عشرة أدلة تنفي حد الحرابة عن الإسلام
أولاً: لا يوجد حد إسمه.."حد حرابة"..في القرآن، هذا حُكم اصطلاحي بين الفقهاء أخذوه من الجذر.."يحاربون الله ورسوله"..أي لو كان هناك حداً فيجب أن يكون اسمه .."حد الحرب مع الله"..وليس الحرابة.
ثانياً:أن سياق آية الحرب في سورة المائدة بدأ بالتحذير من جريمة القتل قال تعالى.." فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ،فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين "..(المائدة 30:31)
وهذا يعني أن مفهوم.."الحرابة"..الذي اخترعه الشيوخ يعني جريمة القتل وصور التصدي لها مجرداً وبعض أنواع العقوبات وفقه القصاص وضبط سلوك المجتمع وحماية أرواح الناس، وكل ذلك مسئولية وليّ الأمر تشريعاً وتنفيذاً ومسئولية المجتمع تنزيهاً.
ثالثا: أن بقية السياق تحدث عن قوم من بني إسرائيل امتهنوا حياة الناس وفشا فيهم القتل فنزل فيهم قوله تعالى.." من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون "..(المائدة:32)
ومثال بني إسرائيل تحذير ووعيد بتشديد القانون لو عجز المجتمع عن التصدي لتلك الجريمة، والتشريع عليهم لا يعني أن كل بني إسرائيل كانوا مجرمين بل كثيرُ منهم ، وحكمة الإله وجبت تشريع ما أصفه.."بقانون طوارئ"..للسيطرة على الانفلات الأمني والأخلاقي الذي ساد مجتمعاتهم.
رابعاً: الآية نفسها تؤكد السياق..قال تعالى..."إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".. (المائدة:33).
والمعنى أن جريمة القتل تعني حرباً لله ورسوله وهي فسادُ في الأرض، أما العقوبة جاءت بالتخيير بين أربعة .."قتل-صلب-قطع-نفي"..والتخيير بين هذه الأربعة تعني أن العقوبة نفسها متروكة لتقدير وليّ الأمر القائم على القصاص.
وبما أن تلك العقوبات هي السائدة في زمنهم فيجوز تطبيق الآية بعقوبات أخرى تناسب مكان وزمان آخر، بل وتناسب مجتمع آخر، وهذا مُدرج في تعيين فقه العقوبات الجنائية في الدين الإسلامي، أن المقصود من العقوبات عموماً هو الضبط كون العقوبة وسيلة في ذاتها لهدف أسمى.
فلو كانت العقوبات أهدافاً لفقدت معانيها وصار القتل من أجل القتل وليس لأجل القصاص أو ضبط وتقويم المجتمع، وفي تقديري أن الجماعات الإرهابية اعتمدت على أن العقوبة في ذاتها هدف حتى جعلت الدين كله ينحصر في تلك العقوبة، وهي العقلية القانونية التي شاعت في بني إسرائيل زمناً حتى قتل بعضهم من أجل القتل، فنزل فيهم تشريعاً غليظاً كقانون طوارئ يحد من تلك الهمجية.
خامساً: تفسير آية الحرب اعتمد على أقوال سبعة رجال، قتادة بن دعامة والكلبي وعطاء الخراساني قالوا أن الحرابة تعني.."قطع الطريق"..بينما الحسن البصري وأبي بكر الأصم قالوا أن المحارب هو الكافر، والضحاك قال هم أهل الكتاب، وابن عباس توسط وقال أنها لا تعني عموم قطاع الطُرق، لأن قاطع الطريق الكافر لا حد عليه فلا حد إلا على مسلم، وعقوبته القتل قصاصاً.
واختلاف آرائهم يعني أن الآية متشابهة، بينما الحدود لا دليل عليها إلا بالمُحكم.
سادساً: الحد عند الفقهاء هو عقوبة مقدرة شرعاً، والتقدير شرعاً يعني وجود متهم واضح له عقوبة واضحة، بينما في الآية توجد عقوبة ولكن لا يوجد متهم، والدليل أنهم اختلفوا في معنى.."المحارب"..
سابعاً:تفسير آية الحرب عند الجمهور هو تفسير قتادة والكلبي ، أي شاع لديهم أن المحارب هو .."قاطع الطريق"..ولو كان ذلك صحيحاً فأي معارض سياسي أو ثائر هو قاطع طريق ، لأن المعارضة تعني ثورات وإضرابات وانقلابات، وفي هذه الأجواء ينتشر قطع الطُرق..
ويؤيد هذا المفهوم الواحدي في تفسيره الوجيز قال.." إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أَيْ: يعصونهما ولا يطيعونهما يعني: الخارجين على الإِمام وعلى الأمَّة بالسَّيف"..(تفسير الوجيز 1/317)
وهذا التفسير هو تفسير أموي وعباسي بامتياز، فقد جعلوا الحرب على الإمام/الخليفة بمقام الحرب على الله..وفي عصر التدوين شاع هذا التفسير بأحاديث تزعم أن النبي قتل وذبح وقطع لتبرير سلوك الخليفة العباسي تجاه معارضيه..وهي نفس الأحاديث التي تطبقها داعش الآن ويستنكرها العالم..
والسؤال : لو كانت الحرابة تعني قطع الطُرق فلماذا قال الله.."إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"..وهل الحرب مع الله تعني فقط قطع الطريق؟.. أليس قتل الناس وظلمهم هو حرب؟.. أليس الكذب على الله ونبيه هو حرب ؟.. أليست الفتن الطائفية والسياسية التي يُشعلها مجانين الطائفية هي حرب مع الله ؟
لم يكن يجرؤ فقهاء بني العباس لتفسير الحرابة بغير هذا المفهوم، لأن العقلية من وراءه سلطوية تعني حفظ النظام وسيادة القانون.. وهي دعاوى أي سلطة لقهر أي معارضة..وتعني أن المعارض لديهم قاطع طريق ، بينما الخليفة هو ظل الله في أرضه وحارس هذا الدين من هؤلاء "المجرمين"..!
ثامناً: حدود الله نعرفها باتباع أوامرة واجتناب نواهيه، ليس كما شاع أن الحد هو عقوبة دينية من سلطة الخليفة ، بل الحد هو حد الله يُجازي به في الآخرة ليس من سلطة أي مخلوق، أما العقوبات كعقوبة السارق والزاني والقاتل متروكة للدولة والمحاكم تنظر فيها حسب ظروف المجتمع..وإلا شاعت المظالم بتطبيق عقوبة في غير بيئتها،وليس أدل من نموذج داعش الذي أفسد بتطبيق عقوبات من القرون الوسطى، فعقوبات كقطع يد السارق مثلاً وجلد الزاني هي عقوبات واردة في القرآن بصفة التقييد وكونها وسيلة لا هدف، أي أنها عقوبات تناسب ظرف المجتمع العربي منذ ألف عام..هذا لو فرضنا أن القطع يعني بتر، فتوجد تأويلات تعني بالقطع معانٍ مجازية وكناية عن أشياء أخرى.
والدليل أن الحد هو حد الله ليس لأحد أن يعاقب به توجد أمثلة متعددة لتلك الحدود وسنرى كيف ينظر لها الشارع الحكيم:
1-"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون " [البقرة : 187]
2-"فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" [البقرة : 229]
3-"فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون" [البقرة : 230]
4-"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم" [المجادلة : 4]
5-"يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " [الطلاق : 1]
والآيات واضحة أن حدود الله متعددة ، وأنها تدخل ضمن القاعدة.."إفعل ولا تفعل"..بصيغة الإحكام، وأن عقوبتها مقدرة إلهياً، فالصيام هو كفارة كعقوبة للظهار والقتل الخطأ، وليس من سلطة الخليفة أو وليّ الأمر أن يفرض هو الصيام أو الكفّارات، وهذا يعني أن الحدود هي أمر إلهي وعقوبات قد يعجل الله بها في الدنيا، أما ما يخص البشر فبما يتآلفون ويتعارفون عليه بما لا يتعدى الغاية من تلك الحدود..كمثال.."حفظ الأسرة والزوجة"..من عدة المرأة ، "وحفظ المجتمع"..من العقوبات كالقطع والجلد..وهي من المقاصد الخمسة المتفق عليها في أصول الفقه.
تاسعاً: قال الله تعالى.." التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين [التوبة : 112]
والآية تعني بوضوح أن الحافظون لحدود الله هم أشخاص ليسوا تلك التصانيف السابقة، أو يكونون منهم لكن بالترادف، فالتائب هو عابد، والسائح هو حامد، والحافظون لحدود الله هم جميع ما سبق، لكن ذكرهم في النظم القرآني يعني أنهم قد يكونون أشخاصا آخرين، بمعنى أن البار بوالديه والمُحسن إلى الناس هو حافظ لحدود الله وإن لم يُذكر معنىً ولا تصريحا.
ولو كان هناك حداً للحرابة فيعني أن السائحون لا يجوز عليهم الحد نزولاً لتضمين السائح ضمن الحافظين لحدود الله، فالسائح يعني المتفكر في ملكوت الله ولو كان غير مسلما، وبالتالي يبطل تفسير معنى المحارب بالكافر، وبالقياس يعني أن الراكعون لا يجوز عليهم الحد..فكم من مصلٍ وساجد وراكع هو قاتل ومجرم، وكذلك يعني أن الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر لا يجوز عليهم الحد، فكم من آمرٍ بالمعروف هو مفسد، وكم من ناةٍ عن المنكر هو طاغية متجبر منافق..
عاشراً:كلمة.."حد الحرابة"..تعني في الأخير أمراً صريحاً واجب النفاذ، والسؤال من المكلف بهذا الحد؟..لو قيل هو الخليفة فقد يكون الخليفة ظالماً والثورة عليه حق، ويحيل على الله أن يرضى بالظُلم، ولو قيل هي الأمة فالأمة متفرقة كلُ يدعي وصلاً بليلى..وجميعهم يُكفّرون بعضهم ولا يتفقون في وحدة الخطاب.
بقي لنا خيار أخير سينفي كونه حداً
وهو أن القاضي هو المُكلف بالنظر في شأن المحارب لله ورسوله، لا بصفته وكيلاً عن الله، ولكن بصفته وكيلاً عن المجتمع وقوانينه، فالمحارب لله هو محارب للإنسان بالضرورة، وضرورة الدين لم تكن إلا لوجود الإنسان، فلو انتفي هذا الوجود فلا معنى للدين، لذلك جاء التحذير الشديد من جريمة القتل وأنها تساوي الحرب على الله ورسوله، وجاءت تلك العقوبات في شأن مرتكبيها لتحد من شيوع هذه الآفة بين المجتمعات.
فالقتل هو غريزة حيوانية قبل أن يكون فكراً له معالم، والجريمة دائماً ما تخفى ضمن طباع الإنسان، وتشتعل فور انقضاء زهده ومحاسنه، ثم تظهر بسلوك حيواني لا شأن له بمن تم تكريمه في كتاب الله بحمل الأمانة، لكن الفقهاء شاءوا أن يمنعوا هذا المعنى ويستخفوا بتلك الجريمة، فاعتدوا بها ذنباً لا ينقض أصل الإيمان، ولا يعني حرباً لله ورسوله، بل عنت أنها حرباً للخليفة، فخلقوا في أذهان المسلمين عقلية سلطوية ترى أن كل مخالف هو معارض مشاغب ..ولا ينجو من تلك العقلية إلا من فقه حجم هذه الجريمة وشدة تحريمها في كتاب الله.
اجمالي القراءات
17214