فوكيع بن الجراح وتلك المقارنة تشمل العلم والعبادة والورع .
وغزت شهرة ابن المبارك العراق حيث كان أهل العراق يلتفون حول سفيان الثوري أشهر أهل عصره بالورع وكان من الطبيعي أن يلتفت بعضهم إلي عقد المقارنات بين ابن المبارك وسفيان الثوري وقد قيل لعبد الرحمن بن مهدي أيهم أفضل عندك ابن المبارك أو سفيان الثوري ؟ فقال : ابن المبارك فقيل له إن الناس يخالفونك فقال إن الناس لم يجربوا مثلي ما رأيت مثل ابن المبارك .
وعبد الرحمن بن مهدي من تلاميذ ابن المبارك مثله في ذلك ابن معين عالم الحديث المشهور الذي يقول عن أستاذه ابن المبارك " ابن المبارك أعلم من سفيان الثوري " . وقد اجتمع علماء الحديث في بيت عبد الرحمن بن مهدي وقالو له جالست سفيان الثوري وسمعت منه وسمعت من عبد الله بن المبارك فأيهما أرجح ؟ فقال ابن مهدي : ما تقولون ؟ لو أن سفيان جهد جهده علي أن يكون يوما مثل عبد الله بن المبارك لم يقدر .
وقد رووا أن سفيان الثوري قال نفس المعني فيما يرويه شعيب بن حرب عنه قال :" قال سفيان إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام ." . ويروي عمران بن موسي الطرسوس أن رجلا جاء سفيان الثوري يستفتيه فقال له سفيان من أين أنت ؟ فقال من أهل المشرق ، فقال له سفيان : أو ليس عندكم أعلم أهل المشرق عبد الله بن المبارك ؟ فقال الرجل : وهل هو أعلم أهل المشرق ؟ فقال له سفيان : نعم وأهل المغرب أيضا .
وروي بعضهم أنهم كانوا في مكة حول ابن المبارك فقالوا : حدثنا يا عالم المشرق ، وكان سفيان إلي جانبهم فقال : ويحكم هو عالم أهل المشرق والمغرب . وتلك تزكية ( سنية ) كبري من سفيان الذي كان أحد أساتذة ابن المبارك .
ولنا أن نتحفظ علي بعض تلك الأقاويل التي يروونها في تفضيل ابن المبارك . ونري أن تلك المبالغة ترجع إلي عاملين : الأول كون ابن المبارك مشهورا في رواية الحديث ، وأخذ عنه كثيرون رووا عنه الأحاديث التى يقولها وينسبها للنبى محمد عليه السلام ، ولقد استحوذ على تصديق الناس له فيما يرويه زاعما أنه سمعه من فلان عن فلان . وأولئك الرواة الناقلين لحديث ابم المبارك وكانوا تلامذة مخلصين له تفننوا فى الاشادة به ومدحه وتزكيته ليؤكدوا أنه عدل مصدق ، لذا نلاحظ ميل تلك الروايات لرفعه فوق أقرانه وتفضيله عليهم ، بل تجعلهم يعترفون بأفضليته عليهم ، حتى لو كانوا أساتذة له .
والسبب الثاني هو كرم بن المبارك الزائد مع علماء عصره ومروءته وأخلاقه الرفيعة وإنفاقه علي العلماء من كسب تجارته مما جعل الجميع يلهجون بمدحه والثناء عليه خصوصا وأن تلك المروءة كانت طبيعة أصيلة في ابن المبارك ، كما يبدو من ثنايا تاريخه ولم تكن مصانعة لأحد أو شراء لذمم الرواة .
مؤلفــاتـــــه
لقد كان ابن المبارك في عصره إماما لعلماء الحديث فى عصره بلا منازع ، وكانوا يتنازعون فيلجأون إليه يقول فضالة النوسي " كنت أجالس أصحاب الحديث بالكوفة وكانوا إذا تشاجروا في حديث قالوا : مروا بنا إلي هذا الطيب حتي نسأله ، يعنون عبد الله بن المبارك . وكان يحيي بن معين خليفة ابن المبارك في علم الحديث وقد اعترف بذلك علي بن المديني وهو القائل " انتهي العلم إلي رجلين إلي عبد الله بن المبارك ثم بعده إلي يحيي بن معين ".
ومع وجوده فى وقت مبكر سادت فيه الرواية الشفهية ولم يكن التدوين فاشيا فإن ابن المبارك كان سابقا فى التدوين ، وفى جمع ما أمكن تدوينه ، وصارت كتبه ومكتبته مرجعا لتلامذته القارئين ، فكان العلامة يحيي بن آدم يقول " كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك ايست منه .
أى لم يقتصر ابن المبارك علي حفظه وتلامذته بل كانت له كتبه ، فقال عنه ابن معين كان عبد الله بن المبارك رحمه الله كيسا مستثبتا ثقة وكان عالما بصحيح الحديث وكانت كتبه التي حدث بها تحوي عشرين ألفا " . وهكذا فرض ابن المبارك شخصيته علي أهل الحديث بلسانه وقلمه وآثار إعجابهم أكثر بمروءته وكرمه .
مروءة ابن المبارك
والمروءة وصف عام كان يقصد به حسن الخلق وكرم السجايا ورفعة السلوك الشخصي .
وذلك ما كان واضحا في سيرة ابن المبارك مما جعل الجميع يختلفون في كل شيء إلا في حبه والإقرار بفضله ، حتي لقد قال إسماعيل بن عباس " ما علي وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك و لا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلي مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو لا يطعم " وتلك العبارة تؤكد باختصار علي إعجاب عصره به إذ كان لهم كهفا يحتمون به من الفقر فيجدون لديه السخاء وحسن الخلق وجميل الصحبة فلا يسعهم إلا الإشادة به .
وكان سخاؤه بالمال مقترنا بأدب رفيع وتواضع جم مع أولئك الذين يعيشون من فضل ماله ويروي عمر بن حفص الصوفي أن ابن المبارك خرج من بغداد مسافرا إلي المصيصة حيث تعود الجهاد وقتال الروم في آسيا الصغري ، فصحبه جمع يطمعون في كرمه فقال لهم : حتي لا تحتشمون مني علي كل واحد منهم يضع تحت الطست ما معه من مال ، ثم ينفق جميعا من ذلك المال فأخذ كل واحد منكم أن يضع تحت الطست الدرهم والعشرة دراهم فجمع الدراهم وظل ينفق عليهم عن سعة طيلة السفر إلى أن بلغوا المصيصة ثم فرق عليهم الباقي فأعطي كل واحد منهم عشرين دينارا يزعم أن ذلك ما تبقي ، وكانت تلك حيلة ذكية للإنفاق عليهم وإعطائهم الأموال .
وكانت تلك طريقته إذا ذهب إلي الحج ، فيقول ابن شفيق إنه كان إذا أراد الحج اجتمع عليه إخوانه من أهل مرو فيقولون : نصحبك يا أبا عبد الرحمن فيقول لهم : هاتوا ما معكم فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق مقفول ثم ينفق عليهم أحسن النفقة ويخرجون معه في أحسن زى وأحسن مركوب فإذا صاروا إلي مكة ثم إلي المدينة اشتري لهم ما يريدون من الهدايا ويعود بهم بنفس عادته في الإنفاق عليهم عن سعة فإذا وصل إلي مرو عائدا بهم إلي بيوتهم أمر بطلاء بيوتهم وتجصيصها ثم يصنع لهم وليمة بعد ثلاثة أيام ويكسوهم وأخيرا يفتح الصندوق ويدفع إلي كل رجل منهم المال الذي دفعه من قبل ويكون قد كتب اسمه عليه ، وقد أخبر خادمه أنه أنفق في آخر وليمة أقامها لرفاقه بما يساوي تكلفة خمسا وعشرين مائدة من أطيب الطعام وأنه كان ينفق علي الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .
وكان يقضي ديون أصحابه ومن يقصده من المحتاجين . وحدث أن جاءه رجل فسأله أن يقضي عنه دينا قدره سبعمائة درهم فكتب ابن المبارك لوكيله أن يقضي عنه سبعة آلاف درهم فنبهه وكيله إلي الغلطة التي كتبها وقال له : إن الغلات قد فنيت فقال له ابن المبارك إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر يفني فأجز له ما سبق به قلمي.
وقد عاتبه أهل بلده في تفريق أمواله علي العلماء في الأمصار دونهم ، فقال لهم : إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق ، طلبوا العلم فأحسنوا الطلب والناس يحتاجون إلي علمهم وما لديهم وقت لطلب المعاش فإن تركناهم ضاعوا وإن ساعدناهم نشروا العلم لأمة محمد صلي الله عليه وسلم ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
وإلي هذه الدرجة كان إخلاص ابن المبارك لدينه السّنى وإحساسه بإخوانه وكراهيته أن يتميز عليهم بالمتعة الحلال من ماله الحلال .
ولم يكن ذلك شعوره نحو إخوانه فقط بل كان يحس نفس المشاعر نحو الفقراء والسائلين ، وقد روي الحسين بن الحسن أنهم كانوا جلوسا عند ابن المبارك فجاء سائل وسأله شيئا فقال ابن المبارك يا غلام ناوله درهما فلما ولي السائل قال له بعض أصحابه يا أبا عبد الرحمن هؤلاء الشحاذون يتغدون بالشواء والحلوى وكان يكفيه قطعة فلماذا أمرت له بدرهم كامل فقال ابن المبارك : يا غلام رده فإذا كانوا يأكلون بالشواء والحلوى فلابد من عشرة دراهم ليقدروا علي تكلفتها يا غلام أعطه عشرة دراهم أي أنه لم يستكثر علي المتسولين أن يأكلوا أطيب الطعام وأعانهم علي ذلك .
وفي إحدى رحلاته إلي الحج صادف مأساة أثقلت مشاعره النبيلة ، كان كالعادة يحج بأصحابه ومعه الأحمال والصناديق والخدم وبينما هم في الطريق نزلوا بأثقالهم في مكان ، وحدث أن ماتت بعض الدجاجات فألقاها الخادم علي تل زبالة ، وتحرك الركب ونظر ابن المبارك فوجد فتاة صغيرة تتسلل إلي الزبالة وتختلس الدجاجات الميتة وتعدو بها إلي منزل قريب ، فأمر ابن المبارك خادمه بأن يقرع باب البيت ، فخرجت الفتاة وعرف منها ابن المبارك أنها تعيش مع أخت لها وحدهما ليس لهما إلا رداء واحدا بعد موت أبيهما الذي كان تاجرا موسرا ولكن أخذ أمواله بعض الظلمة ، وعاشت الفتاتان تأكلان الميتة وما يتساقط من القوافل وليس في الدار إلا ذلك الرداء الواحد تلبسه إحداهما وتتغطيان به عند النوم . وسرعان ما جاء ابن المبارك بالنفقة التي معه فأعطاها للفتاتين واستبقي منها ما يلزمه للعودة إلي مرو ، ورجع بلا حج ذلك العام .
التاجــر والمجاهــــد
والغريب أن يجد ذلك العالم الفقيه الوقت ليكون تاجرا ومجاهدا غازيا للروم .. وقد كان لابن المبارك مفهوم ايجابي للزهد يخالف به الفضيل بن عياض الذي تأثر مثل أكثرية الزهاد بالرهبانية ، لذلك كان يعيب الفضيل علي ابن المبارك عمله بالتجارة وقال له : أنت تأمرنا بالزهد والتقلل ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلي البلد الحرام . كيف ذا؟ فقال ابن المبارك : يا أبا علي إنما أفعل ذلك لأصون به وجهي وأكرم به عرضي واستعين به علي طاعة ربي ، لا أري لله حقا إلا سارعت إليه حتي أقوم به ، فقال له الفضيل : يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا ..
وكان ابن المبارك يقول : لا أري لصاحب عشرة آلاف درهم أن يدع الكسب فإنه إن لم يفعل لم آمن أن لا يعطف علي جاره ولا يوسع علي عياله ..!
وكان رأسمال ابن المبارك التجاري نحو أربعمائة ألف يتاجر بها بين البلاد ، وكان مكسبه مائة ألف ينفقها علي أهل العلم والعبادة والزهد . وربما أنفق ماله كله ، ثم يبارك الله تعالي فيه ويعود مكسبه أضعافا فيستعيد رأس ماله . ومع ذلك كان يصوم حتي في السفر ويتقلل في الطعام فأعطي معني حقيقيا للزاهد الذي يزهد عن غني لا عن فقر واحتياج وسلبية واعتزال وتواكل .
وتكتمل لنا ملامح شخصيته بالحديث عن جهاده وقتاله للروم ، إذ كان دائما يسافر للثغور ، وهي الأرض المتاخمة للحدود الحربية بين الدولة العباسية والروم في آسيا الصغري . ونظرا لكثرة وجوده في تلك المناطق كانت له مدرسة من طلبة العلم في المصيصة وطرسوس والرقة .
وقد ذكر الخطيب البغدادي قصة طويلة عن فتي من تلامذته في طرسوس كان قد دخل الحبس في دين عليه ، وكان ابن المبارك قد تعجل وتطوع في الجيش الذي تأهب للمسير للغزو ، وبعد أن عاد من الغزوة سأل عن الشاب وسبب اختفائه فعرف أنه محبوس بسبب ما عليه من ديون ، فلم يزل يستقصي عن صاحب الدين حتي عرفه وأعطاه الدين وقدره عشرة آلاف درهم وحلفه ألا يخبر أحدا مادام ابن المبارك حيا . وأمره بأن يخرج الفتي من السجن ، ثم سارع ابن المبارك بمغادرة المدينة ، وخرج الفتي ولحق الفتي بابن المبارك ليراه ويسلم عليه ، حكي لأستاذه القصة وقال : جاء رجل فقضي ديني ولم أعلم به ، فقال له ابن المبارك : يافتي احمد الله علي ما وفق لك من قضاء دينك .. ولم يعرف الفتي بحقيقة الأمر إلا بعد وفاة ابن المبارك .
وكما كان ابن المبارك يخفي الصدقة ، كما كان أيضا لا يميل للتفاخر بشجاعته في ميدان الحرب مع الروم ، وقد كان أحد المتطوعين في الجيش ولم يكن محترفا أو مرتزقا ، وقد روي ابن سليمان المروزي أنه كان في سرية حربية مع ابن المبارك في بلاد الروم ، وحدث الاصطدام بالعدو ، وخرج رومي داعيا المبارزة ، فخرج إليه رجل مسلم فقتله الرومي ، ثم خرج إليه رجل آخر فقتله ، ثم آخر فقتله ، ثم خرج رجل ملثم بين المسلمين فبارز الرومي فقتله ، فكبر المسلمون.. وازدحموا حول البطل المسلم فأخفي عنهم وجهه وكشف سليمان طرف كمه فوجده ابن المبارك ، فقال له : وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا ..!!
أخيرا
ابن المبارك شخصية عظيمة على المستوى الانسانى برغم اختلافنا العقيدى معه ، وجانب من عظمته يكمن فى عصاميته فهو الذى صنع نفسه بنفسه عالما و إماما وتاجرا و مقاتلا فى حروب كانوا يجعلونها جهادا ضد (دار الحرب ).
وجانب من عصاميته العظيمة تعكس عظمة لحضارة المسلمين فى العصر العباسى يجب الاشادة بها . ففى العصر الأموى كان التعصب ضد الموالى وغير العرب ، وقابل الموالى هذا التعصب ضدهم بالتفوق فى العلم الذى كان يعنى رواية أو اختراع الحديث .
تغير الحال فى العصر العباسى فقد أرسى تكافؤ الفرص للجميع من عرب وعجم ، واعترف العصر لكل نابغة بالتقدير والاحترام بسبب نبوغه وليس بنسبه أو عرقه . وفى بيئة صحية مثل هذه يكون الطريق ميسورا للوصول للشهرة أمام العصاميين والموهوبين .
وهذا ما تفوق به العصر العباسى على عصر حسنى مبارك ، فلو عاش عبدالله بن المبارك فى مصر فى عصر حسنى مبارك لانتهى الى السجن أو النفى أو الانتحار .
كان ابن المبارك (118ـ 181هـ) أكثر علماء عصره شهرة ، لم تقتصر شهرته علي مجتمع العلماء بل امتدت إلي جموع الشعب المسلم بين خراسان والعراق والحجاز ومصر. ولم تقف شهرته علي نبوغه في العلم بالحديث والسنن وإنما امتدت إلي تفرده بالكرم والمروءة ورعاية المحتاجين من العلماء، ثم اشتهر مع ذلك بإسهامه بالغزوات وجهاد الروم بالسلاح والنفس والمال ، حسب مفهوم الجهاد وقتئذ..وقد اعترف له العلماء في خلافة الرشيد بالفضل والسبق في ميدان العلم والأخلاق الحميدة وتوالت أقوالهم تشهد له بذلك، ومع أنهم أسهبوا في مدحه فإننا لا نجد من أقام له مذهبا علميا حمل اسمه بعد وفاته ، مع أن له تلامذة مشهورين بين علماء الحديث والفقه . ـ هو عبد الله بن المبارك ، أبو عبد الرحمن المروزي ، نسبة إلي مدينة مرو.كان أبوه تركيا من همدان وكانت أمه خوارزمية ، واكتسب ولاء عربيا لقبيلة حنظلة حسبما كان متبعا في ذلك الوقت من غير العرب بالانتماء بالولاء لإحدى القبائل العربية لاكتساب الشهرة.. وقد أدرك أبواه شهرته العلمية ، وكان إذا قدم ابن المبارك إلي همدان زارهما وعظمهما .ويبدو من سيرته أنه كان عصاميا ، لم يرث ثروة عن أبيه الذي كان فقيرا أو كان مولى لبعض التجار كما يروي ابن الجوزي في المنتظم ، ومعني ذلك أن عبد الله ابن المبارك بدأ من الصغر فأسس نفسه بنفسه في ميدان العلم وميدان التجارة وجمع بينهما ففتح الله تعالي عليه أبواب العلم وأبواب الرزق معا ، وحين اشتهر بالعلم وسعة المال فإنه كان يوزع هذا وذاك بسخاء شديد علي كل من يريد. وساعدته التجارة علي التقلب بين الأمصار فسمع العلماء في كل بلد وأخذ عنهم ، وقد سمع العلم عن هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان الأعمش وسليمان التيمي وحميد الطويل وعبد الله بن عون ويحيي بن سعيد الأنصاري وموسي بن عقبة وسعيد الجريري ومعمر بن راشد وبن جريج وابن أبي ذئب ومالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة والأوزاعي والليث بن سعد ويونس بن يزيد وإبراهيم بن سعد وزهير بن معاوية وأبي عوانة .
ابن المبارك شخصية عظيمة على المستوى الانسانى برغم اختلافنا العقيدى معه ، وجانب من عظمته يكمن فى عصاميته فهو الذى صنع نفسه بنفسه عالما و إماما وتاجرا و مقاتلا فى حروب كانوا يجعلونها جهادا ضد (دار الحرب ).وجانب من عصاميته العظيمة تعكس عظمة لحضارة المسلمين فى العصر العباسى يجب الاشادة بها . ففى العصر الأموى كان التعصب ضد الموالى وغير العرب ، وقابل الموالى هذا التعصب ضدهم بالتفوق فى العلم الذى كان يعنى رواية أو اختراع الحديث .تغير الحال فى العصر العباسى فقد أرسى تكافؤ الفرص للجميع من عرب وعجم ، واعترف العصر لكل نابغة بالتقدير والاحترام بسبب نبوغه وليس بنسبه أو عرقه . وفى بيئة صحية مثل هذه يكون الطريق ميسورا للوصول للشهرة أمام العصاميين والموهوبين . ماذا لو استخدم ابن الميارك العقل وليس النقل ..لأسهم في نقلة نوعية للعقل المسلم بدل أن أصبح مرجع للدين السني !!
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5130 |
اجمالي القراءات | : | 57,291,331 |
تعليقات له | : | 5,458 |
تعليقات عليه | : | 14,839 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
أسئلة عن : ( بوتين سيقتل بشار ، سوريا وثقافة الاستبداد والاستعباد )
الغزالى حُجّة الشيطان ( الكتاب كاملا )
خاتمة كتاب ( الغزالى حُجّة الشيطان فى كتابه إحياء علوم الدين )
دعوة للتبرع
امهات المؤمنين : امهات المؤم نين هل هن امهات لنا أيضا أم...
وهذا ما نفعله : هل القرا ءة فى كتب الساب قين مثل التور اه ...
تأييد ودعم: انا محامي مصري اعرف جيدا مصر المصر يين لقد...
سيدا وحصورا: ( فَنَا دَتْه ُ الْمَ لَائِ كَةُ وَهُو َ ...
فاطر 37 : في اية 37 من سورة فاطر سيقول الكفا ر أهل النار (...
more
هذا المقال حدد فيه الدكتور صبحي ما دفعه إلى كتابته ، مع تحفظه فيما نبغ فيه عبدالله بن المبارك ، وهذا يدل على نزاهة المؤرخ الذي يتعامل بحيادية مع من يختلف معه، ذاكرا لنا كل ما يمتاز به وما يقوله عنه معاصريه وتلامذته، وما اشتهر عنه من تصدق وكرم وفضل اضف غلى ذلك ما كان يقوم به من جهاد ــ في نظر عصره طبعا مع اعتراضنا على كون الجهاد هو بدء بالهجوم من دفاع عن النفس برده له بالطبع ـــــــــــ وقد جاء في المقال :" ، وقد اعترف له العلماء في خلافة الرشيد بالفضل والسبق في ميدان العلم والأخلاق الحميدة وتوالت أقوالهم تشهد له بذلك، ومع أنهم أسهبوا في مدحه فإننا لا نجد من أقام له مذهبا علميا حمل اسمه بعد وفاته ، مع أن له تلامذة مشهورين بين علماء الحديث والفقه " انتهى والسؤال : لماذا لم يقيم له تلامذته مذهبا ؟