لباب الخامس : عن علم النحو
الفصل الاول :لمجرد التذكير : مقدمة تاريخية عن نشأة علم النحو
الفصل الثانى : الخليل بن أحمد العبقرى مبتدع علمى النحو و العروض
الفصل الثالث : سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم
الفصل الرابع : الكسائى : تلميذ الخليل ومؤسّس مدرسة الكوفة النحوية
الفصل الأول :
لمجرد التذكير : مقدمة تاريخية عن نشأة علم النحو
أولا :
1 ـ اللسان العربي كان ينطقه العرب بفصاحته وضبطه بالسليقة ، يرفعون الفاعل ويرفعون اسم ( كان ) وأخواتها بدون تعليم أو تعلم ، وينصبون المفعول وخبر ( كان ) واسم ( إن ) وأخواتها دون أن يفقهوا شيئا عن القواعد النحوية التي استقاها علماء النحو فيما بعد . ولسان بهذه الحساسية في الإعراب والضبط من السهل أن يسرع إليه اللحن والفساد في النطق ،بل قد يصل الفساد الى فهم القرآن الكريم نفسه . مثلا يقول جل وعلا :( وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )(3) التوبة )، ( وَرَسُولُهُ ) هنا مرفوعة بالضم ، أى ورسوله برىء من المشركين . لو نطقتها مكسورة بالجرّ فهذا يعنى إنّ الله جل وعلا برىء من رسوله .
2 ـ تعقدت المشكلة بعد الفتوحات العربية ، وإختلاط القبائل العربية ، وتعاملهم مع الأمم المفتوحة ، وشيوع اللحن فى نطق اللسان العربى ، ووصل هذا الى كتابة نُسخ من القرآن الكريم تعكس هذا الاضطراب ، ولا تلتزم بالكتابة القرآنية المختلفة عن الكتابة العربية ، والتى هى أحد أوجه الاعجاز العددى الرقمى الذى ظهرت بدايته حديثا . والنبى محمد عليه السلام هو الذى كتب القرآن بنفسه بمعاونة بعض أصحابه . وكتبنا فى هذا من قبل . هذا الاضطراب الذى جلبته الفتوحات جعلت الخليفة عثمان بن عفان يحرق كل النسخ ، ويُلزم الناس بالنسخة التى كتبها النبى محمد عليه السلام ، وهى التى لا تزال حتى الآن موصوفة بانها بالرسم ( العثمانى ) نسبة لعثمان بن عفان .
ثانيا :
1 ـ كان العرب فى جاهليتهم يقولون الشعر الموزون بالسليقة بالوزن والقافية دون ان يعرفوا ماهية الأوزان وبحورها. وكانوا ينطقون اللسان العربي الفصيح بالسليقة دون أن يعرفوا ما اصطلح علىتعريفه بالاعراب أو النحو.
2 ـ على سبيل المثال يقول عنترة بن شداد يتغزل فى حبيبته عبلة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم.
كان عنترة ينطق الكلمات باعرابها الصحيح بالسليقة دون أن يعرف لماذا جاءت تلك الكلمة مرفوعة بالضم أو منصوبة بالفتح ، وهل هذه الكلمة فعل أم حرف أم إسم .
جاء علماء النحو وقد تخصصوا فى معرفة ضبط أواخر الكلمات فعللوا تغير أواخر كل كلمة حسب موضعها من الجملة ، وأصطنعوا لها مصطلحات جديدة مختلفة ، منها :(النحو والصرف و الاعراب و الفتح والضم والجزم والسكون و المعرب والمبنى و الاسم والفعل والحرف و الفاعل والمفعول والعطف والظرف ..الخ ).
3 ـ عنترة حين نطق بالأبيات السابقة نطقا عربيا صحيحا لم يكن يعرف أن كلمة ( ذكرتك ) كما حللها علماء النحو تحوى ثلاث كلمات هى الفعل (ذكر ) وتاء الفاعل وكاف الخطاب .ولم يعرف عنترة أن اعراب هذه الكلمة هو الاتى : (ذكر ) فعل ماض مبنى على السكون لاتصاله بضمير متكلم . (التاء ) ضمير متصل للمتكلم فاعل مبنى على الضم ، (الكاف ) ضمير متصل للمخاطب مفعول مبنى على الكسر. لم يعرف اعراب الجملة التالية وهى ( والرماح نواهل ) فالواو هنا واو الحال ، (الرماح ) مبتدأ مرفوع بالضمة ، و(نواهل) خبر مرفوع بالضمة أيضا. والجملة من المبتدا والخبر فى محل نصب لأنها (حال ) أى التقدير (حال كون الرماح نواهل ) . ولم يعرف عنترة ان الضمائر تتكون من ضمائر متصلة بالفعل أو بالاسم ـ وضمائر منفصلة ، وأنها قد تكون ضمائر للفاعل أو المفعول أو الملكية ، ولم يعرف الفارق بين الاسم والفعل ، وانواع كل منهما . لم يعرف أيضا ما سمى فيما بعد بالبلاغة وعلم المعانى وعلم البديع . قال ( وبيض الهند ) ولم يعرف ما فيه من (كناية ) وقال ( لمعت كبارق ثغرك ) ولم يعرف أن هذا قد تسمى فى البلاغة بالتشبيه ، ولم يعرف الاستعارة و المجاز و المحسنات البديعية. لم يعرف فروع علم البديع من الجناس والطباق والمقابلة والتورية ، ولم يعرف الفوارق الدقيقة التى حددت المعانى ، ولكنه كان ينطق مبدعا ، وترك لعلماء النحو فى العصر العباسى استخلاص القواعد النحوية والبلاغية فيما قال وفيما أبدع.
4 ـ كان محصول عنترة من ألفاظ لسانه العربي محددا ببيئته الصحراوية وعلاقاته البسيطة بالناس والأشياء. ومثله مثل العرب وقتها لم يستعملوا كل المشتقات المتاحة للفظ العربى . فكلمة (ضرب ) بسكون الراء هى بمصطلح النحويين مصدر. اى الضرب . ومن هذا المصدر تاتى اشتقاقات عديدة (لا أتذكر عددها الان لأنى أكتب من الذاكرة ) فيأتى منها الأفعال الماضى والمضارع والأمر (ضرب يضرب اضرب ) ويأتى منها اسم الفاعل (ضارب) واسم المفعول ( مضروب ) وصيغ المبالغة ( ضرّاب ضروب مضراب ضرب ـ بكسر الراء ـ ضريب ، ) ثم تضاف اليها حروف أخرى تغير معناها كحروف الطلب ( إستضرب ) والجمع المذكر السالم (ضاربون ) والجمع المؤنث السالم (ضاربات) وجمع التكسير أضراب ..الخ ..ولم يستعمل العرب وقتها كل هذه المشتقات ، هذا مع كثرة استعمال كلمة الضرب فى حياتهم .
ثالثا :
1 ـ جاء العصر العباسى بانفتاح حضارى وثقافى ، فدخل اللسان العربي فى مواجهة معقدة مع حضارات مختلفة لها ألسنة حيّة مختلفة ، ورأى العرب معظم العالم المعروف وقتها من اروبا الى تخوم الهند والصين ، وشاهدوا أجناسا من الخلق ومظاهر الطبيعة و معانى جديدة وعلاقات جديدة ، وكان على اللسان العربى أن يُعبّر عن هذا كله ، وأن يتسع ويستوعب كل ذلك . وهذا ما قام به علماء النحو ، وهم فى توسيعهم للسان العربي استعملوا وسائل عدة منها نحت كلمات جديدة ، وتعريب الألفاظ الأجنبية ، والسير فى الاشتقاق للكلمة العربية الى آخره لاستنفاذ أكبر طاقة للكلمة العربية ، واستعمال الكلمة العربية فى أكثر من معنى .
2 ـ اللسان العربى فى العصر العباسى نجح فى اجتياز هذا الامتحان الحضارى فاستوعب المعروف من حضارة العالم وقتها ، وكتب به أفذاذ علماء العالم فى ذلك العصر العباسى ، ولم يكونوا كلهم عربا ، بل كانوا من جنسيات مختلفة ، ولم يكونوا كلهم مسلمين بل كانوا من أديان مختلفة. العامل المشترك بينهم جميعا أنهم قاموا بعملهم العلمى باللسان العربي، واليه ترجموا تراث الهند وفارس واليونان والروم ، فأصبح بالشروح التى قامت عليه وبالنقاش الذى دار حوله عربيا أو كأنه عربى. وبقي اللسان العربي حتى الان بينما بادت واندثرت ألسنة أخرى عاصرته أو أتت بعده. ثم فيما بعد ، بدأت أوربا عصر نهضتها بترجمة ما كتبه عباقرة مثل الخوارزمى وابن حيان والبيرونى وابن سينا والرازى وابن النفيس وابن الهيثم والادريسى ..الخ ..
3 ـ كانت لهذا النجاح ضريبة مزعجة .
فاللسان العربي بهذا الاتساع الكمى و ذلك التنوع الكيفى لم يصبح اللسان الذى أبدع به عنترة و صحبه شعراء المعلقات . أصبح فى معظمه لسانا مصنوعا .وشأن اللسان المصنوع أن تكون له (استامبة ) أو (فورمة ) أو قواعد ثابتة مضطرد يقاس عليها ،ولا يسمح بتجاوزها ، فالفاعل مرفوع ولا بد أن يظل مرفوعا ، والمفعول منصوب ولا بد أن يظل منصوبا ، واسم ( كان ) مرفوع الى الأبد ، واسم (إنّ ) منصوب دائما . هذا ما سار على اغلبه علم النحو .
5 ـ وثارت مشكلة .ذلك أنهم بدءوا أولا وقبل كل شىء فى جمع الألفاظ العربية من المحفوظ من الشعر الجاهلى ومن المنطوق من البوادى والأعراب المقيمين داخل الجزيرة العربية والذين لم يختلطوا بالحواضر ، ليتعرفوا ليس فقط على الكلمات العربية الأصيلة بل أيضا على طريقتهم او سليقتهم فى النطق أو الاعراب بالفتح والكسر والضم. وقد ظهر لهم من هذا الجمع أن اللسان العربي لا يسير دائما على القاعدة ،أى ليس الفاعل دائما وأبدا مرفوعا ، وليس المفعول دائما منصوبا ، ولكن هناك شواذ واستثناءات لا تعليل لها ،أو لم يجدوا تعليلا لها فقالوا انها شواذ. وبالطبع هم لا يعرفون أن اللسان البشرى يعبر عن صاحبه الكائن الحىّ ، و لا يمكن لكائن حى متحرك أن يكون آلة تنتج طبقا لقواعد صارمة نفس (الفورمة )أو (الاستامبة ) .
6 ـ اختلفت أكبر مدرستين نحويتين فى التعامل مع تلك الشواذ فى الاعراب ، وهما مدرستا البصرة و الكوفة ، وهذه المشكلة أبانت عن وجود فجوة بين اللسان العربي فى القرآن الكريم وبين اللسان العربي المصنوع فى العصر العباسى.
فاللسان العربية فى القرآن الكريم نزل مبينا ومطابقا للسان العربي الطبيعي الذى كان ينطق به العرب وقتها ، وجاء تعبيرا صادقا عن ذلك اللسان العربى فأبهر أصحاب ذلك اللسان وعجزوا عن تحدّيه ولو بسورة واحدة تشبهه. ولأنه جاء مطابقا للسان العربى فانه مثل ذلك اللسان العربى لم يلتزم أن يكون الفاعل مرفوعا الى الأبد أو أن يكون خبر (كان ) منصوبا مطلقا، جاءت نسبة من الخروج على القاعدة كما هى فى اللسان العربى الأصيل. ومن هنا حدثت فجوة بين لسان القرآن الكريم المعبّر عن صحيح اللسان العربي وبين اللسان المصنوع فى العصر العباسى .
7 ـ ولكن بعض أصحاب العاهات الثقافية وبعض من فى قلبه مرض يسارع باتهام القرآن الكريم بأن فيه أخطاء نحوية . وتلك مقولة لم يقلها أعدى أعداء القرآن فى عصر النبوة ، ولم يقلها اعتى الملحدين فى العصر العباسى لأنهم مع إلحادهم فقد كان لديهم بعض العلم. أما عاهات عصرنا فهم بنعمة الجهل يرفلون . إن من المضحكات المبكيات أن يأتى لنا ملحد جهول يتحدث ( بسلامته ) عن أخطاء القرآن الكريم فى علم النحو ، يجعل عمل النحويين فى العصر العباسى ـ بما فيه من إختلافات وأخطاء وقصورـ فوق القرآن الكريم ، كلام رب العالمين .! .
ألا سُحقا للقوم الجاهلين .!!
التعليقات
بن ليفانت
وجهة نظر
الموضوع مهم والشكر لك أخ أحمد على إتاحة الفرصة لتبادل الآراء حول هذا الموضوع.
أنا لا أنظر للسان العربي على أنه اختراع جديد، وإنما اقتباس من ألسنة كانت سائدة عند شعوب اخرى كان للعرب معها علاقات تجارية وغير تجارية. ربما كان هذا بمثابة لهجة تطورت لتصبح لسانًا جديدًا له استقلاليته. عند نزول القرآن كان هذا اللسان قد وصل إلى مستوى عال من التطور، والدليل على ذلك القرآن نفسه، إذ نزل بهذا اللسان ولم يخترع لسانًا آخر.
ليس من غير المنطقي أن يكون الكلام في بداية تطور هذا اللسان شفهيًا. ربما استُعملت ابجديات اخرى للكتابة. هذا ليس مهمًا هنا. المهم أنه عندنا تقال جملة ما، مثلًا: "ركب الرجل الناقة" – برفع لام الرجل ونصب تاء الناقة، فربما نقول أنها جاءت بالسليقة. لكن عندما تأتي هذه الجملة بأشكال أخرى، مثل: ركب الولدُ الحصانَ، أو ركب الشيخُ الحمارَ، يصبح عندنا اعتقاد، على الأقل شك، بأن هناك قاعدة تُستعمل في تركيبة الجملة، وليس من الضرورة أن يكون لهذه القاعدة اسم كما نعرفه الآن. ما قام به علماء النحو هو ايجاد قواعد وصفية – أي كانوا يبحثون عن القواعد المستعملة (وغير مدونه) في النصوص التي كانت متاحة لديهم. بعد تصنيف وتدوين هذه القواعد أصبحت هذه الزامية. السؤال هنا: لماذا لم يكتف النحويون بالقرآن (لسان عربي مبين)، وبحثوا في أماكن أخرى – ربما لم تكن مطابقة لهذا اللسان المبين؟
بغض النظر إن كان الكلام يدون بأجديات أخرى أو كان شفهيًا، المهم أنه عندما شعر الناس أنهم بحاجة لتثبيت (نسخ) ما يقولون – لاسباب تجارية مثلًا، بدأوا في وضع حروف الابجدية العربية. من المنطق أن تفي هذه الابجدية وحروفها بالأصوات المستعملة. عند نزول القرآن كان هناك، على سبيل المثال، فرق بين لفظ حاء وخاء وجيم، فإذا لم يكن التنقيط في ذلك الوقت موجودًا، فكيف نضع لثلاثة ألفاظ (أصوات) نفس الحرف؟ أم أن التنقيط كان معروفًا؟ وهذا ما أعتقده.
كلمة أخيرة عن الشعر الجاهلي: من الطبيعي أن يكون هناك شعر قيل في الجاهلية، لكن: هل ما قيل فعلًا هو الذي نسمعه الآن؟ أو ماسمعه علماء النحو؟
احمد صبحى منصور
1 ـ أتفق معك فى أن اللسان العربى إنحدر من ألسنة سابقة كما إنحدر العرب العاربة القحطانيون والعرب المستعربة من جذور سابقة . وأتفق معك فى التنقيط للحروف فلا يمكن قراءة الحروف المتشابهة رسما بدون تنقيط . واتفق معك فى الشّك فى صحة المنقول من الشعر العربى الجاهلى . ولقد كان حمّاد الراوية أشهر حافظ للشعر الجاهلى ، وحقق ثروة وشهرة لدى الخلفاء العباسيين ، وظهر إنه كان ينتحل شعرا من نظمه وينسبه لشعراء جاهليين ، ولقد إعترف بهذا . ولكن التعميم خاطىء ، وقد وقع فيه طه حسين . لا أعتقد أن المعلقات السبع منحولة ، مع إن راويها هو حماد الراوية ، وهذا لأن من قالها كانوا شخصيات تاريخية حقيقية ، وهم إمرؤ القيس وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة وزهير بن أبى سلمى وعمرو بن كلثوم وعنترة ولبيد بن ربيعة. وقد ظلت معلقاتهم متداولة وفخرا لقبائلهم وتسجيلا لأيام العرب .
2 ـ الموضوع جديد بالنسبة لى ، وما أكتبه يحتاج تنقيحا من الغير . وأرجو أن يكون التنقيح على قدر أهمية الموضوع .
الفصل الثانى :
الخليل بن أحمد العبقرى العربى مبتدع علمى النحو و العروض
كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
الفصل الثالث : عن علم النحو
الخليل بن أحمد العبقرى مبتدع علمى النحو و العروض
مقدمة :
1 ـ وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي قواعد النحو العربي في أواخر العصر الأموى ، وتسلم الراية بعده فى بداية العصر العباسى سيبويه تلميذه في البصرة ، كما ظهر الكسائي إماما للمدرسة النحوية في الكوفة ، وتأسس علم النحو ما بين الكوفة والبصرة ثم بغداد .
2 ـ بدأ الخليل بجمع اللغة واستقراء ما أسماه ب ( الإعراب ) أى ضبط أواخر الكلمة ـ ليس من القرآن الكريم ـ بل من البوادي ، حيث كان الشائع أن البدو في الصحراء محافظون على فصاحتهم لم يتأثروا بعد بالاختلاط بالعجم ، ولم يفسد لسانهم بحياة الحضر .
3 ـ جمع الخليل بن أحمد الفراهيدى مفردات الألفاظ العربية ، كما أسّس ( علم العروض ) الذى يتتبع بحور الشعر ، وتبعه تلميذه سيبويه فكتب ( الكتاب ) المشهور فى قواعد ما أسموه باللغة العربية ، وتابعه ثعلب والكسائى والزجاج والمبرد ..الخ ..
نتوقف مع الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم الأزدي الفراهيدي .
أولا : عبقريته
1 ـ طالما نتكلم عن العرب بالتحديد فإن الخليل هو أعظم عبقرية عربية فى كل العصور . ليس فقط لانتاجه العلمى ولكن أيضا لريادته ، فقد ظهرت عبقريته مبكرا قبل الإزدهار العلمى فى القرن الثالث الهجرى والعصر العباسى الثانى . الخليل مولود سنة 100هـ ، وعاش حياته وسط الاضطراب السياسى والفتن التى شملت الدولة الأموية خصوصا فى العراق حتى سقطت عام 132 . نشأ في مدينة البصرة عصاميا فقيرا ، لا يملك سوى عبقريته وذكائه النادر، وطفق يخترع العلوم اختراعا ليأتي بعده اللاحقون يسيرون علي دربه ويدورون في الفلك الذي رسمه لهم، ولم يستطع أحد أتي بعده أن يبلغ مبلغه في تأسيس المناهج . قالوا عنه ( كان آية في الذكاء ) .
2 ـ وليس أدل علي ذكائه من اختراعه لعلم العروض العربي واكتشافه لموازين الشعر ، وهو في ذلك الاختراع لم يعتمد علي اجتهادات غيره، إذ لم يسبقه أحد في ذلك . وإذا كان اليونانيون قد سبقوه في تقعيد بعض العلوم وسار علي دربهم بعض علماء العرب فإنه ليس لليونانيين فضل علي الخليل بن أحمد في اختراعه لعلم العروض الذي يعتبر اختراعا عربيا خالصا أنجزه الخليل بأكمله وبنفسه ، ولم يكن له من أدوات إلا مطرقة يضرب بها علي طست، وبذلك كان يعرف وقع الأنغام الشعرية ويفرق بينها ويكتشف دقائق الأوزان، وذلك يذكرنا بالفقر الذي كان يعيش فيه ذلك العبقري والذي استطاع بالرغم منه أن يخترع ويفكر ببطن خاوية أحيانا!!
3ـ كما أن هذا الذكاء النادر يتجلى في كتابه "العين" الذى حصر فيه ألفاظ العرب علي أساس مخارج الحروف ومنها إلي بناء الكلمة أو وزنها من الثنائي والثلاثي إلي الرباعي والخماسي ، وبلغ في حصر ألفاظ العربية إلي الآتي: الثنائي(765) الثلاثي(19650) الرباعي (491400) والخماسي (793600،11). وتلك مهمة تحتاج الى الحاسبات الإلكترونية ، ولكن قام بها الخليل وسجلها في كتابه العين معتمدا علي ذكائه الخارق.
4ـ وبذكائه الخارق وضع كتابا في الموسيقي والإيقاع وتراكيب الأصوات ، ويتعجب الجاحظ من ذلك لأن الخليل بن احمد حين وضع هذا الكتاب لم يمسك بيده آلة موسيقية ولا داعبت أصابعه أوتارا ولا استمع إلي مطربين.
5 ـ ووصل ذكاؤه إلي علم الصيدلة وتركيب الدواء. وقد حدث أنه كان عند رجل دواء للعين ينتفع به الناس. ثم مات الرجل وذهب سر تركيبة الدواء فجاءوا للخليل فقال : " أللدواء نسخة معروفة ؟ " قالوا :لا .. فقال: " إذن هاتوا لي الآنية التي كان يجمع فيها اخلاط الدواء " ، فجاءوه بالآنية، فأخذ يشمها ويستخرجها نوعا نوعا حتي جمع خمسة عشر نوعا، وخلطها بنفس النسبة فانتفع به الناس ، ثم حدث أن وجدوا في تركة الرجل سر التركيبة، فوجدوها تتكون بنفس ما توصل إليه الخليل ولكن تزيد نوعا واحدا فقط.
6 ـ وانشغل بعلم الحساب ليجعله في خدمة البسطاء من الناس ، وذلك يدل علي جانب من جوانب العظمة في شخصيته، إذ أراد أن يخترع نوعا من الحساب يستطيع به الفتي الصغير أن يمضي إلي البائع فلا يمكن أن يخدعه ، وكان يفكر منشغلا بذلك فدخل المسجد فصدمته سارية وهو غافل فوقع ومات سنة 160في أحد الأقوال.
ثانيا: مؤلفاته
1 ـ في عصر الرواية الشفهية كان الخليل بن أحمد رائدا فى تدوين ابتكاراته العلمية ، فقد قالوا عنه إنه اشتغل بالعلوم وصنف الكتب الكثيرة ، وأهمها كتاب " العين ، وكتاب النغم فى الموسيقى ، وكتاب الشواهد ، بالإضافة إلي كتاب العروض وكتاب الجمل .
2 ـ وقال عنه السيرافي : ( كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه ، وهو أول من استخرج العروض وحصر أشعار العربية بها، وعمل أول كتاب العين المعروف المشهور الذي يتهيأ به ضبط اللغة .)
ثالثا : تلاميذه
1 ـ ويكفي أن سيبويه عالم النحو المشهور هو تلميذه، وبعضهم ينسب (كتاب) سيبويه المشهور في النحو باسم (الكتاب ) إلي وضع أستاذه الخليل بن أحمد . والواقع أن سيبويه كان يأخذ عنه وكان يعترف بذلك في "الكتاب" وهو يورد ذلك كثيرا ويقول : "وسألته" و"قال" ، وسيبويه يشير متحدثا عن أستاذه الخليل ، والأرجح أن الخليل هو الذى وضع المنهج الذى سار عليه تلميذه النجيب سيبويه ، وعلّمه كيف يسير علي المنهج . وكتاب سيبويه في النحو أهم ما كتب في هذا الباب. وقد كانت العلاقة بينهما علي أكمل ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين أستاذ وتلميذه ، يقولون إن الخليل كان إذا قدم عليه سيبويه يستقبله قائلا " مرحبا بزائر لا يمل".
2 ـ ولم يكن سيبويه تلميذه الوحيد في النحو ، إذ كان معه الأصمعي والنضر بن شميل ، وهارون ابن موسي ووهب بن جرير وعلي بن نصر الجهضمي.
رابعا : أخلاقه العالية ومفتاح شخصيته
1 ـ وكما أشاد المؤرخون بعبقريته الفذة فإنهم أشادوا أيضا بأخلاقه الحسنة فقالوا : " كان الخليل من أزهد الناس وأعلاهم نفسا وأشدهم تعففا" وقالوا : " كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا ، وكان متقللا من الدنيا جدا صبورا علي خشن العيش وضيقه، وكان ظريفا حسن الخلق"., ويبدو من تلك الصفات الإجمالية أنه جمع بين الزهد والعزة والصبر علي الفقر مع الصلاح والظُّرف وحسن الخلق . وقلما تجتمع هذه الصفات لشخص واحد.
2 ـ إلا أنه يمكن العثور علي مفتاح لشخصية تلك العبقرية الفذة من خلال فحص تاريخه العلمي والإنساني، واعتقد أن مفتاح شخصيته يتضح في تقديره للعلم الذي وهب حياته له والذي أبدع في مجاله.
2 / 1 : وتتجلي أحد نواحي العظمة في شخصية الخليل حين نعرف أن الصلة بالحكام كانت هي الطريق السريع أمام العلماء لكي يعيشوا حياة كريمة ، ولكن الخليل رفض هذا الطريق اعتزازا بما لديه من علم وحرصا علي أن يكون له استقلاله بعيدا عن تقلبات السياسة وأهوائها ، ورضي بأن يعيش في "خص" أي كوخ من " أخصاص" البصرة ، وكان يقول معبرا عن تفرغه للعلم " لا يجاوز همّي ما وراء بابي" . ولم يكن تلاميذه ليصبروا علي هذه الطريقة الخشنة الفريدة في الحياة.
2 / 2 : وقد كان سليمان بن حبيب المهلبي واليا علي الأهواز ، وقد سمع بعلم الخليل وفقره بالبصرة فكتب إليه يستدعيه ليعلم أولاده ولينادمه بالليل ، وأرسل له بألف دينار وجاء الرسول إلي الخليل، فأخرج إليه الخليل بعض كسرات الخبز الجافة وقال له : " إني ما دمت أجد هذه الكسرات فإني عنه مستغن"! ، ورد إليه الألف دينار، وقال للرسول " اقرأ علي الأمير السلام وقل له إني ألفت قوما وألفوني، أجالسهم طوال نهاري وبعض ليلي وقبيح لمثلي أن يقطع عادة تعودها إخوانه"
وكتب إليه بهذه الأبيات:
ابلغ سليمان أني عنه في سعة
وفي غني غير أني لست ذا مال
وأن بين الغني والفقر منزلة
مقرونة بجديد ليس بالبالي
سخي بنفسي أني لا أري أحدا
يموت هزلا ولا يبقي علي حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
ومثل ذاك الغني في النفس لا المال
3 ـ وواضح مما سبق أنه بقدر أعراضه عن ذوى السلطان فأنه كان يحسن صحبة الإخوان ، وقد مر بنا كيف يحتفل بقدوم تلميذه سيبوبه عليه ويقول له : مرحبا بزائر لا يُمل..
وواضح أنه كان حسن الخلق مع أصحابه متواضعا معهم فى نفس الوقت الذى كان فيه عزيز النفس مع أصحاب الجاه والسلطان ، لذا وصفوه بأنه " كان خيرا متواضعا ذا زهد وعفاف".
ويدل علي تواضعه الزائد مع طلبة العلم أن إبراهيم بن سيار النظام عالم المعتزلة دخل وهو صغير علي الخليل بن أحمد فأراد الخليل أن يختبره وكان في يده قدح زجاج فقال له الخليل: صف هذه الزجاجة ، فقال له النظام : أبمدح أم بذم؟" قال : "بمدح " ، قال " تريك القذى ولا تقبل الأذى ولا تستر ما وراءها" ، قال : " فذّمّها " فقال النظام " : يسرع إليه الكسر ولا تقبل الجبر".. قال : "فصف لي هذه النخلة" ، قال : "بمدح أم بذم؟" قال : " بمدح" قال : " حلو جناها باسق منتهاها ناضر أعلاها " ، قال : " فذُمّها " قال : " صعبة المرتقي بعيدة المجتبي محفوفة بالأذي " فقال له الخليل : " يا بني نحن إلي التعلم منك أحوج" !!
ولا شك أن كلمة تشجيع مثل هذه آتت أكلها مع إبراهيم النظام في صغره وشحذت همته للعلم وتحصيله..
ويروي أن راهبا قال للخليل :" أنت الذي يزعم الناس إنك وحيد في العلم ؟ ، فقال له الخليل : " كذا يقولون ولست كذلك"..!!
خامسا : ما بقى من الخليل بن أحمد
1 ـ تاجر تلامذة الخليل بعلمه فاكتسبوا به الأموال كما قال النضر بن شميل ، وحققوا الشهرة في البلاط العباسي ، وكان أبرزهم في ذلك الأصمعي. ولو وجدنا لهم بعض العذر فأننا نعجز عن تبرير سرقات بعضهم لمؤلفات الخليل بن أحمد خصوصا كتابه " العين".
2 ـ وقد قال أحدهم يهجو بعض العلماء الذين سرقوا أفكار الخليل في كتاب العين:
ابن دريد بقرة
وفيه عجب وشره
ويدعي بجهله
وضع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين
إلا أنه قد غيره
الزهري وزغة
وحمقه حمق دغه
ويدعي بجهله
كتاب تهذيب اللغة
وهو كتاب العين
إلا أنه قد صبغه
في الخارزنجي بله
وفيه حمق ووله
ويدعي بجهله
وضع كتاب التكملة
وهو كتاب العين
إلا أنه قد بدله.
2 ـ علي أية حال فإن الذين انتحلوا أفكار الخليل كانوا أقل منه ومنها ، فظهر عجزهم ، وقد وضع ابن دستورية كتابا أوضح فيه الخلل الذي وقعوا فيه..
3 ـ ويكفيه فخرا أنه حين أنشأ علم العروض فقد أثبت أن الشعر العربي قد قيل بأوزان وقواعد بالسليقة ، وتلك موهبة عظيمة لا يدانيها إلا عبقرية الخليل التي اكتشفت قوانين الشعر وأوزانه.
ونفس الحال مع قواعد اللسان العربي الذى كان ينطق بها العرب بالسليقة دون ان يعرفوا ماهيتها وقواعدها، ولم يقم أحد قبل الخليل بن أحمد باستخلاص تلك القواعد من خلال استقراء لكل المنقول على العرب.
وإذا كان هناك تلاميذ للخليل جاءوا بعده وتخصصوا فيما عرف بعلم النحو وقاموا بتفصيله والزيادة عليه بعد الخليل إلا إن الخليل يظل وحده مخترع علم العروض ومكتشف أوزان الشعر العربى ، ولم يأت بعده من يدانيه أو يقترب من هامته وقامته فى هذا المجال. كان هو الرائد الذى لم يصل الى قامته أحد بعده.
أخيرا
عبقرية الخليل المتفردة وشخصيته الفذّة وإعتزازه بنفسه كان له أثر سلبى فى مسيرة علم النحو وعلم العروض . إقتفى اللاحقون فى البصرة والكوفة وبغداد منهجه فى النحو بإهمال الأخذ عن القرآن الكريم ، ولم يضيفوا شيئا يُذكر الى علم العروض .
تعليقات
بن ليفانت
وجهة نظر
علم العروض: قبل أن أعرض ما أريد، أطرح مثالًا من التاريخ عن مسلات المصريين القدماء. المسلات كانت موجودة منذ ألفي عام قبل الميلاد، من قام ببناء هذه المسلات كان يمتلك المعرفة بأن المسلة يجب أن تقف عمودية على سطح الارض لكي تبقى قائمة مع مرور الزمن، ما يعني أن الزاوية القائمة كانت معروفة لدى المصريين القدماء – قبل أن (يكتشفها) اليونايون. اليونانيون ثبتوا هذه المعلومة. ما أريد قوله هو أن بعض "العلوم" كانت موجودة "ومعروفة" قبل أن يكتشف وجودها أناس آخرون. أعود إلى علم العروض: عندما اكتشف الفراهيدي (مع تمام الايمان بعبقريته) موازين الشعر عند شعراء العرب، أثبت أيضًا بصورة غير مباشرة أن هؤلاء الشعراء كانوا يعرفون وقع الأنغام الشعرية ويفرقوا بينها ويعلموا دقائق الأوزان، وإلا لكان الشعر عبارة عن عشوائيات وليس شعرًا. عندما يحدث شيء ما مرة واحدة أو حتى بعض المرات، لا نستطيع أن نتحدث عن قاعدة، وإنما ربما الصدفة، أما مع تكرار هذا الشيء ومن جهات عدة، نستطيع أن نجزم أن هناك قاعدة لحدوث هذا الشيء، وأن من كان يستعملها كان على دراية بها. هذا ينطبق على اللسان العربي بأكمله.
كلمة أخيرة عن السليقة: عندما يبدأ الطفل بالكلام، فهو يحاول تقليد من حوله، مع مرور الوقت يتقن التقليد، ثم يبدأ بصياغة جمل، تُصَحَّح من قبل محيطة عندما يخطئ، أو ربما يكتشف هو تكرار بعض "النمطيات"، فتصبح له وبشكل غير مباشر بمثابة قاعدة. ويستمر هذا التطور حتى يتقن الانسان "لغة الأم". الطفل، وكطفل منذ البداية، يمتلك قدرة على اتقان اللسان بسرعة فائقة، واتقان قواعدها دون أن يعرف (بشكل مباشر) أنها قواعد، لكنه سيدرك عندما يتقدم بالعمر أنها قواعد، وربما يصبح أحد العلماء ويضع قواعد جديدة. هذا ما أعتقد أنه السليقة. السليقة لاتنفي وجود قواعد "معروفة".
أحمد صبحى منصور
أتفق معك ، وأقول :
1 ـ لا أعرف إن كانت هناك أوزان للشعر فى ألسنة غير العرب أم لا . ولكن أعرف إنه موجود ومحسوس فى الشعر العربى قبل وبعد القرآن الكريم . وأن الخليل بن أحمد هو الذى إكتشف الأوزان والبحور والفروق بينها ، وأسّس علما متكاملا ، ومن جاء بعده إكتفى ببعض التفصيلات . فى عصرنا الحالى ظهر ما يعرف بالشعر الحُرّ المتحرّر من الوزن والقافية ، وليس ـ فى نظرى ـ شعرا ولا نثرا . هو ( لخبطة ) مثل الرسم السيريالى .
2 ـ ليس سهلا إستخلاص القواعد وترتيبها . الذى يقوم بذلك يكون عبقريا . الذى يسبق عصره يكون عبقريا رائدا ، الذى يكتب ذلك فى عصر الرواية الشفهية يكون عبقريا رائدا جدا ، ولنتذكر أن ما عُرف باسم الحديث والفقه لم يتم تدوينه إلا بعد موت الخليل . عبقرية الخليل هى السبب فى هجر القرآن الكريم مرجعية فى علم النحو . اللاحقون إنبهروا به فساروا على نهجه . هذا هو الخطأ الأكبر الذى وقع فيه الخليل .
الفصل الثالث :
سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم
كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
الفصل الثالث : عن علم النحو
سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم
مقدمة :
1 ـ قلنا آنفا : إن عبقرية الخليل هى السبب فى هجر القرآن الكريم مرجعية فى علم النحو . اللاحقون إنبهروا به فساروا على نهجه . هذا هو الخطأ الأكبر الذى وقع فيه الخليل .
2 ـ ونضيف أن سيبويه تلميذ الخليل هو الذى أكّد على منهج أُستاذه الخليل ، فترسّخت القطيعة بين علم النحو والقرآن الكريم .
3 ـ الدليل على ذلك :
3 / 1 : إنه مع إنقسام علماء النحو الى مدرستى البصرة والكوفة وإختلافهما فى موضوع الشّاذ فى النحو إلا إن مدرسة الكوفة إتبعت منهج الخليل ( البصرى ) وتلميذه سيبويه .
3 / 2 : كتاب سيبويه فى علم النحو هو ( الكتاب ) . وإذا قيل عندهم ( الكتاب ) فالمعنى كتاب سيبويه ، لا يختلف فى ذلك نُحاة البصرة أو نُحاة الكوفة . بمعنى آخر غاية فى الخطورة أن كتاب سيبويه أصبح مقدسا أو قريبا من أن يكون مقدسا ، وفى كل الأحوال فقد تناسوا القرآن الكريم ذلك الكتاب الذى لا ريب فيه ، وإنشغلوا ب ( كتاب ) سيبويه .
3 / 3 : ظل الخليل بن أحمد مسيطرا على أجيال من النُحاة من مدرستى الكوفة والبصرة . وبلغ إنبهارهم به الى درجة الطعن بطريق غير مباشر فى القرآن الكريم ؛ إذ نسبوا له كتابا زعموا فيه إنه الذى إخترع تنقيط المصحف . وهذه كوميديا مؤلمة ، كيف مع إهمال الخليل للقرآن الكريم فى منهجه النحوى أن يقوم بتنقيط المصحف ؟ وهل يمكن فى أواخر العصر الأموى وبداية العصر العباسى أن يكون المصحف بلا تنقيط ؟ وكيف يمكن للناس وقتها قراءة القرآن الكريم أو أى كتابة عربية ؟ إن الحروف العربية منها ما لايحتوى على نقطة ومنها ما يحتوى نقطتين أو ثلاث . بدون نقط كيف تعرف الصاد من الضاد ؟ والفاء من القاف ؟ والطاء من الظاء ؟ والسين من الشين ؟ والباء والتاء والثاء ؟ لا بد ان تكون الكتابة القرآنية الأولى بالتنقيط . ثم وهذا هو الأهم : أين نسخة المصحف التى جمع عليها الخليفة عثمان الناس وأحرق ما عداها ، والتى لا تزال بيننا باسم ( الرسم العثمانى ) نسبة لعثمان ؟ وهى مكتوبة بطريقة فريدة تخالف الكتابة العربية حتى الآن ؟ وبها يتم إكتشاف الاعجاز العددى الرقمى للقرآن الكريم ؟
لقد كتبنا من قبل أن النبى محمدا عليه السلام هو الذى كتب القرآن بيده ، وساعده بعض أصحابه فى كتابة نسخ من القرآن الكريم ، وأن هذا العمل إسترعى إهتمام كفار قريش: ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) الفرقان ) ، وجاء الردُّ عليهم بأن فى الكتابة القرآنية سرّا إلاهيا : ( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) الفرقان ) . وقد تجلّى هذا السّر فى عصرنا بالأرقام ، وهى وسيلة الاتصالات التى تتعدى الألسنة . والتفاصيل فى مقال : ( النبى محمد عليه السلام كان يقرأ ويكتب ، وهو الذى كتب القرآن بنفسه. ) وهو منشور هنا .
النحويون فى العصر العباسى فى تقديسهم للخليل بن أحمد وإتّباعهم منهجه كانوا روّادا فى إتخاذ القرآن الكريم مهجورا .
نتوقف فى لمحة تاريخية مع ( سيبويه )
النشأة والأصل واللقب :
1 ـ كما يدل عليه إسمه فهو فارسى الأصل ، لا يتكلم العربية بطلاقة. قيل عنه ( كان فى لسانه حبسه وقلمه أبلغ من لسانه )!!. وإسمه ( أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ) .
2 ـ إكتسب لقب ( سيبويه )، من معناه الفارسي وهو رائحة التفاح ، فيقال إن الصبي عمرو بن عثمان اكتسب هذا اللقب "سيبويه" لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحة ، ويقال إن أم سيبويه كانت تلاعبه وهو طفل بذلك اللقب فارتبط به ، وقالوا إنهم أطلقوا عليه هذا اللقب لأن كل من يلقاه كان يشم منه رائحة الطيب ، وقيل لأنه كان يعتاد شم التفاح ، وقيل لأنه كان لطيفا فأطلقوا عليه سيبويه لأن التفاح ألطف الفواكه ..وهذا الاختلاف فى مدلول اللقب يعكس إهتماما زائدا ، إشتدّ بعد موته ، فقد مات شابا في بداية الثلاثينات من عمره. ومع عمره القصير فلا يزال إماما لشيوخ كبار نهلوا من علمه ومن كتابه المشهور.
كتاب سيبويه
كتابه الفريد في النحو هو الذي صير ذلك الشاب الفارسي إماما لكل النحويين بعده .. ولأهمية كتاب سيبويه في تاريخ علم النحو فإنهم يطلقون عليه اسم الكتاب فإذا قيل " الكتاب " فإن النحويين يفهمون أن المراد هو كتاب سيبويه ، يقول المؤرخ النحوي أبو سعيد السيرافي عنه : ( وعمل كتابه الذي لم يسبقه أحد إلي مثله ولا لحق به من بعده ، وكان كتابه أشهر عند النحويين علما، فكان يقال بالبصرة قرأ فلان الكتاب فيعلمون أنه كتاب سيبويه ، وكان المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له : هل ركبت البحر ؟ تعظيما له واستصحابا لما فيه". وقد وضع المبرد عدة كتب في شرح كتاب سيبويه وفي التعليق عليه.)
وروي الجاحظ أنه أراد الخروج للقاء الوزير محمد بن عبد الملك الزيات ففكر في شيء يهديه له فلم يجد كتابا أنسب من كتاب سيبويه ، فأهداه له وقال : أردت أن أهدي لك شيئا ففكرت فإذا كل شيء عندك فلم أر أهم من هذا الكتاب ، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء " عالم النحو" فقال له الوزير : والله ما اهديت إلي شيء أحب إلي منه.
المناظرة بينه وبين الكسائي
1 ـ كان الكسائي ــ زعيم مدرسة الكوفة النحوية ـ صاحب نفوذ في بغداد وكان تلميذه علي بن المبارك الأحمر مؤدبا ومعلما للأمين ابن هارون الرشيد .
2 ـ يروي أبو العباس ثعلب رواية نقلها عن شيخه الفراء ـ وهما من أعمدة المدرسة الكوفية فى النحو ـ أن سيبويه جاء بغداد وقابل يحيي بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، وقال له : ( إجمع بيني وبين الكسائي لأناظره وأنت تسمع )، فقال : ( الكسائي عندنا رجل عالم لا يمتنع عن مناظرة أحد ). وتحدد وقت المناظرة في الغد ، وجاء مشجعو سيبويه وأنصار الكسائي ، ومنهم الفراء وابن المبارك الأحمر ، وقد سبقا إلي دار يحيي البرمكي . وبدأ ابن المبارك الأحمر فسأل سيبويه مسألة فأجاب عليها ، فقال له : ( أخطأت )، ثم سأله أخري فأجابه ، فقال له : ( أخطأت ) فغضب سيبويه، فتدخل الفراء وقال لسيبويه عن زميله ابن المبارك : ( إن فيه عجلة )، وسأله عن جمع كلمة "أب" جمع مذكر سالم كأن يقال " هؤلاء أبويه ، ورأيت أبين ومررت بأبين، وتمثل بقول الشاعر:
وكانوا بنو فزارة شر عم
وكنت لهم كشر بني الأخينا.
أي يقاس أب علي أخ . وسأل الفراء سيبويه في جواز أن يقال ذلك في تصغير أب أي أويب فأجابه سيبويه بجواب ، فعارضه الفراء ، فانتقل سيبويه إلي جواب آخر ، فعارضه الفراء بحجة أخري فغضب سيبويه وقال : ( لا أكلمكما حتي يجيء صاحبكما ) . فجاء الكسائي فجلس بالقرب منه ،وأنصت يحيي البرمكي والناس لما سيقولانه، فقال له الكسائي: ( أتسألني أو أسالك ؟ ) فقال سيبويه : ( لا . بل سلني )، فقال الكسائي: ( كيف تقول خرجت فإذا عبد الله قائم ؟ )، فقال سيبويه : ( قائم بالرفع )، فقال له الكسائي : ( أتجيز قائما بالنصب ؟ ) فقال سيبويه : ( لا ) . فقال له الكسائي : ( كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا بالزنبور إياها بعينها ) ، فقال سيبويه : ( لا أجيز هذا بالنصب ولكن أقول : فإذا بالزنبور هو هي). فقال الكسائي : ( النصب والرفع جائزان ). فقال سيبويه: ( الرفع صواب والنصب لحن). فارتفعت أصواتهما، فقال يحيي البرمكي: ( أنتما عالمان ليس فوقكما أحد يُستفتي ولم يبلغ من هذا العلم مبلغكما أحد نحتكم إليه فيكما، فما الذي يفصل بينكما ؟ ) ، فقال الكسائي: ( العرب الفصحاء المقيمون علي باب أمير المؤمنين الذين نرتضي فصاحتهم يحضرون فنسألهم عما اختفلنا فيه، فإن عرفوا النصب عرفت أن الحق معي، وإن لم يعرفوه علمت أن الحق معه ) ، فأرسل يحيي البرمكي فاستدعاهم فجاء خلق كثير منهم، فقال لهم يحيي: ( كيف تقولون : خرجت فإذا عبد الله قائم ؟ ) ، فتكلم بعضهم بالنصب وبعضهم بالرفع ، فلما رأي سيبويه كثرة من قال بالنصب أطرق وسكت . فقال الكسائي ليحيي بن خالد : ( أعز الله الوزير إن سيبويه لم يقصدك من بلدك إلا راجيا فضلك فلو أعطيته من معروفك ؟! )، فأعطي الوزير سيبويه بدرة مال ، ويقال إن الكسائي هو الذي أعطاه إياها.
وتستمر رواية ثعلب عن الفراء فتقول : ( إن بعض الجهال زعم أن الكسائي اتفق مع الأعراب في الليلة حتي تكلموا بالذي أراده وهذا قول لا يعرج عليه ، لأن مثل هذا لا يخفي علي الخليفة والوزير وأهل بغداد أجمعين.)
التعليق :
1 ـ ومن حقنا أن نتشكك في تلك الرواية التي يرويها عن سيبويه خصومه ، خصوصا وأنها تتعلق بمناظرة تمت بين سيبويه وشيخهم الكسائي. ولو سلمنا بان الرواية حدثت علي هذا النحو فإننا نتوقع أن يقوم الكسائي بالدفاع عن مكانته في بغداد وفي البلاط العباسي ضد ذلك الشاب العبقري القادم إليه من البصرة . وإذا عرفنا ان التنافس كان علي أشده بين مدرستي البصرة والكوفة علي المسيطرة علي بغداد ـ وهي العاصمة ونهاية الأمل ـ أدركنا أهمية أن يحرص الكسائي علي مكانته . ومن هنا فإن تخيل عنصر التآمر يبدو مقبولا، فالكسائي يرسل الفراء وابن المبارك الأحمر مثل كتيبة استطلاع لمناوشة سيبويه وإجهاده ، ثم يأتي الكسائي ، ويقوم هو بتوجيه الأسئلة ، ثم يقوم هو باقتراح استدعاء الأعراب من علي أبواب الخليفة . فمن جاء بهم لأبواب الخلافة وجعلهم يجتازون الحراس ؟ ، إذن هو أمر قد رتبوه قبلها بيوم ، وحتى تمر الأمور في سلامة وسلاسة يقترح الكسائي علي الوزير أن يعطي سيبويه جائزة مالية ليأخذها ويعود إلي موطنه راضيا.
2 ـ ومن الطبيعي أن يغضب أتباع المدرسة النحوية البصرية في بغداد لهزيمة سيبويه فيتحدثون عن اتفاق الكسائي مع الأعراب ، ويتصدى لهم الرواة من مدرسة الكوفة فيتهمونهم بالجهل . والواقع أن السلطة العباسية كانت تميل لمدرسة الكوفة لاعتزازهم بمدينة الكوفة نفسها التي كانت أول عاصمة لهم قبل بناء بغداد ، بينما لم تشجع البصرة للدعوة العباسية .
3 ـ الذى يهمنا هو ذلك الخلاف المحتدم بين أئمة النحو وقتها . ثم يأتى فى عصرنا بعض أصحاب العاهات الثقافية ويتهمون القرآن الكريم بوجود أخطاء نحوية فيه ، معتقدين إن علم النحو خال من العيوب والثقوب ، وأن أئمة النحو كانوا على قلب رجل واحد .!.
إختلاف بين شخصيتى الخليل وسيبويه
ولقد امتاز الخليل بن أحمد عن تلامذته وعن غيرهم بأنه كان يرضي بالفقر متمسكا بالابتعاد عن أولي الجاه ، فعاش غنيا عن الناس راضيا بعقله العبقري، ورفض تلامذته هذا المنهج فسافروا بعلم أستاذهم إلي بغداد وعواصم الأمصار ليستفيدوا بالأموال . وبينما كان حظ الأصمعي وافرا عند الرشيد ، وكذلك كان النضر بن شميل مع المأمون إلا أن سيبويه كان سيء الحظ إذ رأي أعيان المدرسة النحوية الكوفية في بغداد في سيبويه منافسا خطيرا بسبب شبابه ووسامته وعلمه الغزير ، فعملوا علي أبعاده عن بغداد بكل ما استطاعوا ، وحين يأس سيبويه من بغداد سأل عن الحكام الذين يرغبون في النحو ، فقيل له إبن طاهر في خراسان ، فسافر إلي خراسان ، فأدركه الموت في بلدة ساوة ، فتمثل عند الموت بقوله :
يؤمل دنيا لتبقي له
فوافي المنية دون الأمل
حثيثا يروي أصول الغسيل
فعاش الغسيل ومات الرجل
وكان أخوه حاضرا معه لحظة الاحتضار ، وقد وضع رأسه في حجر أخيه فأغمي عليه فدمعت عينا أخيه ، فلما أفاق سيبويه رأي دموعه فقال :
وكنا جميعا فرق الدهر بيننا
إلي الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا؟
ومات سيبويه ولم يبلغ الخامسة والثلاثين .. !
تعليقات
بن ليفانت
وجهة نظر
عن المناظرة بين سيباويه وبين الكسائي: أنا أقل ثقة بالتاريخ العربي منك أخ أحمد، خاصة عندما تُذكر تفاصيل القصة بدقة متناهية وبترتيب يوصلنا إلى ما يريد الحكواتي. لكن بغض النظر عن صحة الرواية ونزاهة الراوي، أستغرب شيئًا: لماذا كل هذه المناظرات بين أهل البصرة والكوفة؟ هل كان الغرض إظهار الصحيح أم للشهرة وكسب المال؟ لماذا لم يرجعوا إلى القرآن مع افتراض ايمانهم بأنه نزل بلسان عربي مبين؟ أحيانًا يكون هناك فعلًا اختلاف، فيجوز حينها هذا وذاك. هل كان عند الأعراب (مرجعيتهم) لسان واحد متفق عليه مئة بالمئة؟
لقد استغل العلماء والعباقرة وقتهم في البحث عن كل شاردة وواردة تتعلق بموضوع ما في علوم اللسان والدين، فاختلفوا في النتائج وعقدوا بدل أن يسهلوا للناس. كان الأحرى بهم أن يسخروا هذه العبقرية في مواضيع أخرى تخص حياة الناس ورفاههم.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ بن ليفانت ، واقول :
1 ـ ربما يكون الخليل بن أحمد هو الذى نجا بنفسه من عبادة المال . كان المال هو الاله الأعظم منذ الفتوحات العربية ، وحوله دارت الصراعات والفتن والمكائد خلال عصور الخلفاء ـ وطبعا حتى الآن . الخليل بن أحمد بسبب إعتداده بنفسه ترفّع عن الاتصال بمن يملك المنح والمنع . غيره من الشعراء وزعماء القبائل تنافسوا للوصول الى الخليفة والولاة . وبعد الخليل تحول الأمر الى تجارة تنتهز فرصة حرص العباسيين على العلم . وفى هذا المناخ نقرأ الروايات . وهى طبعا ليست حقائق مطلقة ، بل نسبية ، ولا بد من نقدها ، وهذا ما نفعل فى ضوء فهمنا للعصر وقافته وملابساته.
2 ـ الفتوحات العربية كانت كفرا عمليا بالاسلام ، وأسّست أرضية للأديان الأرضية من تشيع وسنّة ثم تصوف ، عدا عشرات الملل والنحل . فى هذا المناخ كان ـ ولا يزال ـ إتخاذ القرآن مهجورا . بدأ هذا بالخليل ، ثم إستشرى بعده لدى النحويين وغيرهم . وبدأت طرق أخرى فى الحطّ من قدسية القرآن الكريم بما أسموه النسخ والقراءات وتحويله الى أغنية بما أسموه بالتجويد.
3 ـ كان من الطبيعى أن يكون التعقيد والاختلاف والمذاهب ، وفى كل شىء . شأن الدين الالهى التيسير وشأن الأديان الأرضية التعقيد حتى تكون لأربابها سُلطة وحيثية.
الفصل الرابع :
الكسائى : تلميذ الخليل ومؤسّس مدرسة الكوفة النحوية
كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
الفصل الثالث : عن علم النحو
أولا :
1 ـ بعد سيبويه جاء إلي الخليل بن أحمد تلميذ آخر هو الكسائي ، وهو الذي أرسي مدرسة الكوفة النحوية.
2 ـ وكان بين المدرستين النحويتين تنافس وخصومة فكرية اتخذت ميادين لها في بغداد والعراق في القرنين الثاني والثالث من الهجرة ، وحفلت كتب الأدب واللغة بوقائع تلك المنافسة ، وتعدد المتنافسون بين المدرستين كان سيبويه والكسائي ، ثم كان المبرد وثعلب .
3 ـ ومن أبرز مسائل الخلاف النحوي بين المدرستين ما أسموه ب : " الشذوذ اللغوي " . فاللسان العربي يمتاز بأنه في أغلبه قياسي ، أى يسير على قاعدة واحدة ، فالأغلب أن يكون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا ، والشاذ القليل أن يكون الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا ، وذلك علي سبيل المثال . ولأن اللسان البشرى كائن متحرك متغير فلا بد أن يلحقه التغيير ، حسب الزمان والمكان ، فتتعدد الألسنة ، وتتعدد فى داخلها اللهجات . ولم يسلم اللسان العربي مع شدة انضابطه وكثرة قياسه من وجود بعض التغيير ، وتمثل ذلك في مشكلة ما أسموه ب (الشذوذ اللغوي ) ، أو وجود حالات تخرج عن القياس في لسان العرب .
4 ـ واختلف موقف المدرستين النحويتين في التعامل مع ذلك الشذوذ اللغوي .
4 / 1 : فمدرسة البصرة تأثرت بطبيعة البصرة المنفتحة على العالم ، حيث كانت الميناء الذى يصل بالعرب الى الهند والشرق , بهذا الانفتاح اعترفت بالشذوذ ( اللغوي) وعاملته علي أساس أنه ظاهرة ( لغوية) مستقلة أو ( يُحفظ ولا يُقاس عليه ) ، وذلك هو التعبير المأثور عندهم . اى مع كونه ( أقليّة ) ومع عدم جريانه على القياس فهو مُعترف به شأن ما يجرى على القياس.
4 / 2 : أما مدرسة الكوفة فقد تأثرت بموقعها الداخلى الصحراوى و تجاهلت ذلك الشذوذ وأخضعته لأسلوب القياس .
5 ـ وكان الكسائي الكوفى هو أول من طبق هذا المنهج .
والطريف إنه إستفاد من شيخه الخليل بن أحمد ( البصرى ) فى أُسُس المدرسة الكوفية ، أخذ عنه منهجه فى إستقراء الألفاظ العربية من البادية ، والكوفة أقرب للبادية ، كما إستفاد من كتاب ( العين ) للخليل وتجميعه للألفاظ العربية وإشتقاقاتها . وإستغل هذا فى صناعة وتغيير في نمط اللهجات العربية المعروفة وقتها ، بأن تجاهل بعضها ، واستحدث مشتقات لم تكن معروفة في لسان العربي ، ولكن أنتجها بالقياس . وذلك موضوع طويل يخرج عن موضوعنا .
ثانيا :
ولكن من هو الكسائي إمام المدرسة النحوية في الكوفة ؟
1 ـ هو علي ابن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز ، أي أنه فارسي الأصل ، وتوفى عام 182
2 ـ ليس غريبا أن يكون أغلب رواد النحاة من الفرس والموالي ، إذ أصبحت لهم مكانة فى الدولة العباسية التى كان لهم الإسهام الأكبر فى تأسيسها ، لذا إحتلوا أبرز المناصب ، ومنهم البرامكة ، ومن له طموح فى المناصب كان عليه تعلم اللسان العربي ، وكان يُعاب عليهم اللحن أى الخطأ فى النطق العربى . والكسائى الفارسى أبرز مثل لهذا .
3 ـ تعلم الكسائى النحو لنفس السبب الذي جعل سيبويه يتجه إلي النحو ، ذلك إنه وقع في اللحن وعيب عليه ذلك ، فاستعظم الأمر وقرر أن يتفوق في العربية ، ويكون فيها إماما ـ يقول تلميذه الفراء إنه مشي حتي تعب من المشي ثم جلس إلي بعض الناس فقال لهم: ( قد عييت ، فقالوا له : أتجالسنا وأنت تلحن ؟ فقال : كيف لحنت ؟ فقالوا له : إن كنت أردت من التعب : فقل أعييت ، وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت .) فاستكثر الكسائي أن يقال له ذلك فسأل عن من يعلمه ( اللغة ) فأرشدوه إلي معاذ الهرا فلزمه حتي استنفد ما عنده ، ثم خرج إلي البصرة فجلس في حلقة الخليل بن أحمد فقال له رجل من الأعراب تركت أسد الكوفة وتميمها ــ أى قبائل أسد وتميم في الكوفة ــ وعندها الفصاحة وجئت البصرة ؟ فذهب الكسائي إلي الخليل بن أحمد وسأله : من أين أخذت علمك هذا ؟ . فقال له الخليل : من بوادي الحجاز ونجد وتهامة ، فخرج الكسائي إلي البوادي يجمع ( اللغة ) ويدونها ويحفظها ، ثم رجع إلي البصرة فوجد الخليل بن أحمد قد مات وقد جلس مكانه يونس النحوي فتناظرا .. وأقر له يونس بالسبق .
4 ـ أسّس الكسائى مدرسة الكوفة النحوية ، واصبح أهل الكوفة يفاخرون أهل البصرة بعلم الكسائي ، واستفادت مدرسة الكوفة النحوية من وجود الكسائي في البلاط العباسي ، وبذلك استطاع الكسائي أن يهزم سيبويه في المناظرة التي عقدت بينهما في حضور الوزير يحيي بن خالد البرمكي. وكان العباسيون يميلون بالسليقة إلي الكوفة لأن بها شيعتهم ولأنها كانت العاصمة الأولي لهم ، أما البصرة فتاريخها مع العباسيين لا يشجعهم علي مناصرتها أو مناصرة مدرستها النحوية . وبالكسائى انتشرت الآراء النحوية لمدرسة الكوفة في حاضرة الخلافة العباسية.
5 ـ ، وصاغ الكسائي مذهبه النحوي شعرا حين يقول:
إنما النحو قياس يتبع
وبه في كل أمر ينتفع
فإذا ما أبصر النحو فتي
مر في المنطق مرا فاتسع
6 ـ وكان من الطبيعي أن تهاجمه مدرسة البصرة ، فاتهموا الكسائي أنه لا يقيس ( اللغة ) عن كل العرب وإنما عن مجموعة من الأعراب ينزلون حول مدينة " قطر بل" ، يقول في ذلك أبو محمد اليزيدي:
كنا نقيس النحو فيما مضي
علي لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه
علي لغي أشياخ قطر بل
فكلهم يعمل في نقض ما
به نصاب الحق لايأتلي
إن الكسائي وأصحابه
يرقون في النحو إلي أسفل
وقال فيه أيضا :
أفسد النحو الكسائي
وثني ابن غزالة .
7 ـ وبالغ أتباع الكسائى فيه فيما بعد ، فرووا إجتماع الناس حوله من الأفاق وهو في بغداد يجلس علي كرسي فيقرأ لهم القرآن من أوله إلي آخره وهم يستمعون ، ونسبوا له أنه الذى قام بتنقيط المصحف ، نفس الأسطورة التى قيلت فى الخليل بن أحمد . ووجدوا فى إنحياز الخلافة العباسية نصيرا لهم .
ثالثا :
صلة الكسائى بالخلافة العباسية
إزدحم الطموحون على أبواب الوزير يحيى بن خالد البرمكى ، لكى يصلوا من خلاله الى الخليفة . واستمر هذا بعده . وكان من الطموحين علماء النحو ، ومنهم الكسائى ، وفاز عليهم الكسائى بذكائه ودهائه وفهمه للبروتوكول .
والروايات ـ مع إفتراض صحتها ـ تعطى لمحة عن شخصية الكسائى فى البلاط العباسى :
1 ـ يروي أنصاره عنه إنه كان مع تبحره في العلوم حريصا علي التثبت والرجوع عن الخطأ إذا أخطأ ، وتلميذه الفراء يحكي عنه إنه اشتكي له من الوزير يحيي بن خالد البر مكي ، وإنه يبعث إليه فجأة يسأله عن الشيء ، فإذا أبطأ في الجواب لحقه العيب ، وإن أسرع بالإجابة لم يأمن الخطأ ، فقال له الفراء :( قل ما شئت ، ومن يعترض عليك وأنت الكسائي ).!، فأخذ الكسائي لسانه بيده وقال :( قطعه الله إذا إن قلت ما لا أعلم ).
2 ـ ويروي الكسائي عن نفسه أنه صلي إماما بالخليفة هارون الرشيد فأعجبته قراءته فاخطأ في آية ما يخطيء فيها صبي ، أراد أن يقول " لعلهم يرجعون " فقال: " لعلهم راجعين " ، ويقول أن هارون الرشيد لم يجتريء أن يقول له : أخطأت ، وبعد الصلاة سأله : ( يا كسائي أي لغة هذه ؟ ) فقال : ( يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواب )، فقال له الرشيد: ( أما هذه فنعم .). أى إنه على هذا كان إماما في الصلاة لهارون الرشيد ، وأن الوزير يحيي بن خالد كان يبعث إليه يستشيره .
3 ـ وهناك خبر طريف ـ نرجّح صدقه ـ إذ أورده الخطيب البغدادي فى موسوعته ( تاريخ بغداد ) في تعليل وصوله إلي قصور الخلافة ، فالخليفة المهدي ـ والد هارون الرشيد ـ كان لديه معلم لأولاده ، وحدث أن كان المهدي يستعمل السواك . فدعا ذلك المعلم وقال له : كيف تأمر شخصا بأن يستاك ؟ فأسرع المعلم يقول ( إستك ) ففزع المهدي مما قال لأن كلمة : ( إستك ) تعنى مؤخرتك ، وقال : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ، التمسوا لنا من هو أفهم من هذا ) . فقيل له : رجل يقال له الكسائي من أهل الكوفة جاء من البادية قريبا وهو أعلم الناس ، فجيء بالكسائي للمهدي ، فقال له : يا علي بن حمزة فقال : لبيك يا أمير المؤمنين؟ قال : كيف تأمر شخصا بالسواك : قال : سك يا أمير المؤمنين . فقال له الخليفة : أحسنت وأصبت ، وأمر له بعشرة آلاف درهم . وجعله معلما للرشيد. ثم علّم الأمين ابن الرشيد بعده.
والواقع أن المعلم الذي كان قبل الكسائي لم يخطيء علميا ، ولكنه أخطأ في البروتوكول حين قال تلك الكلمة التي تحمل معنيين أحدهما بذيء ، وواجه الخليفة بهذا ففزع ، بينما كان الكسائي لبقا عارفا بأصول الخطاب مع الملوك فأفلح ، وحاز مكانة عالية لدي الرشيد حتي صار إماما له في الصلاة ، وأصبح يحضر جلساته الخاصة .
4 ـ وكان يحدث تنافس فيها مع القاضي الشهير أبى يوسف ، وهو الأثير لدى هارون الرشيد ، وكان أبو يوسف يتضايق من مكانته لدي الرشيد ويقول عنه محتقرا : ( إن هذا الكائن لا يحسن إلا شيئا من كلام العرب )، فبلغ الكسائي ذلك فقال له إمام الرشيد: ( يا يعقوب ، ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق طالق طالق ؟ ) ، قال أبو يوسف: ( تكون طالقا طلقة واحدة )،قال : ( فإن قال لها : أنت طالق أو طالق أو طالق ؟ )قال أبو يوسف : ( واحدة أيضا ) ، قال : ( فإن قال لها : أنت طالق وطالق وطالق ؟ ) ، قال : ( واحدة ) فقال: ( فإن قال : أنت طالق ثم طالق ثم طالق ؟ )، فقال : ( واحدة ). فقال الكسائي : ( يا أمير المؤمنين أخطأ أبو يوسف في اثنين وأصاب في اثنين . أما قوله : أنت طالق طالق فواحدة لأنها تأكيد كما تقول أنت قائم قائم قائم ، وأما قوله أنت طالق أو طالق أو طالق ، فهذا شك ، وتقع الأولي التي فيها تيقن ، وأما قوله : أنت طالق ثم طالق ثم طالق فهي ثلاث طلقات لأنه نسق ، وكذلك : طالق وطالق وطالق ). وبذلك غلب الكسائي في النحو أبا يوسف في الفقه .
أخيرا
1 ـ فى رأينا إن أكبر خطيئة للكسائى هى إنغماسه فى ذلك الكفر المسمى بالقراءات . وهو تلاعب بقراءة القرآن الكريم ، وشغل للناس عن تدبره . إن للقرآن الكريم قراءة وحيدة ، نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴿١٨﴾ .القيامة )لم يقل : فإذا قرآناه فإتبع قراءاته . بدأ هذا الكفر على يد مجموعة من الأفّاقين إختلفوا فى قراءاتهم ، وكانوا سبعة ثم ارتفع عددهم الى عشرة . وقد ناقشنا هذا الخبل الكافر مرات من قبل . ونطرح سؤالين : هل من كان قبلهم حتى عصر النبى محمد عليه السلام على علم بهذه القراءات ؟ وهل كان معهم جهاز تسجيل سجلوا عليه صوت النبى محمد بهذه القراءات ؟ وإذا كان معهم فلماذا إختلفت قراءاتهم ؟
2 ـ قالوا عن الكسائى : ( تخصص في القراءات ، وكان حمزة بن حبيب الزيات مشهورا في القراءات في الكوفة فتعلم الكسائي قراءته ، ثم اختار لنفسه قراءة فأقرأ بها الناس ، وقرأ عليه بها خلق كثير في بغداد والرقة. وفي شهر شعبان كان يوضع له منبر فيقرأ علي الناس ويختم القرآن مرتين في ذلك الشهر ، لذا أصبح الكسائي أحد أئمة القراءات وجعلوه من القراء السبعة المشهورين .).
فهرس كتاب ( القرآن الكريم وعلم النحو العربى )
الباب الأول : بين اللسان القرآنى العربى والألسنة العرب
الباب الثانى : علماء النحو و( المصطلحات )
الباب الثالث : تفوّق القرآن الكريم على النحويين وغيرهم
الباب الرابع : عن إعجاز الحديث القرآنى عن الزمن :
الباب الخامس : عن علم النحو
خاتمة كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
دعوة للتبرع
أزفت الآزفة : ما معنى يوم الآزف ة فى سورة غافر الآية 18 ؟...
معنى الزنا : السلا م عليكم ورحمة الله وبركا ته . هل " الزنا...
معجب بك ... ولكن : صديقي الدكت ور احمد صبحي صديق ي الدكت ور ...
اربعة أسئلة : أسئلة عن القرآ ن الكري م السل ام عليكم...
هذه المقولة : أول من قال المقو لة ( الدين لله والوط ن ...
more