كتاب ( مصر فى القرآن الكريم )

أحمد صبحى منصور   في الجمعة ٢٤ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً




مصــــر
فـي القـرآن الكـريم
د. أحمــد صبحي منصور
أبريل 1990
بســــم الله الرحمن الرحيم
الإهـــداء
إلي: سحرة فرعون..
المثل الأعلى الذي ضربه المصريون في التضحية في سبيل الحق..
" قَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى .. 72، 73 من سورة طه."



تمهيــــــــد
القرآن الكريم كتاب إلهي في الدعوة للهداية أساساً،وليس كتاباً متخصصاً في العلوم
أو في التاريخ ،إلا أنه من خلال دعوته للهداية حوى كل الأساليب من إيراد القصص
التاريخي وضرب الأمثلة والإتيان بالحقائق العلمية اليقينية.
وهكذا فالحقيقة التاريخية المذكورة في القرآن ليست هدفاً في حد ذاتها وإنما هي وسيلة للهدف الأساسي وهو الهداية للحق ،وتبعاً لذلك فإن منهج القرآن في إيراد القصص التاريخي يختلف عن المنهج التاريخي للمؤرخين .فالمؤرخ حين يذكر حادثة تاريخية معينة لابد أن يهبط بها على أرض الواقع بأن يذكر المكان والزمان والأبطال ولا يهتم المؤرخ بإيراد العبرة من الأحداث بل ربما يتركها للقارئ.
أما القرآن فله شأن مختلف فالعبرة هي الأساس من إيراد القصص القرآني، يقول تعالى في نهاية سورة يوسف التي ركزت على قصة يوسف عليه السلام وآله " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) .
وقد يكون من الأوقع في الاعتبار والاتعاظ أن تتحرر الحادثة التاريخية من قيود الزمان والمكان وأسماء الأشخاص لتتحول الحادثة المحددة بالزمان والمكان إلى قضية عامة تنطبق على كل عصر وكل مكان وكل شخص إذا انطبقت عليه ملابستها .
وتلك عظمة القصص القرآني الذي لم يتحدث عن كفار قريش مثلا بأن يحصرهم في الزمان والمكان بل عمم الوصف فقال " الذين كفروا" أو" الذين أشركوا. " لينطبق ذلك الوصف على كل من يستحقه يقول تعالى " أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ؟ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ؟،قُلْ :لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السماوات وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ " سورة الزمر 43 :45 .
فالقرآن يحول عقيدة القرشيين في القرن السابع الميلادي إلى قضية عامة لم يرد فيها ذكر للتحديد بالزمان أو المكان وبذلك تنطبق الآية على جميع من وصفتهم الآية بالذين " لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ "ومع أن القرآن قصى كثيراً من الأحداث التي عاصرت نزول الوحي وكان يعقب عليها فإن المنهج القرآني كان يحول الحادثة التاريخية المحددة إلى قضية عامة ويكفى أن كلمة قريش لم تأتي في القرآن إلا مرة واحدة وأن كلمة "عربي" لم تأتي إلا للدلالة على اللغة العربية لغة القرآن الكريم وحتى في الأحداث المحلية التي استدعت تحديد بعض الطوائف أو الأسماء فإن تذييل الآيات كان يتضمن الدعوة للعبرة والتخويف من الآخرة وبذلك تتحول الحادثة التاريخية إلى قضية عامة تستوجب من كل إنسان في أي زمان ومكان أن يتعقلها ويتدبرها .
ولا نعني أن القرآن أغفل نهائيا عنصر المكان وعنصر الأبطال القائمين بالحدث .
ففي القصص القرآني إشارات موحية عن المكان في حديثه عن سبأ وقوم عاد بالأحقاف ويثرب المدينة ومدين التي يعمل أهلها بالتجارة، وهذه الإشارات الموحية دعوة صريحة لعلماء الآثار لينقبوا ويستخرجوا ما يؤكد الوصف القرآني مما يزيد في جرعة الهداية .
لقد انتقلت الأمم والدول التي ذكرها القرآن إلى متحف التاريخ وبقيت " مصر" وحدها وقد ورد ذكرها في القرآن خلال قصص الأنبياء يعقوب ويوسف وموسى عليهم السلام والله تعالى يعلم – وكفى به عليماً – أن مصر ستبقى بعد نزول القرآن كما كانت قبله فإلى أي حد يكون الدرس الذي نتعلمه من القصص القرآني عن مصر ؟

* * *
إن التاريخ المصري مستمر في جريانه في أغلب عصوره، وهو تاريخ يتميز بالرتابة والأصالة في أغلب أحداثه، وقد بدأ ذلك التاريخ المصري قبل نزول القرآن بنحو 3850 عاماً واستمر بعده حتى الآن وإلى أن يشاء الله وذلك كله مما يؤكد أن حديث القرآن عن "مصر" لا يقتصر على الماضي فقط وإنما يمتد للحاضر والمستقبل خصوصاً وأن القصص القرآني – كما سبق – يهدف للعبرة واستخلاص العظة حتى لا يقع الناس فيما وقع فيه أسلافهم ، وإن كان ذلك ينطبق على قصص الأمم البائدة من عاد وثمود فإنه أكثر انطباقاً على المصرين الذين يعيشون في مصر منذ سبعين قرنا من الزمان.

* * *
وهذا الكتاب ..
" مصر في القرآن الكريم "
يحاول أن يستخلص الموعظة والعبرة من القصص القرآني عن مصر وذلك بعد أن يتتبع الإشارات القرآنية ليستضئ بها في رسم صورة تاريخية لأحوال مصر السياسية والاجتماعية في عصر الهكسوس والرعامسة " رمسيس الأول وخلفاؤه. " ومن الطبيعي أن تلك الإشارات القرآنية عن الحياة المصرية القديمة لا ترسم لوحة متكاملة،ولكن من قال أن كتب التاريخ وعلماء المصريات قد جاءوا لنا بتاريخ مفصل متكامل للحياة المصرية القديمة ، مع أن ذلك هو عملهم الأساسي وهدفهم الأصلي ، أما القرآن فليس كتابا في التاريخ ملتزم بمناهج المؤرخين ومع ذلك فإن الإشارات القرآنية التي حفل بها كتاب الله منذ 1400 عام تؤكدها اكتشافات علماء الآثار ثم أن هذه الحقائق التاريخية القرآنية لا مجال فيها للريب أو الشك بينما يكتشف علماء الآثار كل حين أن بعض الفراعنة قد طمس أمجاد أسلافه ونسبها لنفسه، فالتاريخ البشري حتى بالهيروغليفية عرف التزييف أما قصص القرآن فهو كما قال تعالى " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (111) سورة يوسف .
دكتور أحمد صبحي منصور

• الفصـل الأول *

" الحياة السياسية
في مصر القديمة "
من خلال آيات القرآن الكريم ...
أولا : كلمة مصر في القرآن الكريم :
جاءت كلمة ( مصر ) في القرآن الكريم في خمسة مواضع هي
" وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتا : يونس87ً "
و " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ.. يوسف21 "
و" وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ : يوسف99 "
و" وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.. 51 الزخرف "
وفي قوله تعالي في قصة موسي قال : " اهْبِطُوا مِصْرًا.. البقرة 61 "
وواضح أن كلمة " مصر" قد وردت في سياق قصتي يوسف وموسي إلا أن الأمر الذي يستدعي إيضاحا هو قوله تعالي علي لسان موسي لقومه .
" اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .. 61 البقرة "
فكلمة " مصر" هنا لا تدل علي مصر الوطن وإنما تعني المدينة المتحضرة أي مدينة متحضرة في أي مكان . ودليلنا أن كلمة " مصر" في الآية جاءت مفعولا به منصوبا وهي منونة " مصرا " أي ليست ممنوعة من الصرف ، وفي موضع آخر يقول تعالي علي لسان يوسف
" وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ :99 يوسف "
فجاءت الكلمة هنا " مصر " تدل علي الوطن وهي مفعول به أيضا ومنصوب ولكن بدون تنوين لأنها ممنوعة من الصرف حيث تدل علي( مصر) الوطن الأعجمي.
• وهذه التفرقة اللغوية الدقيقة بين كلمة " مصر" في الآيتين توضح أن كلمة "مصر" لها معنيان :
1) معني الوطن الذي يعيش فيه المصريون وهذا هو المعني الذي ورد في القرآن ممنوعا من الصرف أي بدون تنوين، وذلك في أربعة مواضع.
2) معني المدينة المتحضرة .
وفي القاموس في معاني كلمة مصر " مصروا المكان تمصيرا جعلوه مصرا فتمصر " ومصر أي المدينة التي تتميز عما حولها من بوادي ، ونفهم ذلك من قولهم عن عمر بن الخطاب أنه الذي " مصر الأمصار " أي " أنشأ الأمصار" أو أنه بعث العمال أو الولاة علي "الأمصار" أي الولايات . وقد أطلقوا علي الكوفة والبصرة لقب "المصران" مثني " مصر" وقد بدأ التمدن في العالم ببناء المدن في مصر لذا نحتت اللغة العربية كلمة مصر" لتدل بها علي قيام الدولة أو المدينة المتحضرة التي تحيط بها البوادي . وفي قصة يوسف قوله لإخوته وهو في سلطانه في مصر. " وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ... يوسف 100 "

أي كان شرق مصر في ذلك الوقت رعويا بدويا . وهكذا فإن موسي حين قال لقومه "اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ :61 البقرة"
تفيد أي مدينة ولا تدل علي الوطن المصري علي وجه الخصوص.
وكلمة " مصر" بمعني البلد المتدمن أو الدولة تعتبر اعترافا من اللغة العربية بقدم العمران المصري والحضارة المصرية. فالعرب حين عرفوا النطق باللغة العربية استعاروا كلمة " مصر " لتدل علي المدينة والحضارة ،ثم جاء القرآن فيما بعد يسجل هذا المعني ويميزه بفارق لغوي دقيق حين يجعل كلمة " مصر" الوطن ممنوعة من الصرف باعتبارها علما ـ وذلك في أربعة مواضع ، ثم تكون كلمة " مصر" الدالة علي المدينة منونة في موضع وحيد في القرآن الكريم .
وهناك أهمية أخري يضيفها القرآن الكريم علي مصر حين يعبر عنها بلفظ " الأرض " والنسق القرآني يضفي وصف الأرض علي وطن ما إذا بلغ قومه درجة كافية من القوة ونفهم ذلك من قوله تعالي: " فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً: 15 فصلت "
ولذلك فقد استحقت مصر من القرآن أن توصف بأنها " الأرض" حيث عاشت الدولة فيها قوية مهابة في عصور طويلة موغلة في القدم وخصوصا في عصر الرعامسة الذي شهد قصة موسي. وتقرأ في ذلك قوله تعالي في سورة القصص علي سبيل المثال :
" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ.. القصص 4" ، " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ.. القصص 5"
" وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.. القصص 6" ، " إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ.. القصص 19"
"وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.. القصص 39"
ونسير مع قصة موسي في سورة الأعراف لنجد القرآن أيضا يعبر عن مصر باسم الأرض في قوله تعالي: " وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْض : الأعراف 127 " ، " قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ: الأعراف 128 " ، "َ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ .. 129 الأعراف "
إلي أن يقول تعالي عن نهاية فرعون ويصف مصر بأروع وصف :
" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا.. 137 الأعراف "
وفي قصة يوسف يقول تعالي عن تطور مكانة يوسف في مصر
" وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ : يوسف 56 " وحين طلب وظيفة من الملك قال له
" قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ: يوسف 55 "
فكانت خزائن مصر هي خزائن الأرض جميعا .
وقد عكس القرآن الكريم إحساس المصريين القدامى بأن مصر تمثل الأرض كلها في ذلك الوقت حيث تركزت فيها الحضارة والمدنية بينما تعيش أوربا في الكهوف ، يقول مؤمن آل فرعون لقومه: "يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ؟ : غافر 29 "
وفي الوقت نفسه كان فرعون يخشى من دعوة موسي أن تتمخض عن انهيار حضارة مصر فيقول لقومه:
" إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ: غافر 26 " .
وعبر القرآن الكريم عن اعتزاز المصريين بوطنهم ويتجلى ذلك في قولهم لموسي أو عن موسي وأخيه.
" قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ.: طه 63 "
" قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ؟ : طه 57 "
فقالوا " أرضنا" و " أرضكم " تمسكا منهم بوطنهم . والقرآن الكريم حين يضفي علي مصر وصف الأرض إنما يعكس أيضا إعجازا تاريخيا يضاف إلي اعجازاته المتنوعة في الفصاحة والعلوم . ذلك أن ما نقله القرآن الكريم باللغة العربية عن اعتزاز المصريين بأرضهم سجله فيما بعد علماء المصريات حين عرفوا رموز اللغة الهيروغليفية وقرأوها وعرفوا أن كلمة " توميري" كانت متداولة علي لسان المصريين وتعني عندهم " الأرض المحبوبة " أي مصر ، وفي نفس الوقت يقولون عن الصحراء وما لا يعرفونه من الأرض المجهولة والتي لا يهتمون بها أنها " آخيت ".
ولا يزال المجال مفتوحا أمام علماء الآثار والمصريات لاكتشاف المزيد مما أشار إليه القرآن الكريم.!!

* * *
سيناء المصرية في القرآن الكريم
ارض الوادي المقدس طوى
" سيناء" ذلك الجزء الآسيوي من مصر شهد انتقال بعض الأنبياء من فلسطين إلى مصر ، تذكر التوراة مسيرة إبراهيم خليل الله من الشام إلى مصر عبر سيناء ، ويذكر القرآن الكريم رحلة يوسف وهو طفل اشترته قافلة وسارت به إلى مصر ، كما يذكر استقبال يوسف لأبيه يعقوب عند الحدود الشرقية – أي سيناء – وقوله لأبويه وأهله ، ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين .. يوسف – 11 .
ثم كانت سيناء المسرح الكبير لقصة موسى عليه السلام ، عبرها إلى مدين هاربا من السلطات الفرعونية ، ثم عاد إلى مصر ومعه زوجته الحامل وفى الطريق عند جبل الطور – في الوادي المقدس – كلمه الله تعالى بدون واسطة وأرسله إلى فرعون نبيا ، ثم بعد فصول من قصة موسى وفرعون انتقل موسى بقومه إلى سيناء حيث دار الفصل الأخير في ربوعها واحتضنت سيناء رفات موسى ، وظل فيها بنو إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الأرض .. ولم تنته قصة سيناء مع الأنبياء ، فالمصادر المسيحية تذكر أن السيدة مريم عبرت سيناء بطفلها المبارك يسوع وجاءت إلى مصر ..
ولكن ما ذكرته التوراة والمصادر المسيحية عن سيناء مع أهميته لا يعادل مكانة سيناء في القرآن الكريم .. وتتجلى هذه الأهمية في قصة موسى عليه السلام ...
- ويمكن أن نلمح هذه الأهمية في قوله تعالى : " والتين والزيتون وطور سنين ، وهذا البلد الأمين ، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .... " .
فالله تعالى يقسم بالتين والزيتون وهما من منتجات سيناء ، ثم يقسم بجبل الطور وبنسبه إلى سيناء " وطور سينين " ثم يقسم بمكة البلد الأمين .. والمعنى أن سيناء جاءت في الترتيب قبل مكة في موضوع يقسم به رب العزة على خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وما يحدث له بعدها ...

- وأهمية سيناء تتلخص في مكان واحد هو جبل الطور .. ولذلك انتسبت سيناء . أو ( سينين ) إلى الطور " وطور سناء " .. وفى سورة " الطور " يقسم الله تعالى بالطور أو جبل الطور في سيناء فيقول " والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبت المعمور " وهنا أيضا يسبق ذكر الطور الكعبة البيت المعمور ، والترتيب هنا يشير إلى أن الطور شهد نزول التوراة على موسى ، كما أن مكة شهدت فيما بعد نزول القرآن على محمد عليهما السلام ...
- لقد شهد جبل الطور في سيناء – فيما نعلم – أول وحى مباشر من الله تعالى إلى رسول من رسوله وهو موسى ، ونزل ذاك الوحي بدون جبريل أي بدون واسطة ملك من الملائكة ... في ذلك الوقت كان موسى عائدا بزوجته فأحست بالمخاض وتلفت موسى في الظلام فرأى نارا بجانب شجرة تلوح من بعيد ، فقال لزوجته امكثي هنا ، وذهب إلى النار ، وحين اقترب منها سمع كلام الله تعالى له ، وفى ذلك يقول تعالى : " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بخير أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ، فلما آتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى أنى أنا الله رب العالمين " القصص 29, 30 ..
فالقرآن يصف منطقة الوحي في جبل الطور بأنها " بقعة مباركة " ..
وفى موضع آخر يقول تعالى : " وهل أتاك حديث موسى ، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ، فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوي ، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى أنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى " طه 9- 14 .. وهنا يصف القرآن جبل الطور بأنه " الوادي المقدس طوي " ويأمر الله موسى بأن يخلع نعليه حين يدخله ، لان ذلك الوادي اكتسب قدسية بكلام رب العزة المقدس .
- وهذه الخصوصية للوادي المقدس طوي انعكست على مكانة موسى بين الأنبياء نلمح هذا من قوله تعالى عنه " واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا " مريم 51 . فالله تعالى يقول عن رسوله موسى انه ناداه من جانب الطور الأيمن وقربه إليه يناجيه ويحدثه ويكلمه .. وقوله تعالى " وقربناه نجيا " فيها من الحب ما فيها ... وعن هذه الخصوصية لموسى يقول تعالى : " وكلم الله موسى تكليما " النساء 164 . إذن شهد جبل الطور أول وحى من الله تعالى لموسى ، وجاء ذلك الوحي بطريق مباشر ..
- وشهد جبل الطور أيضا نزول التوراة حيث واعده الله أربعين ليلة وفيها تلقى الألواح من الله ، وجاءت التفصيلات في سورة الأعراف ( 142 : 147 ) وأثناء الحوار طلب موسى أن يرى ربه " قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك " . الأعراف 143 .
- كما شهد جبل الطور إعطاء العهد والميثاق على بني إسرائيل ، وفيه رفع الله جبل الطور فوق رؤوسهم فسجدوا لله تعالى رعبا وهم ينظرون إلى الجبل المرفوع فوقهم كأنه ظلة : وفى ذلك الموقف الرهيب أخذ الله عليهم العهد والميثاق ، وتكرر فى القرآن تذكير بني إسرائيل بذلك الموقف خصوصا وقد نقضوا العهد والميثاق " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور " البقرة 63 ، 93 .. ويقول الله تعالى يصف ذلك الحدث : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا انه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " . الأعراف 171 . وذلك اللقاء حدث في نفس الموضع من جبل الطور الذي شهد كلام الله تعالى لموسى وشهد نزول الألواح والتوراة عليه ، فيقول تعالى لبنى إسرائيل : " يا بني إسرائيل قد أنحيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن " طه 80 . وجانب الطور الأيمن هو نفسه الذي قال فيه تعالى عن موسى " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا " مريم 55 ..
- وذلك المكان المقدس بالشجرة المباركة حرص القرآن على تحديده بدقة يقول تعالى : " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين " القصص 30 .. وتلك الشجرة التي شهدت وحى الله كانت شجرة زيتون . واقسم الله تعالى بها " والتين والزيتون وطور سنين " ..
- وجعل الله تعالى فيها سرا وبركة اقتصادية يمكن أن نلمحها من قوله تعالى : " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ، وأنزلنا من السماء ماء بقدر فاسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ، فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون " . فهنا يتحدث الله تعالى عن خلق السماوات السبع والبشر وإنزال الماء من السماء وجنات النخيل والأعناب ، وبعدها يقول تعالى : " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " المؤمنون 17- 20 . أي جعل شجرة الزيتون التي تنبت في جبل الطور – في الوادي المقدس – من نعم الله تعالى على الخلق شأن النعم التي سبقتها في الآيات . وجعل نعمة هذه الشجرة مستمرة متجددة شأن المطر والجنات والبساتين والسماوات السبع وجاء التعبير بالمضارع فقال : " وشجرة تخرج " " تنبت بالدهن " . واعتقد أن هناك خيرا اقتصاديا يكمن في زيتون سيناء .. وان هذا الخير الإلهي مستمد من ذلك الوادي المقدس الذي شهد وحده كلام الله تعالى لأحد الأنبياء .. وان هذا الخير وضعه الله لكفاية البشرية .. " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " .

ثانيا : لمحات قرآنية عن النظام السياسي
المصري في عصر يوسف عليه السلام
رأينا إشارة قرآنية لعظمة الدولة المصرية منذ القدم من خلال ورود كلمة (مصر) في القرآن ومن خلال الإشارة إليها علي أنها " الأرض " ، ومن الطبيعي أن هذه العظمة الدنيوية تتجلي أساسا في نظام الحكم السياسي وقوة الدولة المصرية .
والدولة المصرية القديمة (3200ـ2250) ق.م، بدأت بتوحيد القطرين ثم ازدهرت ثم انهارت، ولم يحدث وقت انهيارها أن استولي علي مصر عدو خارجي لأنه في ذلك الوقت السحيق لم توجد قوة تجرؤ علي استغلال الضعف الداخلي في مصر .
ولذلك عادت مصر للإتحاد والقوة في عصر الدولة الوسطي إلا أن الانهيار ما لبث أن لحقها وحينئذ ظهرت قوة خارجية استغلت ذلك الضعف فسيطرت علي مصر خصوصا في الدلتا وكان الرعاة الهكسوس هم تلك القوة الوافدة من الشرق . وعاد الحكم المصري القوي بعد أن دحر أحمس الهكسوس وبدأت بذلك الدولة الحديثة التي بلغت عظمتها في عصر الرعامسة ..
وقد تعرض القرآن الكريم للتاريخ المصري في مرحلتين هامتين تمثلان مرحلتي الحكم المصري الأصيل ومرحلة الحكم الوافد. ففي قصة يوسف كان الهكسوس يحكمون مصر . وفي قصة موسي كان الفرعون ممثلا لمصر والمصريين ، والتاريخ المصري الطويل هو نتاج للحكم المصري الوطني والحكم الأجنبي المستعمر .
ومن إعجاز القرآن الكريم منذ 1400 عام أن يتحدث عن حاكم مصر في عصر يوسف بوصفه ( الملك) بينما يتحدث عن حاكم مصر في عصر موسي بأنه " فرعون" وأن تأتي الإشارات موحية بالاختلاف بين نظم الحكم في العصرين لتشير بأن كلا منهما يختلف عن الآخر..
في قصة يوسف وصف القرآن حاكم مصر وقتها بأنه الملك في خمسة مواضع .ولم يصفه بالفرعون ، بينما ذكر القرآن فى قصة موسي لقب الفرعون(74) مرة ولم يذكره بأنه مجرد ملك.
ويقول مؤرخو مصر القديمة أن الهكسوس لم يتركوا بمصر آثارا يمكن أن نستخلص منها شيئا عن نظام حكمهم .الأمر الذي يجعل من الإشارات القرآنية عن ملك الهكسوس في مصر المصدر الوحيد المتاح علاوة علي أنه المصدر اليقيني الذي لاريب فيه في كل ما يخبر به من أقوال وأحداث.
ويمكن أن نتخيل شخصية الملك الهكسوسي من خلال قصة يوسف ، فهو ملك له " ملأ " أي مجلس مشورة يستشيرهم ، وإن كانت علاقته بذلك الملأ لا ترقي إلي العلاقة العضوية التي كانت بين فرعون موسي وملائه، فبينما يجد فرعون موسي كل التأييد من ملائه نري الملك الهكسوسى يفتقد حماس أتباعه حين قص عليهم رؤياه" وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ "
ومن دراسة النصوص القرآنية التي تتناول علاقة فرعون موسي بملائه يمكننا أن نتوقع رد فعل مناقض. فلو تخيلنا أن فرعون موسي قص علي ملائه رؤياه وقال لهم :
" يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ : يوسف 43 "
لسارعوا بتفسير للرؤيا يعرفون أنه يتفق مع هوي الفرعون ، ولربما أحضروا له سريعا السحرة والمنجمين والعرافين . وما كانوا بالتأكيد سيقولون له في تثاؤب وكسل
" قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ.. يوسف: 44 "

* * *

ومع ذلك فالملك الهكسوسي كان لا يخلو من فراسة صادقة ومعرفة بأقدار الرجال ويتجلى ذلك في اختياره ليوسف الذي تم بعد تفكير ودراسة نعرفها من خلال الآيات . فالملك حين خاب أمله في الملأ الذي عجز عن تعبير رؤياه رشح له الساقي ـ زميل يوسف في السجن من قبل ـ يوسف ليأخذ منه تعبير الرؤيا. وأرسله الملك إلي حيث يوسف في السجن ، ثم عاد الساقي بتفسير الرؤيا ، وعرضها علي الملك ولا بد أن الملك قد أدرك أن تعبير الرؤيا ليس مجرد كلام يقال علي عواهنه بل هو أمر خطير سيحدث في المستقبل . وأنه ليس مجرد تفسير بل هو خطة متكاملة للمستقبل تستلزم استعدادا لسنوات المجاعة ، وتوفيرا من إنتاج المحاصيل في سبع سنوات من الرخاء ليستعين بها المصريون ومن حولهم في سبع سنوات أخري من المجاعة .
وأيقن الملك بعد تفكير أن الحل الأمثل هو أن يستدعي يوسف ويحرره من السجن ليستعين بمشورته. وذلك الحرص علي الاستشارة والمشورة من جانب الملك الهكسوسي في قضية مصيرية تهم العامة والخاصة من الجوانب الإيجابية في شخصيته.
وأرسل الملك رسولا خاصا من لدنه إلي يوسف في السجن ، وذلك تكريم خاص ليوسف لا يحلم به سجين في تلك العصور . ولكن يوسف أصر أن يخرج من السجن وصفحته نقية من تلك التهمة الكاذبة التي ألصقوها به ظلما . وأدي ذلك الموقف من يوسف إلي تصعيد جديد آثار اهتمام الملك بيوسف أكثر ، ولا ريب أن الساقي قد حدث الملك من قبل عن شخصية يوسف من خلال احتكاكه به في السجن ، ثم جاء رفض يوسف للخروج من السجن إلا بعد إثبات براءته ليجعل الملك يقوم بنفسه بالتحقق من ملابسات الحادث الذي مضي عليه سنوات .
ولذلك فالملك يستدعي النسوة ويحقق معهن ويبدأ التحقيق باتهامهن بأنهن اللاتي راودن يوسف عن نفسه ، أي يبدأ التحقيق باتهامهن بدلا من اتهام يوسف ، أي أنه من البداية نصب نفسه مدافعا عن يوسف البريء، ولذا يعترفن ببراءة يوسف وتعترف امرأة العزيز أمام الملك بأنها المذنبة ، وبعد ذلك الموقف الفريد يمثل يوسف أمام الملك بعد أن استدعاه الملك للمرة الثانية فيستجيب بعد أن حقق رغبته في تنقية صفحته واثبات براءته، ودار بينهما الحديث الذي كان الملك يتوق إليه وهو القائل عن يوسف : " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي : يوسف 54 ". وبعد ذلك الحديث ازداد الملك اقتناعا بيوسف وإعجابا بشخصيته فأحله المقامة السامية في بلاطه وحينئذ يطلب يوسف بنفسه أن يكون مشرفا علي خزائن المملكة لأن لديه الخبرة التي تمكنه من الإشراف عليها خلال السنوات الحاسمة القادمة .
تلك هي الحقائق التاريخية عن ملك مصر الهكسوس والتي نستخلصها من سورة يوسف .

* * *

ويقول مؤرخو مصر القديمة بأن الهكسوس لم يعاملوا المصريين إلا بالعنف والقسوة ، ولكن هذا الاتهام يعوزه الدليل الحاسم ، ولكن القرآن يعزز ذلك الرأي ..
فهناك شخص بريء دخل السجن ظلما ليستر فضيحة امرأة العزيز والنسوة المترفات في المدينة، وكل الذنب الذي وقع فيه يوسف عليه السلام أنه تمسك بالعفة مع تهديدهن له بالسجن إن لم يستجب لنزواتهن.
"ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ : يوسف 35 "
وكان من الممكن أن ينسوا يوسف في السجن فيظل فيه إلي أن يموت لولا أن مسار الأحداث اتجه إلي رؤية الملك والتداعيات بعدها ..
ومن ذلك نفهم أن الطبقات الفقيرة في مصر كانت تدفع فاتورة الترف والانحلال الذي تعيشه الطبقة الحاكمة من الهكسوس ، وحين تمسك يوسف بعفته ولم يرضخ لنزوات امرأة العزيز ونساء الطبقة الراقية دفع الثمن من حريته وكان ممكنا أن يبقي فيه إلي نهاية عمره .
ونلمح موقفا آخر يتجلى فيه ظلم الهكسوس للمصريين في قصة صاحبي يوسف في السجن.
وأحدهما خباز والآخر الساقي ، وقد دخلا السجن مع يوسف في نفس الوقت ، ولابد أن تؤسس هذه الزمالة بينهم صداقة .
" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ .. 36 يوسف " .
لقد رأي كلاهما رؤية مستوحاة من مهنته الأصلية فالخباز رأي أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، والساقي رأي أنه يعصر خمرا. وتداعيات الأحداث تنبئنا بأنهما ينتميان لطبقتين مختلفتين ، فالساقي الذي حظي بعفو الملك لم يلبث أن أصبح ساقيا للملك وأشد الناس قربا منه حتى أنه يشترك في مداولات الملك مع الملأ، ولأنه من الطبقة العليا فإنه بمجرد العفو عنه وخروجه من السجن نسي يوسف ووعده ليوسف بأن يحدث الملك في قضيته وهو الذي يعرف أن يوسف مظلوم وأن الملك الذي يراه كل يوم ويستطيع الحديث معه متي شاء ـ يمكنه أن يرفع الظلم عن يوسف البريء المتهم في شرفه زورا.
وانشغل الساقي بهموم الطبقة العليا وحياة القصور ونسي ذكريات السجن والسجين المظلوم الذي كان يستضيء به في ظلمات السجن ، ولم يتذكره إلا عندما اقتضت مصلحة الملك ذلك عندما عجز الملأ عن تفسير الرؤيا.
"وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ.. يوسف 45 "
والذي يعنينا هنا أن الساقي الذي ينتمي للطبقة الحاكمة قد خرج من السجن ووجد وظيفته في البلاط بجانب الملك ..
هذا بينما الخباز المسكين يلقي حتفه مصلوبا . والخباز بحكم مهنته لابد أن ينتمي للطبقة الشعبية ، والمفهوم أن جريمته قد لا تتعدي السرقة مما تقع عليه يداه من دقيق وخبز . وذلك ما يعكسه المنام الذي رآه وهو يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، أي أنه جوزي بسرقته الخبز فصلبوه بسبب ذلك ..
وقد كان السجن هو المرحلة الأولي التي مر بها الخباز المسكين قبل أن يصلب ، ويبدو أن السجن كان ذا أهمية خاصة في تاريخ مصر القديمة فكلمة السجن ومشتقاتها لم ترد في القرآن الكريم إلا فيما يخص الأحداث الخاصة بمصر..
وامرأة العزيز تهدد يوسف بالسجن أمام زوجها " قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : 25 يوسف "
وتهدده بالسجن أمام النسوة " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ.. يوسف 32 "
ويرضي يوسف بالسجن
"قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ: يوسف 33 "
وتظل رابطة السجن قوية في نفس يوسف فيخاطب رفيقيه بقوله:
"يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ : يوسف 39 "
وحتى بعد أن أصبح يوسف عزيز مصر وله فيها مطلق السلطات فإن ذكريات السجن ظلت تلاحقه ، وهو في تمام النعمة يقول : "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ :100 يوسف "
وارتبط السجن بالعذاب الجسدي والنفسي وذلك ما تلحظه في قول امرأة العزيز.
"إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : يوسف 25 "
".لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ: 32 يوسف"
ويكفي في قسوة السجن أن يوسف قال للساقي الذي تنبأ له بالخروج.
"اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ: 42 يوسف "
ونسي الساقي فلبث يوسف
"فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ : 42 يوسف "
وظل السجن المصري مرعبا بعد يوسف . ففي قصة موسي نري الفرعون يهدده قائلا:
"لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.. الشعراء 29 "
وإلي جانب الملك الهكسوسي نلمح وظيفة سياسية أخري رفيعة المنزلة وهي " عزيز مصر" وجاء هذا اللقب مرتين في حديث القرآن عن المرأة التي راودت يوسف عن نفسه وهي امرأة العزيز وجاء مرتين وصفا للمكانة التي احتلها يوسف بعد أن مكن الله له في الأرض .
لقد عبر القرآن الكريم عن تخاذل شخصية عزيز مصر الذي تربي يوسف في بيته فجعله يتوارى خلف شخصية زوجته اللعوب
"وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ.. يوسف 30"
"قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ.. يوسف 51"
وعبر القرآن الكريم عن قوة شخصية يوسف حين تولي هذا المنصب بجدارة فقد قام يوسف بأعباء المنصب إلي درجة أن أخوته حين دخلوا عليه لم يعرفوه بينما عرفهم .
"وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ : يوسف 58"
وقد أخذتهم هيبة يوسف فأخذوا يرجونه حين أخذ أخاه
"قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ : يوسف 56 "
ثم حين رجعوا له قالوا خاضعين .
"يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ: يوسف 88."
ومن خلال المهام التي قام بها يوسف تعرف أن منصب عزيز مصر هو الإشراف الكامل علي شئون مصر الزراعية والاقتصادية ، فبذلك المنصب مكن الله تعالي ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء . أو أن يوسف كان يشارك في حكم المملكة ونلمح ذلك من قوله وهو يشكر ربه تعالي:
"ربِّ قَدْ آَتََيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ: يوسف 101"
وكان المصريون في عصر يوسف يقولون عنه باللغة المصرية القديمة" عزيز مصر" وإلي عهد قريب كان من ألقاب التشريف أن يقال بالعربية التركية ( عز تلو) وبالعربية الفصيحة " صاحب العزة"
ونستفيد من النصوص القرآنية أن مصر في عصر الهكسوس كانت لها حدود شرقية تقوم عليها بوابات وحراسة ترصد القادم والداخل . وذلك تطور هام في الدولة المصرية القديمة يؤكد من أهميته أن الهكسوس وقتها حرصوا علي الإشراف علي الحدود المصرية الشرقية هذا مع ترحيبهم بالوافدين من آسيا بمثل ما فعلوه بأبناء يعقوب " إسرائيل" وقد كان دخول الحدود المصرية أمرا يستحق الإعداد والاستعداد.
نلمح ذلك من قول يعقوب لبنيه
" يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ: يوسف 67 "
والتزم الأبناء بوصية أبيهم "وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا.. 68 يوسف "
ونفهم من ذلك أن الحدود المصرية الشرقية كانت لها بوابات متفرقة . وأن عليها حرسا شديدي الملاحظة ، وقد خشي يعقوب عليه السلام أن يرتابوا في أبنائه فيحدث لهم مالا تحمد عقباه فنصحهم بما يستطيع ولم يبق عليه إلا أن يتوكل علي الله ويسلم أمره إليه .
وحين قدم يوسف نفسه لأخوته وقال لهم "
"وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ :يوسف 93 "
سافر ينتظرهم عند الحدود المصرية الشرقية . وهناك استقبل يوسف أبويه وأهله وساروا معه إلي مصر آمنين حيث لم يعد مجال للخوف من يعقوب علي أبنائه
"فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ.. يوسف 99 "
أي كانوا يطلقون علي العاصمة اسم ( مصر) لقد كانت الحدود المصرة الشرقية نقاط حراسة ضد البدو وعصاباتهم ، وكان لابد أن يحوط الشك بكل من يأتي من الصحراء.
وقد حمد يوسف ربه فقال : "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ.. يوسف 100"
أي جاءوا بسلام ودخلوا من بوابات الحدود المصرية إلي مصر ـ أم الدنيا ـ بسلام آمنين . وبذلك عاش بنو إسرائيل ـ أو يعقوب ـ في مصر واستمروا فيها إلي أن خرجوا مع موسي .. وبنو إسرائيل لا علاقة لهم باليهود البيض في دولة إسرائيل اليوم الذين يمثلون في الحقيقة سلالة قبائل الخرز التي اعتنقت اليهودية في العصور الوسطي ثم هاجرت لأوربا ثم كونوا في العصر الحديث عماد دولة إسرائيل الراهنة .


ثالثــا: لمحــات قرآنيــة عن النظـــــام السـياسي
المصــــري في عصــر موســى عليه الســــــلام
بين ملك الهكسوس وفرعون مصــــــر :
من القرآن نلمح عناية النظام الهكسوسي في مصر بأبناء يعقوب ( إسرائيل) فاستقدمهم أخوهم يوسف بنفسه ودعاهم وهو علي الحدود لأن يدخلوا مصر آمنين . ومن المنتظر أن ينعم أبناء إسرائيل( يعقوب ) برعاية ملوك الهكسوس بعد عصر يوسف، فالهكسوس وأبناء إسرائيل ينتمون معا إلي منطقة خارجية آتت إلي مصر من الشرق ، وهم معا أجانب يتمتعون بكراهية الوطنيين المصريين .
وفي التوراة الموجودة لدينا نصوص عن اهتمام ملك الهكسوس بأسرة يوسف، وتقول:
وسكن إسرائيل في أرض مصر في أرض جاسان وتملكوا فيها وأثمروا وكثروا جدا ، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة .
وسكن يوسف في مصر هو وبيت أبيه..
.. ومات يوسف وكل جميع أخوته وجميع ذلك الجيل وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا وامتلأت الأرض منهم.
والتاريخ المصري ينبئنا بأن المصريين ما لبثوا أن ثاروا علي حكم الهكسوس وأسسوا الحكم الوطني الفرعوني بعد أن دحروا الهكسوس إلي ما وراء الشام ومن المنتظر بعدها أن تتبدل أحوال بني إسرائيل من العز الذي كانوا يتمتعون فيه في عصر الهكسوس إلي الاضطهاد بعد مجيء الحكم المصري الفرعوني الذي لابد أن ينتقم من كل أعوان الحكم الأجنبي .
تقول التوراة
" ثم قام ملك جديد علي مصر لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلي أعدائنا ويحاربوننا ."
أي كان خوف فرعون منهم هو سبب اضطهاده لهم.
ويقول رب العزة في القرآن "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ :4 القصص "
وهنا رأي جديد نلمحه من خلال الآية الكريمة ، إذ أننا أمام فرعون ـ وليس مجرد ملك ـ وهو فرعون أوتي أسباب القوة
" عَلَا فِي الْأَرْضِ "
وقد استضعف فريقا من السكان وهم بنو إسرائيل ومارس عليهم جبروته وفرض عليهم نظريته الخاصة في تحديد النسل بأن يقتل الذكور وأن يستبقي الإناث .
والذي نفهمه من عشرات الآيات الأخرى التي تحدثت عن قوة فرعون وجبروته أن ذلك الطاغية لم يكن يخشى قوة بني إسرائيل إذا انضموا إلي عدوه ضده ، ولكن كانت له أسبابه الخاصة في اضطهاده لهم ، وهي أسباب تمتزج فيها الرغبة في الانتقام من تعاونهم السابق مع الهكسوس مع الرغبة في التخلص منهم باعتبارهم عنصرا غريبا مختلفا عن المصريين الذين اعتبروه إلها لهم بينما يعتبره أولئك الغرباء المستضعفون مجرد ملك لا يتمتعون في عهده بامتيازات .
من هو فرعون موسي ؟
وهناك اختلاف في تحديد شخصية فرعون موسي مابين تحتمس الأول وسيتي الأول وامنحوتب الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث، وهناك من يري أن الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل هو رمسيس الثاني أما فرعون الذي غرق فهو ابنه منفتاح .
وذلك الاختلاف في تحديد شخصية فرعون موسي يقع في فترة زمنية تقدر بحوالي ثلاثة قرون . مابين تحتمس الأول (1539 ـ 1501) ق. م إلي خروج بني إسرائيل من مصر في حوالي (1213) ق.م.
ولم يستطع المؤرخون الوصول إلي تحديد دقيق لفرعون موسي في هذه القرون الثلاثة.
لقد كان الفراعنة معروفين بعدم تسجيل النكسات والهزائم في نفس الوقت الذي ينسب كل فرعون أمجاد السابقين لنفسه وذلك يمثل عامل شك كبير في صدق المصادر التاريخية الفرعونية خصوصا عندما نحاول أن نتعرف منها علي حقيقة الكارثة التي حدثت في عصر موسي ونتج عنها غرق الفرعون وجنده في البحر.
والأكثر من ذلك أن القرآن الكريم يثبت حقيقة تاريخية لم ترد في كتابات المؤرخين وهي أن أبناء إسرائيل قد ورثوا فرعون في حكم مصر بعد انهيار النظام الفرعوني وغرق فرعون وقومه أو جنده.
يقول تعالي :
" فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ،وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ : الأعراف 137:136 "
إذن ورث بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها بعد أن دمر الله فرعون وآثاره وأن ذلك استمر إلي وقت قصير انتقلوا بعده إلي الشرق.
ويقول تعالي عن فرعون وآله
" كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ: الدخان25 : 28 "
وأولئك القوم الآخرون هم بنو إسرائيل فتقول الآيات الأخرى من سورة الشعراء.
"فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) "
أي ورث بنو إسرائيل جنت فرعون ومزارعه وكنوزه وأملاكه ، وملكه . حينا من الزمان.
وذلك كله يكفي لأن تتجاهل المصادر التاريخية الفرعونية تسجيل ذلك الحدث الجلل إلي أن يأتي القرآن الكريم ويثبته . ولكن يبقي السؤال مطروحا ، من هو فرعون موسي وهل في القرآن ما يشير إلي ذلك ؟
وفي البداية فإن المنهج القرآني كما أسلفنا ـ هو عدم تحديد الأشخاص . بل وتحويل الشخص المعروف باسمه إلي رمز كي يصبح عبرة لكل زمان ومكان ، ولذلك تحول ( أبولهب) مثلا و(آزر) إلي رمز للسقوط والتردي حتى لو كان ذلك الخاسر من أقارب النبي وبذلك تسقط دعاوى النسب الشريف التي تعطي حصانة لصاحبها " وفرعون " هو في حد ذاته لقب سياسي وليس اسما شخصيا وقد اكتفي به القرآن الكريم رمزا لكل حاكم ظالم مدع للألوهية يسير إلي نهاية الشوط في حرب الله تعالي فيلقي جزاءه.
ومع ذلك تبقي بعض الإشارات القرآنية عامل توضيح وترجيح في تحديد شخصية فرعون موسي .. ففي القرآن ما يرجح أن فرعون موسي شخص واحد هو الذي اضطهد بني إسرائيل وهو الذي طاردهم إلي أن غرق بجنوده في البحر ، خلافا لما يقوله بعض المؤرخين .
نفهم ذلك من قول بني إسرائيل لموسي
" قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ: الأعراف 129"
وقوله تعالي عن فرعون وملائه "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص "
إلي أن يقول تعالي :
" فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ : القصص 8 "
والسياق القرآني يقتضي أن يكون فرعون هو نفسه الذي اضطهدهم وهو نفسه الذي لقي عقوبته ، ومعه وزيره هامان وجنده.
وفرعون الذي تربي موسي في كنفه تعرف علي موسي حين جاءه نبيا فقال له :
" قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ،َفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ "
وليس منتظرا أن يكون فرعون موسي هو رمسيس الثاني الذي دحر الحيثيين في قادش بالشام وأرغمهم علي عقد أول معاهدة في التاريخ .
وذلك لسبب بسيط ، أن موسي حين قتل المصري وهرب من فرعون اتجه إلي مدين بالشام ، فكيف يهرب موسي من فرعون إلي فرعون ؟
إذ أن رمسيس الثاني قد احكم سيطرته علي الشام فكيف يهرب موسي من يد فرعون اليمنى إلي يد فرعون اليسرى ؟
المفهوم أن يعيش في عصر رمسيس آخر يكون خلفا لرمسيس الثاني وأضعف قبضة منه علي الشام حتى يحس موسي بالأمن وهو يستقر هناك مختفيا عن الأعين.
والمفهوم أن يرث ذلك الفرعون عظمة رمسيس الثاني وأن يكون له من القوة الداخلية ما يمكنه من شغل وقت فراغه بتحديد النسل لطائفة مستضعفة في شعبه، ويستخدم جيشه في التدريب علي حرب داخلية مضمونة النصر ضد المستضعفين، علاوة علي ما انشغل به من عقد المؤتمرات وإلقاء الخطابات ـ علي نحو ما سنعرض له.
ولو كان منشغلا بحروب خارجية ما التفت إلي الداخل بهذه الطريقة ، علاوة علي أنه لم يرد في آثار فرعون موسي أنه دخل في حرب خارجية.
لقد تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل في عصر موسي وهم يرفضون دعوته لدخول فلسطين لأن فيها ( قوما جبارين) وأولئك القوم لهم دولة ذات حدود وأبواب .
" قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ "
والمعني المقصود أنه كانت هناك دولة قوية في الشام أرهبت بني إسرائيل ، وليس متصورا أن تقوم مثل هذه الدولة في يوم وليلة ، وإنما المنتظر أن يكون بناؤها قد توطد بعد انهيار النظام الفرعوني.
ومعناه أن فرعون موسي الذي انشغل ببني إسرائيل قد سمح بوجود كيانات مستقلة استقلالا ذاتيا في الشام أتيح لها أن تقوي وتتوطد بعده.
وبسبب تقاعس بني إسرائيل عن الجهاد حكم الله عليهم بأن يظلوا تائهين في الصحراء أربعين عاما حتى ينقرض ذلك الجيل المتهالك ويأتي جيل آخر . ومات موسي في فترة التيه كما يذكر كاتب التورا ة ،وبعد موسي بعث الله نبيا إلي بني إسرائيل وتم في عهده تعيين جالوت ملكا وهو الذي هزم طالوت ، وكان داود هو الذي قتله ، وتأسس بذلك ملك بني إسرائيل.
والذي نفهمه أن الإمبراطورية المصرية تقلصت إلي حدود مصر الطبيعية بعد عصر فرعون موسي إلي حد أن قامت دولة بني إسرائيل الأولي علي حدودها الشرقية.
وذلك يرجح أن يكون فرعون موسي المقصود من خلفاء رمسيس الثالث الذي قتلته إحدي زوجاته.
لقد تعاقب بعد رمسيس الثالث ثمانية من الملوك كل منهم يحمل اسم رمسيس ولا نسمع عنهم كثيرا علي حد قول مؤرخي مصر القديمة . وأحدهم هو المرشح لأن يكون فرعون موسي.
ويعزز ذلك أن مصر قد دخلت في دور من الضعف والانقسام والانهيار وتولي السلطة الليبيون والنوبيون وفراعنة ضعاف ثم تولي الآشوريون ثم الفرس ، ومعناه أن فرعون مصر في عصر موسي هو آخر الفراعنة العظام وقد لقي مصيره في اليم وحقت اللعنة علي حلفائه الذين يسيرون علي منواله.
وذلك ما أثبته القرآن، يقول تعالي:
" وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا. "
استجاب الله لدعوة موسي وهارون فطمس علي أموال الفراعنة وأذاقهم العذاب الأليم وأذهب ملكهم ، وذلك ما حدث فعلا وما يمكن أن يحدث إذا ظهر في التاريخ المصري فرعون يدعي الألوهية ويقول (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)

* * *

فرعــون موسـي : ملامـح شخصيته :
ألوهية فرعون هي السمة البارزة في شخصيته والتي استمد منها سلطانه المطلق والتي من أجلها اضطهد بني إسرائيل ولهم عقيدتهم التي ليس فيها عبادة الفرعون.
ولقد فرض الفرعون مراسم تأليهه علي بني إسرائيل ، واستغرب فرعون وآله من دعوة موسي كيف يدعوه للحق بينما قوم موسي مجبورون علي عبادة الفرعون، نفهم ذلك من قولهم:
" فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ "
ولاريب أن فرعون افتخر بفعله ذلك أمام موسي وامتن عليه بأن قوم موسي يدينون له بالعبودية ، ولذلك قال له موسي:
" وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ "
وأدت دعوة موسي لأن يخشى فرعون علي عقيدته التي يقوم علي أساسها سلطانه فقال للملأ " إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ "
وعقد فرعون مؤتمرات شعبية تم فيها حشد الجماهير ووقف بينهم يعلن ألوهيته العظمي:
" فَحَشَرَ فَنَادَى ،َقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى "
وواصل فرعون مسيرة التطرف الديني فقال في احدي تصريحاته
" يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى.."
وباعتباره إلها معبودا كان المصريون في عصره يذكرون اسمه تبركا به عند القيام بأي عمل هام.
ونفهم ذلك من فعل السحرة حين افتتحوا المباراة بذكر اسم فرعون، يقول تعالي عنهم:
" فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون "
وما حكاه القرآن اكتشفه علم المصريات إذ يسجل أن المصريين في المباريات كانوا يحرصون علي ذكر اسم الفرعون كان يقول أحدهم لرفيقه أثناء المبارزة.
" اعلم تماما أنك أمام فرعون له الحياة والصحة والقوة ، مولانا الطيب "
وحين يلقي أحدهم في المصارعة برفيقه يقول له: " سوف أرميك ممزق الأضلاع أمام فرعون "
وفي أثناء التحطيب ـ المباراة بالعصي ـ يصرخ أحدهما :
" إن فرعون معي ضدك فله الصحة والحياة والقوة ، إنه مولاي. "
ويقول تعالي يصف موقف فرعون حين آمن السحرة بموسي:
" قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ "
أي أن فرعون يعتبر نفسه مالكا للقلوب والأفئدة لا ينبغي أن تؤمن إلا بعد إذنه ، ومعناه أن فرعون بسلطانه الديني والزمني السياسي اعتبر نفسه يملك الأرض والبشر، وهي قمة التطرف في الاستبداد.

* * *
ويذكر مؤرخو الحضارة المصرية ـ القديمة ـ أن عصر الدولة الحديثة ـ خصوصا الرعامسة ـ شهد تركيز السلطة في يد فرعون ، وبدأ ذلك في عهد أحمس ، فقد تآمر علي أحمس بعض أمراء الإقطاع لذا عمل أحمس علي الاستحواذ علي جميع أملاك النبلاء وضمها لأملاك الفرعون .
وبذلك استحدثت الأسرة 18 تركيز الثروة والسلطة والقوة تركيزا فعليا في يد الفرعون مما ساعد علي تكوين جيش قوي منظم متطور . وبذلك انتهي عصر الأسرات الإقطاعية الحاكمة في الأقاليم وانتهت اللامركزية في الإدارة ، وسيطرت علي البلاد حكومة مركزية قوية .
وما أسهب المؤرخون في شرحه عبر عنه القرآن الكريم بإيجاز وإعجاز حين يذكر خطبة فرعون في قومه يبين استحقاقه بالألوهية والسلطان المطلق. " وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟"
فالآية الكريمة تعبر عن تركيز السلطة في يد فرعون بقوله :
" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ؟"
ثم تضيف الآية عنصرا آخر يبين الخلفية الجغرافية السياسية للبيئة المصرية وهو قوله:
" وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.."
فالنيل هو الأساس الذي بني عليه الفرعون استبداده السياسي وملكيته لمصر.
فالنيل يشق الصحراء ويتجمع المصريون علي شاطئيه طلبا للاستقرار والزراعة والهدوء.
ونهر بهذا الطول يستلزم سلطة مركزية تقوم علي مراعاة الري والصرف والزراعة وحراسة الوادي من الطامعين . وأبناء النيل علي ضفافه يتعودون علي السكون والهدوء والاستمتاع بخيره وجناته ومناخه الرائع ، وهم علي استعداد للصبر علي جور الحاكم الفرعون طالما يتحمل عنهم مشقة الإشراف علي الداخل والدفاع عنه .
لقد استمد الفرعون من النيل وسيطرته عليه أساس سلطانه وافتخر بذلك فقال:
" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ؟"
فالذي يملك النيل يملك مصر معه ، ومصر كما يقال " هبة النيل "

* * *

وتكاتفت عوامل الجغرافيا والتاريخ والسياسة لتجعل من استبداد فرعون المطلق ملمحا مميزا من ملامح الشخصية المصرية القديمة وبدونه فلا وجود لمصر .
وأصبح الرأي المستقل المخالف لمنطق فرعون تهديدا للنظام وإنذارا بانهياره مما يستلزم معه ضرورة الإتحاد بين فرعون والملأ ضد ذلك الرأي النشاز، ومن هذا المنطلق نظر فرعون وآله إلي النغمة الجديدة التي جاء بها موسي ، اعتبروها تهديدا خطيرا لكيانهم ووجودهم.
" قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى؟"
وكرر فرعون مقالته للملأ :
"قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ،يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ؟"
وكرر الملأ فيما بينهم نفس المقالة :
"فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ،قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ،فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى "
وحتى بعد أن أعلن السحرة إيمانهم انبهارا بما شهدوه من موسي قال لهم فرعون :
"إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا "
فمنطق فرعون والملأ الذي يعيش معه وبه أن الأرض أرضهم وأن سلطانهم علي هذه الأرض يقوم علي أسس دينية وفكرية تتجمع كلها لتؤكد الرأي الواحد للفرعون ، وأن الرأي الآخر هو تهديد لهذا النظام وكل رموزه وأعوانه .
ومن هذا المنطلق فإن فرعون في حواره لا يطيق المعارضة ، وهو إن كان يقول للملأ: " إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ،يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ " فلا يعني ذلك أنه يقبل مبدأ المشورة أوأنه يحكم بالديمقراطية ويقبل الاختلاف في الرأي ، إذ أنه يعرف الملأ الذين معه قد ارتبط وجودهم بوجوده . والأمر الحقيقي ليسوا هم مصدره ، وهو حين يقول لهم " فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟" لا يعني أن لهم الأمر ، بل هو يعطيهم الفرصة لكي يقولوا له ما يريد الاستماع له .
ولذلك فإن اقتراحاتهم في النهاية هي نفس ما اقترحه الفرعون من الدخول في مباراة مع موسي.
إن فرعون حين يدير حوارا مع ملائه ينتظر منهم أن يفكروا في أحسن طريقة يتملقونه بها ولذلك فهو عن طيب خاطر يجعلهم أصحاب الأمر والنهي ، أما إذا اشتم راحة غريبة فإنه سرعان ما يعود إلي طبيعته الدكتاتورية ، وقد حدث ذلك حين قام واحد من الملأ وهو في الحقيقة من آل فرعون ولكن آمن بالحق وكتم إيمانه ، ومن منطلق مكانته أخذ يحاور الفرعون فلن يحتمل الفرعون ذلك الحوار المستقل ، كان الرجل المؤمن يقول :
" يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ "
وهكذا أسفر فرعون عن حقيقة الحوار الذي يجري مع الملأ، فقال في النهاية أنه لا يريهم إلا ما يراه بعقله ولا يدلهم إلا علي الرشاد.

* * *

والشخصية المصرية التي تميل للسخرية والتندر كانت تغلب أحيانا علي فرعون موسي وهو يحاور موسي وهو في سلطانه وبين أعوانه إلا أنه سرعان ما يعود للجد بعد الهزل إذا تطرق الحوار إلي الدين ، دين فرعون وتأليهه ــ حينئذ تتبدل السخرية بموسي إلي تهديد له .
والقرآن الكريم يرسم لوحة حية لذلك الحوار :
" قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ،قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ،قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ،قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ،قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ،قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ،قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ َ"
إن المصريين القدماء كانوا يعرفون الله ــ وذلك ما سنعرض له فيما بعد ــ ومعني ذلك أن سؤال فرعون لموسي " وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ " كان مقصودا به السخرية والتندر ، وحين أجابه موسي يصف رب العالمين بأنه رب السماوات والأرض قال فرعون لمن حوله مستهزئا
" أَلَا تَسْتَمِعُونَ " ولابد أن الضحكات ارتفعت من هنا وهناك تنافق فرعون إلا أن موسي رد علي استهزائهم بقوله لهم عن رب العالمين.
" قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ"
وحول فرعون السخرية لتنال من موسي فوجه حديثه للملأ .
" قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ "
ورد موسي بنفس التحدي يوجه حديثه للجميع.
" قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ "
أي أن موسي يتهمهم بعدم التعقل ويدعوهم لأن يكونوا عقلاء ليعرفوا رب العالمين، وبذلك وصل الحوار مع فرعون إلي نقطة النهاية فتحول إلي تهديد باستخدام القوة.
" قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ "
ولم يتوقف فرعون عن السخرية بموسي في مؤتمراته الشعبية ففي المؤتمر الذي قال فيه لقومه .
" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ؟"
كان يقصد عقد مقارنة بينه وبين موسي وفيها قال :
" أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ،فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ."
أي عاب علي موسي أنه لا يحسن النطق ووصفه بالمهانة ، وبالطبع فهو يصف نفسه بالفصاحة والعزة .
ولكن إذا كان موسي عند فرعون بهذه الصفات فلماذا تنازل الفرعون الذي يعتقد الألوهية في نفسه ورضي أن يعقد مقارنة بينه وبين موسي ؟إن فرعون يريد أن يذكر قومه بمكانته وهو الذي يملك عندهم كل شيء في مقابل موسي الذي لا يملك شيئا.
وهذا التأكيد والتذكير يحتاج إليه فرعون لأن ملكه يقوم علي أسس دينية وفكرية مكانها في الحقيقة في اعتقاد الناس فقط.
فطالما هم يعتقدون أحقيته في الألوهية والسلطان فإن مركزه السياسي والديني في أمان .
وقد جاء موسي بدعوة دينية نقيضة فيها كل الخطر علي الأسس الدينية والفكرية التي يقوم عليها ملك فرعون .
وحتى لا تنتشر دعوة موسي بين قوم فرعون لابد من الاستخفاف بموسي والاستهزاء به ليسقط في أعين المصريين وتسقط معه دعوته .
وهكذا استجاب آل فرعون وقومه فاستهزأوا موسي ودعوته يقول تعالي عنهم:
".فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ "
لقد تحكم الفرعون في عقلية القوم ، لذلك فإن القرآن بعد أن قص مؤتمر فرعون الذي قال فيه أليس لي ملك مصر قال تعالي يعقب علي قوم فرعون :
""فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"
وتأكدت النزعة الدكتاتورية عند فرعون أكثر بوجهه العسكري، يقول مؤرخو الحضارة المصرية القديمة أن الفرعون في عصر الرعامسة كان رأس الدولة وقائد الجيش الذي يقود الجنود ويتقدمهم في ساحة الوغى والذي يرأس كثيرا المجالس الحربية
والقرآن الكريم يربط فرعون موسي بهذه الصيغة العسكرية ويجعله قائدا للجنود، ويجعل الجنود في أثره دائما يقول عن مطاردته لبني إسرائيل ، فاتبعهم فرعون وجنوده ، ويقول عن زهوه العسكري" واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق" وكان هامان قائد الجيش والوزير الأكبر لفرعون تعرف ذلك من قوله تعالي:
" وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ "
" إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ "
ويقول عن نهاية فرعون مع جنوده
" فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ."
ووصف فرعون بأنه جندي محارب فقال:
" وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ "
وقال:
" هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُود" "

* * *

أتباع فرعون :
بعد أن قضت الدولة الحديثة منذ عهد أحمس علي أمراء الإقطاع المحليين نبتت
أرستقراطية جديدة وهم الموظفون الملكيون الذين وصلوا إلي قمة النظام الإداري
والعسكري، وكافأهم الفرعون بالهدايا والمنح ،وكان فرعون يملك الأرض ويقوم
الفلاحون باستئجارها وزراعتها لصالح التاج.
وأولئك هم الملأ الذي تحدث عنه القرآن وربطهم بفرعون وجعلهم قمة الأتباع أو قوم فرعون فقال عنهم.
" قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ "
وقد ذكر القرآن شخصيتين هامتين من ملأ فرعون هما هامان وقارون .
ويبدو أن هامان كانت له سلطة حربية بجانب سلطته المدنية نفهم ذلك من قوله تعالي:
" إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ "
فنسب الجنود لهامان وفرعون معا ، أما عن سلطته المدنية فتتضح من تكليف فرعون له بأن يبني صرحا.
"وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ "
" .. فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى.. "
أما قارون فقد ورد ذكره في موضعين في القرآن مرتبطا بفرعون وهامان علي أنه من كبار أتباع فرعون الذين كذبوا بموسي.
" وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ "
" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ،إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ "
ويفصل القرآن قولهم ــ ومنهم قارون بالطبع ــ
"فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ.. "
وفي موضع آخر يقول تعالي عن قارون:
"إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ.."
ومعناه أن قارون كان من بني إسرائيل ولكنه بغي عليهم حين تآمر عليهم وأصبح من ملأ فرعون .
وحين جاءت دعوة موسي كان قارون في خندق واحد مع فرعون وآله ضد موسي وقومه.
ويذكر القرآن أن قارون اتخذ نفس الموقف مع فرعون فأشار مع هامان بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسي . ولكن قارون ـ شأن كل خائن لقومه ــ آثر في الوقت العصيب أن يمسك بالعصا من منتصفها فلم يشترك في الحملة التي طارد فيها فرعون بني إسرائيل وموسي .
وهكذا نجا من نهاية فرعون ولكن إلي حين ، وبعد انهيار النظام الفرعوني كان قارون أعرف الناس بكيفية استغلال الموقف واستثماره فاستحوذ علي كل ثروات مصر فاغتر بالمال ونسي مصير فرعون وكان أشد منه قوة وأكثر جمعا وأتباعا ، وأعرض قارون عن الاستماع للنصيحة وكاد أن يفتتن به الضعفاء في الإيمان ، وجعله الله عبرة لبني إسرائيل حين خسف به الأرض وبكنوزه وداره .
ولا ريب أن قارون كان يتمتع بذكاء نادر وصل به إلي أن يلحق بملأ فرعون مع كونه من القوم المستضعفين ، ثم بعد انهيار فرعون ونظامه تمكن بذلك الذكاء من الاستحواذ علي الثروة لنفسه وحين نصحه قومه بان يتصرف في المال وفق ما يرضي رب العزة قال لهم:
" إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي."
وقد اغتر قارون بهذا العلم فاستحق نهايته المفجعة ولكنه كان يتكلم بنفس منطق آل فرعون وقد واجهوا معجزات موسي بالبحث عن كل ساحر " عليم" وفرعون كان يقدر هذه النوعية من العلم التي تعني المهارة في الخداع والدهاء، وبهذه الموهبة تنفتح الأبواب لكي يصير أحدهم من بين الملأ المقرب للفرعون.
لقد اقترح الملأ علي فرعون
"قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ،يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ "
وحين جاء السحرة " العلماء" انتهزوا الفرصة ليلحقوا بطبقة الصفوة من ملأ فرعون.
" فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ،قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ "
وحين خيب السحرة أمل فرعون فأعلنوا أمامه إيمانهم بموسي ورسالته كافأهم فرعون بالصلب وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فالذي يقترب من فرعون ثم يناله غضب الفرعون لابد أن يتحمل سوء العاقبة ، وذلك هو الدين الذي يعرفه كل الملأ الذي يحوم حول كل فرعون .
إن الوصول للدائرة الضيقة حول فرعون لا تسمح لأحد باختراقها إلا لمن كان ذا موهبة خاصة فإذا ساء حظه جاء حتفه.

* * *

لقد جاءت كلمة الملأ مرة واحدة في قصة يوسف حين طلب الملك الهكسوسي منهم أن يفتوه في رؤياه ولم يجد منهم إلا التكاسل والتثاؤب ، أما في قصة موسي وفرعون فكانت كلمة الملأ تأتي مرادفة لكلمة فرعون تدليلا من القرآن علي أن الملأ هم الامتداد الطبيعي للفرعون رأيه هو رأيهم ، ورأيهم هو رأيه ، بل إن كلمة " ملائه" و " ملائهم" لم تأت في القرآن إلا عن فرعون دليلا علي أن فرعون قد امتلك أولئك الملأ الذين نسبهم القرآن له.
وجاء كلمة" ملآئه " ست مرات ، بينما جاءت كلمة " ملائهم " مرة واحدة في قوله تعالي:
" فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ "
ومجيء كلمة الملأ مضافة إلي ميم الجمع تعني أن الملأ كانوا طبقات ودرجات ومجموعات، أو ما يعرف الآن بمراكز القوي التي تنشأ حول الحاكم المنفرد بالسلطة.
وحين قتل موسي ذلك الرجل المصري وصل النبأ إلي " الملأ" فتآمروا علي قتل موسي، ولاشك أن أولئك الملأ كانوا في المستوي الأدنى الذي يشرف علي مجريات الشارع المصري في العاصمة، بدليل أن الأمر لم يصل إلي فرعون في حينه ، وأولئك الملأ أخذوا علي عاتقهم أن يتآمروا علي موسي ويقتلوه بأنفسهم ، وعلم بالأمر واحد من الرجال في أطراف المدينة فجاء وحذر موسي .
" وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ "
لو كان أولئك الملأ من الطبقة العليا القريبة من إذن الفرعون لأسروا إليه بما حدث ولأصدروا حكم الإعدام علي موسي واعتقلوه ونفذوا فيه الإعدام قبل أن يصل الخبر إلي رجل يعيش في حواري العاصمة فيأتي ليحذر موسي .

* * *
لقد كان الملأ ـ أو زعماء قوم فرعون ـ طبقات ودرجات ، ولكنهم جميعا كانوا رهن إشارته فاتبعوا أمره فأوردهم التهلكة في الدنيا وسيأتي يوم القيامة إماما لهم يتقدمهم إلي النار.
وبهذا أخبر رب العز " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ،إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ،يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ "
* * *
وللقرآن الكريم طريقة فريدة يوضح بها التجاوب في الرأي بن فرعون وملائه وذلك بأن يسند الرأي الواحد مرة لفرعون ومرة أخري للملأ. وذلك يعني أن الملأ حول فرعون يبحثون عن الرأي الذي يرضي هوي فرعون ليقولوه له.
وإذا كان الرأي واحدا في النهاية فمن الممكن أن ينسب لفرعون أو للملأ أولهما معا، فالملأ في الحقيقة هم امتداد الفرعون.
يقول تعالي: " وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ."
فالملأ هنا هم أحرص من فرعون علي ملك فرعون أو هم ملكيون أكثر من الملك.
ويقول تعالي: " فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ " .
إن هذه النوعية من الحاشية الملكية تفرش الورود أمام الفرعون في طريقه للهلاك السريع..!!

* * *
لقد كان الملأ هم قادة الجند الفرعوني وكبار موظفيه في العاصمة والأقاليم.
أما جند فرعون فهم قومه . أو القطيع الذي يتم حشده من كل مدائن مصر خلف فرعون وملائه. و(جند) فرعون أو ( قوم) فرعون هم الذين هرولوا خلف فرعون يطاردون معه موسي واستقروا في قاع البحر.
ويقول تعالي عن (قوم ) فرعون .
" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ،فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ "
إذن أغرق الله (قوم) فرعون ( أجمعين) ويقول تعالي عن (جند) فرعون.
" وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ،فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ .."
إذن غرق(جند) فرعون الذين هم (قوم) فرعون.

* * *

ويقول مؤرخ عصر الرعامسة أن الجنود لم يكونوا يتعلمون مهنة أخري سوي مهنة حمل السلاح التي كانوا يتوارثونها وكانوا جميعا من ذوي الأملاك.
ومعني ذلك أننا أمام نظام الإقطاع العسكري حيث يقوم جيش الفرعون بالإشراف علي زراعة الأرض التي تقسم علي القادة والجنود ويتم تسخير الفلاحين في زراعتها في مقابل ما يقيم أودهم .
وقد استمر الإقطاع العسكري الزراعي في مصر في فترات لاحقه كان آخرها في العصر المملوكي ( 1250ــ 1517م) وعاش الإقطاع العسكري فترات طويلة في أوربا العصور الوسطي.
وكانت بدايته في مصر في عصر الرعامسة .. والقرآن الكريم يعطي أضواء علي نظام الإقطاع العسكري الزراعي الفرعوني، ويظهر ذلك في تكرار كلمة" حشر" في أفعال فرعون أي أنه كان يحشد جنده وأتباعه من كل مكان .
ويقول تعالي يصف نوعية الحشد العسكري الفرعوني الذي يضم كل المدن المصرية والقرى الزراعية .
" . وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ،فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ،إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ،وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ،وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ،فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ،كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
أي أن فرعون أرسل منشورا إلي قادة الجيش في كل أنحاء المدائن المصرية ليحشروا قواتهم ويسيروا بها إلي فرعون ، وذلك المنشور يقول أن بني إسرائيل شرذمة قليلة ولكنهم يسببون الضيق للفرعون وأنه يحذرهم ، وطبقا لذلك الأمر خرج كل الجنود من اقطاعاتهم الزراعية وكنوزهم التي يديرونها ويشرفون عليها ، ووصفها القرآن بقوله:
" فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. "
ويتكرر نفس المعني في قوله تعالي:
" كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ،وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ،كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ "

* * *

وفي القرآن الكريم إشارات إلي نظم متفوقة في الاتصال بين فرعون في عاصمته وفرق جيشه في سائر العمران المصري القديم ..
وعن طريق ذلك الاتصال المستقر والمستمر كانت كل فرق الجيش وكل قوم فرعون في متناول يده في اللحظة التي يريدها ويكفي انه جمع جنوده من كل الإنحاء ولحق بموسي .
" قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ، قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ "
إذن ذهبت الرسل إلي كل المدائن تجمع أمهر السحرة وتنقلهم إلي العاصمة في وقت محدد .
ثم اندست مجموعات أخري بين الجماهير تحثهم علي حضور المباراة المرتقبة ، وحتى يزيدوا في إثارة الجماهير لمشاهدة المباراة فإنهم لا يقطعون بفوز السحرة وإنما قولون " لعل السحرة يفوزون"

* * *

لقد قال موسي لفرعون " موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحي " ويعرف موسي أن بمقدرة فرعون أن يحشد الجماهير في نفس الموعد، وهكذا تقول الآية التالية .
" فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.."
فالقرآن يصف أجهزة فرعون في الاتصال والتأثير في الجماهير بأنه " كيد" وهو أفضل تعبير عن الأجهزة السرية التي تخدم الحاكم المطلق.
* * *
إن من الطبيعي أن يكون للفرعون عملاء سريون وإن كانت إشارات القرآن هي المصدر الوحيد ـ علي ما يعرف ـ في هذا الشأن ، وقد تتبع عملاء فرعون وجواسيسه كل أفراد بني إسرائيل في عصر موسي ، ولم يشعر بهم بنو إسرائيل ، ولم يشعر موسي أو هارون بذلك النظام السري الفرعوني الذي يعد عليهم أنفاسهم.
وتطلب الأمر أن يوحي الله تعالي لموسي يحذره من أولئك الجواسيس ، وجاء ذلك الوحي قبيل اللحظة الحاسمة" ساعة الصفر" أي وقت هروبهم من مصر للشرق.
يقول تعالي:
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ " ، "فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ "
أي كان بنو إسرائيل " متبعون" أي خلقهم جواسيس فرعون يتبعونهم حيث تحركوا .. ومع إنهم تحركوا في ظلمات الليل سرا فإن البوليس السري الفرعوني ما لبث أن اكتشف السر وسارع بإبلاغه إلي فرعون وسرعان ما أرسل فرعون بالمنشور الذي يحشد به كل قواته من كل أنحاء مصر .
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ.."
ويبدو أن النظام السري لفرعون كان يتكون من درجات مختلفة السرية .
ودليلنا علي ذلك ما نستشفه من قوله تعالي:
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ."
فالله تعالي يأمر بني إسرائيل بأن يقيموا الصلاة في بيوت سرية خاصة في أنحاء مصر ، وقد جاءت هذه الآية بعد آيات أخري تفيد خوفهم من اضطهاد فرعون إلي درجة أن ذرية قليلة من بني إسرائيل هي التي آمنت لموسي ووثقت به .
وتطلب الأمر أن يعتصموا بالله ويتوكلوا عليه ليستعينوا به في كربهم أمام اضطهاد الفرعون.
ومعني ذلك أن رموز الإرهاب كانت تحيط ببني إسرائيل من الشرطة العلنية ونصف السرية.
وبعد أن كانوا يصلون لله في بيوت سرية فإن الأعين الفرعونية شديدة السرية كانت تلاحقهم. وحذر الله موسي من ذلك النظام السري الجهنمي . وفي النهاية كان مكر الله أسرع ، فأسرع فرعون بكيده إلي حتفه.

* * *

هل يشمل تعبير " قوم فرعون " كل المصريين ؟
من القرآن نفهم أن قوم فرعون هم جنده الذين كانوا يحضرون اجتماعاته الشعبية والذين استحضرهم من كل الأنحاء ليطارد بهم خصومه فغرق وغرقوا معه تاركين خلفهم
الأراضي الزراعية عامرة بما فيها من كنوز وجنات وعيون.
ومعناه أن الفلاحين المصريين كان لا شأن لهم بما يجري من السياسة الفرعونية وتطوراتها.
ولم يكن منتظرا أن يتركوا حقولهم ليحضروا مؤتمرا لفرعون في العاصمة، ولم يكونوا مؤهلين ليشتركوا في أعمال عسكرية.
كان الفلاحون من ضحايا الفرعون شأنهم في ذلك شأن بني إسرائيل فنجوا من الغرق ورضوا بتحمل الظلم ـ ولا يزالون.
يقول مؤرخ عصر الرعامسة أن أحقر المهن جميعا هي مهنة الزراعة التي يفني فيها الفلاحون وطالما يتعرضون لأذى سادتهم . ويستغلهم السادة ومحصلو الضرائب علي السواء " وهذه هى حال رجل الحقول . تسجن زوجته ويؤخذ أولاده رهائن".
وعندما تبدأ سنابل القمح في الاصفرار يري الفلاح سادته ومعهم عدد كبير من الكتبه والمساحين والموظفين ورجال الشرطة يبدأون عملهم بمسح الحقل ثم يقدرون كمية الحبوب بالكيل ويكونون فكرة دقيقة عما يستطيع الفلاح أن يقدمه إلي مندوبي الخزينة ، وبعد إتمام الحصاد يحضر الكتبة والكيالون فيستولون علي المحصول ويعاقبون الفلاح الذي يخفي جزءا من المقرر عليه. ثم يتم تجميع المحاصيل كلها في صوامع ضخمة علي شكل أقماع السكر" وما سجله مؤرخو عصر الرعامسة كان يتكرر في العصرين المملوكي والعثماني وربما حتى الآن..

* * *

لقد اختار الفلاح المصري أن يتحمل الظلم فاستحق الخلود الدنيوي مع النيل والتربة
.. بينما دفع الفراعنة الظلمة الثمن من حياتهم وسلطانهم." وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ، وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ"
لقد حكم فرعون موسي بالحديد والنار وكان الاضطهاد للضعفاء أبرز سياسته الداخلية.

* * *

ســـياسة الفرعون الداخلية :
من الواضح أن فرعون موسي كان متفرغا لشئونه الداخلية، استخدم جيشه القوي في إحكام سيطرته علي مصر وفي إرهاب الضعفاء أو من لا يثق في ولائهم .
ومن الواضح أن فرعون قد أجاد استخدام عناصر قوته من حشد قواته واستنفار أعوانه وعقد المؤتمرات ، وتبدو من النصوص القرآنية مقدرته الفائقة علي الحديث مع الجماهير وسيطرته عليهم وفهمه لطبيعة الشعب المصري الذي قد ينسي الآلام حين يستمع إلي نكته يلقيها الفرعون الظالم وكل ذلك تصوره الآيات القرآنية الكريمة:" وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ "
وربما كان موسي يحس بمقدرة الفرعون علي الحوار وفصاحته في الجدل ، وخشي من التعلثم أمامه فطلب من الله أن يعينه بإرسال هارون معه، وربما كانت إقامة موسي الطويلة في مدين أضعفت لسانه عن النطق الفصيح باللغة المصرية، كل ذلك مع خوفه من جبروت فرعون جعل موسي يقول فيما يحكيه القرآن : قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ" ، " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ" ،" قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ،وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ،هَارُونَ أَخِي ،اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي"
لقد وجد فرعون الظروف متاحة له كي يتطرف في تقوية نفوذه الداخلي ومعه جيشه الذي يدين له بالولاء ومعه الملأ الذي يجتهد في التفكير فيما يرضيه ويشبع غروره.
يقول تعالي عن نفوذ فرعون في مصر :
" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ"
وقد جعل القرآن من بني إسرائيل طائفة من أهل مصر فقد عاشوا فيها قرونا قبل مجيء ذلك الفرعون .
وأبان القرآن عن جانب من سياسة الفرعون وهي تقسيم أهل مصر إلي طبقات .
" وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا "
وكيف أنه اضطهد الضعفاء منهم ، ويعبر عن ذلك بلفظه موحية وهي :
" يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ "
فالفرعون الذي علا في الأرض بجنده وقوته استضعف طائفة من شعبه ، ( والسين والتاء) تفيد الطلب إذا دخلت علي الفعل، فإذا قلت ( استكتب) أي طلب الكتابة . وإذا قلت (استرحم) أي طلب الرحمة .
وهكذا فإذا ( استضعف ) فرعون بني إسرائيل فمعني ذلك أنه دبر من الوسائل ما جعل بها بني إسرائيل في اضعف مكانة ، وتحول ضعف بني إسرائيل إلي قوة تضاف إلي رصيد فرعون ، وهذه القوة مارس فرعون اضطهاده لبني إسرائيل .
وطالما ( استضعف)فرعون بني إسرائيل فقد تجرأ علي قتل أبنائهم واستحياء نسائهم.
ولو كانوا أقوياء ما جرؤ علي التفكير في ذلك.
فالمستبد لا يضطهد إلا من يظهر فيه الضعف . وفرعون موسي حين لم يجد أحدا يقف أمامه ازداد غرورا بقوله وتطرفا في ظلمه . والمثل الشعبي يصور ذلك:
" يا فرعون من فرعنك ؟ قال مالقيتش حد يقف قصادي.."
إن فرعون استهان ببني إسرائيل ـ أي استضعفهم ـ ونفس الجرم وقع فيه بنو إسرائيل بعد سنوات حين ( استضعفوا) هارون في غيبة موسي فعبدوا العجل، واعتذر هارون لأخيه فقال:
" إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي "

* * *
لقد استمر اضطهاد الفرعون لبني إسرائيل حتى بعد رسالة موسي :
" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ،قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا "
بل إن رسالة موسي كانت حافزا علي مواصلة الاضطهاد الفرعوني :
"فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ"
وأدي ذلك الاضطهاد إلي خوف الأغلبية من بني إسرائيل من الالتفاف حول موسي:
" فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ "
ولكن هل لحق ذلك الاضطهاد بموسي وهو يتحرك ضد فرعون داخل أرض فرعون؟
لقد كان موسي ـ عليه السلام ـ يتخوف أشد الخوف من العودة لمصر ومقابلة فرعون ودعوته للهداية وإطلاق سراح بني إسرائيل وتكرر قوله لربه في الوحي أنه " يخاف" من مواجهة الفرعون .
" قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ.. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ.. قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ "
وحتى بعد أن أرسل الله هارون مع موسي ظل الخوف مسيطرا علي الأخوين وشكيا ذلك لله تعالي فجاءتهما البشري من الله أنه معهما " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ،فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ،قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ،قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.. "
وبالتمعن في الآيات الأخيرة نلحظ مدي بأس فرعون والخوف الذي زرعه في القلوب ، ولكن الله تعالي أحاط موسي وهارون برعايته فأخاف منهما فرعون ، ولقد فكر فرعون في قتل موسي واقترح ذلك علي الملأ لأن فرعون الرهيب ( يخاف) من موسي أن يبدل دين قومه ، ولأول مرة يقف رجل من الملأ يعارض دعوة فرعون .
" وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ، وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ " .
لقد استعاذ موسي بالله من طغيان فرعون
والله تعالي قد وعد موسي وهارون أن يحفظهما من كيد فرعون وآذاه.
" قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا "
وتحقق وعد الله لهما فلم يستطع جبروت فرعون أن يصل إليهما .. لم يستطع فرعون أن ينال شيئا من موسي برغم حقده وجبروته وطغيانه وبرغم أن موسي يتحداه داخل أرضه ويهدد سلطانه ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
لقد كان إرهاب السلطة الفرعونية يغلف الشارع المصري ، ونلمح ذلك من خلال تحركات الشخصيات في قصة موسي.
يقول تعالي يحكي عن بداية موسي بعد إلقائه في اليم " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "
فأخت موسي كانت تقص أثر التابوت الذي يسبح في النيل ، وهي تحاذر أن يراها أحد.
ولا ريب أن التابوت قد وصل إلي منطقة محرمة حيث يقع قصر الفرعون مما استوجب علي أخت موسي أن تتواري حتى لا يشعر بها أحد من الملأ المحيطين بقصور الفرعون .
وانتهت القصة بأن تبنت امرأة فرعون موسي ثم عاد موسي إلي أمه كي ترضعه
" فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ،وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا "
ونستفيد من الآيات أن موسي نشأ مع أهله رضيعا ثم شب معهم إلي بلوغه الشباب ويعدها دخل مدينة الفرعون ، أو بالأحري تسلل إليها علي حين غفلة من أهلها
ولو كان موسي قد عاش في قصر الفرعون ما دخل المدينة علي حين غفلة من أهلها ، إذن لا بد حينئذ أن يكون معروفا ذا نفوذ.
ويبدو من الآية أن مدينة فرعون كانت أشبه بالثكنة العسكرية لا يدخلها غريب عنها إلا متسللا وأن من يتسلل إلي هذه المدينة من غير المصريين يكون عرضة للظلم .
وهكذا فإن موسي وجد شجارا في المدينة أو بمعني آخر وجد شخصا من شيعته الذين تربوا معه في الحي الإسرائيلي يدافع عن نفسه أمام بغي واحد لابد أن يكون من جند فرعون .
واستغاث المظلوم بموسي، ولأن ذلك الرجل المصري يمثل السلطة الفرعونية التي يستطيل بها علي الإسرائيلي فإن موسي كان أقرب إلي حالة الدفاع الشرعي عن النفس ، وبهذه الحالة النفسية استخدم موسي كل قوته وكراهيته للظلم في ضربة واحدة قضي بها علي خصمه.
"وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ "

* * *
لقد عرف موسي منذ اللحظة الأولي من هو عدوه ومن هو شيعته ومعناه أن ذلك المصري كان من الملأ المتخصصين في إيقاع الأذى ببني إسرائيل ولذلك تآمر رفاقه علي قتل موسي، وبعدها كانت الإشاعات بقتل موسي للمصري قد انتشرت ، أو ربما كان الملأ قد حققوا في الأمر ووصل إليهم من سمع مقالة الإسرائيلي لموسي
" أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ"
وهكذا جاء الرجل الآخر ونرجح أنه كان مصريا ـ يحذر موسى
" وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ " القصص20
وفي عصر الطغيان وفي أوقات الشدة يكون الرجال قليلين من بين الذكور من البشر..
والقرآن الكريم يصف ذلك المصري بالرجولة ويكتفي بذلك عن ذكر اسمه ليحوله إلي رمز ، وكذلك فعل القرآن مع " رجل " آخر قال كلمة حق لقومه وأوذي في سبيلها.
" وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"
ووصف القرآن بعض المؤمنين حول الرسول محمد صلي الله عليه وسلم وقت محنة الأحزاب بقوله :
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا "
أما بعض (الذكور) من قوم لوط فقد قال لهم لوط :
" يا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ؟"
فليس كل الذكور رجالا .. نعود إلي الرجل ( الرجل ) المصري الذي سجل القرآن الكريم موقفه ( الرجولي ) ونقرر أن المصريين لم يفتقروا إلي وجود رجال حتى في أحلك عصور الطغيان .
ثم نعود إلي موسي بعد أن حذره الرجل المصري وهو يتسلل من المدينة التي حولها الإرهاب الفرعوني إلي ثكنة عسكرية.
ولانجد أبلغ من وصف القران لحال موسي وحال تلك المدينة
" فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "
ولقد شملت دائرة الخوف من إرهاب فرعون أقرب الناس إليه فالرجل المؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ " ومع ذلك الخوف كان يجادل قومه داعيا إياهم إلي الحق في حوار طويل أورد القرآن بعض تفاصيله . وأشار القرآن إلي أن مكانة ذلك الرجل لم تدفع عنه المؤامرات من الملأ ولولا نصرة الله له لأصابه منهم ضرر عظيم . قال لهم ( الرجل المؤمن) يائسا في النهاية.
"فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"
وتقول الآية التالية عنه وعن أعدائه :

" فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ "
إذن نحن أمام ( رجل) مصري آخر ليس من قاع المدينة بل من داخل البيت الفرعوني.
ولقد وصلت دائرة الخوف من الإرهاب الفرعوني لتضم امرأة فرعون نفسها وهي التي استعانت بالله من شر فرعون فقالت " وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "
وفي النهاية فإن دائرة الخوف اكتملت بفرعون نفسه ، فالظالم أكثر الناس رعبا من عاقبة ظلمه وكلما ازداد رعبا ازداد ظلما ليحمي نفسه من أوهام تسيطر عليه ، وكلما ازداد ظلما ازداد رعبا من أشباح ضحاياه .. وهكذا يصل في النهاية إلي مصرعه .
وكان فرعون يخشى من دعوة موسي السلمية التي تتلخص في بساطة شديدة في أن يخرج بقومه من مصر.. والعقل الحصيف لا يري خطرا في أن يتخلص الفرعون من أولئك الذين يكرههم ويستضعفهم ولكن أوهام فرعون ومخاوفه من أن تنتقم منه أشباح الضحايا السابقين من بني إسرائيل جعلته يرفض ذلك بل يعتبرها دعوة لتخريب نظامه القائم علي الإرهاب المطلق .
وكان العلاج أن يقتل المزيد من الضحايا حتى يشعر بالأمن ويطرد عنه الخوف .
"وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ "
وبلغ الخوف بفرعون درجة الغيظ من هذه الشرذمة القليلة التي هربت بنفسها من جحيمه .
" فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ،إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ،وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ،وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ "
تكاثرت مخاوف فرعون من هذه الشرذمة القليلة التي بالغ في اضطهادهم إلي أقصي مدي ولم يكتف بذلك بل طاردهم بغيا وعدوا إلي أن وصل بظلفه إلى حتفه ، وربما يتحول الخوف في نفس المظلوم إلي إيمان فيشعر بالأمن متوكلا علي الله.
أما الظالم فيظل أسير الشيطان يعيش في دائرة من الرعب لا نهاية لها إلا بموته .
"سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ "
ويعلمنا القرآن أن نخشى الله وحده كي نشعر بالأمن وإلا أخافنا الشيطان من كل شيء ومن لا شيء.
"إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "
لقد سيطر الشيطان علي فرعون فأخافه من بني إسرائيل حيث لا محل للخوف منهم مطلقا ، وزين له أن يتطرف في اضطهادهم وفي كفره في نفس الوقت ، يقول تعالي:
" وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ "
ومن القرآن نعرف وسائل فرعون في اضطهاد خصومه .
كان السجن والصلب من وسائل العقوبة والاضطهاد في عصر يوسف حيث كان الهكسوس يحكمون .
وفي عصر فرعون أضيف للصلب تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن فرعون أراد أن يثبت للسحرة انه أشد عذابا وأبقي من رب العزة .
" قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى "
إذن حرص فرعون علي إيقاع الإيلام في العذاب ليؤكد دعواه في الألوهية والاستبداد وتحدي رب العباد.
وبالإضافة إلي ذلك كانت هناك عقوبات أخري مثل السجن والرجم وقتل الأبناء واستحياء البنات.
ففرعون هدد موسي بالسجن" قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ "
وكان موسي يخاف منهم أن يرجموه لذا قال لهم:
" وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ "
أي كان اعتزالهم له في حد ذاته أممنية له ..
وتحدث القرآن عن اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم ، ولكن السؤال هل اقتصر ذلك علي قتل الأبناء واستحياء البنات ليكونوا خدما لفرعون وقومه .
لقد عمل فرعون علي إضعاف بني إسرائيل وكان من وسائله في ذلك أن يقضي علي نسلهم بتلك الطريقة المبتكرة. ولكن كانت له وسائله الأخرى في تعذيبهم .. يقول تعالي:
"وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ"
و(الواو) التي جاءت في قوله تعالي " ويذبحون" " ويستحيون" تفيد أنهم كانوا يعانون من العذاب بالإضافة إلي ماكان يحدث لأبنائهم وبناتهم.
ولو كان عذابهم في أن يروا ما يحدث لأبنائهم وبناتهم لكفي .
ولا ريب أن فرعون كان يحس بالتقصير وهو يطارد بني إسرائيل وهم يفرون منه.
ولا ريب أنه كان يحاول أن يصلح خطأه حين تركهم أحياء وكان يسارع مخلصا في
إصلاح هذا الخطأ إلي أن استيقظ وموج البحر يحتويه فأعلن توبته وإسلامه في الوقت الضائع يقول تعالي:"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ،أالآن ؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ؟ ،فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "
وصدق الله العظيم .. " وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "

* * *




الفصــــــل الثانـــــــــي
المجتمـــــع المصـــــري القديـــــــم
في القــــــرآن الكريــــــــــم

لمحــة عامـــة:
التاريخ الاجتماعي لعصر ما من أشق أنواع التاريخ ، ويزيد في صعوبته كلما تباعد ذلك العصر في الزمن وكلما ندرت مصادره ، وينطبق ذلك علي المجتمع المصري القديم خصوصا وقد دارت مصادره وآثاره حول الفراعنة والطبقة الحاكمة وتوارت طبقات المجتمع الدنيا في زوايا النسيان والإهمال.
وقد أتحفنا القرآن الكريم ببعض الإشارات التي توضح غموض الحياة الاجتماعية في مصر القديمة .. منها إشارة للأعياد المصرية التي تكون أياما للزينة ، وفي أحد هذه الأيام كانت المباراة الكبرى بين موسي والسحرة." قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى "
ومنها إشارة لطبقات المجتمع نحسها من أنفة النسوة من الطبقة الراقية في قصة يوسف حين علمن بأن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فقلن " إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ "
لم يكن موقفهن في الاحتجاج مبنيا علي أسس أخلاقية وإنما قام علي أسس طبقية اجتماعية كيف تتدني امرأة العزيز إلي مغازلة خادمها يوسف، والدليل أنهن عندما رأين يوسف وانبهرن بجماله تناسين الفوارق الطبقية ووافقن امرأة العزيز علي موقفها وتشجعت امرأة العزيز فهددت يوسف بالسجن باسمها واسمهن ورد يوسف :
" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ "..
ولو كان التهديد من امرأة العزيز فحسب لقال يوسف( مما تدعوني إليه)
ونحس إشارات أخري لطبقات المجتمع من قصة موسي وكيف استضعف الفرعون طائفة من أهل مصر واضطهدهم ، وكيف كان أهل مصر شيعا وأحزابا بمعني الكلمة بحيث أن موسي يقول لربه " قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ "..
و يتضح في التعبير أن موسي اعتبرهم شعبا آخر
والرجل الذي جاء من ( أقصي المدينة يسعى) أغلب الظن فيه أنه مصري من الطبقات الدنيا من المجتمع ولابد أنه عاني من الظلم لذا اتخذ موقفا أيد فيه موسي وخاطر بنفسه لكي يحذره من تآمر الملأ علي حياته.
وإذا كان قصر الفرعون مطلا علي النيل ـ بحيث وصل إليه التابوت الذي حمل موسي ـ فإن ذلك المصري الفقير كان يعيش علي أطراف المدينة وفي ضواحيها القاصية ومن هناك جاء إلي موسي يسعى .
ولقد كانت البيئة المصرية في عصر الرعامسة تؤمن بالتفاؤل والتشاؤم ، يقول مؤرخ عصر الرعامسة إنهم قسموا الأيام إلي ثلاثة أقسام أيام سعيدة وأيام منذرة وأيام معاكسة عدوانية.
وأن سلوك الإفراد كان ينظم وفقا لطبيعة الأيام ففي أيام النحس لا ينبغي مغادرة البيت أو القيام بعمل .. وكان لديهم تقويم بأيام السعد وأيام النحس اعتمادا علي تقاليدهم الموروثة وعلي ذلك نفهم لماذا كانوا يتطيرون ـ أو يتشاءمون ـ بموسي ومن معه إذا حدث لهم مكروه يقول تعالي عنهم:" وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ "
وفي قصة يوسف إشارات عن الرقي الحضاري الذي كان عليه البيت المصري في الطبقات الحاكمة .. فقد كان يتكون من حجرات شتي وأبواب متعددة وأجنحة مختلفة ، بدليل أن امرأة العزيز حين أرادت الخلوة بيوسف غلقت الأبواب .
"وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ "
والمتوقع أن تكون قد عملت علي إتمام الخلوة بأن تغلق باب الجناح الذي تقيم فيه مع باب حجرتها الخاصة وأبوابا أخري بينهما .. ومما يدل علي كثرة الأبواب التي ينبغي غلقها في تلك المساحة أن القرآن يستعمل لفظ الجمع " وغلقت الأبواب " وكثرة الأبواب دليل علي تقدم الرقي الحضاري والمعماري،وحاول يوسف الهرب من حجرتها فقفز للباب كي يخرج وسبقته هي لتحول بينه وبين الخروج وجذبته من خلف فمزقت قميصه وانفتح الباب فظهر الزوج المحترم لدي الباب " وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ "
إذن كان سيادته يحتفظ بمفاتيح للأبواب ،أي كانت الأقفال تفتح من الداخل والخارج، وذلك تطور معماري هائل في ذلك العصر البعيد.
وأرادت امرأة العزيز أن ترد علي نساء المدينة فأقامت لهن حفلا.
" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ واعتدت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ" .
ومن خلال الآية نتجول في داخل بيت العزيز ، ففيه مساحة واسعة تكفي لأن تعد السيدة فيه متكئا لمجموعة كبيرة من النساء ، والمتكأ المناسب لبيت مثل هذا لا يمكن أن يكون حصيرة بل آرائك ناعمة تتكيء عليها النسوة المترفات ، بينما تطوف عليهن الخادمات بأطباق الفاكهة وسكاكين يأكلن بها .. أي أن المصريين منذ حوالي (4000 عام) كانوا يستعملون السكين في تناول الطعام .. هذا في الوقت الذي كان فيه الأوربيون لم يهبطوا بعد من فوق الأشجار .. !!


* * *
والرقيق الذي يخدم في البيوت كان من مظاهر الجاد في ذلك الوقت ، وقد جاءت قافلة من الشرق تحمل يوسف . وفي مصر بيع يوسف واشتراه الرجل الذي صار عزيزا لمصر وحرص علي أن يرعاه رعايته لابنه ، وذلك تقدم حضاري في التفكير تجاوز عقلية لنكولن محرر العبيد في أمريكا .
"وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "
والملفت للنظر أن القرآن يعتبر نشأة يوسف رقيقا في هذا البيت تمكينا له في الأرض.
"وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ".
ولقد كانت مصر جنة الرقيق والمماليك وأصبحوا بها ملوكا وسلاطين.
لقد كان عزيز مصر حين اشتري يوسف يطمع في أن يتخذه ولدا ولكن لزوجته رأي آخر .
والمهم أنها ردت النسوة بتلك التجربة وفاجأتهن برؤية يوسف ومن ذلك نفهم أنهن لم يرين يوسف من قبل . ولعل ذلك يرجع إلي حواجز كانت تمنع النساء من الطبقة الراقية من الاختلاط برقيق البيوت الأخرى , وربما لم يكن مباحا ليوسف أن يغادر البيت إلي الشارع أو إلي البيوت الأخرى ، وإلا حسنه سيصير مشهورا في المدينة ولا حاجة حينئذ للتجربة التي أقامتها زوجة العزيز.

* * *

وامرأة العزيز تجرنا إلي الحديث عن المرأة المصرية القديمة :
إن المرأة تلعب دورا هاما في قصة يوسف ونلمح فيها أدوارا لامرأة العزيز والنسوة في العاصمة المصرية القديمة وأم يوسف .
أما في قصة موسي فللمرآة دور أوضح.
فهناك أم موسي وأخته وامرأة الفرعون والمراضع والفتاتان من مدين واحداهما أصبحت زوجة موسي التي عادت معه إلي مصر.
ومع كثرة الأدوار النسائية في قصة موسي إلا أن صوتهن خفت ليفسح المجال لصوت فرعون الطاغية ، وحتى زوجة فرعون نفسها كانت تخلو بنفسها بعيدا عنه تدعو الله عليه ..!!
أما في قصة يوسف فكان صوت المرأة أعلي علي حساب الرجل ويكفي أن الإشاعات النسائية كانت تجد الرواج .
فقد ذاعت قصة امرأة العزيز مع فتاها الوسيم وانشغلت العاصمة المصرية بتلك النميمة.
" وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "
وذلك الصوت العالي للمرأة يعني أنه كان لها نفوذها في داخل البيت المصري في ذلك الوقت.
صحيح أنه من الناحية الرسمية كان الرجل سيد المرأة ، والقرآن يقول عن الوضع الرسمي للزوج في ذلك الوقت .
"وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ "..
إذن كان العزيز زوج المرأة سيدا لها .. وفي نصائح الحكيم المصري بتاج حتب في معاملة الزوجة.
" أسعد قلبها مادامت حية لأنها حقل طيب لمولاها"
أي كان الزوج هو ولي أمر الزوجة وسيدها.. ورد ذلك في القرآن والتراث الفرعوني.. هذا صحيح من الناحية الرسمية ولكن الواقع أن الزوج في هذه لفترة كان يملك ولا يحكم .. له السلطة الاسمية في البيت وكفي .. أما السلطة الفعلية فللمرآة الحديدية وتعبيرات القرآن في قصة يوسف تعكس ذلك ..
فعزيز مصر ـ الذي يحتل مكانة سياسية هامة ـ حين اشتري يوسف قال لامرأته.
"أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "
فحين طلب منها ذلك قدم لها تبريرا يقنعها فقال: " عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "..
وقال القرآن : "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ "
وهو تعبير بليغ عن تحكم تلك المرأة في البيت وسلطانها علي مافيه ومن فيه . وحين ضبطها الزوج المحترم وهي تراود يوسف في مخدعها أو مخدع الزوج فإنها لم تفقد رباطة جأشها وهي في ذلك الوضع الشائن أمام زوجها ولكنها قالت:
"مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ".
أي أنها بادرت بالاتهام ثم عجلت بالحكم والعقاب وليس علي الزوج إلا أن يسمع ويطيع .. وحدث فعلا أنه سمع وأطاع ، بورك فيه ..
ولأنها تحب يوسف ولا يزال لديها أمل في إغوائه فإنها لم تقل :" إلا أن يقتل أو عذاب أليم" .
أرادت له السجن أو العذاب لتنتقم لكرامتها المجروحة أما الزوج المحترم فليس له اعتبار في الموضوع إلا مجرد التنفيذ لأوامر السيدة الحديدية.
وملابسات الموضوع تطرح براءة يوسف منذ البداية ورجل في ذكاء عزيز مصر وقتها لابد أن يفهم ذلك ، ولابد أنه فهم ذلك .
ولكن ما باليد حيلة . ولكن يوسف البريء تمسك بعفته وصارت قضية نتولى الحكم فيها رجل من المرأة ، وتبين له براءة يوسف ومع ذلك فلم يزد علي أن قال لها باختصار واستسلام.
" قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (يوسف28) ".
ثم قال ليوسف كأنه يعتذر له : "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ".
ولا نسمع تحركا إيجابيا من الزوج المحترم . بل إنه حتى لم يوبخ امرأته ، أو لم يفصل بينها وبين يوسف ، فترك يوسف لها فريسة مما شجعها علي خطوتها التالية .
فقد انتهزت المرأة تلك الإشاعة النسائية عن غرامها بيوسف فأعدت تلك الوليمة وفاجأت النسوة المحتجات بيوسف يظهر أمامهن ففقدن وعيهن أمام جماله وضمنت امرأة العزيز تأييدهن لها .
وتبدو تمام سيطرتها علي يوسف ـ برضي زوجها أو سكوته ـ في أمرها ليوسف أن يدخل علي النسوة يخدمهن ـ في الأغلب ـ " وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ".
أي رتبت المرأة كل شيء.
اعتدت لهن الأرائك المريحة الناعمة فاسترسلن في ( الرغي) ثم جاءت أطباق الفاكهة بالسكاكين ، ثم أمرت يوسف بأن يدخل القاعة فجأة ـ وأطاع فليس له أن يعصيها ـ فأتت المفاجأة ثمرتها.
وتحول الموقف غلي صالح المرأة وساندتها النسوة وأصبح الرأي العام النسائي يطالب بافتراس يوسف ، ولم يجد يوسف عليه السلام نصيرا من بين الأزواج المحترمين ، امرأة العزيز تهدده باسم النساء . "وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ "
لذا لجأ يوسف إلي ربه الأعلى ليحميه من كيد النسوة :
"قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ "
واستجاب له ربه فحماه من كيد النسوة المفترسات " فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُن".
لقد هددت امرأة العزيز يوسف أمام زوجها بأن تسجنه ، وكانت تهمته أنه راودها عن نفسها ، وظهر افتراؤها وأنها هي التي راودته . ثم كانت النهاية بعد أن انكشفت حقيقتها أمام زوجها وأمام المجتمع أنها أعادت تهديد يوسف بالسجن إن لم يفعل بها الفاحشة، وانضم إليها في هذا التهديد باقي النسوة ( المحتجات سابقا والطامعات في يوسف بعدها) وأصبحت الفضيحة جماعية، وبدلا من وجود حياء لدي النساء وكرامة لدي الأزواج فإن رأي النساء هو الذي أنتصر في النهاية، وقرر الرجال المحترمون عقوبة يوسف بالسجن لأنه لم يرض زوجاتهم.. !! يقول تعالي عنهم: " ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ "
ولقد كشفت تلك القصة عن نفوذ هائل للمرأة في عصر الهكسوس..
وبسبب مافيها من عناصر إنسانية اجتماعية درامية فإن تلك القصة ترسبت في الوجدان الشعبي المصري القديم . وحيكت علي منوالها قصص كثيرة منها الأسطورة الشهيرة التي راجت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد أي بعد يوسف بنحو خمسة قرون .
وأبطالها ثلاثة : ( أنبو) وهو صاحب دار ومزرعة وزوجته الفاتنة اللعوب ثم ( باتا) شقيقه الأصغر الذي وصفته الأسطورة بالقوة والإخلاص والوفاء وأنه مؤيد بقوة ربانية مع مهارته في الزراعة والرعي.. وواضح أن الأخ الأكبر يمثل شخصية عزيز مصر، والأخ الأصغر يمثل شخصية يوسف .
وقد اعتاد الأخ الأصغر أن يرعى زراعة أخيه ويعود في المساء محملا بالخيرات فيداوم علي خدمة أخيه في المنزل ، وهنا ملمح آخر من قصة يوسف الذي عمل في منزل العزيز خادما وعمل مشرفا علي الزراعة والمحاصيل المصرية فيما بعد . وتقول الأسطورة أنه عندما حل موسم الزرع اعد ( باتا) مع أخيه الثيران للحرث وانشغلا في العمل فأرسله أخوه من الحقل إلي البيت ليحضر البذور ، ولما بلغ الدار وجد زوجة أخيه تمشط شعرها فطلب منها
إحضار البذور .
فقالت له : اذهب أنت إلي مخزن الغلال واحمل منه ما تشاء ولا تضطرني لترك ضفائري.
ودخل (باتا) المخزن وبينما يحمل البذور في المخزن دخلت زوجة أخيه وراودته علي نفسها وقالت له هيت لك ودعنا نخرج ساعة ونضطجع ، ولكن الفتي نهرها قائلا: أنت بالنسبة لي بمنزلة الأم وزوجك في منزلة الأب وقد تعهدني ورباني فلم هذا العار الذي تدعينني إليه ؟
وهذا القول يشبه قول يوسف لامرأة العزيز" إنه ربي أحسن مثواي أنه لا يفلح الظالمون"
وعاد( باتا) للمزرعة فلم يخبر أخاه ولكن في المساء اتهمت الزوجة (باتا) بأنه راودها علي نفسها فعزم الأخ علي قتل أخيه . وتربص به ، ولكن الأبقار أخبرت الأخ الأصغر وحذرته من أخيه وخنجره ـ ذلك ملمح من التأثر بمنام الملك الذي يحوي البقرات ـ وهرب الأخ من خنجر أخيه الأكبر وتطلع للسماء فقال: مولاي الكريم أنت تفصل بين الآثم والبريء"
فظهر نهر عظيم مليء بالتماسيح فصل بين الأخوين . وأظهر الأخ الأصغر براءته لأخيه فصدقه ، وقال له أنه سيهاجر إلي وادي الأرز ـ أي لبنان ـ وعلي أخيه الأكبر أن يبحث عنه إذا حدث له مكروه . " ولو أنفق في البحث سبع سنين "
ومن بلاد الأرز جاء يوسف وأخوته ، والسبع سنوات وردت في تفسير يوسف للمنام ..
ولكن علو نفوذ المرأة في ذلك العصر لا ينبغي أن يحجب بعض العناصر الإيجابية في الناحية الأخلاقية .
فهناك الرجل الذي شهد بالحق ضد امرأة العزيز مع مكانتها الاجتماعية وكونه من أهلها ، وكان ممكنا أن يجور عن الحق تعصبا لقريبته المخطئة أو لمكانتها الاجتماعية وعوامل الطبقية خصوصا وأن الخصم في القضية خادم مملوك .. ولكن ذلك الشاهد وقف موقفا رجوليا سجله القرآن وجعله رمزا . "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ "
لقد جاء حكم الشاهد عادلا ساوي بين الخصمين مع ذكاء وفهم لملابسات القضية وظروف الواقعة ، وحين ظهرت النتيجة واضحة في براءة يوسف واتهام سيدة البيت طيب الرجل خاطر يوسف ووبخ امرأة العزيز ودعاها لأن تستغفر لذنبها لأنها كانت من المخطئين وهو بذلك يتفق مع ما جاء في متون الأهرام." إن الملاح السماوي لا يسمح بالعبور لغير الصالحين العادلين"
ثم حدث تطور أخلاقي في موقف امرأة العزيز ونسوة المدينة بعد أن لبث يوسف في السجن بضع سنين ، مرجعه في الحقيقة إلي صحوة في الضمير وليس من إشارة في القرآن تنبئ عن وقوع ضغط سياسي من الملك عليهن كي يعترفن ببراءة يوسف، لقد أراد الملك أن يصل للحقيقة وجاءه الاعتراف واضحا صريحا بعكس الندم وتأنيب الضمير.
" قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ "..

* * *

الحياة الدينية :
وفي الآية الكريمة مدخل جيد للحياة الدينية في مصر القديمة..
فالواضح أن النسوة في مصر القديمة كن يعرفن اسم الله تعالي وينطقن به عند الدهشة والاستغراب والمفاجأة .. فالنسوة المترفات حين أخذهن جمال يوسف قلن فجأة .
"حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ "
وحين حقق الملك معهن قلن :" حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ"..
إذن كانت عبارة " حاش ـ لله" انسابت علي لسانهم حتى في المفاجآت والأوقات الصعبة .
وما سجله القرآن منذ ألف وأربعمائة عام اكتشفه علماء المصريات .
يقول أرمان في كتابه " ديانة مصر القديمة "
ومما يبعث علي الدهشة أن المصريين كثيرا ما تحدثوا ـ علاوة علي آلهتهم المعنية ـ عن إله عام ويحدث ذلك في الأدب عندما يفكرون في تلك القوة التي تتحكم في مصائر الناس فمثلا يقولون .
" ما يحدث هو أمر الله ، " صائد الطيور يسعى ويكافح ولكن الله لا يجعل النجاح من نصيبه " " ما تزرعه وما ينبت في الحقل هو عطية من عند الله "،" من أحبه الله وجبت عليه الطاعة"، " الله يعرف أهل السوء"،" إذا جاءتكم السعادة حق عليكم شكر الله، ثم يقول "أرمان" " وهناك فقرة وردت في كتاب قديم من كتب الحكمة تقول : إن الله خفي ولذلك وجب علي الناس تقديس صورته كبديل له ثم يعقب (أرمان) بقوله:
" هؤلاء القوم الذين كان هذا هو شعورهم وحديثهم لم يكونوا بمنأى عن العقيدة الحقة ، ولو أنهم في الواقع تعلقوا أيضا بدينهم الموروث وبقوا عبادا أمناء لآلهتهم "
والعبارات التي ذكرها ( أرمان) مازال المصريون يقولونها ويذكرون اسم الله تعالي ولكن باللغة العربية بدلا من الهيروغليفية .
ويبدو لي أن القرآن حكي بعض الألفاظ المصرية القديمة في قصة يوسف ومنها كلمة " هيت لك" ولازال أهل سيوه في لغتهم الخاصة المنحدرة من الفرعونية يقولون "هت" بكسر الهاء وتعني عندهم تعالي ، وتتكرر علي ألسنتهم بعض الألفاظ والتعبيرات مثل " حاش لله" ، وتعني عندهم "لم يحدث " ومثل " حصحص " وتعني عندهم تأكد.
وتلك الألفاظ لم تأت في القرآن إلا في قصة يوسف ثم دخلت في اللغة العربية تبعا لذلك .
وتنفرد قصة يوسف بين القصص القرآني بورودها متصلة الأحداث والمشاهد في سورة واحدة قائمة بذاتها لتكون كنزا لا ينفذ من الإعجاز التاريخي والقصصي والإنساني . ولتعطينا مؤشرا من ناحية أخري علي أن ذلك النبي الكريم قد أثري الحياة الإنسانية المصرية خلقيا ودينيا ولم يكن مجرد منقذ لهم وقتت المجاعة .
ونحن نري أثر قصة يوسف وتجربته الإنسانية في قول الحكيم المصري القديم " آني" لابنه خنسو ـ حتب من الأسرة الثانية والعشرين ـ بعد يوسف بخمسة قرون تقريبا ، يقول:
" لا تترك قلبك ألعوبة في الميل نحو النساء فإن ذلك يذهب بقوة دينك وعلو شرفك وأدب نفسك ، فالمرآة بما أوتيت من الدهاء وتأثير الأنوثة من أقوي حبائل الشيطان "
وفي نفس العصر يقول الحكيم المصري بتاح حتب :
" إن مس الأعراض وخيانة الأمانة ومحاولة الإفساد مع من حزت ثقته وعول علي صداقتك جريمة كبري يتضاعف عليها العقاب عند الله جلت قدرته "
وهذه النصائح الأخلاقية يمكن نسبتها إلى أئمة المسلمين في الورع دون أن نحس بأي فارق في اللهجة والأسلوب..
لذلك لا نستغرب أن تقف امرأة العزيز تعلن توبتها وندمها أمام الملك والملأ والنسوة وتقول : "الآن حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ،ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ،وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ " فذكرت اسم الله تعالي علي انه ربها الغفور الرحيم ، وهو موقف صادق للتوبة كفي شرفا لصاحبته أن يذكره رب العزة في القرآن..
ولكن هل خفتت معرفة المصريين القدماء بالله في عصر فرعون موسي الذي ادعي الألوهية واضطهد المؤمنين "؟
القرآن ينفي ذلك .. إن عناد فرعون وقومه كان يخفي إيمانا بالله تعالي منعه التكبر والحرص علي الدنيا من الظهور ، يقول تعالي عنهم: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا "
وعندما اختبرهم الله بالمحن كانوا يفزعون إلي موسي ليطلب من الله أن يكشفها عنهم.
"وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ "
وموسي حين بدأ دعوته ذكرهم باسم الله الذي يوقرونه فقال لهم:
" أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ "
وأستحلفهم بالله ألا يرجموه : وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ" .
أي كانوا يعرفون أن الله هو ربه و ربهم .
وعلى نفس النسق من التذكير بالله والتخويف منه كان مؤمن آل فرعون يعظ قومه بما يعرفون وممن يخافون ويخشون ...
"وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ ْ وقد جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ " ،" يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ؟ " ،" قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ، وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ "
ويبدوا إيمانه باليوم الآخر إيمانا صحيحا من قوله " وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" "
"يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ "
لقد كان عامة المصريين القدماء يؤمنون بالآخرة إيمانا مبهما ولكن القلة منهم كانوا يؤمنون بها حق الإيمان وكذلك يبدو أنه يعرف حقيقة الإيمان الخالص ويدرك أن الكفر في الحقيقة إنما هو الشرك بالله وتغطية الفطرة السليمة بعبادة الأولياء والأنداد فهو يقول لقومه:
"وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ، تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ، لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ"
وفي النهاية يقول لهم :" فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ "
لقد كان حوار ذلك الرجل المؤمن دليلا علي درجة من الرقي الديني والأخلاقي لا تتوفر إلا للصفوة من الصديقين ،وإذا كان ( أرمان) قد اندهش لأنه عثر علي بعض عبارات للمصريين القدماء يذكرون يها اسم الله في أحاديثهم وكتاباتهم كيف به إذا عثر علي تسجيل لأقوال ذلك الحكيم الفرعوني المؤمن الذي شرفه القرآن ؟.
لقد كان ذلك الرجل مؤمنا بالله الواحد الأحد وليس مثل الأغلبية الذين يؤمنون بالله ويؤمنون بغيره ، وقد حاولوا معه أن يؤمن أيضا بتلك الآلهة مع الله فرفض قائلا :
"تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ "..
وفي مقابل الأغلبية المشركة التي تؤمن بالله وبغير الله كانت هناك أقلية يمثلها ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون .
وكان منهم امرأة فرعون نفسه وقد جعلها الله مثلا لكل المؤمنين ذكورا وإناثا ، يقول تعالي:" َضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}" .
وهذه المرأة المؤمنة هي التي فاضت حنانا علي موسي وهو في التابوت وأنقذته ومازالت بزوجها حتى وافق علي إنقاذه ورعايته " وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "
والمتوقع أن يكون وجود موسي رضيعا في البلاط الفرعوني قد جعل هناك صلة ما نتج عنها تسرب الإيمان إلي امرأة فرعون ثم إلي ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون ، مما يرجح وجود تيار سري من الإيمان وخلايا من المؤمنين ، داخل وخارج القصر الفرعوني، ومنه ربما كان تحرك ذلك الرجل الذي جاء من أقصي المدينة يسعى لينقذ موسي ويحذره .
ثم انضم للأقليات المؤمنة مجموعة السحرة الذين جاءوا ليهزموا موسي وهم يحلمون بالقرب من فرعون ولكنهم فوجئوا ببرهان عملي علي نبوءة موسي فلم يترددوا في السجود لله إعلانا بإيمانهم علي رءوس الأشهاد.
ورفضوا أحلامهم القديمة واستهانوا بتهديدات فرعون وما ينتظرهم من تقطيع أيديهم وأرجلهم وصبهم علي جذوع النخل .
وأجابوا علي تهديداته بأفضل ما يقوله المؤمن عند المحنة أمام الظلمة .
"قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ .. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ، وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" ، " قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لكبير كم الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ، قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا "
ومع ذلك فإن أغلبية المصريين القدماء كانوا مع معرفتهم بالله ووجود مؤمنين موحدين بينهم ـ متمسكين بتقديس الآلهة وأصنامهم وقبورهم ، وكان غرامهم شديدا بإطلاق الأسماء علي تلك الآلهة ويترسب تقديس تلك الأسماء في الضمير الشعبي.
وقد كان يوسف عليه السلام رسولا للمصريين وقد بدأ دعوته في السجن ، وحين سأله رفيقاه إن يفسر لهما رؤياهما لم يبادر بالتفسير وإنما قدم نفسه وعقيدته لهما ثم أخذ يحاورهما في عبادة الأسماء ويدعوهما إلي عبادة الله الواحد الذي لا إله غيره .
نفهم ذلك من قوله تعالي:
" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ، قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ،
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ "
وواصل يوسف دعوته حين أصبح له نفوذ وسلطان ولكن المصريين تمسكا منهم بآلهتهم ضاقوا به وأعرضوا عنه ، وفيما بعد كان مؤمن آل فرعون يذكر قومه بإعراضهم عن يوسف حين دعاهم لإخلاص دينهم لله وحده.
يقول مؤمن آل فرعون :
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً }"
أي أنهم حتى في رفضهم لدعوة يوسف كانوا يؤمنون بأنه رسول الله ، واستراحوا بموت يوسف قائلين: " لن يبعث الله من بعده رسولا "
وذلك يذكرنا بمقالة أرمان عنهم إنهم مع معرفتهم بالله فإنهم ظلوا أمناء مخلصين لآلهتهم الموروثة.
لقد كانوا يعرفون الله والملائكة ..!!
والنسوة في عصر يوسف قلن حين رأينه " حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"
وفرعون فيما بعد تندر علي موسي قائلا " فلولا القي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ".
أي كان المصريون يعرفون الله والملائكة ، ولكنهم كانوا متمسكين بعبادة الآلهة الأخرى مع الله .. وتلك هي مشكلة البشر في كل زمان ومكان .
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }

* * *
تأثـــر بني إسرائيل بالديانة المصرية القديمة :
قد يبدو ذلك العنوان غريبا لأن ببني إسرائيل من ذرية أنبياء عظام هم إبراهيم واسحق ويعقوب والأسباط ويوسف ، ثم شهدوا من آيات الله ونعمائه في عصر موسي مالم يتيسر لأي شعب آخر .. ومع ذلك فإن تأثرهم بالعقائد المصرية كان أبعد أثرا إلي درجة أن القرآن أشار إلي ذلك في أكثر من موضع ..
إلا أنه لم يكن من نواحي تأثرهم بالعقائد المصرية تقديس الفرعون ولعل ذلك سبب نقمة الفرعون عليهم ، وحتى بعد ذلك فقد كان لبني إسرائيل موقف محدد يرفض تقديس الأنبياء الذي تقع فيه أغلبية البشر ، وذلك شيء في حد ذاته محمود لولا أنهم وقعوا في المحظور فقتلوا الأنبياء وحرفوا الوحي"
ولقد بدأ حنين بني إسرائيل للمعابد المصرية وأصنامها بمجرد أن جاوز بهم موسي البحر ، يقول تعالي: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } "
نسوا معجزات موسي ونعمة الله حين أنجاهم وانتقم لهم من فرعون وجنده ، وحين رأوا معبدا فرعونيا في سيناء طلبوا من موسي أن يقيم لهم معبدا مماثلا ..
وتركهم موسي وذهب يتلقى الألواح من ربه وحين عاد وجدهم قد عبدوا عجل أبيس .. جمع السامري الذهب المصري الذي سلبوه وتوارثوه وصاغ منه عجلا فعكفوا عليه يعبدون بمثل ما
اعتادوا من قبل ، واعترض هارون فكادوا يقتلونه ، ورجع موسي فاشتد به الغضب فالقي الألواح التي كتب الله فيها التوراة وكاد يبطش بأخيه لولا أن اعتذر له . ودمر موسي العجل الذهبي وألقاه في البحر وطرد السامري ، ومع ذلك كان غضب الله عليهم شديدا..
يقول تعالي:"وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ،وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ؟ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ يا ابن أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " ، " فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً .. وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ، قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ، قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ،قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ، إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً "

* * *

ويوضح القرآن أن عبادة العجل الذهبي ـ الفرعوني الأصل ـ قد تمكنت من شغاف قلوب بني إسرائيل ضمن باقي المؤثرات التي لوثت عقيدتهم:
" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (البقرة93)"
ويقول تعالي : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)"
أي أن اليهود حين قالوا أن عزيرا ابن الله قد رددوا مقالة الذين كفروا من قبل ، والواضح أنهم عاشوا قرونا في مصر القديمة وتأثروا بعقائدهم ، إذن عبارة ( الذين كفروا من قبل) مقصود بها أهل مصر القديمة .
ولكن من (عزير) الذي ردد اليهود مقالة المصريين القدماء في اعتباره ابنا لله ـ تعالي عن ذلك علوا كبيرا..
إنه الإله ( أوزيريس) الذي كان أشهر معبود مصري يقول عنه ( أرمان):
" أنه محور الديانة المصرية " وأن " علاقته بالحياة والموت جعلته يحتل مكان الصدارة بين الآلهة فأصبح من أهم الآلهة المصرية " " ومن أجل الحياة والموت اعتبر أوزيريس بعد ذلك إلها للموتى وسيدا لهم وهذه الصفة أبرز الصفات التي عرفت عنه ومن أجل ذلك أصبح في العصور التاريخية عند المصريين إلها للموتى "
إلا أن المصريين لم يكونوا ينطقون اسم ( اوزيريس) بل كانوا يقولون عنه ( عزير) بنفس ماهو مكتوب في القرآن . ولكن أسطورة إيزيس وأوزيريس ما لبثت أن انتشرت في أوربا عبر بلاد الإغريق ولأن اللغات الأوربية تخلو من حرف العين ، ولأن اللغة اليونانية تضيف حرف السين إلي آخر الأسماء فقد تحول ( عزير) إلي ( أوزيريس) وانتشر الاسم الجديد عندما بدأت عمليات الكشف عن الآثار المصرية وقيام علم المصريات . وبدأنا نحن المصريين ننطق ( أوزيريس) و ( إيزيس) وهو نفس الأصل المصري " عزير . عزي ".
ونعود إلي بني إسرائيل وقد حملوا معهم تقديس "عزير " أو "أوزيريس" علي أنه " ابن الله " تعالي الله عن ذلك .
وقد ذكرنا كيف كان المصريون القدماء يعرفون الله . إذن كان الأساس في تقديسهم لعزير أنه ابن الله ـ والذي يقوم عنه بقبض الأنفس عند الموت ثم حسابها في القبر.

* * *
وأضاف بنو إسرائيل ملامح لغتهم العبرية علي اسم عزير فأصبح " عزرائيل " وكلمة
" ئيل" تعني عندهم ( اله) ومنها ( إسرائيل ) أي عبد الله .
وانحدر إلينا " عزرائيل" في صورة مخففة تعني ملك الموت وهو الطبعة الحديثة من أوزيريس . أي أن بضاعتنا ردت إلينا فاسم عزرائيل لم يرد في القرآن وذلك يكفي.

* * *

الحياة العقلية العلمية :
إن الدين هو حجر الزاوية في الشخصية المصرية وهو الحاضر الغائب في النشاط المصري القديم والحديث . لقد تضاءل نفوذ السلطة الهكسوسية لأن الحاكم كان مجرد ملك بينما تعاظم الفرعون لأن له ركنا في الدين المصري القديم. ونمت الأخلاق الاجتماعية ودارت الحياة الاجتماعية حول محور الدين وبالدين كان أعظم المعمار المصري القديم معابد وبيوتا للآخرة ..
ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون علوم المصريين القدماء فرعا من دينهم المتوارث.
ومعني التوارث لصيق بمصر أقدم حضارة وأكثرها استمرارية .
لذلك فمن المنتظر أن يرفضوا دعوة موسي لأنها تخالف ما توارثوه عن الأسلاف .
{فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ }القصص

* * *
ومن الدين كان نبوغ المصريين القدماء في السحر ، ومن نبوغهم في السحر كانت نظرتهم إلي معجزات موسي ، وكان اعتقادهم في إمكانية أن يفوزوا عليه إذا جاءوا بكل السحرة العلماء من كل المدائن المصرية .
" َقالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ َ"
وقد عقد ( أرمان) في كتابه ( ديانة مصر القديمة ) فصلا كاملا عن السحر وارتباطه بالدين ومهارة السحرة ولكننا لا نجد أبلغ من الآيات القرآنية القليلة التي تحدثت عن سحرة فرعون , يقول تعالي عنهم:" قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ "
إذن كان عمل السحرة مجرد التأثير البصري علي أعين المشاهدين ، وبقوة الإيحاء النفسي وما في أنفس المصريين من استعداد للتصديق رأوا ما يريده السحرة لهم أن يروه ، رأوا الحبال والعصي قد تحولت إلي ثعابين ، بينما هي في الحقيقة لا تزال حبالا وعصيا ملقاة علي الأرض بلا حياة .
يقول القرآن بإيجاز وأعجاز عنهم ." { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } ".
ليشير من طرف خفي إلي أن مهارة السحرة في السيطرة علي مراكز الحس عند المصريين تستند إلي عقيدة دينية يحتل فيها السحر مكانة هامة ، وأن هذه المكانة الهامة تحجب العقل عن رؤية الأشياء علي حقيقتها ، وتجعل المشعوذين المهرة " علماء".
وهناك أكثر من ذلك في القرآن ، يقول تعالي :
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى{65} قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى{66} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى{67} قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى{68} وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى"
وعبارات القرآن أقوي من أي تعليق ..
ويقول تعالي عن فرعون وآله : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً "
ومعني ذلك أنهم عرفوا حدود السحر وأن ما جاء به موسي أكبر من السحر العادي إذن فهو صادق . وذلك ما كتموه في قلوبهم حرصا منهم علي أن يكونوا عالمين في الأرض.
ومن الممكن أن نأخذ1 مؤمن آل فرعون مقياسا لمستوي العلم الحقيقي عند المصريين القدماء . فمن خلال حواره مع قومه تظهر لنا معرفته بالتاريخ القديم للأمم البائدة منذ عصر نوح فهو يقول لقومه:
" يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ "
ويقول :
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً.."
ومن حقنا أن نستنتج أنه كانت لديهم حوليات تاريخية سجلت تاريخ الأمم السابقة وتاريخ الأسرات الحاكمة في مصر ، وأنهم حتى عصر موسي كانوا لا يزالون في شك في دعوة يوسف وجدال حوله . ثم نراه بارعا في الجدل المنطقي العقلي الهاديء فيناقش اقتراح فرعون بقتل موسي قائلا :
"أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ"
ويستخدم من أدوات حواره معه إيمانهم بالله وخوفهم منه وحرصهم علي استمرار ملكهم فيقول :
" يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنا"؟ ْ
وعلي قدر مهارته في الجدل العقلي الهاديء كانت كراهيته لطريقة الجدال بالتي هي أسوأ فيقول : "الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ"
إن من حق كل مصري وكل مؤمن أن يفخر بموقف السحرة وبذلك الرجل المؤمن الراقي ثقافته وعلمه وحواره ...

* * *

العمارة في مصر القديمة:
لسنا في مجال الاستعراض للعمارة المصرية القديمة التي لا تزال آثارها تبهر العالم وما كتب عنها من مجلدات لم يكتب علي غيرها من عمائر . ولكن نكتفي بما ورد في القرآن من إشارات في هذا المجال. وللقرآن الكريم وسائله الخاصة في التعبير عن رقي العمارة الفرعونية.
فكلمة (مدائن) لم تأت في القرآن إلا وصفا للمدن المصرية فقط :
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ "
"{ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ "
" فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ "
وعلي كثرة ماهو مكتوب علي العمارة الفرعونية فإن الاهتمام انصب علي المعابد والآثار الدينية الباقية ، ولكن القرآن يعطينا معلومة هامة عن رقي العمارة في المدن المصرية إلي درجة أنها لم تعد مجرد( مدن) بل ( مدائن) وأن هذه ( المدائن) كانت منتشرة علي طول العمران المصري آهلة بالسكان وبالسحرة وبالجنود.

* * *
وكلمة المدينة) جاءت في القرآن أربع عشرة مرة ، جاءت أربع مرات عن يثرب المدينة ، وجاءت خمس مرات عن مدن متفرقة وجاءت خمس مرات عن المدن المصرية في عصري يوسف وموسي .
وإذا أضيف ذلك إلي كلمة (مدائن) المصرية لأصبح لدينا شاهد من القرآن علي رقي العمارة والمدنية في مصر القديمة.

* * *

و(الصرح) يعني البناء الشاهق ، ووجود تلك النوعية من ناطحات السحاب أمر غير متوقع في العصور القديمة ، ولذلك وردت كلمة ( صرح) في القرآن أربع مرات فقط . مرتان منهما عن سليمان ، وقد كانت الجن تخدمه يعملون له مالا يستطيع البشر الإتيان به ، ومرتان عن ذلك البناء الشاهق الذي أمر الفرعون وزيره هامان ببنائه كي يناطح السحاب ويستطيع أن يري رب موسي : " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ ، أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى " " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى "
وبغض النظر عن كفر فرعون فإننا نستفيد من الآيتين أن العمارة المصرية القديمة بلغت شأوا بعيدا عن التقدم ، ولولا أن فرعون كان يعرف مقدرته في إنشاء مثل ذلك البرج العالي ما طلب ذلك من هامان علي رؤوس الأشهاد.
وربما كانت مقدرته علي ذلك هي التي دعته إلي التطرف في ذلك القول الكافر.
ويكفي أن تلك المقدرة علي إنشاء الصرح لم تأت في القرآن إلا لسليمان الذي كانت الجن يعملون له ما يشاء ومنها ذلك الصرح الزجاجي الممرد من قوارير والذي أدهش ملكة سبأ
أما عن الصرح الذي طلب فرعون إنشاءه فقد كان من الأحجار الحمراء.
" َأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً "
أي كانت صناعة الأحجار معروفة في مصر منذ آلاف السنين ..

* * *
وكلمة ( الأوتاد) جاءت في القرآن ثلاث مرات ، مرة واحدة ي وصف جبال الأرض التي تمنع القشرة الأرضية من أن تميد بمن عليها. " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادا وَالْجِبَالَ أَوْتَادا "
وفي المرتين الأخريين جاءت الكلمة وصفا لفرعون موسي :
" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ "
" وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ "
فالقرآن يصف بعض المنشآت الفرعونية بأنها أوتاد مثل الجبال .

* * *

وعناصر المكان أثرت علي امرأة فرعون المؤمنة وتركت بصماتها علي دعائها لله فهي تقول : " رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "
الحصول علي بيت في الجنة ـ بلا فرعون به ـ أول ما بدأت به دعاءها .
ويبدو أن فرعون موسي كان مهتما بالعمارة قدر اهتمامه بتخويف الناس حتى زوجته ..
ولكن أين آثاره الباقية " الإجابة في القرآن أيضا. يقول تعالي في نهاية ذلك الفرعون:
" وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ "
وكل عمائر فرعون وقومه وجنده وآله أصبحت خرابا بعده وانطبق عليها قوله تعالي عن ثمود :" فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ "
ولم يتعظ فرعون وقومه بنصيحة مؤمن آل فرعون حين قال لهم :
" يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ "
دمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون .بينما ترك وادي النيل سليما بما فيه" من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين"

* * *

الحياة الاقتصادية:
في القرآن إشارات متفرقة ولكن غنية عن تفصيلات الحياة الاقتصادية في مصر القديمة فالزراعة في مصر قديمة قدم الاستيطان الإنساني علي هذا الكوكب .. وتتأثر هذه الزراعة ـ
ولا تزال ـ بكمية المياه المتاحة من الفيضان وحين رأي الملك الهكسوسي رؤياه كان تعبير يوسف عنها أنه : " قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ،ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ "
وأنتهي الأمر بأن أسند الملك ليوسف شئون الأشراف على الزراعة والتموين في مصر
" قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ "
والمفهوم من الآيات أن تقام مخازن ضخمة تستوعب إيراد مصر من القمح والشعير والأرز خلال سبع سنوات يتم فيها تخزين السنابل لكي تحفظ الحبوب داخلها من احتمالات التسوس والفساد. ويستلزم ذلك إشرافا كاملا دقيقا علي جمع المحاصيل من كل مكان وعلي نقلها إلي صوامع التخزين ، وقد كانت تلك الصوامع مثل أقماع السكر كما يذكر مؤرخو الحضارة المصرية القديمة.
ويستلزم ذلك ـ أيضا ـ عمالة ضخمة وإدارة متكاملة في التجميع والتخزين ثم في أمور البيع والتسويق ، ثم في تقدير الوارد والمنصرف والاحتياجات الفعلية والاحتياطي والإنتاج المستهدف والاستهلاك اليومي والشهري والسنوي ، والمنتظر أن يتم تسجيل ذلك كله في حسابات وخطط وبرامج طيلة زمن يقدر بأربعة عشر عاما.
ويتم بذلك عبور هذه السنوات الخطيرة حين يضطر المصريون إلي الاقتصاد من سنوات الرخاء السبع الأولي ، ثم يأتي عام بعد سنوات المجاعة يهل فيه الخير ويأكلون ويعصرون المشروبات " ثمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ "

* * *
وإشارات أخري عن التجارة وردت في قصة يوسف فالبيع والشراء كان بالنقد بالدراهم وكان بتبادل البضاعة ببضاعة أخري .
ويوسف نفسه حين القي في الجب وعثرت عليه القافلة باعوه بدراهم معدودة ، وكان الذي اشتراه من مصر " وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ " وواضح أنه لم تكن هناك تسعيرة بدليل أن صبيا في مثل جمال يوسف بيع بثمن بخس لأن القافلة كانت فيه من الزاهدين أي ترغب في التخلص منه بأي طريقة.
وحين كان يأتي أخوة يوسف كانوا يحضرون معهم بضائع يبادلونها بالحبوب ، وكلمة بضاعة لم ترد في القرآن إلا في سورة يوسف . ومنها نفهم أن البضائع كانت تباع وتشتري بالنقد وذلك في حالة يوسف السابقة حين كان بضاعة في نظر الذي عثر عليه في الجب .
" وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ "
ثم كانت البضائع ثمنا للحبوب بطريق التبادل .
وحتى يجعل يوسف أخوته يعودون أوعز إلي عماله" وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلي أهلهم لعلهم يرجعون " وفيما بعد :
" وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ".
ونفهم أن الحبوب كانت تكال بالكيل ، وكانت أدوات الكيل هي السقاية والصواع ، وأن المعروف أن المشتري يستسمج في أن يوفي له البائع الكيل.
" َلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ".
وحين خطط يوسف لاحتجاز أخيه الشقيق عول علي اتهامه بالسرقة .
" فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ؟ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ"
ويبدو أن وحدة البيع والشراء في عهد يوسف كانت حمولة البعير، وأنها كانت النصاب المسموح به لكل فرد يقدم للتزود من الحبوب ، أي أن نظام البيع بالبطاقة التموينية بدا به يوسف في ذلك الزمن السحيق. ودليلنا أن أخوة يوسف ترجوا أباهم أن يسمح لهم بأن يبعث معهم بأخيهم ـ شقيق يوسف ـ حتى يزدادوا بوجوده كيل بعير .
"قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ"

* * *
وقد تكرر مجيء أخوة يوسف طلبا للمؤونة مما يدل علي أن المجاعة لم تؤثر علي مصر وقتها قط وإنما أثرت علي الأقطار المجاورة التي تعيش علي التبادل التجاري مع مصر ، وعلي الحدود الشرقية أقيمت قري فيها الفنادق لراحة التجار والمشترين .
وكانت تلك القرى المصرية تحت الإشراف المباشر ليوسف وقد قال لأخوته يستميلهم
"ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ"
أي أنه استمالهم بالكيل الوافي وأنزلهم في منزل مريح.
وحين اتهمهم بالسرقة ـ وأثبت التهمة علي أخيه الشقيق قال أخوهم الأكبر لأخوته .
"ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ "
فالقوافل كانت تتوقف عند القرى التي علي الحدود وهناك يقيمون فيها ويحدث التعارف وتنتشر الأخبار ، ولذلك طلب أبناء يعقوب منه أن يذهب بنفسه إلي تلك القرية المصرية التي كانوا ينزلون فيها ويستوثق من أهلها أن أبناءه صادقون فيما يخبرونه به عن اتهام أخيهم بالسرقة.

* * *
ومع الضجيج الذي أحدثه فرعون موسي فإننا نستطيع أن نتلمس في الآيات بعض الإشارات عن الحياة الاقتصادية في عصر الرعامسة ، وأهمها بالطبع ذلك الرخاء الاقتصادي الذي تركه خلفه فرعون وجنده ، وقد وصفه القرآن أروع وصف فقال:
" فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ " " كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ "
فالقرآن يصف الحقول المصرية وقتها بأنها كانت جنات، ويصف وفرة المياه بأنها عيون أي كان الري بلا مجهود حيث يغطي النيل الحقول فتكون مثل عيون الأرض . والمحصول كان كنوزا والوضع كان مقاما كريما . وبدلا من أن يقوم فرعون يشكر النعمة افتري وتجبر وقد أذاقه الله بعض المحن حتى يرجع كان لا يرعوي، يقول تعالي
"وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ"
والشاهد في الآية قوله تعالي : " ولقد أخذنا آل فرعون "
ونفهم منه أن فرعون وآله كانوا يملكون الأرض والثروة ويتحكمون في المحصول ، فإذا حدث نقص قيه تناقصت ثروتهم ... أما الفلاح المصري وقتها فقد كان ملكيته لأدوات الإنتاج لا تزيد كثيرا عما تملكه ماشية الحقل .

* * *
وفي الوقت الذي كان فيه الفلاح يجلد بالسياط إذا أخفي قدرا من المحصول لطعامه ، فإن الفرعون وآله كانوا يتجملون بالحلي في أبهي زينتها ويصحبونها معهم إلي قبورهم.
ويذكر مؤرخ عصر الرعامسة أن رمسيس الثالث كان له ضابط خاص لحمل الإمدادات من الشراب والطعام في إناء كبير من الذهب سعته ثلاثة لترات "
لذلك لا تعجب من فرعون موسي وهو يتندر عليه قائلا :
" فلولا القي عليه أسورة من ذهب "
لأن فرعون يعتبر التحلي بالذهب من دلائل علو المكانة ، ويشاركه في الرأي قومه بالطبع، ولذلك فإن فرعون وقومه حين كانوا يطاردون بني إسرائيل كانوا يرتدون أبهي وأثمن مالديهم من حلي وجواهر .
والقي الموج بجثثهم إلي الشاطيء وعليها ما عليها من ذهب وصارت من نصيب بني إسرائيل ، وسول لهم السامري أن يجمعوا ذلك الذهب الفرعوني ليصيغوا منه عجلا ذهبيا يسترجعون به عبادة العجل الأبيسي، يقول تعالي :
" {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ "
واعتذر بنو إسرائيل لموسي قائلين:
" قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيّ "
* * *
وإذا كان الفرعون يتزين بالحلي فلابد أن يتفنن الصناع في إتقانها والآثار الذهبية خير شاهد علي ذلك .
* * *
أن المجتمع المصري ـ الذي يبدو ساكنا ـ قد طيع بني إسرائيل بطابعه الديني الاجتماعي الاقتصادي، وحين تركوه حملوه في قلوبهم ليس فقط في حنينهم للآلهة المصرية القديمة حين رأوا المعبد الفرعوني ، ولا في اتخاذهم العجل وتقديسهم لاوزيريس ـ عزيرـ ولكن في طبيعة السلوك المتواكل الذي يعتمد علي الحاكم أو الحكومة في كل شيء. فتراهم يطلبون من موسي كل شيء، بل يطلبون منه أن يدعو ربه ليجيب لهم مطالبهم وحين أكرمهم الله بالمن والسلوي ضجروا منهما واشتاقوا إلي الطعام المصري والمحاصيل الزراعية المصرية فقالوا:
" يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ"
في سبيل العدس المصري تناسوا المن والسلوي ..!!
وظلوا علي تواكلهم علي موسي ورب موسي ورفضوا أن يقوموا باقتحام الأرض المقدسة لأنهم يريدون من سكانها أن يتخلوا عنها طواعية.
" قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ "
لقد كانت المؤثرات المصرية في ذلك الجيل أعمق من أن تتأثر بكل معجزات موسي لذا كان العلاج الوحيد أن يظلوا تائهين أربعين عاما حتى ينقرض ذلك الجيل وينقرض معه تأثره بالمجتمع المصري القديم..
ترى كم عاما نحتاجها نحن لننهض ونلقي عنا رواسب التواكل ..و(معلهش) ؟ ..
* * *

• الفصل الثالث *

مواعــــــــــظ ودروس
قصص القرآن لم يأت للتسلية وإنما للاعتبار والتفكير. ومهما احتوي القصص القرآني علي اعجازات تاريخية فإنه لا ينبغي أن يصرفنا عن هدفه الأساسي وهو الاعتبار والموعظة ، وذلك هو الهدف الأسمى من علم التاريخ فكيف بقصص القرآن.
كما يقول تعالي تعقيبا علي قصة يوسف : " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ " فإنه تعالي يقول عن فرعون وهلاكه: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى " وقد آن الأوان لنعتبر ونخش ..!!

* * *
أولا :
قصة فرعون تطرح قضية الاستخلاف التي تدور حولها علاقات الدول وصراعاتها..
كل دولة قوية في العالم تطمح في أن تسيطر علي المنطقة التي تقع فيها ، وربما إلي السيطرة علي العالم . وفي عصر فرعون كان العالم المتحضر المعروف محصورا في مصر وما حولها لذا فإن فرعون حين علا في مصر فإنه في الحقيقة علا في الأرض .
" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ "..
وترجم فرعون قوته إلي ظلم فحفر قبره بيديه ، قال بنو إسرائيل لموسي.
" قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " .. وحدث فعلا أن تحقق وعد الله لبني إسرائيل حين قال " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ "..
يقول تعالي عن تحقيق وعده:
" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ "
لقد مكن الله في الأرض لإمبراطوريات كثيرة فاستخدمت قوتها في الظلم فتحولت عناصر قوتها إلي بؤر ضعف قضت عليها في النهاية . وهذا هو الدرس الهام في سقوط الإمبراطوريات.
ولكن تظل قصة فرعون أهمها لأن العنصر القوي الظالم بالغ القوة عنيف الظلم ولأن العنصر الضعيف بالغ الضعف ثم أتت القوة الإلهية لتنحاز إلي جانب المظلوم الذي وقف يواجه الظالم بالصبر والصلاة ..!! وتحولت عناصر القوة الفرعونية إلي مراكز ضعف التهمته في النهاية.
وفي مواجهة طغيان فرعون وقف موسي يوصي قومه بالصبر والتوكل علي الله ـ وهم عزل من كل قوة إلا الصبر والاستعانة بالله.
" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ "
وحين تطرف فرعون في إيذائهم إلي درجة أخاف أغلبية قوم موسي من الالتفاف حوله أقام موسي الصلاة مع قومه وواصل مسيرة الصبر والتوكل علي الله.
" وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "
ثم بدأت مجموعات الصلاة وتبعتها البشري للمؤمنين.
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ "
وفي هذه الصلاة كان موسي يدعو الله علي فرعون وآله ، وهارون يؤمن علي دعائه .
" وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ "
وأجاب الله دعائهما: " قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا" ..
انتصر بنو إسرائيل علي فرعون بالصبر والصلاة " وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ا" .. وكانت الوصية الذهبية لبني إسرائيل " واستعينوا بالصبر والصلاة" .. ولنا نحن أيضا يقول لنا رب العزة :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "
وعندما انجي الله بني إسرائيل من فرعون عادوا إلى عقائدهم الخاسرة فأهلكهم الله في التيه ..
ونعود إلي فرعون وقد عاقبه الله بالنعم التي منحها الله له فاغتر بها ..
اغتر فرعون بالنيل يجري من تحت قدميه " َقالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟"
ولكن الله تعالي جعل النيل يعمل ضد فرعون.
بدأ ذلك حين حمل النيل التابوت ـ وبه موسي رضيعا ـ إلي قصر فرعون ليقوم فرعون نفسه بتربية موسي ورعايته.
ثم واصل النيل مؤامراته ضد فرعو ن فحمل إلي فرعون وآله الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وكانت تلك مجرد إنذارات فلما لم يتعظ بها فرعون وآله كان غرقه أخيرا في اليم
ويلاحظ أن كلمة " اليم" لم تأت في القرآن إلا في قصة موسي بمعني النيل وبمعني البحر .
وعموما فالبحر في القرآن يعني النهر والبحر المالح :
" وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ "
والقرآن يستعمل كلمة "اليم" وصفا للنيل وللبحر معا في قصة موسي فيقول :
" أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ "
ويقول أيضا عن غرق فرعون وآله " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ "
ذلك قد يعني احتمالا ضئيلا بأن يكون غرق فرعون وآله في النيل وليس في البحر الأحمر.
ومهما يكن من أمر فإن المفهوم الشائع أن يكون غرقهم في البحر الأحمر يعزز ذلك أن فرعون طاردهم وهم يفرون أمامه ناحية الشرق " فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ"
والمعتقد أن مصر شهدت فيضانا أو طوفانا في نفس الوقت وذلك معني أن النيل قد شارك في عملية تدمير فرعون وآله ومنشآته وذلك الرأي يجد دليلا في القرآن :
" وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ "
" وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ "
والذي نريد التذكير به أن النيل كان نعمة من الله لفرعون فلما طغي حوله الله إلي نقمة عليه .. وكفران النعمة أسرع طريق لفقدانها ، ومن العادات السيئة للبشر ان ينسوا هذا الدرس .. يقول تعالي : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ؟ "


لقد بلغ من سخرية الله بفرعون أن استخدمه في حماية موسي وتنشئته ..
وفي ذلك درس آخر للذين يتوكلون علي الله ويثقون في وعده الذي لابد أن يتحقق..
حين خافت أم موسي علي وليدها الرضيع أوحي الله لها " َأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ "
لم يقل لها فإذا خفت عليه فخذيه في أحضانك .. !! بل ارميه في النيل ، وكان النيل وقتها في الفيضان لأن القرآن وصفه بجريان اليم ..
ثم جاء وعد الله للأم الخائفة فقال " إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ " ..
وحمل النيل الأمانة إلي قصر فرعون ، َالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً "
هل هناك سخرية أكبر من ذلك ؟ .. علي أن التوكل علي الله يعني أن يتغلب الإنسان علي أحزانه ومخاوفه. ولا يعني في نفس الوقت أن يتكاسل الإنسان ويتواكل ، بل عليه أن يتصرف ما استطاع ويتوكل علي الله .
وهكذا فإن أم موسي بعد أن ألقت بفلذة كبدها في النيل أمرت أخته أن تتبع التابوت ، وظل قلبها علي لهفته " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.. وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "..
ثم كانت النهاية أن رفض الرضيع جميع المرضعات وبذلك عاد لأمه يتربى في كنفها ومع قومه ولكن تحت رعاية الفرعون نفسه وبذلك تحقق وعد الله لأم موسي ..
" وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ
نَاصِحُونَ ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ"
وصدق الله العظيم " ولكن أكثر الناس لا يعلمون"..
وقضية الاستخلاف التي كانت محور قصة فرعون وموسي لم تنته فصولا..
وفي بداية عهد المؤمنين بالمدينة جاء وعد الله لهم بالاستخلاف والتمكين في الأرض ، وكان وعدا مشروطا:
" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ"
وتحقق وعد الله طالما أخلص المسلمون لدينهم ، وحين زحفت العقائد القديمة من تقديس البشر وعبادة الأئمة أصبحوا غرباء في أوطانهم يعيشون علي مجد الماضي دون محاولة حقيقية لدراسة الأسباب وعلاج الأمراض .
ولا يزال وعد الله لنا بالاستخلاف قائما إذا تحققت فينا شروطه ولكن متي ؟
البداية تقع علي عاتقنا :
" إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ "

* * *


ثانيــــــا :
لقد ذكر القرآن كلمة فرعون أربعا وسبعين مرة .. فهو أكثر المشركين نصيبا في حديث القرآن..
بل هو في الواقع إمام خطير للمشركين الطغاة إلي قيام الساعة وصاحب وضع خاص يستحق أن نتوقف معه ..
إن فرعون هو آخر الذين أهلكهم الله ، وسبقه علي الطريق أقوام نوح وعاد وثمود ولوط .. الخ .
وبعده نزلت التوراة بصائر للناس ولذلك فإن فرعون بهذا يكون إماما لكل مشرك يأتي بعده . ومعه بالطبع جنوده ، يقول تعالي : " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ . َجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ".
إلي أن يقول تعالي :
" َلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ "..
كان فرعون في مجده يسأل موسي عن القرون الأولي : " قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ، قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى.."
وذكره مؤمن آل فرعون بمصير الأحزاب من القرون السابقة فلم يتعظ إلي أن لحق بهم وصار إماما لكل الضالين بعده..
لقد استحق فرعون بجدارة هذه المكانة حين طغي وتطرف في الكفر إلي درجة إنكار الفطرة وإنكار الألوهية وواصل مسيرة العناد إلي آخر الشوط حتى كان في آخر حياته يطارد نبي الله والمظلومين معه .. ومن القرآن الكريم نتعرف علي تلك المكانة الخاصة لفرعون بعد موته..
1ـ فالله قد أنجي جسده ليكون عبرة لمن يأتي بعده ، وقد قيل له عند موته " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "
الجسد الإنساني بعد الموت يعتبر سوءة ينبغي إخفاؤها عن الأعين بالدفن ، وقد تعلم ابن آدم حين قتل أخاه كيف يدفن جثة أخيه.. " فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي "؟
من إكرام الله لبني آدم أن تدفن الجثة الآدمية ، ولكن فرعون موسي محروم من ذلك، وجثته معروضة حتى الآن في المتحف يراها الناس.

* * *
2ـ وترك فرعون جسده ودخل إلي البرزخ وهناك يتعرض لنوع من العذاب يستمر إلي قيام الساعة ومعه آله، أما حين تقوم الساعة فيدخل أشد العذاب .
" وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .."
إذن في البرزخ لهم سوء العذاب .. ويوم القيامة لهم أشد العذاب هذا بينما نجد للمشركين الآخرين وضعا آخر.
إذ يكون البرزخ بالنسبة لهم موتا يفقدون الإحساس أثناءه بكل شيء إلي يوم البعث.
" حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ "
وعند البعث يستيقظ المشركون في رعب ودهشة.
" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ "
وعند البعث يسألون متعجبين بعد نومهم الطويل الذي مر عليهم كأنه ساعة من الزمان.
" وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ .. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ "
حرم الله علي فرعون ذلك النوم في البرزخ وجعله يقضيه حيا في عذاب مستمر إلي أن تقوم الساعة وهناك أشار إلي مشاعر فرعون وآله وهم في البرزخ يتحسرون علي ما حدث يقول تعالي:" وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وجنود هما مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ "
كان فرعون في حياته يحذر من بني إسرائيل لأنهم لا يعتقدون في ألوهيته ولم ير في حياته إلا تعذيبهم علي يديه ، ولكن بعد غرقه رأي في البرزخ منهم ماكان يحذر في حياته وفي سلطانه.
لقد أضاع فرعون حياته في سبيل الشيطان ومات في سبيل الشيطان يطارد ضعافا من البشر بينهم مؤمنون واثنان من أنبياء الله.
وفي المقابل فهناك من المؤمنين من يموت في سبيل الله ، وأولئك لا ينبغي أن نعتبرهم موتي بل هم في البرزخ أحياء عند الله يرزقون.
" وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ" "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ "
فالمقتولون في سبيل الله يحسون بإخوانهم في الدنيا ويتمنون لهم نفس النعيم.
أما فرعون وآله في البرزخ فهو يعيش في حسرة وقد رأي كيف أن كيده قد أوقع به.
وماعدا الفريقين فالبرزخ موت يصحو منه البشر فجأة عند البعث فيظنون أنهم ماتوا بالأمس القريب لأن فترة البرزخ لا زمن فيها فتستوي الألف عام في البرزخ مع الألف دقيقة ، كلها يوم أو بعض يوم أو كلها نوم مؤقت.
" وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ " "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا "
3ـ ثم يأتي فرعون يوم القيامة إماما لقومه يدخل بهم النار :
"يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ"

* * *



ثالثـا :
إن فرعون هو السلف غير الصالح لكل مشرك ، إن كلمة " السلف" لم تأت في القرآن إلا مرة واحدة وعن فرعون فقط . يقول تعالي عن فرعون وآله " َلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، َجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِين "
وكان القرآن يصف المشركين العرب بأنهم يسيرون علي درب فرعون .
" كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ " " كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ "
إن أستاذية فرعون في الكفر تتمثل في أن تطرفه في العناد وصل به إلي إعلانه إنكار الألوهية وإنكار فطرته التي في داخل نفسه تؤمن بالإله خالق كل شيء.
كان قوم فرعون يؤمنون بألوهية فرعون ولكن يؤمنون بوجود آلهة لفرعون نفسه معه وقد قالوا له . " أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ "
ولكن فرعون ما لبث أن تطرف في كفره ليواجه دعوة موسي وليحاول أن يقتلع من أتباعه الإيمان بالخالق تعالي، فأعلن في مؤتمره.
" يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي " .. " َحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى "
ولكن عندما أحاطت الأمواج بفرعون عاد سريعا إلي فطرته الأولي مثل كل إنسان عند الشدة فقال لا إله إلا الله .. " حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ".
وذلك الإيمان جاء متأخرا فلا محل له من الإعراب .. لذلك قيل له "
"أالآن ؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ "
وعلي طريق فرعون يسير كثير من البشر يظل في عصيانه حتى إذا جاء الموت أعلن لملائكة الموت إيمانه بلا جدوى " وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ"
وعلي طريق فرعون يتطرف بعضهم إلي القول بإنكار الألوهية مع أنه لم يصل إلي درجة فرعون من القوة والتمكين ، ومصيره إذا جاءه بعض الإسهال أو الإمساك أو المغص أن يصرخ قائلا : يارب .. ثم إذا شفاه الله عاد لكفره كأن شيئا لم يكن .. " وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ "
حقيقة الأمر لا يوجد إنسان ينكر الألوهية مهما أعلن بلسانه ، وذلك لأن الفطرة في داخله تؤمن بالله إلها واحدا لا شريك له .. "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ "
لقد فطر الله الناس علي الإيمان بالله وحده إلها ، ولكن لا يلبث الشيطان أن يغطي هذه الفطرة السليمة بالاعتقاد في آلهة أخري مع الله .
وذلك هو ( الكفر ) وهو أيضا( الشرك) .. ( الكفر) لأن معني الكفر هو التغطية والستر ، والكافر قد غطي فطرته الحقيقية بالاعتقاد في آلهة مع الله .
وهو أيضا " مشرك" لأنه جعل الألوهية شركة بين الله وغير الله ولأنه أشرك مع الله آلهة أخري .
فالكافر في الحقيقة يؤمن بالله ولكن يغطي فطرته التوحيدية بالإيمان بآلهة أخري مع الله .
لذا يجتمع مع الكفر إيمان ، ولكن ذلك الإيمان في الكافر ناقص لا ينفع يوم القيامة عند الله لأن الله يطلب الإخلاص له وحده ، يقول تعالي عن إيمان الكافر وعدم جدواه " قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ "
والمشرك أيضا يؤمن مع الله بآلهة أخري ، لذلك فالله تعالي يقول عن أغلبية البشر ..
" وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ "
وهكذا فالكفر ليس الإنكار المطلق للألوهية ولكنه الشرك بالله. فالشرك والكفر مترادفان ، ولذلك يقول ذلك الرجل الحكيم من آل فرعون ." تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ "
فالكفر بالله هو الشرك به ولا فرق .. ويقول تعالي : " مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ "
وذلك درس آخر نتعلمه من قصة فرعون .. أن الفطرة في داخل الإنسان أكبر من أن يستطيع أحد إلغاءها .. قد يستطيع تغييرها لتكون كفرا أو شركا بأن يغطيها بالإشراك بالله ، ولكن يظل في قرارة نفسه مؤمنا بالله ، ولكن ذلك الإيمان الناقص لا ينفع يوم القيامة ..
لقد فهم مؤمن آل فرعون الدرس .. ولكن فرعون تذكره فقط في النهاية فضاع ..

* * *

رابعـا :
حين أدركه الغرق صرخ قائلا : " آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ "
أي أعلن فرعون إسلامه عند الموت .. هل كان الإسلام هو الدين الذي دعا إليه موسي ؟
هو الإسلام الذي نزلن به كل الرسالات السماوية ..
" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ : " " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ "
والإسلام هو الانقياد التام لله وحده . وإلي ذلك كانت دعوة الأنبياء بكل اللغات.
" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ :الأنبياء25 "
ونطق الإسلام باللغة الهيروغليفية في عصر موسي :
" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا "

* * *

وقبل موسي كان كل نبي يعلن إسلامه أو انقياده لله وحده باللغة التي يتحدث بها هو وقومه . قالها نوح " وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وقالها إبراهيم " إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " وكان إبراهيم يوصي أبناءه بالإسلام ويتواصى أبناؤه بالإسلام .
" وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "
ولكن ماهو نصيب مصر من ذلك كله ؟
إن واقع مصر التاريخي يجزم بوجود أنبياء لم يرد ذكرهم في قصص القرآن ، بالإضافة إلي نصيبها من الأنبياء الذين عاشوا فيها مثل يعقوب ويوسف وموسي وهارون .
عاش يعقوب أواخر حياته في مصر وتجمع حوله الأسباط ـ أولاده ـ فأوصاهم بالتمسك بالإسلام ، وتلك فضيلة إسلامية أن يوصي الأب أبناءه ـ وهو يموت ـ بالإسلام.
يقول تعالي: " أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "
وكان يوسف نبيا للإسلام نطق باللغة المصرية القديمة ، وقال في أوج سلطانه " رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" يوسف
والسحرة حين آمنوا أعلنوا إسلامهم ورفضوا تهديدات فرعون قائلين " وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ"
وطبعا قالوا : " وتوفنا مسلمين " باللغة المصرية القديمة وليس باللغة العربية.
وكان موسي يشجع قومه ليواجه اضطهاد فرعون فيقول لهم " يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ "
لذلك لا نستغرب أن يعلن فرعون إسلامه عند الموت علي أنه دين بني إسرائيل .." حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ "
ونطق الإسلام في الرسالة الخاتمة باللغة العربية .

* * *

خامسا :
ونستريح في النهاية مع قصة يوسف :
ذلك النبي الذي ذاق الظلم والسجن فصبر حتى أنعم الله عليه بجزاء المحسنين .. وتقوم قصة يوسف علي عدة منامات .. وتطرح قضية الأحلام الصادقة .. من يراها ؟ وتأويلها ..
لقد رأي يوسف رؤيا صادقة " إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ " وتحقق المنام فسجد له أخوته الأحد عشر ومعهم والده
" وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا "
ورأي رفيقا يوسف في السجن منامين وتحققا حسبما فسرهما يوسف لهما .. ورأي الملك رؤيا تحققت وأشرف يوسف علي تنفيذ المطلوب من تفسيره لتلك الرؤيا ..
لم يكن رفيقا يوسف أو الملك من المسلمين أو من الصالحين حين رأوا المنام ـ علي الأقل ـ
وذلك يعني أن الرؤيا الصادقة قد يراها النبي أو يراها أي إنسان آخر .
وتأتي الرؤيا في صورة رمزية تستلزم تفسيرا .
فيوسف رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له وكان التفسير أن يسجد له أخوته ووالداه ..
ورفيقاه في السجن رأي أحدهما أنه يعصر خمرا ، وكان التفسير أنه سيكون ساقيا للملك.
ورأي الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه وكان التفسير أن سيصلب لتأكل الطير من رأسه ..
ورأي الملك سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف ، ورأي سبع سنابل يابسات يأكلن سبع سنابل خضر ..
وكان التفسير سبع سنوات رخاء يستهلكهن سبع سنوات من المجاعة ثم عام يزداد فيه الرخاء بعد سنوات المجاعة ..
ولكن من يستطيع تفسير الرؤيا الصادقة إذا وجدت ؟
إن الرؤيا الصادقة إخبار بالغيب الذي سيتحقق في المستقبل ، لذا ففيها جانب من الإعجاز الذي قد يؤتيه الله لبعض الأنبياء .. وقد أوتي يوسف هذه المقدرة دليلا علي نبوته .. يقول تعالي عنه : "و َكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ "
وشكر يوسف ربه فقال : " رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ "
وكان تعبير يوسف للرؤيا الصادقة صحيحا وصادقا لأنه كان نبيا آتاه الله المقدرة علي ذلك واجتهادنا في تأويل الرؤيا الصادقة أو غير الصادقة يجوز فيه الصواب والخطأ.
لقد عمل يوسف النبي في خدمة ملك كافر ، وفي عصرنا الراهن يفتي بعض الصغار بتحريم العمل في الحكومة التي تقول لا إله إلا الله .. !!

* * *
ولايزال هناك متسع لمزيد من البحث والدروس من قصة يوسف وقصة موسي عليهما السلام .. والقرآن أعظم من أن يحيط بكنوزه عقل إنسان واحد مهما أوتي من علم وذكاء ..
لذا فعطاء القرآن متجدد ومستمر ..
ولكن المشكلة أن القرآن كتاب لم يقرأ بعد .. لأننا انشغلنا عنه بأشياء كثيرة ..
" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ .."

* * *

الخاتمـــــة
(1) عرف الإنسان تزييف الحقائق منذ أن عرف تدوين التاريخ :
وكتابة التاريخ منذ أن بدأت وهي تسير في ركب السلطان تلهث وراءه لتكتب ما يحلو له أن يقال عنه .
وقد يقال أن الوثائق قد تكون أقرب للصدق ولكن الوثائق لا تسد كل الفراغات .
ولا تحكي ما قبلها وما بعدها ولا نعرف ظروف كتابتها ولا نستطيع التأكد اليقيني من صدقها .
وهكذا تظل هناك فجوة هائلة ببين التاريخ الحقيقي الذي دار في الدهاليز وعمق الظلام ، وبين التاريخ المكتوب الذي وصل إلينا يعبر عن وجهة نظر المؤرخ وعواطفه..
ومن هنا تظل الحقيقة التاريخية في كتابات البشر حقائق نسبية يجوز عليها الصدق والكذب ولا يمكن التأكد من صدقها .
فعلي سبيل المثال يقول المؤرخ مثلا :" إن السلطان أرسل رسالة إلي الملك الفلاني " هذه حقيقة تاريخية ذكرها مؤرخ قد يكون قريبا من السلطان مطلعا علي سره مما أعطاه الفرصة لكي يورد هذه الواقعة التاريخية ، ولكن وجود المؤرخ إلي جوار السلطان يعطينا الحق في التشكك في وفي انحيازه للسلطان وتعبيره عنه أكثر من تعبيره عن الحقيقة التاريخية ..
وقد يكون المؤرخ بعيدا عن السلطة .. إذن فكل ما يكتبه عن السلطان يدخل في إطار الشائعات والتقولات مما يزيد في التشكك في روايته ..
ثم تبدأ الاحتمالات ربما يكون السلطان قد أرسل الرسالة وربما كانت مناورة ، وربما لا علم للسلطان مطلقا بهذه الرسالة .. وربما ورما ، وهكذا تظل الفجوة بين التاريخ الحقيقي والتاريخ المكتوب .
وتزيد هذه الفجوة في التاريخ للمؤامرات السياسية ما نجح منها وما لم ينجح .. والتاريخ السياسي في أغلبه مؤامرات واتصالات سرية وعلاقات مريبة ومناورات وتحركات وهمية ، والمكتوب عنها قد يذكر شيئا طفا علي السطح ومن وجهة نظر الكاتب ، ولكن تظل أغلبية الحقائق بمنأى عن قلم المؤرخ .
ثم إذا افترضنا أن مؤرخا عثر علي الحقيقة بأكملها ودونها . هنا ينتقل الشك إلي المؤرخ نفسه وإلي أمانته في النقل وموقفه السياسي والحزبي والعقيدي والعاطفي من أبطال الحدث التاريخي .. الأمر الذي يجعل الشك هو الأصل في النظرة للمؤلفات التاريخية ، وتظل بها حقائق نسبية..
* * *
(2) وتختلف الحال بالنسبة للقصص القرآني فبالإضافة إلي أنه حقيقة مطلقة لا شك فيها فهو ينفذ للغيب .
ففي مكان ما وفي وقت محدد عقد أخوة يوسف مؤتمرا سريا للتآمر علي أخيهم يوسف بسبب حسدهم له . لأن أباهم يحبه أكثر من حبه لهم ، لم يعلم الأب بذلك الاجتماع السري ولا بالذي دار فيه . ولكن الله كان محيطا بنجواهم وتآمرهم .. وذكر ذلك بتفصيلاته " يوسف 7: 10 " ثم بعد أن قص سيرة يوسف وأخوته قال في النهاية يخاطب خاتم المرسلين من الله:
" ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ" (12/102).
ما ذكره القرآن كان غيبا ، وما كان خاتم النبيين حاضرا له ولم يشهد ذلك الاجتماع السري لأخوة يوسف وهم يمكرون بأخيهم ويقول تعالي :
" مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ ولا أكثر إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"
(58/ 7)
التاريخ الحقيقي لكل إنسان ولكل مجموعة من البشر يعلمه الله ويسجله علينا . ثم تأتي نسخ من هذا التاريخ لكل أمة ولكل فرد يوم القيامة ، وأحدنا حين يقرأ تاريخ حياته الدنيا يتذكر مانسي .
"يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"(58/6)
ومن هذا التاريخ المسجل في علم الله كان قصص القرآن ينبيء عن غيب لا يعرفه إلا علام الغيوب .. في وقت ما وفي مكان ما بقصر فرعون رفعت امرأة فرعون رأسها تدعو الله تقول ."رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"(66/21)
فرعون كان لا يدري بما يحدث في فراشه ، ولا يعلم ما في قلب زوجته ، ولكن الله يعلم ، وقد سجل لنا أحاسيس هذه السيدة المؤمنة وخلد ذكراها ..
وهذه ناحية يتميز بها القصص القرآني عن روايات المؤرخين السطحية..
(3) والقصص القرآني يخبرنا بالأقوال والأفعال وبالأحاسيس التي أفصحت أو لم تفصح عنها الأقوال .. ويكفي أن نتابع التطور الطبيعي لمشاعر امرأة العزيز حين فاجأها زوجها فتنطق بين كرامتها المجروحة وببين خوفها علي يوسف .. ومحاولة تبرئة نفسها :
"مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "(12/25)
لم تطلب إعدامه ولكن أرادت عقابه ..
ثم حين تذهب مع رغبتها للنهاية انتصارا لكرامتها وأنوثتها :
"فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ "(12/32)
ثم في النهاية حين تتوب في أروع ما يكون موقف التوبة وأمام شهود من علية القوم وفي بلاط الملك : " قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ " (12/51: 53)
(4) وبلاغة اللفظ القرآني في القصص إعجاز تاريخي مستقل .
حين اتهم يوسف ـ وهو عزيز مصر ـ أخاه بالسرقة لكي يستبقيه معه ، كان تعليق أخوة يوسف علي اتهام أخيهم بالسرقة : " قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ " (12/77)
ثم يقولوا " فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ " لنا من قبل " فالقرآن يعبر بلفظة موجزة عن استمرار كراهيتهم ليوسف .. بعد أن أضاعوه بسنين طويلة ..
وحين قالوا ليوسف ـ وهم لا يعرفونه ـ " يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه " قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ"(12/79)
لم يقل "معاذ الله أن نأخذ إلا من سرق متاعنا " .. لأن أخاه لم يسرق في واقع الأمر ..!!
ويستمر حقد الأخوة علي يوسف الغائب إلي قبيل النهاية " وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ "(12/94: 95)
يواجهون أباهم الضرير الحزين علي ابنه المفقود بقولهم " تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ "
أي أن حقدهم علي يوسف تتأجج ناره كلما شهدوا أن حب أبيهم ليوسف يزداد تأججا..
ومنذ أن عقدوا مؤتمرهم الآثم منذ كان يوسف طفلا" إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ " (21/8)
أي وصفوا آباهم النبي بأنه في ضلال مبين واستمر هذا رأيهم فيه إلي قبيل النهاية ، وجاءت النهاية حين وصل قميص يوسف فألقوه علي وجه الأب المكلوم " فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ " (12/96: 97)
* * *
وقد تأتي لنا بلاغة القرآن بحكمة بين السطور :
فالقرآن يتحدث عن الاتهام من يوسف لأخيه بالسرقة وماجري فيها فيقول :
" فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ " (12/76)
الله تعالي يقول عن حيلة يوسف " كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ " وحيلة يوسف كانت لا تخلو من تحايل ألم يقل تعالي عن يوسف :"فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ" (12/70)
وما كانوا سارقين .. !!
(5) وبلاغة القرآن في القصص تظهر أيضا عند حذف اللفظ والاستدلال عليه بالقرينة يقول تعالي:"فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ واعتدت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ " (12/31)
لقد أرادت امرأة العزيز أن تفاجيء النسوة بيوسف .
وصورت الآية هذه المفاجأة في أسلوبها التصويري حين أوجزت وحذفت بعض الفقرات لتعطي طابع المفاجأة . تقول الآية :
" وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً "
وتترك القاريء يتخيل أولئك النسوة المترفات في صخبهن وثرثرتهن وهن لا يعلمن شيئا عن المفاجأة وتأتي النقلة إلي داخل القصر وامرأة العزيز تأمر يوسف بعيدا عن مكان النسوة
" وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ " ثم تنتقل الآية مباشرة إلي مكان النسوة " فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ " لم تقل فدخل عليهن فلما رأينه أكبرنه لأن ذلك يضعف من تأثير المفاجأة .. ثم تصور الآية ذهول النسوة حين رأين جمال يوسف فتعلقت به أبصارهن وأخذت السكاكين في أيديهن تمارس عملها في الأيدي الناعمة بدلا من الفاكهة وهن ينطقن " وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ " لم تذكر الآية كل هذه التفصيلات وتركتها تنمو في عقل القاريء وخياله ..
* * *
والأمثلة أكثر من أن تحصي وهي أدخل في باب الفصاحة القرآنية .. ونعود إلي قيمة القصص القرآني في الناحية التاريخية ..

* * *
(6) فكتابات المؤرخين مقيدة بقصورهم الإنساني عن اختراق الغيب وكشف المستور ..
هذا مع أن مجال المؤرخين هو البحث عن الماضي وتسجيل الحاضر .
أما المستقبل فلا مجال فيه للتاريخ ومؤرخيه .
والقرآن هو الذي افتتح هذا الباب المجهول " التأريخ للمستقبل " حين أخبر عن أحداث ستقع ووقعت بعد نزول القرآن قال: " غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ" (30/2: 3) الروم
وحدث في بضع سنين انتصار الروم بقيادة هرقل علي الإمبراطورية الفارسية ..
ولكن هرقل لم يتمتع كثيرا بانتصاره إذ أن الله قال للمسلمين وهم في أول عهدهم بدولتهم الوليدة في المدينة .. "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا" (24/55)
وعد الله بانتصار الروم في الوحي الذي نزل في مكة وقد كانوا يتمنون أن ينتصر الروم بعد هزيمتهم فقال لهم الله .." وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " الروم
ثم وعد الله المؤمنين في المدينة بأن يستخلفهم في الأرض إذا آمنوا به وحده دون أن يشركوا به شيئا أي هو وعد مشروط .
وقام المسلمون ـ وقتها ـ بالشرط فوفي الله لهم بالوعد .
وصمد المسلمون في غزوة الأحزاب فقال لهم الله عن انتصارهم علي اليهود خائني العهد : "وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا " (33/27)
أي أن الله أورثهم أرضا لم تطأها أقدامهم بعد ..
وتحقق هذا الوعد في الفتوحات الإسلامية التي قضت نهائيا علي الإمبراطورية الفارسية وقلصت الإمبراطورية الرومانية إلي تخوم العاصمة القسطنطينية ..
وبها تم فتح الشام والعراق وإيران وشرقها ومصر وشمال أفريقيا إلي الأندلس وجزر البحر المتوسط..
وشهد هرقل زوال ملكه في الشام فارتحل عنه وهو يقول " وداعا يا حمص وداعا لا لقاء بعده" .. ولكن ما لبث أن عاد أحفاد هرقل في الحروب الصليبية .. !!
ثم عادوا في العصر الحديث في فترة الاستعمار ولا يزالون ..!!
وذلك لأن وعد الله لنا مشروط بأن نعبده لا نشرك به شيئا .. وإذا قممنا بالوفاء بالشرط أوفي لنا الله بالوعد : "وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ " (9/111)
ولقد قال الله لنا عن اليهود أعداء الله . " لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ( 3/ 111: 112)
وهو حكم يسري علي المستقبل ، وتاريخ مستقبلي لمن يقوم بشروطه ، وقد جاءت الشروط من قبل في قوله تعالي :" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ "(3/110)
ولكن عندما لم نقم بالشروط أصبحنا نحن الذين نولي الأدبار ونقتل أنفسنا بأيدينا وأيدي الآخرين .. فاعتبروا يا أولي الأبصار ..
إن التأريخ للمستقبل جاء في القرآن في آيات كثيرة ترسم للمسلمين سبل النجاة من الضعف والذل ولكن المشكلة أننا لم نقرأ القرآن بعد. ولا يزال بعضنا يعتقد أنه موجه للحديث عن الماضي .." اقرأوا القرآن يرحمكم الله .

* أحمــد صبحي منصور *

* * *

الفهــــرس

التمهيد :
الفصل الأول :
الحياة السياسية في مصر القديمة من خلال آيات القرآن الكريم
أولا : كلمة مصر في القرآن الكريم
ثانيا : لمحات قرآنية عن النظام السياسي المصري في عصر يوسف
عليه السلام
ثالثا : لمحات قرآنية عن النظام السياسي المصري في عصر موسي عليه السلام
ببين ملك الهكسوس وفروعون مصر
من هو فرعون موسي
فرعون موسي : ملامح شخصية
أتباع فرعون
سياسة فرعون الداخلية
الفصل الثاني :
المجتمع المصري القديم في القرآن الكريم
لمحة عامة
الحياة الدينية
تأثر بني إسرائيل بالديانة المصرية القديمة .
الحياة العقلية العلمية
العمارة في مصر القديمة
الحياة الاقتصادية

الفصل الثالث :
مواعظ ودروس :
الخاتمـــه

اجمالي القراءات 34470
التعليقات (5)
1   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الجمعة ٢٤ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41328]

أحبتى أهل القرآن : كتاب ( مصر فى القرآن الكريم ) يرجوكم المراجعة

صدر هذا الكتاب عام 1990 ، ونشرته مؤسسة أخبار اليوم الحكومية فى مصر بعد معركة وصراع داخل تلك المؤسسة العريقة .


ومنذ سنوات أعيدت كتابته ، وكالعادة فتلك الكتابة على الكومبيوتر تستلزم المراجعة من الأحبة (اهل القرآن ) .


أرجو أن يأخذ حقه من المراجعة قبل نشره للتعليق.


خالص مودتى و امتنانى


أحمد صبحى منصور


2   تعليق بواسطة   محمود دويكات     في   السبت ٢٥ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41344]

بارك الله فيك

يا دكتور أحمد على مجهوداتك العظيمة و رغم بعض التحفظات البسيطة على المحتوى إلا أنه فعلا كتاب ممتع جداً و فيه فائدة كثيرة. من الواضح أن القرءان يعطي صورتين تاريخييتن لمصر ، واحدتها في عهد يوسف و ثانيتها في عهد موسى ، ففي الأولى نرى مقدار التحرر الأخلاقي و اللبرالية مقاساً بمدى حرية المرأة و سطوتها و أيضا مدى التقدم الأقتصادي و العمراني لدرجة وجود وزير للأقتصاد -هو المنصب الذي شغله يوسف ، و في المقابل نجد عصر موسى يشيع فيه الأساطير و السحر و الخوف و الأرهاب لدرجة أن إمرأة الحاكم نفسها تخشى من ان تتحدث فيه عن مشاعرها و لدرجة وجود وزير للحربية و الجنود (مقابل وزير الأقتصاد هناك). فعلاً مقابلة فريدة من نوعها
إن المشاع عن تاريخ مصر لفترة قريبة في الواقع كان بناء على معلومات قديمة ، و هو مبني على اكتشافات أثرية قليلة في الماضي جعلت الناس وقتها يعتقدون ان مصر كانت أم الحضارة و بدايتها ، لكن الأكتشافات المتوالية و المدارس الأثرية الحديثة جاءت بما هو غير مشاع عن تاريخ مصر في أنه في الواقع ليس أقدم من تاريخ الشام و العراق مثلا. فمن المعروف الأن أن أقدم المدن في التاريخ لم تكن (كما كان يظن الناس) أنها مصرية ، بل هي في الشام بالتحديد أريحا و دمشق و حلب و مدن الشاطيء اللبناني وكان يعاصرها مدن جنوب العراق و حوض نهر الفرات في الشام - فهناك ابتدأت الحضارة في وقت لم يتعلم المصريون بعد كيف يستقرون بعد على شواطيء النيل الذي كان يشهد فيضان موسميا. و بدخول الهكسوس ( بوصفهم مرتزقة في الغالب وبتفوقهم العسكري باستخدام الحديد و العجلة و التي نقلوها عن البابليين) الى مصر جلبوا معهم الكثير من عناصر تلك الحضارة و أنشأوا حكما متحررا و مهتماً بالإقتصاد كما أشار القرءان في فترة يوسف ، و على تلك الأسس ورث الفراعنة المصريون تلك الثروات و أقاموا أمبراطوريتهم بالاستبداد و الظلم كما وصف القرءان ... فكانت بداية التمدن في منطقة الهلال الخصيب و لكن كانت بداية الأمبراطوريات و الحكم العسكري المطلق في مصر و من هناك بدأت المدنيات المجاورة تحذو حذو مصر في المركزية في الحكم.
و الله أعلم و شكرا جزيلا لك يا دكتور على هذا الكتاب الممتع حقاً

3   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الثلاثاء ٢٨ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41416]

شكرا أخى الحبيب محمود دويكات ..

شكرا أخى محمود على اهتمامك وتعليقك ، وأتمنى أن تعطى الموقع جانبا من وقتك وجهدك واجتهادك ، فقد لاحظت أنك مقلّ فى الفترة الأخيرة ، طبعا أقدر ظروف عملك ودراساتك ، وأدعو لك بالتوفيق ، ولكنّ لنا عليك حقا .


خالص محبتى


أحمد


4   تعليق بواسطة   خالد عزالدين     في   الثلاثاء ٢٥ - أغسطس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41696]

تأملات في "مصراً"

اهبطوا مصراً الآية 61 من البقرة

السياق الزمني للآية بعيد الخروج من مصر و قبل دخول الأرض المقدسة و أثناء وجود بني اسرآئيل في سيناء

طلب بنواسرآئيل من موسى ما طلبوا فأمرهم ((اهبطوا مصراً))

لا يمكن أن تفسر هنا ((مصراً)) على أنها مصر بلد الفراعين و الا صار المعنى أن موسى يأمر بني اسرائيل بالرجوع للعبودية و الذل بعد أن حررهم الله منهما. و لأنهم للتو أغرقوا و قتلوا فرعونهم و قتلوا و أغرقوا جيشهم فالرجوع الى دولة مصر الفرعونية في ذلك الوقت انتحار و حاشا لله أن يرسل موسى- منقذ بني اسرائيل- قومه للهلاك

و لأنهم سرقوا ذهب المصريات عند خروجهم فماذا ينتظرون غير عقوبة السارق اذا رجعوا

و لأن - وهذا هو الأهم -الخروج من مصر الفرعونية كان أمرا ربانيا مقدسا فكيف يخالفه موسى بارجاع قومه اليها مرة أخرى

اذا بقي احتمال واحد فقط و هو أن موسى أمر قومه بدخول أي مصر(أي مدينة) من الأمصار التي حولهم ماعدا مصر بمعنى مصر - الفرعونية

الآن كيف عبر القرآن عن هذا المعنى الذي شرحته : عبر عنه بأسلوب موجز بلاغي اعجازي : بأن نوَن ((مصراً)) فاعطى المعنى المطلوب :فبعد تنوين مصر في هذا الموقع بالذات الآية 61 نفهم أنها تنطبق على أي مصر و مدينة حولهم ماعدا مصر-الفرعونية(التي لا يجوز تنوينها) و هو المعنى الذي أراده موسى هنا و هو المعنى الذي شرحته في عدة سطور أعلاه عبر عنه القرآن الكريم في حرف(اً) التي جاءت في ((مصراً )),وهذا من عظيم بلاغة القرآن , فتأمل

 


5   تعليق بواسطة   خالد عزالدين     في   الثلاثاء ٢٥ - أغسطس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41703]

((حُليَهم))



قال تعالى:((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ))

فهل القرآن الكريم قد برأ اليهود من تهمة ''السرقة الجماعية'' لحلي المصريات عندما قال تعالى واصفاً هذه الحلي: ((من حليهم)) و لم يقل من حلي المصريين أو من الحلي المسروقة مثلا؟

 


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق