هل الدوّل العربية مُـقبلة على "ثورات جياع"؟
بينما كانت القاهرة وبعض المُـدن المصرية تشهد مظاهر احتِـجاج وإضراب على الأوضاع الاقتصادية المترتِّـبة على الغلاء، تتخلّـلها مواجهات عنيفة مع قِـوى الأمن واعتقالات بالمئات، كانت أيضاً مُـدن في اليمن تعيش أعقاب مُـواجهات عنيفة مع الأمن، في السياق الاحتجاجي ذاته.
وإذا كانت الحالتان، اليمنية والمصرية، تمثلان بُـؤراً ساخنة ودلالة مُـباشرة على ما يُـمكن أن ينتج من التحوّلات الاقتصادية البِـنيوية الحالية في العالم العربي، فإنّ العديد من المُـدن والعواصم العربية تعيش الحالة ذاتها من القلق الاجتماعي، على خلفية الظروف الاقتصادية.
وإذا كانت الحالتان، اليمنية والمصرية، تمثلان بُـؤراً ساخنة ودلالة مُـباشرة على ما يُـمكن أن ينتج من التحوّلات الاقتصادية البِـنيوية الحالية في العالم العربي، جرّاء سياسات الخصخصة والليبرالية المصاحِـبة لارتفاع الأسعار عالمياً، فإنّ العديد من المُـدن والعواصم العربية تعيش الحالة ذاتها من القلق الاجتماعي، على خلفية الظروف الاقتصادية، وإن كانت تعبيراتها بدرجات مُـتفاوتة، كما هو الوضع في المغرب، التي شهدت – سابقاً - مظاهرات واعتصامات كبيرة، أو الأردن، التي تسُـودها حالة من الهدوء الحذِر، مع التّـذكير بأحداث الشّـغب في مُـدن الجنوب عام 1996، بسبب رفع أسعار "الخبز".
رسالة سياسية في أعمال فنية
اشتِـداد "الكَـرب الاقتصادي" على المواطن العربي وبروز حالات الاحتجاج الأخيرة، مع عجز الحكومات العربية عن اختِـلاق استراتيجيات، احتواء سياسية واقتصادية قادِرة على التّـعامل مع ذلك، واقتصار ردود الفعل الرسمية على تشديد القَـبضة الأمنية.. كل هذه المُـعطيات الجديدة في الحياة السياسية والاجتماعية، تزامنت مع عرض دُور السينما المصرية والعربية، لفيلمين جديدين للمخرج المصري خالد يوسف، الأول، "هي فوضى" (مع يوسف شاهين)، والثاني، وهو الأخطر "حين ميسرة"، يعكسان طبيعة المرحلة الجديدة وتداعياتها!
"هي فوضى"، يتحدث عن الفساد الأمني، وينتهي برسالة سياسية خطِـرة ومباشرة، لا تحتاج إلى تأويل، فَـحْـواها "الثورة الشعبية"، تنتهي بالإنفجار ضدّ الفساد السياسي وما يرتبط به من قَـبضة أمنية حديدية.
فيما يأتي "حين ميسرة"، حول العشوائيات والفقر والطبقات الشعبية "الارتوازية"، التي تفتقد أمنها اليومي وتفرز شروطاً مُـحفّـزة للحركات الراديكالية (تحديداً المؤيدة للقاعدة)، وفي الوقت نفسه، تنتج حركات احتجاج اجتماعي جديدة، كالبغاء والمخدّرات والانهيار الاجتماعي والفساد السياسي والمالي.
الفيلمان هما بمثابة إنذار شديد من انفجارات اجتماعية وأمنية وسياسية. ومن الواضح أنّهما يحمِـلان رسالة صارخة للنُّـظم العربية، بأنّ الأوضاع على حافة الانهيار وأنّ القبضة الأمنية تؤزِّم الأوضاع السياسية والاجتماعية وتُـراكم المشكلات وتُرحـّلها وتعقِّـدها..
لكن، إلى أي مدى تعكِـس الاحتجاجات والاضطرابات الأخيرة قُـوة هذه الرسالة ومِـصداقيتها من ناحية، وإلى أي مدى تأخُـذ الحكومات العربية ذلك على محمَـل الجدّ؟
حركات جديدة ردّاً على التحوّلات الاقتصادية
ثمة قراءة سياسية عربية ترى في كل ما يجري أنه مجرّد "ردُود أفعال آنية"، سرعان ما تنتهي إلى لا شيء، مع زيادةٍ في التّـخدير السياسي بوُعود اقتصادية معسُـولة، لا تتوازى مع مستوى المعاناة الحقيقية.
إلاّ أنّ هنالك في المقابل، قراءات مُـغايرة تماماً، ترى أنّنا أمام تحوّلات جديدة بنيوية في المشهد السياسي العربي. يتبنّـى هذا الطرح الدكتور موسى شتيوي، أستاذ الاجتماع الأردني ومدير مركز الأردن للدراسات الاجتماعية، والذي يرى "أنّنا أمام صورة جديدة من الحركات السياسية الجديدة، يتراجع فيها دور الأحزاب السياسية الأيديولوجية التقليدية، وتبرُز فيها حركات أكثر تمثيلاً للشعوب والمجتمعات، تمثل شرائح أوسع وتعبِّـر عن مصالحها وهواجِـسها بصورة مباشرة".
الدكتور موسى شتيوي، وفي تصريحات خاصة لسويس انفو، يرى أننا أمام إرهاصات مَـرحلة يُـمكن أن نُـطلق عليها "سياسات الشعوب، تعكس النتائج الرئيسية للسياسات الاقتصادية الاجتماعية الليبرالية الجديدة، التي تُـلقي بأعباء ثقيلة على شرائح اجتماعية واسعة غير قادرة على التكيّـف معها، ووصلت إلى مرحلة من عدم التحمّـل والشعور بالتّـهديد على أمنها اليومي".
وفي الوقت الذي يرى فيه شتيوي أنّه لا يمكن اختزال هذه الاحتجاجات في سياق "ردود الفعل" الآنية، لأنها تعكِـس تحوّلات اقتصادية واجتماعية، تتمثّـل بنهاية دور الدولة الرعائي وانكشاف شرائح واسعة أمام التهديدات الاقتصادية، إلاّ انّه يصعُـب التنبُّـؤ بمخرجات هذه المرحلة وصورة الحركات الجديدة وأدوارها المتوقعة، لكن ما يُـمكن قوله، أنّنا على أعتاب مرحلة تحوّل تاريخية، لم تتّـضح هويَّـتها ووِجهتها بعدُ.
غياب الديمقراطية يولِّـد العنف والفوضى
من جهته، يتّـف فهد الخيطان، المحلل والكاتب السياسي في صحيفة "العرب اليوم"، تماماً مع شتيوي في أنّ هذه الاحتجاجات تتجاوز منطق "ردود الفعل" وأنّها تُـنبِـئ بمرحلة جديدة من العلاقة بين الدول والمجتمعات، على خلفية الشروط الاقتصادية القاسية الحالية، بخاصة أنّ التقديرات الاقتصادية لا تُـشير إلى آفاق للخروج من الوضع الرّاهن، وإنما استمرار مُـعاناة شرائح واسعة في المراحل القادمة.
بل ويذهب الخيطان في حديثه لسويس أنفو إلى القول: أنّ الحكومات العربية، إذا استمرت في تجاهُـل النتائج العكسية للأوضاع الاقتصادية، فإنّنا مقبِـلون على "ثورات الجياع"، التي بدأت بالفعل تطُـل برأسها من مصر.
ويفسِّـر الخيطان الأسباب التي تؤدّي إلى اتِّـخاذ هذه الحركات طابعاً عنيفاً، بسبب غِـياب الديمقراطية وعدم وجود تقاليدَ للعمل السياسي المَـدني الاحتجاجي، فـ "إضعاف المؤسسات النقابية والحزبية وعدم قيامها بأدوارها، بل وعدم وجود ممثلين معبّرين عن الجماهير، يدفع بها إلى التعبير عَـفْـوياً عن نفسها والخروج إلى الشارع".
ويقلِّـل الخيطان من مسؤولية المعارضة في هذا السياق، إذ يرى أنّ غياب الديمقراطية يؤدّي إلى معارضات خِـطابية مُـؤدلَـجة، تفكِّـر فقط في الدّفاع عن نفسها في مواجهة استهداف الحكومات لها، ويقول: "لا أستطيع أن أطالب معارضة تحت القمع أن تقدّم برامج وبدائل"، ويرى أنّ انسداد أبواب التعبير والتغيير الديمقراطي، تؤدّي إلى حكومات أيديولوجية (تمسّـك بأيديولوجيا السوق) ومعارضات في المقابل احتجاجية أيديولوجية.
هل الاستدراك مُـمكن أم الفوضى قادِمة؟
تدفع كافّـة المؤشِّـرات إلى أنّ المُـعادلات التقليدية في إدارة الحُـكم في الدول العربية، في طور الأفول، وإذا كانت كثيرٌ من الدّول العربية قد حَـظيت بالاستقرار السياسي، فذلك لم يكُـن فقط بتأثير "القَـبضة الأمنية" الحديدية، بل بوجود قَـدر معقول من الاستقرار الاقتصادي وعدم استفحال مشكلة الجوع والفقر والبطالة إلى حدود تضع المُـواطن أمام خِـيارات قسرية: إمّا الثورة والانتفاضة والخروج إلى الشارع، أو التلوي جوعاً مع أبنائه وأسرته أو التحايُـل على هذه الشروط بالسّـرقة والرّشوة والفساد بكافّـة أشكاله، أو الاتِّـجاه إلى الحركات السرّية الراديكالية، تعبيراً عن السّـخط والغضب، أو طمعاً في عالم مِـثالي يخرج به من اختناقات الحياة..
أمام الحكومات العربية مخارج في هذه الطريق الخطِـرة المؤدّية إلى المجهول، فالانفتاح السياسي والانتخابات والبرلمانات والأحزاب والنقابات، هي في حقيقتها قَـنوات للاستِـقرار السياسي والأمني الحقيقي، أمّا المنظورات الأمنية و"عسكرة الحياة السياسية"، فليس لها إلا نتائج وخيمة، سواء ظهرت اليوم أو غد أو بعد غدٍ!
اجمالي القراءات
2821