التباين الثقافي للمفاهيم- التسامح والمساواة
"كلما أصبحنا أقرب ظهر أيضا خطرُ ميلِ الجنس البشري إلى بناء أسوار حوله؛ ليؤكّد ذاته ويقسّم الشعوب إلى نحن وهم". بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، في اليوم العالمي للتسامح.
في كتابه "الكتاب، الخطاب، الحجاب" يستنكر أدونيس المطالبة بالتسامح بين أبناء الوطن الواحد، كلام أدونيس يأتي في سياق المواطنة والحقوق الدستورية، بمعنى أنه لا مجال للحديث عن تسامح في الوطن الواحد بين أبناء الوط&auوطن الواحد، والأصل أن العقد الاجتماعي يربطهم على أساس قاعدة المواطنة التي تسوي ولا تميز بينهم، والكلام في جملته يأتي في إطار أعم وهو مشكلة تعميم الخطاب المذهبي-الديني وخلطه بالهوية الوطنية، بمعنى عندما تُفقد الخطوط الفاصلة بين الوطن والدين يصبح من المستحيل الكلام عن مساواة بين المواطنين، وتحل محلها فكرة التسامح مع المختلفين، ذلك عندما يصبح الدين وطناً والعكس بالعكس.
التسامح مع الآخر فكرة مقبولة ومطلوبة في حال كان الحديث عن مختلفين في الدين أو المذهب، ولكنها غير مقبولة عند الحديث عن الوطن والوطنية والمواطنة؛ فالأصل أن القانون الدستوري من حيث المبدأ ساوى بين مواطنيه، لهذا ورغم كثرة الشكوى من صرامة العلمانية الفرنسية في التطبيق، فلا شك أنها تظل الصيغة الأرقى في طرح مفهوم العدالة والمساواة على أساس مواطني بين أبناء الشعب الواحد، ولو من ناحية نظرية قانونية وبغض الطرف عن الممارسات المخالفة للقانون على مستوى جزئي هنا وهناك، وتظل المشكلة الرئيسة التي تواجهها فرنسا قلب الفكرة الدستورية المواطنية، هي أنها اليوم تقف في مراجعات شاملة لما كان يبدو من البديهيات منذ استقرت قيم الجمهورية المعاصرة، ولا زال يحضرني الكثير من المناقشات التي خاض غمارها د.محمد أركون على خلفية هذه الإشكالية: هل نبحث عن مساواة أم عن تسامح؟
أركون يقفز إلى موقف نوعي متقدم كثيراً عندما يوحد كل الأديان السماوية في إطار تيولوجي واحد، ويضعه في مقابلة واضحة مع الإقصائية العلمانية الفرنسية –بالمعغنى الحرفي للكلمة العلمانية عندما تتحول إلى موقف إقصائي تشوبه عقائدية النظرة، وليس العلمانية هنا بمعناها المحايد- وكثيراً ما يشكو من زملائه المسيحيين واليهود الذين يتخذون موقفاً رافضاً لشمول الإسلام في تصوراتهم المطالبة بإعادة النظر كلياً بدور الدين في حياة الشعوب، مع أهمية الملاحظة هنا أن موقفهم وموقف أركون كذلك في هذا السياق ليس استحضاراً تراثياً للدين، بل هو عندما يستحضر الإسلام أو المسيحية أو اليهودية يستحضرها بوصفها تراث إنساني، يستحضرها كمبحث من مباحث علم الانتربيولوجي "علم الإنسان"، وأهمية التميز هذا ليست عبثاً، بل في صميم المسألة، لأن الدين عندما يستحضر في الخطاب المقابل للعلمانية بوجهها الصارم؛ إنما يستحضر لرفض الموقف العدائي من الدين، لا بوصفه ديناً كما نفهمه "مجموعة من التعاليم واجبة التطبيق لأنها إلهية" بل بوصفه تراث إنساني لا يجوز أن نقف منه موقفاً عدائياً وكأنه لا ينبغي أن يكون جزء من تكويننا، وبالتالي فإن أركون -وهو هنا جزء من تيار عريض- يطالب باستعادة دراسة الدين بوصفه مبحث من مباحث العلوم الإنسانية، وإنتاج تصالح مع هذا الإرث الإنساني العريض، والاستفادة منه أيضاً سواء في فهم الإنسان أو في جدليته التطورية المعاصرة.
إذن فالموقف اليوم في فرنسا نفسها ليس صداماً فقط بين المسلمين الفرنسيين وعلمانية الدولة الصارمة، بل يتجاوزه إلى إعادة طرح العلاقة نفسها بين الدين كإرث إنساني والمجتمع المدني وثقافته المعاصرة ومؤسساته، فما كان يبدو من البديهيات أصبح محل سؤال من جديد، على أن لا نتوهم أنها عودة للخلف، بل هي تطور جدلي نحو موقف يتجاوز إشكاليات جديدة فيما بعد الحداثة.
نحن نقف على مسافة بعيدة الحقيقة من هذا الحوار الدائر اليوم، فعلينا التميز بين ما يطرح اليوم في أوربا حول التسامح والمساواة، وبين وضعنا الحالي الذي لا زالت تفصله أصلاً مسافة شاسعة عن الدخول الجدي في مفهوم المواطنة كمنتج للعقد الاجتماعي.
هل علينا أن نمر بنفس المراحل التاريخية؟
قطعاً لا، وبعيداً عن مفهوم حرق المراحل فلست من المؤمنين به ولا أنصاره، نقول بخصوصية التكوين الثقافي للتجربة من ناحية وضرورة معاصرتها والإفادة من الآخر من ناحية ثانية، ليس فقط لأن لكل تجربة تاريخية خصوصية تركيب تجعل جدليتها تتحلى بشيء من الاستقلال والتميز النوعي، بل كذلك وهو الأهم أن بإمكاننا أن نستفيد من ما أنجزه الآخرين ونوظفه، بشرط أن يكون توظيف لا يقتل ما هو قائم، أي ليس استبدالاً لأن هذا يتطلب هدم ثقافي كامل، وإحلال ثقافي ناتج عن ديناميكية تاريخية ما لشعوب ذات ثقافات مختلفة التكوين والتجربة، إحلال لا يملك شعب في الأرض إنجازه إلا إن كان بلا جذور، فيظل إذن التوظيف إيجابي إن جاز لنا التعبير.
عمر أبو رصاع
اجمالي القراءات
20667