شربة ماء على مائدة العشاء: رحلة في تدبر آية كونية
كانت ليلة عادية تتخللها دفء الأحاديث العائلية ورائحة الطعام الشهي. التفت عائلتي حول مائدة العشاء، وكان يشاركنا الجلسة صديق والدي ، الدكتور عبد الحق، الطبيب الباطني ذو الخبرة الواسعة والنصائح التي لا تنضب. كنا نتجاذب أطراف الحديث في مواضيع شتى، من ذكريات الماضي إلى شؤون الحاضر.
في منتصف الوجبة، مد أخي، رياض، يده نحو إبريق الماء ليملأ كوبه. لاحظ الدكتور عبد الحق حركته، وبابتسامته الهادئة المعهودة، قال له بنبرة ناصحة: "رياض يا بني، الأفضل أن تنتظر حتى تنتهي من طعامك. شرب الماء أثناء الأكل قد يعيق عملية الهضم قليلاً."
نظر رياض إلى الدكتور عبد الحق باحترام، لكنه لم يسحب يده. ملأ كوبه بهدوء، وقبل أن يرتشف منه، رفع عينيه وقال بصوت واضح ومفعم بيقين بسيط: "ولكن يا عمي، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: 'وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ'". ثم أتبعها بـ "صدق الله العظيم" وارتشف الماء.
ساد صمت قصير على المائدة. لم يكن رد رياض جدالاً طبياً، بل كان تذكيراً بحقيقة كونية وإيمانية أعمق. ابتسم الدكتور عبد الحق ابتسامة خفيفة، ربما مزجت بين المفاجأة من الرد والتأمل في معناه، وقال: "تذكير بليغ يا رياض، آية عظيمة بالفعل.
في تلك اللحظة، وبينما استمر العشاء، لم تكن الآية مجرد كلمات تمر على مسامعي. لقد ترددت في عقلي بقوة مختلفة. هذه الآية التي سمعتها وقرأتها مراراً، بدت وكأنها تكشف عن نفسها بزاوية جديدة، انطلاقاً من أبسط احتياجات الحياة – شربة ماء. كيف يمكن لهذه الكلمات القليلة أن تحمل هذا العمق الهائل؟ كيف يتجلى صدقها في كل خلية حية، من أصغر ميكروب إلى أعقد الكائنات؟
ذلك التفاعل البسيط على مائدة العشاء، بين نصيحة طبية عملية وحقيقة إيمانية مطلقة، أشعل في داخلي رغبة عارمة للغوص أعمق. لم يعد الأمر مجرد عادة شرب الماء، بل أصبح رحلة لاستكشاف الأساس الجوهري للحياة نفسها، كما صوره القرآن الكريم، وكما يكشفه العلم يوماً بعد يوم. من هنا، بدأت رحلتي في تدبر هذه الآية العظيمة، محاولاً فهم بعض أبعادها العلمية والإيمانية المذهلة.
وبينما كنت أتأمل عمق هذه الآية "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ"، عادت بي الذاكرة سنوات إلى الوراء، إلى مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية. قفزت إلى ذهني صورة واضحة لدرس علم الأحياء، ذلك الدرس الذي شرح لنا واحدة من أعجب العمليات الحيوية على وجه الأرض وأكثرها أهمية: عملية التركيب الضوئي.
تذكرت حينها كيف كان الماء يقف شامخاً كعنصر أساسي لا غنى عنه في معادلات تلك العملية المعقدة التي تحدث في الصانعات الخضراء داخل أوراق النبات. تذكرت كيف أوضح لنا المعلم أن النبات، هذا الكائن الحي الذي يشكل قاعدة الهرم الغذائي، لا يمكنه صنع غذائه بنفسه ولا إطلاق الأكسجين الذي نتنفسه إلا بوجود الماء الذي يمتصه من التربة، إلى جانب ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون.
لقد كان استرجاع تفاصيل درس التركيب الضوئي هو المفتاح الأول الذي فتح أمامي باب التدبر العلمي في هذه الآية العظيمة. كيف يمكن للماء أن يكون بهذه الأهمية المحورية لعملية هي أساس حياة النبات، وبالتالي أساس لمعظم الحياة على الأرض؟ ومن هنا، بدأت رحلة البحث والاستكشاف في الأبعاد العلمية الأخرى التي تجعل من الماء، بحق، أصل كل شيء حي...
و بالفعل، عندما بدأت أسترجع تفاصيل ذلك الدرس الذي بدا بعيداً في ذاكرتي، أدركت كيف تجسد عملية التركيب الضوئي هذه الآية بشكل مذهل. فالتركيب الضوئي، ببساطة، هو الطريقة التي يصنع بها النبات غذاءه، معتمداً على مكونات بسيطة من بيئته ليحولها إلى طاقة ومادة حية. هي العملية التي تجعل النباتات خضراء ناضرة، وهي أساس وجود معظم النظم البيئية على كوكبنا.
لنتأمل قليلاً في هذه العملية المعجزة:
النبات، هذا الكائن الحي، يقف كـ "مصنع" دقيق ومنظم. يحتاج إلى ثلاثة مدخلات رئيسية ليبدأ عمله
1- ضوء الشمس : مصدر الطاقة الأولي.
2- ثاني اكسيد الكربون و يأخده من الهواء عبر فتحات دقيقة في أوراقه تسمى الثغور.
3- الماء يمتصه بجدوره من التربة و ينقله عبر سيقانه إلى الأوراق حيث تتركز الصانعات الخضراء و تسمى ايضا البلاستيدات الخضراء.
داخل هذه الصانعات الخضراء، وباستخدام صبغة الكلوروفيل الخضراء التي تلتقط طاقة الضوء، تحدث سلسلة من التفاعلات المعقدة. ولكن أين يكمن الدور الجوهري للماء هنا، وكيف يربطه مباشرة بـ "كل شيء حي"؟
يكمن السر في أن الماء ليس مجرد سائل ناقل أو وسط للتفاعل في هذه العملية، بل هو مادة خام أساسية ومشارك فعّال في قلب العملية، و يتجلى دوره المحورى في الاتي :
أولا : مصدر الالكترونات و قوة الاختزال ففي المراحل الأولى التي تعتمد على الضوء, تخضع جزيئات الماء لعملية شطر دقيقة بواسطة الطاقة الضوئية, هدا الشطر ليس عشوائيا، بل هو تحرير منظم لمكونات حيوية:
تطلق الالكترونات و هي جسيمات صغيرة تحمل طاقة عالية. هده الالكترونات هي الشرارة التى تبدأ سلسلة من التفاعلات تهدف الى حصاد طاقة الضوء و تحويلها الى طاقة كيميائية يمكن للنبات استحدامها لاحقا في صورة جزئيات
تطلق ايضا ايونات الهيدروجين، و هي أساسية لتوليد المزيد من الطاقة, كما أنها تشكل مخزونا لدرات الهيدروجين التي سيحتاجها النبات لاحقا.
ثانيا : منبع الأكسجين للحياة و من صميم عملية شطر الماء هذه, ينبعث غاز الأكسجين كناتج اساسي الذي تتنفسه معظم الكائنات الحية، بما فيها نحن البشر، للبقاء على قيد الحياة. فمصدره المباشر هو جزئيات الماء التي استهلكها النبات في رحلته لصنع غدائه.
ثالثا: بناء المادة الحية (السكر) الأهم من ذلك بالنسبة لبناء المادة الحية للنبات، هو أن ذرات الهيدروجين الناتجة عن شطر الماء هي التي يتم دمجها لاحقا مع ثاني أكسيد الكربون في دورة كالفن لبناء جزيئات السكر، هدا السكر هو الغداء الأساسي للنبات، و منه يبني كل مكوناته الأخرى و ينمو. فالهيدروجين في هذا السكر الحيوي، مصدره هو الماء.
اذًا، بدون الماء، تتوقف عملية شطره، فلا تتحرر الإلكترونات ولا البروتونات، ولا يتكون الأكسجين، والأهم، لا تتوفر ذرات الهيدروجين اللازمة لبناء الغذاء الأساسي للنبات (المادة الحية). ببساطة، يتوقف "المصنع" الحيوي عن العمل.و هذا يوضح بجلاء كيف أن حياة النبات - و هو كائن حي و يشكل قاعدة لسلاسل غدائية بأكملها - تعتمد بشكل مطلق و مباشر على الماء، تجسيدا علميا دقيقا و مباشرا للأية وجعلنا من الماء كل شئ حي.
فالتركيب الضوئي ليس مجرد عملية كيميائية، بل هو شهادة حية على الدور المركزي للماء في استمرار دورة الحياة على الأرض.
اجمالي القراءات
140