القطيعة المعرفية وعمى الزمن
أنتج الخطاب الإسلاموي المعاصر جملة من الإشكاليات على رأسها إشكالية الخطاب السياسي التعبوي، سواء كان بشكله الشمولي العقدي (التوتاليتاري الدوغمائي) أو بشكله الإرعابي العنيف، وإذا كان لهذا الخطاب دوافعه الكامنة في الواقع والتي يقصر مفكرو التنوير بشدة عن تحليله وتناوله لقصرهم إياه على بنية الفكر التقليدي السلفي ولعل في كتاب شحرور "تجفي&YacuYacute;يف منابع الإرهاب" أوضح الأمثلة حيث يكتفي في الكتاب بتناول المفاهيم التراثية لمصطلحات مؤسسة للفكر العنيف تحت عناوين كالجهاد والقتال…الخ
هكذا اعتور الكتاب برأينا خلل قلب الهرم رأساً على عقب، لأن منابع الإرهاب التي يتكلم عنها الدكتور شحرور في واقع الأمر ليست هي منابعه، حتى وإن كانت فكراً يستقي منه الإرهاب الديني المعاصر خطابه، فإن المنابع الحقيقية مكمنها الواقع الذي يقدر هاهنا على إجابتنا عن سؤال: لو صح أن هذه هي منابع الإرهاب يا دكتور شحرور فلماذا لم تكن تفعل في الأربعينيات والخمسينات من القرن المنصرم مثلاً؟ وما الذي حصل على تتحول إلى معين تغتسل فيه الثقافة العامة ويتكون منه المزاج الشعبي العام؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في تحولات الواقع نفسه، فمنابع الإرهاب الحقيقية أتت فعلاً من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت منذ الستينات، وبلغت ذروتها في التحول الكبير الذي أحدثته المصالح السياسية التي حركت السادات والملك فيصل والولايات المتحدة، لتنشيط ودعم الخطاب الإسلاموي العنيف ونشره لأغراض محض سياسية على رأسها التصدي لليسار والقوميين والمد السوفيتي في قلب أسيا، طرحنا ذلك يوماً ما على الدكتور شحرور وقبل منا اقتراحاً بإعادة كتابة كتابه "تجفيف منابع الإرهاب" وإضافة فصلين له عبر طبعة مزيدة ومنقحة، نتناول فيهما المنابع الحقيقية للإرهاب كما حدثت في الواقع، لأن الإرهاب الديني كان نتيجة قبل أن يتحول سبباً بدوره*.
إذا كان للخطاب الإسلاموي السلفوي كذلك بنية مفاهيم خاصة، بنية مستوحاة من تراثنا وعلى وجه أكثر خصوصاً مدرسة معينة في هذا التراث، فهذا برأينا يدفعنا للتذكير بمشروعية إحياء التراث المسكوت عنه أيضاً، تراث العقلانية العربية، مع التأكيد أن هذا الإحياء المنشود ليس قائماً بمثابة استحضار الضد الحضاري للخطاب الإسلاموي المعاصر، لأننا إن استلهمناه على هذا النحو نقع في نفس الخطأ الذي سبقنا إليه الخطاب الإسلاموي المعاصر، ونضحي نوع آخر من السلفوية المضادة، وبالتالي يكون هذا الاستحضار شكل من أشكال رد الفعل لا الفعل. **
إن مشروعية الاستحضار والإبراز الذي نطمح إليه لذلك التراث العقلاني المسكوت عنه يهدف بكل وضوح إلى هدفين: أولهما تتبع تاريخ العقلانية العربية، وثانيهما الرد من داخل التراث نفسه على الاستفراد والإقصاء الذي مارسه ويمارسه الخطاب المهيمن، فالإسلاموية المعاصرة تحاول أن ترسم ملامح التاريخ الفقهي والمذهبي في المخيال العام كما لو كان واحداً واتفاقياً، ومقتصراً على المدرسة التي يستند إليها هذا الخطاب حصراً، ولذا لا بد من تصحيح معالم هذا الخطأ، وإعادة الاعتبار لتاريخ الاختلاف، وتصحيح نتائج الجريمة التي ارتكبها أنصار مدرسة الحديث عندما قضوا على كل مختلف معهم.
تتبع مشروع العقلانية العربية المسلمة منذ فجر المحمدية مروراً بأهم الحلقات "المعتزلة"، واكتشاف أبعاد العلاقة العضوية العقلانية بين خطابات معاصرة على رأسها خطاب الإمام الأكبر محمد عبده، ومحمد أركون، والجابري، وشحرور، وتاريخ هذه العقلانية، ليس هدفه التبتل في محراب الذات الثقافية، بل الكشف عن تاريخ فعالية العقلانية وقانونها الجدلي الخاص بها.
هذا المشروع على ضخامته وطموحه، جزء لا يتجزأ من مجموع الجهود التي يقدمها باحثون معاصرون من عينة السادة الذين ذكروا، ولا يعنينا أين توضع إضافتنا في الذيل أم في الصدر، بقدر ما تعنينا قضية الحراك نفسها، قضية تيار العقلانية العربية المسلمة، وهي تولد من جديد وتتحرك، إن هذا الجهد الموضوعي لو أردت أن أأصل له، لقلت هو انجاز للقطيعة المعرفية (الابستمولوجية) مع السلف، وليست القطيعة هنا بمعنى التنكر للهوية والأنا الثقافية، بل بالعكس هي البرهان على جدلية العقلانية العربية المسلمة، أو بأقل مستوى من الطموح، إمكانية هذه الجدلية.
هي إذن محض قطيعة معرفية (ابستمية)، بمعنى أنها قطيعة في مستوى المنهج، وهنا جوهر المسألة.
استئنافاً لنظر جديد، نريد أن نعيد تأصيل قضيتنا المعرفية على أسس منهجية معاصرة، وهذا جوهر القطيعة المعرفية كما نعيه ونفهمه، والانتقال من مستوى التوظيف التقليدي لمناهج قديمة، إلى مستوى عصرنة الخطاب بل قل عصرنة منهج فهم الخطاب المدون في المصحف على وجه الدقة والتحديد.
إن تحرير الدراسات الإلهية (التيولوجية) ليس فقط مشروعاً لنقد التراث العقلانية في فهم الخطاب الديني، بل في حقيقته مشروع لإعادة وعي وفهم ديانة التوحيد في مستوياتها الخطابية الثلاث اليهودية والمسيحية والمحمدية، أي أنه مشروع معرفي إنساني (انثروبولوجي) متكامل، ولعل مشروع هيغل في حينه شكل حاضن فلسفي مثالي حاول أن يقدم في مستوى العقلانية المسيحية على الأقل، البديل الفلسفي لفهم الفكرة المطلقة، بغض النظر عن موقفنا من المثالية في حد ذاته كإعادة إنتاج لوعي الواقع يقدم المثال على المادة ويكرس الجدل في الفكر ويجعله محرك موضوعي، فإن ما يعنينا هنا أن هيغل في حد ذاته مشروع لإعادة فهم المطلق، لقد كان يحاول إنقاذ الإيمان.
فمن ماذا ينقذه؟
لسنا هنا في وارد الدفاع عن اللاهوت، كما لم يكن هيغل كذلك، فالله لا يحتاج لمن يدافع عنه (على حد تعبير الدكتور شحرور)، إنما مفصلية القضية تدور على رحى جدلية المعرفة، نظرية العلم والمعرفة، والتي هي كائن حي جدلي ينمو باستمرار، وهنا نكون أمام نموذج متناقض يحمل في أحشائه، توتر خاص، ناجم عن التعارض بين طبيعة الخطاب الديني -أي خطاب ديني - وطبيعة المعرفة الإنسانية كبنية، الأولى طبيعة تميل إلى الثبات وإلى المضمون المطلق للفكرة، والثانية تميل إلى التغيير الدائم وتجاوز نفسها بدون توقف وقابليتها للقياس، وجوهر الإشكالية يكمن هنا، أي بكل تركيز السؤال: هل المشكلة مشكلة خطاب ديني يفهم ويشرح أم مشكلة الدين بوصفه فكرة مطلقة؟
نحن لا نملك أن ندين المعرفة، فنحن أصلاً لا نملك سواها، ومن الجحود أن نتنكر لها في مستوى إبداعها وإنتاجها، وما تقدمه للإنسان، بل أكثر من ذلك، بكل الوضوح المبدئي نقول لا يملك الإنسان التعويل إلا عليها والثقة بها، يبقى إذن أن المشكلة لا بد، مشكلة الخطاب الديني أو مشكلة الفكرة المطلقة التي هي موضوع له، وهنا يتحدد اتجاهين في التعامل مع هذه القضية، أما الأول فهو الاتجاه الذي يسوي بين الفكرة المطلقة والخطاب الذي يتبناها ويحاول أن يعبر عنها، وبالتالي ستقوده التسوية حتماً هنا إلى التقرير بأن الفكرة المطلقة ذاتها متجاوزة بحكم تطور السوية المعرفية الإنسانية، وأما الاتجاه الثاني وهو الذي نصنف أنفسنا ضمنه، فهو الذي يفصل ما بين الفكرة المطلقة وفهم هذه الفكرة المطلقة، ما بين الله وكيف فهم الله، ما بين خطاب الله وبين شرح أو فهم خطاب الله، وهنا نقول بالقطيعة المعرفية في المستوى المنهجي، إنها ليست قطيعة مع خطاب الله أو الله بل هي قطيعة مع مناهج فهمه وشرحه التقليدية، مع جذور هذا الفهم والشرح، إنها الجذور المنهجية المؤسسة التي يقوم عليها الخطاب التراثي التقليدي، ولصوصه المعاصرون من أرباب الخطاب الإسلاموي التعبوي في كل مستوياته.
إذن نحن لا نميز ونفصل فقط بين المطلق وفهم المطلق، بين الخطاب وشرح الخطاب، بين المنهج والموضوع، بل نميز كذلك بين المنهجية والخطاب الناتج عنها في بيئتها (الزمانية المكانية) وبين استلهامها وتوظيفها المعاصر في بيئة أخرى مختلفة، أي أننا نميز كذلك، بين الخطاب الإسلامي القروسطي (نسبة للقرون الوسطى أول من وظفها الدكتور الطيب تيزيني) وبين موظفيه المعاصرين في مستويات مختلفة ولأهداف مختلفة، نعني أننا نميز بين الخطاب الإسلامي المنهجي القديم وبين الخطاب الإسلاموي التعبوي المعاصر؛ فكما أننا نرى خطأ منهجياً قاتلاً في التسوية بين الخطاب وفهم الخطاب، بين المصحف وفهم المصحف، فإننا كذلك نرى خطأ منهجي أفدح في التسوية بين نفس خطاب في بيئته وخارج بيئته، لأن حضوره ومبررات هذا الحضور ومشروعيته في بيئته شيء وفي بيئة مغايرة لها شيء آخر، لا يعني هذا أن الخطاب أي خطاب منتهٍ بنظرنا في حدود بيئته، فنحن نؤمن بوحدة واستمرارية فعالية التاريخ المعرفي للإنسان، من هنا فالقطيعة المعرفية لا تعني بحال إلغاء التراث، ولكنها تعني أن الخطاب الفاهم والشارح القروسطي هو موضوع للنقد المعرفي وللتجاوز بتطور أدوات هذا النقد المعرفي.
إن هذه النتيجة في مستوى تصورنا للإشكاليات التي ينبغي تفكيكها، تقودنا إلى منطقة جديدة لا بد من إضاءتها، وهي نسبية المعرفة، من هنا تحدثنا ولا زلنا نتحدث عن ظاهرة عمى الزمن، فعندما يسأل أحدهم من يقدم فهماً جديداً مختلفاً للخطاب الإلهي: "هل نفهم أن أحداً قبلك لم يعرف مراد كلام الله؟! أو هل كل الذين سبقوك كانوا على خطأ؟!"
هو في واقع الأمر يمسك بقلمه ليشطب على تاريخ المعرفة بالكامل بجرة قلم، فهو يلغي الحدود، ويجعل شرط الفهم والمعرفة واحد بغض النظر عن فروق المكان والزمان، ناسياً (وهذا عمى الزمن الذي نتكلم عنه) الطبيعة الجدلية المتطورة للمعرفة الإنسانية والبيئة الاجتماعية الاقتصادية لكلا الخطابين والفهمين، بمعنى أخر، أن مقارنة الخطاب الفاهم والشارح لأبو القاسم حاج حمد مثلاً بالخطاب الفاهم والشارح لابن تيمية معناه أننا نلغي ونختزل الفروق المعرفية للبيئة فيما بينهما، إن المقارنة هنا تتطلب أن يكون الفهمين والخطابين تحت سقف معرفي واحد، أي أن يعيش أبو القاسم حاج حمد في زمان ومكان ابن تيمية أو العكس، وينسى أعمى الزمن المعاصر من مقلدي ومقتفي الأثر التقليدي، أننا لو عكسنا الآية فسننتج مهزلة وملهاة هائلة الضخامة، وما أسهل أن نستعرض عضلات العصر المعرفية في وجه ابن تيمية وغيره من معاصريه وسابقيه، فنتساءل مستنكرين مثلاً: ما هذا الغباء كيف لم يفهم هؤلاء حركة الكون والكواكب والنجوم، كيف يقولون أن الله يعني هنا أن الأرض على قرن ثور؟!!!!!!!!!!!!! أو كيف يقولون أن داجن نسخت شيء من آيات المصحف بأن أكلتها؟!!!
بطبيعة الحال إننا لو طرحنا الاستنكار بهذه الطريقة، نكون أيضاً مصابون بعمى الزمن، ولكنه عمى زمن في الاتجاه المقابل، وهو بالمناسبة موجود وبكثرة، وعلة كليهما واحدة وهي إلغاء الفروق المعرفية (الابستمولوجية) بين الخطابين وكأنهما ينتسبان إلى سقف معرفي واحد.
يتبع
*للأسف ذهب المشروع أدراج الرياح كما ذهبت كل المشاريع التي كنا اتفقنا على انجازها مع الدكتور شحرور لأسباب ليس هذا مقام ذكرها على أي حال
**(إننا نستعمل هنا مصطلح الإسلاموي والإسلاموية تماماً على النحو الذي وظفه فيه الأستاذ هاشم صالح مترجم أعمال الدكتور محمد أركون إلى العربية، وكذلك رفضاً للإقرار بإسلامية هذا الخطاب ومداخلة الافتعال الموجه لأغراضه، وسنقف في هذه الدراسة على هذا ضمن تناولنا لإشكالية المصطلح).