التنقيب غير المشروع وإهمال المواقع الأثرية... أزمة متجدّدة في مصر
أعادت واقعة الحفر والتنقيب غير المشروع، التي كشف عنها وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو داخل منشأة تابعة للوزارة في مدينة الأقصر، تسليط الضوء على أزمة متفاقمة تعاني منها مصر منذ سنوات، تتمثل في الإهمال الجسيم الذي تتعرض له المواقع الأثرية والثقافية، ليس فقط من قبل لصوص الآثار، بل أيضاً من داخل مؤسسات الدولة ذاتها، التي يفترض أن تكون الحارس الأول لهذا التراث الحضاري الفريد.
وخلال جولة ميدانية قام بها الوزير إلى قصر ثقافة الطفل في الأقصر، اكتشف وجود أعمال حفر بعمق ثلاثة أمتار داخل إحدى الغرف، ما يرجح أنه كان محاولة للتنقيب عن الآثار. وأشارت التحقيقات الأولية إلى أن الشركة المسؤولة عن أعمال الترميم هي من قامت بالحفر بشكل غير قانوني، وسط غياب تام لأي إشراف هندسي أو رقابي من الجهات المعنية. على إثر ذلك، أُحيل عدد من المسؤولين المحليين إلى التحقيق، في محاولة لمحاسبة المتورطين
لكن هذه الواقعة، رغم فداحتها، ليست سوى رأس جبل الجليد في مشهد عام من الإهمال المزمن الذي يهدد آثار مصر، ليس فقط في الصعيد، بل في مختلف أنحاء الجمهورية. فعشرات المواقع الأثرية، لا سيما غير المدرجة على خرائط السياحة التقليدية، تعاني من غياب الحماية الأمنية، وضعف التمويل، وتهالك البنية التحتية، مما يجعلها عرضة للنهب أو التدمير الطبيعي.
تحديات للحفاظ على التراث في مصر
وفي تقرير سابق للجهاز المركزي للمحاسبات، كُشف عن وجود أكثر من 100 موقع أثري في الدلتا والصعيد بلا أسوار حماية، وتفتقر إلى الحراسة الليلية أو أجهزة المراقبة. ورغم ما تُصدره وزارة السياحة والآثار من قرارات بإدراج مواقع جديدة تحت بند "الحماية"، فإنّ غياب الموارد المادية والبشرية الكافية يجعل هذه القرارات غالباً شكلية.
الأزمة تمتد أيضاً إلى المخازن المتحفية، حيث تُخزّن آلاف القطع الأثرية في ظروف لا تليق بقيمتها أو ندرتها. في عام 2022، أثير جدل واسع بعد تسريب صور من داخل مخزن أثري في الجيزة، أظهرت قطعاً مرمية على الأرض وسط الأتربة والرطوبة، دون تصنيف أو توثيق واضح. وعلى الرغم من تعهد الوزارة آنذاك بإجراء تحقيق شامل، فإن نتائجه لم تعلن للرأي العام حتى اليوم.
وتشكّل البيروقراطية المتداخلة بين وزارتي السياحة والآثار والثقافة، ومحدودية ميزانية الترميم والصيانة، فضلاً عن الفساد المستشري أحياناً في الإدارات المحلية، عوامل تُفاقم من هشاشة المنظومة الرقابية، وتفتح أبواب العبث بثروة مصر التاريخية، سواء من خلال التنقيب العشوائي أو سرقة القطع الأثرية من المخازن.
ويرى خبراء أن الحل لا يقتصر على تشديد العقوبات، بل يتطلب بناء منظومة متكاملة لحماية الآثار، تشمل تطوير نظم التوثيق الرقمي، وإطلاق حملات توعية مجتمعية، وتوفير حوافز للعاملين في هذا القطاع الحساس، مع ضرورة إدراج ملف حماية الآثار ضمن أولويات الأمن القومي.
ويؤكد الخبراء أن ما حدث في الأقصر يجب ألا يُختزل في مجرد حادثة فردية أو تقصير محلي، بل هو مؤشر واضح على أن التراث المصري في خطر، وأن الحفاظ عليه لم يعد خياراً، بل ضرورة وطنية عاجلة تستدعي التحرك على أعلى المستويات، حتى لا نصحو يوماً لنكتشف أن ما تبقى من كنوز الحضارة قد أصبح في طي النسيان... أو في مزادات الخارج.
دعوات لمحاسبة المتورطين
في السياق، قال رئيس قسم الآثار الأسبق في جامعة طنطا والعضو السابق في تفتيش الآثار، الدكتور إبراهيم الحجاجي، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، إن "كل ما في باطن الأرض من آثار هو ملك خالص للدولة، وأي محاولة للتنقيب أو الحيازة دون ترخيص رسمي تُعد جريمة قانونية وتاريخية".
وأضاف الحجاجي أن مصر تمتلك ثروة أثرية هائلة، إلّا أن جزءاً كبيراً منها لا يزال غير مُسجل رسمياً، واصفاً ذلك بـ"الكارثة الحقيقية"، ومشيراً إلى أن غياب التسجيل والتوثيق الفوتوغرافي الكامل، سواء بالأسود والأبيض أو بالألوان، يفتح الباب أمام التلاعب والسرقة، كما يُصعّب استعادة القطع المنهوبة أو المهربة إلى الخارج.
وضرب مثالاً بواقعة شهيرة، قائلاً: "أحد المواطنين اليونانيين كان يسكن في فيلا بشارع الهرم، وكانت الفيلا مليئة بالقطع الأثرية المسروقة. وبعد القبض عليه، تعاون أحفاده مع أفراد بالشرطة في تكسير أجزاء من الفيلا بحثاً عن الآثار المدفونة، وبالفعل جرت استعادة العديد من القطع التي نُقل بعضها إلى قلعة صلاح الدين، فيما وُضعت أخرى في متحف رشيد القومي". أضاف أن الفيلا لم تكن مسجلة لا كمبنى أثري ولا كموقع يجب حمايته، مطالباً بمحاسبة تفتيش آثار جنوب القاهرة والمتحف الإسلامي على هذا التقصير.
وأكد الحجاجي أن بعض الجرائم الأثرية تقع من داخل المؤسسات نفسها، قائلاً: "هناك حالات يكون فيها بعض الموظفين هم أنفسهم المتورطين في التهريب أو التستر، ما يستدعي إعادة صياغة شاملة لقوانين حماية الآثار وتشديد العقوبات على العاملين المتورطين".
كذلك أبدى استغرابه من استمرار تخزين آلاف القطع تحت الأرض، متسائلاً: "لماذا نخزن الآثار تحت الأرض، لماذا لا توضع في متاحف مفتوحة للناس؟ هناك قطع عضوية تتلف مع الزمن وأخرى حجرية تتعرض للتشويه بسبب الإهمال"، مشدداً على ضرورة فتح هذا الملف جدياً ووضع خطة عاجلة لنقل الآثار إلى بيئة عرض آمنة ومفتوحة.
قلق في الأقصر
فيما أشار أحد العاملين في قصر ثقافة الطفل في مدينة الأقصر، رفض ذكر اسمه، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، غلى ان العاملين بالقصر يعيشون حالة من التوتر والقلق منذ لحظة زيارة وزير الثقافة، موضحاً أن "أحداً من الموظفين لم يكن على علم مسبق بالزيارة، وفوجئنا بوجود الوزير داخل المبنى". أضاف أن المعلومات التي وصلت إليه تفيد بأن بعض من شاهدوا أعمال الحفر داخل القصر أبلغوا محافظ الأقصر بالأمر، وهو بدوره نقل الواقعة إلى وزير الثقافة، خصوصاً أن المحافظ كان على علم بموعد الزيارة.
وأشار المصدر إلى أن "أعمال الحفر لم تبدأ يوم الزيارة كما تردد، بل كانت مستمرة منذ عدة أيام، ويقوم بها أفراد يُعتقد أنهم على صلة باتفاقات غير معلنة مع بعض العاملين داخل القصر"، لافتًا إلى أن تلك التصرفات تتم في ظل غياب واضح للإشراف والمراقبة من الإدارات المختصة.
بدوره نبّه أستاذ الآثار الإسلامية، الدكتور جمال عبد الرحيم، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما جرى داخل قصر ثقافة الطفل بالأقصر لا يزال غير واضح بالكامل، لافتاً إلى أن "الأمر لم يُحسم بعد إذا ما كان ما حدث حفراً عشوائياً أم محاولة منظمة للتنقيب عن الآثار".
اجمالي القراءات
111