العاهر .. قصة قصيرة
((الفصل الأول))
على شاطئ الحياة المترفة، نشأ (رسلان)، في كنف النعمة، والرخاء، يقطف من غصون المال ثمراً، ويرتشف من كؤوس الثراء شهداً.
وقد بات شاباً، وسيماً، ورث الغنى عن أم راحلة، فأضحى وأباه في زمرة الميسورين.
وفي يوم من أيام القدر، وبينما يقود عربته البهية، رأى فتاة تُدعى (سهيلة) تركض صوب صيدلية كأنها تهرب من ألم لا يُحتمل، فإذا بسيارة طائشة تطعنها هروباً، وتفر كأنما تهرب من عقاب السماء.
توقف (رسلان) ، مدفوعاً بفضول لا يخلو من رحمة، ونَزل ليستطلع حال الفتاة (سهيلة).
فإذا بها حية، تتنفس رغم الأنين.
نادته قائلة بصوت مبحوح :
سهيلة : يا هذا، أتحمل لي هذا الدواء، وتأتي بمثله، ولا تقلق فثمنه في حقيبتي.
رسلان : أي دواء تطلبين وأنتِ في حال يُرثى لها، ألا تفكرين بنفسك.
سهيلة : دع عنك حالي، فالدواء لأبي الشيخ القعيد، يختنق في كل شهيق، نفذ ما طلبت، ولك شكري، وامتناني.
فكان الدواء بداية الحكاية، وكانت (سهيلة) فتاة في ريعان الزهر، تسكن جسداً بديعاً، وقلباً أنقى من قطرات الندى.
كانت يتيمة الأم، ووحيدة الأب، تعيش على معاش أباها الضئيل، لا يكفيهما قوت الشهر، ولا دواء الشيخ الهرِم.
ومن علبة دواء، تشكلت عروة بين القلبين، ثم تفرعت جذور الحب في أرض طيبة، لا تعترف بفوارق الطبقات، أحبها، وأحبته، وتناسى كلاهما صناديق المال والجاه.
وفي ليلة أرخى فيها الليل سدوله، انقطعت أنوار المدينة، وكان رسلان يزور (سهيلة) ليطمئن على ابوها الشيخ القعيد.
وبعد أن نام الشيخ، هم (رسلان) للرحيل ..
فاستأذنته (سهيلة)، أن يمكث حتى يعود التيار الكهربائي، فلبى النداء، وكانت برودة الليل حنّانة، والشوق دافئاً حتى أوقد النار في العروق.
والأب القعيد نائماً، بينما القلوب يقظة، فمالت إليه، ومال إليها، واحتوتهما لحظة، فاندثر العفاف في غفلة من الضمير، وظلت هي مبتسمة، ظانة أن المحبة عذر لاقتراف الغرام.
لم تلزمه بعد تلك الليلة بالزواج، ولم تَلُمه على خطأه، بل كانت أنقى من العتاب، وأوفى من الشروط، وأبها من الكبرياء.
((الفصل الثاني))
لكن العاصفة لا تسبقها سحابة، فإذ بوالد (رسلان) يخطِبُ له عروساً من نسل المال، ودم الجاه، ورفض (رسلان)، فالحب لا يعرف نسباً، ولا يعترف بحسابات البنوك.
وقد نشب بينه، وبين أباه نقاش صارخ :
الأب : يا ولدي ما (سهيلة) إلا نزوة، وما نزوتك إلا لحظة، وما الحرّة إلا من تموت ولا تأكل بثدييها، أما (سهيلة) وأبوها، فأنت تعولهما من مالك.
ولولا مالك ما عرفتك (سهيلة)، وما منحتك شيئاً، وبات جسدها حصناً منيعاً عليك.
رسلان : وما الرجولة إن نكثت وعدي، أأترك قلباً أحبني بلا قيد.
الأب : الرجولة يا بني، ليست قلباً، بل حساباً، ليست وفاء، بل غنى، وما الحب إلا ترفُ الأغنياء، وما الوفاء إلا خرافة الفقراء.
في النهاية :
أقنعه الشك، وشككته التجربة، وساوره الظن، وذهب إلى (سهيلة) ليختم القصيدة التي لم تكتمل، فوجدها صامتة، راضية، بل سعيدة لسعادته، فتعجب لكونها لا تغار عليه، وفجأة إنتفض، وأطلق عليها ما لا يقال :
رسلان : بل أنتِ عاهرة، ومشاعركِ مأوى للرجال، وميناء لكل العابرين.
سهيلة : بل ما وهبتك إلا حبي، وما قبلتك إلا قلباً، كنتَ أول من لمسني، وآخر من لمس، فأنى أكون إلا لك.
وابتعد كلاهما، وترك كُل الآخر، دون وداعٍ يليق، أو ودّ يُسترد.
واستسلم (رسلان)، وترك (سهيلة) لأقدارها، وتزوج الأخرى .. (زهراء)، الغنية الجافة، ذات العينين التاجرتين، والغيرة الحارقة.
((الفصل الثالث))
مرت عشرون عاماً ..
وأنجب (رسلان) من (زهراء) بنتين، باتتا في عمر الحب الأول.
لكنه لم يكن يوماً سعيداً، فزوجته (زهراء) كانت تعد أنفاسه، وتحاسبه كما يحاسب السيد خادمه.
وفي ليلة من ليالي السرير البارد، تذكر (رسلان) امرأة عاهرة، كانت تأخذ منه المال، وتمنحه الجسد، فتبدل وجهه، وسأل نفسه :
هل أنا مثل تلك العاهرة ؟
هل أنا من باع جسده للمال؟
ثم اغتسل، ونظر في المرآة، فخاطبها :
هل أنا حقاً (رسلان)، بل أنا عارُ على اسم الأسد، فالأسد لا يزأر في قفص صنع من المال والندم.
وخرج بسيارته الفارهة :
والمدينة هادئة .. والمرايا أكثر من الزجاج، وكلما مر بامرأة ساقطة على الرصيف المقابل، لا يعرفها ..
وجد نفسه يراها بداخله لا وجه لها، لأنها تحمل وجهه القديم، حين باع جزءاً منه لا يُشترى.
المال لم يكن عُملة فقط، بل كان ميزاناً لحب مشوه، وزواجاً يرتدي ثوب الفضيلة، لكنه يخفي في داخله صفقة لا تنسى.
يقول لنفسه : أنا رجل في هيئة زوج، ويرى نفسه (عاهر) تزوج المال حين ظن أنه تزوج بامرأة.
ثم تذكّر (سهيلة) ، تلك الشفافة كقطر الندى، وذهب يسأل عنها، فقيل له :
تركت المدينة، وأقامت بقرية، تعمل خادمة مراحيض عمومية.
ففزع قلبه، وذهب إليها.
((الفصل الرابع))
ذهب (رسلان) إلى (سهيلة)، بعد عشرون عاماً من الفراق، فوجدها كهلة، انحنى ظهرها، وشحُب لونها، وفني شعرها، وهزل بدنها، وتعمل عاملة نظافة في احد المراحيض العمومية، فراح يحدثها :
رسلان : يا سهيلة هل تذكريني ؟
سهيلة (بصوت مبحوح) وعينان ضعف بصرهما : ذلك الصوت .. ليس إلا لرجل واحد .. أنت رسلان ؟
رسلان : نعم، أنا من ظلمك، واتهمك بالعهر، وقد علمت الآن أنني أنا (العاهر).
ثم قصت (سهيلة) عليه مأساتها، موت أبيها، وطردها من المنزل، ووحدتها، وفقرها، وكيف أنها رفضت الزواج لأنها ليست بعذراء، ورفضت الدعارة لأن العفة عندها أعظم من المال.
فقال لها رسلان (بعين دامعة) : أتتزوجينني الآن ؟ سأطلق زوجتي لأجلك.
سهيلة : فات الأوان يا رسلان، أنا على شفير الموت، سأسكن التراب بعد أن سكنني السرطان، وما أمامي سوى أيام، وقد خُيرت بين الطعام والدواء، فما وجدت في الحياة لذة أو رغبة.
واستكملت حديثها قائلة :
إن أردت فعل جميل لأجلي، فادفني كما يليق بامرأةٍ أحبت يوماً، ولم تُعِر جسدها للطرقات.
وكانت المأساة .. ماتت (سهيلة)، دون أن تبلغ الأربعين سنة، لكنها ماتت شريفة.
أما (رسلان) فعاش، لكنه لم يعد كما كان، فقد ظل حياً في سجن من ندم، وفراش من عُهر، وحياة لا تطاق، مع امرأة لم يحبها، ومع ضمير ينهشه كما تنهش النار حطباً جافاً.
ولم تكن رؤيته فيما بعد للعاهرات اللواتي يمر بهن مجرد وجوه في الزحام، بل مرايا مكسورة تعكس أجزاء منه حاول طمسها.
كل خطوة نحو إحداهن كانت كأنها تذكره بجريمة صامتة ارتكبها يوم باع نفسه بثمن زائف، وسماها حباً، أو حصافة، يوم ارتدى قيداً على هيئة (خاتم).
قد ماتت (سهيلة)، لكن حبها ظل على وفائه، وحياؤها ظل حياً.
أما (رسلان)، فقد عاش، لكنه مات ألف مرة، كلما نطق قلبه بإسم (سهيلة)، بعد أن باع روحه يوم ارتضى أن يُشترى، حتى إن لبست ثوب الزوجة.
قصة : شادي طلعت
#العاهر_قصة_قصيرة
#قصة_شادي_طلعت
اجمالي القراءات
6