مقاهي مصر... هكذا غيّرت الأزمات المعيشية طقوساً يومية
على أحد أرصفة منطقة المنشية في وسط مدينة الإسكندرية، شمالي مصر، يقف الستيني رمضان محمد، يتأمل مقهاه القديم الذي ورثه عن والده، والذي كان سابقاً يعج بالزبائن من مختلف الفئات الاجتماعية، ويجتمع فيه عشرات الأصدقاء يتجاذبون أطراف الحديث، ويشاهدون مباريات كرة القدم، ويتابعون شؤون السياسة والثقافة والمجتمع.
وجد الزبائن أنفسهم مضطرين إلى إعادة النظر في عادة ارتياد المقهى يومياً، والتي لطالما كانت تشكل جزءا من طبيعة النسيج المجتمعي المصري، وتوفر مكانا للنقاشات، وساحة للترويح عن النفس.يقول العم رمضان، لـ"العربي الجديد": "الأزمات انعكست بوضوح على المقهى. كان عندي زبائن دائمون يجلسون يومياً لساعات، يشربون الشاي والقهوة، ويتسامرون، لكنهم أصبحوا لا يأتون كثيراً، وحين يحضرون يطلبون مشروباً واحداً، ويمكثون لفترات قصيرة. ارتفاع الأسعار أثقل كاهل الزبائن، وجعل من الصعب على مختلف الفئات الذهاب إلى المقاهي، وحالياً يقتصر الأمر على عدد محدود من الرواد الذين يحرصون على الوجود في المناسبات، أو كفسحة ترفيهية، والغالبية تراجع حجم طلباتهم المعتادة من المشروبات".
وبحسب التقديرات، يعتبر المصريون ثالث الشعوب العربية استهلاكاً للشاي والقهوة، ووفقاً لنشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، ارتفعت أسعار مجموعة البن والشاي والكاكاو في الأسواق المحلية بنسبة 9,2% خلال شهر فبراير/شباط الماضي، مقارنة مع أرقام نفس الشهر من العام السابق، فيما قفزت واردات مصر من البن خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي بنسبة 161%؛ لتصل إلى 32,83 مليون دولار، مقابل 12.58 مليون دولار في ديسمبر 2023.
يعمل خالد الشاويش في مقهى بحي الإبراهيمية في وسط مدينة الإسكندرية، ويؤكد أن تأثير الأزمة المعيشية لم يقتصر على قلة عدد الزبائن، بل انعكس على مستوى الدخل الشخصي للعاملين في قطاع المقاهي. يقول: "كنا نعتمد في دخلنا على البقشيش والإكراميات بشكل كبير، لكن مع تقلص عدد الزبائن، تراجع دخلنا بشكل ملحوظ، ما أثر على معيشتنا. أتفهم أن الأسعار ارتفعت خلال السنوات الأخيرة، سواء في المقاهي الشعبية أو الراقية، ما يقلص قدرة الزبائن على دفع مبالغ إضافية، ولا أحد يهتم كيف يعيش القهوجية؟ رواتبنا رمزية اعتماداً على دخلنا من الإكراميات، لكنها تقلصت كثيراً".اعتاد أحمد سعيد، وهو موظف حكومي، قضاء أمسياته مع الأصدقاء في أحد مقاهي وسط الإسكندرية، ويقول: "لم يعد الجلوس في المقهى متاحاً كالسابق، فبعد أن كان مكاناً لمحاولة التخلص من ضغوط العمل وأزمات المعيشة، وكانت أسعار المشروبات في المتناول، ارتفعت الكلفة خلال الفترة الأخيرة، خاصة في المقاهي الشهيرة والراقية. بعض المقاهي لجأت إلى استراتيجيات جديدة للحفاظ على زبائنها، مثل تقليل حجم المشروبات مع تخفيض الأسعار، لكنها مازالت تفوق ميزانياتنا. بدأنا نلتقي في منزل أحد الأصدقاء، أو نجلس في الأماكن العامة مثل الحدائق أو الكورنيش".
ويروي محمود مكي، وهو موظف في شركة خاصة، كيف اضطر إلى تقليل زياراته المعتادة إلى المقهى بعد أن تضاعف ثمن المشروبات، والتي بات سعرها يصل إلى ما يعادل سعر وجبة غداء. ويوضح لـ"العربي الجديد": "مع غلاء الأسعار، أصبحت أختار المقاهي الأقل كلفة، أو أطلب الأرخص في قائمة المشروبات. بالنسبة لكثيرين، لم يكن المقهى رفاهية، بل ضرورة اجتماعية، ومكاناً للتفاعل والتواصل بعيداً عن ضغوط العمل والمنزل. الغلاء أفقدنا متنفساً نفسياً، خاصة لمحدودي الدخل".
عمال المقاهي أيضا متضررون، 10 يونيو 2015 (جورج فرنانديز/Getty)
عمال المقاهي أيضا متضررون، 10 يونيو 2015 (جورج فرنانديز/Getty)
ويقول كريم عبد الله، وهو مدير مقهى في منطقة العجمي غربي الإسكندرية: "الزبائن الدائمون اختفوا تقريباً، وخصصنا ركناً للقهوة السريعة بأسعار مخفضة في محاولة لجذب مزيد من الزبائن، كما لجأ أصحاب بعض المقاهي إلى تقليص عدد العاملين للتكيف مع استمرار الأزمة. أرفض اتهام أصحاب المقاهي برفع الأسعار، أو تقليل جودة المواد المستخدمة، فنحن مثل بقية الشعب نعاني من الغلاء الذي طاول كافة السلع والخدمات، ومنها المواد اللازمة لتحضير المشروبات، وغيرها من تكاليف التشغيل، إذ ارتفعت الرواتب وكلفة فواتير الكهرباء والايجارات، وكلها تشكل عبئاً كبيراً".
بدورها، تؤكد الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم أن "ارتياد المقاهي أو أماكن التجمعات من بين الأمور الضرورية في حياة كثير من المصريين، وهي ليست مجرد أماكن لتناول المشروبات، بل تحولت إلى مراكز نابضة بالحياة الاجتماعية والثقافية، حيث يلتقي الأصدقاء، وتُناقش القضايا اليومية، وتُنسج الحكايات التي تشكل نسيج المجتمع".
وتوضح لـ"العربي الجديد": "شهدت مصر عبر تاريخها الطويل ازدهار المقاهي بما هي مؤسسات ثقافية واجتماعية، فمقاهي وسط القاهرة ووسط الإسكندرية احتضنت الأدباء والمثقفين لعقود، ومقاهي الأحياء الشعبية كانت ولا تزال تشكل ساحات للنقاش. تعكس المقاهي روح المجتمع المصري، وتؤدي دوراً في استضافة الشخصيات المؤثرة في الفكر والثقافة والسياسة. مع ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، باتت زيارة المقهى تعد رفاهية لا يقدر عليها كثيرون، ما أدى إلى تراجع أعداد روادها، لا سيما من الشباب والعمال. هذا التحول يكشف حجم التفاوت بين طبقات المجتمع، فهناك فئة قادرة لم تتأثر عاداتها بزيادة الأسعار، وفئات أخرى تعاني من معدلات التضخم، ما يجعل من الصعب عليها الذهاب إلى أماكن مثل المقاهي والمطاعم"ويرى الخبير الاقتصادي محمد الشافعي أن "المقاهي تواجه العديد من المشكلات والتحديات التي تهدد استمرارها بسبب الغلاء، مثل كثير من القطاعات في مصر، فالقهوة يتم استيرادها، وقد ارتفعت أسعارها عالمياً لمستويات غير مسبوقة، ويتزامن ذلك مع استمرار تراجع قيمة الجنيه المصري في مقابل العملات الأجنبية".
ويوضح لـ"العربي الجديد": "مع تزايد الضغوط، بدأ المصريون يبحثون عن بدائل لقضاء أوقاتهم، فزادت التجمعات في الأماكن العامة المفتوحة مثل الحدائق، ولجأت بعض الفئات إلى استبدال المقاهي بالجلسات المنزلية الأقل كلفة. ثمة عوامل عديدة تتحكم في أسعار السلع والخدمات، منها أسعار الخامات، وسياسات العرض والطلب، الأمر الذي يتطلب دعم أصحاب المقاهي، ومن ذلك تخفيض الضرائب، أو توفير المواد الخام بأسعار مناسبة، ما يسهم في تقليص الأسعار النهائية على المستهلك".
اجمالي القراءات
53