أحمد صبحى منصور في الثلاثاء ٢٣ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
أحمد صبحى منصور
ليلة القدر فى رمضان هى ليلة الاسراء، ليلة نزول القرآن كتابا
مقدمة : ـ
أساطير التراث تحيط بليلة القدر . وعلى أساس هذه الأساطير نشأت عقولنا منذ الصغر حيث كنا ننتظر "ليلة القدر" لكي تتحقق لنا فيها الآمال , وارتبطت ليلة القدر لدى عقلية العوام بما يشبه العثور على خاتم سليمان والجن الذي يحقق الآمال . وحمل المثل الشعبي هذه المعاني في قوله " فلان انفتحت له ليلة القدر" تماما كما ينفتح القمقم ويخرج منه الجني الذي يقول : "شبيك لبيك"
أخي وصديقي الدكتور / منصور
تحية مباركة طيبة وبعد
تلبية لدعوة سيادتك حول المشاركة في هذا الموضوع الهام ، أقدم دراسة بسيطة ومتواضعة عن ميعاد ليلة القدر عسى أن تكون استكمالا لما تفضلتم به وهى كما يلي :
متى هى ؟
من الملاحظ وجود رابط وهو النور بين فحوى هذه الليلة وميعادها
فإذا ما تتبعنا هذا الرابط سنجد ما يلي :
فليلة القدر من الليالي القمرية ووصف القمر بأنه منير
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا 0 ( 5 يونس )
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا 0 ( 16 نوح )
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا 0 (61 الفرقان )
نزل فيها القرآن الذي وصف بأنه نور
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ
( 157 الأعراف )
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 0 ( 8 التغابن )
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا 0( 174 النساء )
مَاكُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا 0 (52 الشورى )
أنزل على قلب سيدنا رسول الله والذي وصف بأنه سراجا منيرا
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا 0 ( 46 الأحزاب )
أنزل من عند الله جل جلاله الذي وصف ذاته بأنه نور السماوات والأرض
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ( النور 35)
وعليه فالنور ( الله ) أنزل النور ( القرآن ) على السراج المنير ( سيدنا محمد )
في ليلة تحسب بالنور ( القمر )
أليس من المنطقي أن تكون هذه الليلة هى ليلة إكتمال النور .
وعليه تكون ليلة القدر هى ليلة النصف من رمضان .
وتقبل خالص تحياتي
أحمد صبحي منصور
ليلة القدر في رمضان هي ليلة الإسراء، ليلة نزول القرآن كتابا
مقدمة : ـ
أساطير التراث تحيط بليلة القدر . وعلى أساس هذه الأساطير نشأت عقولنا منذ الصغر حيث كنا ننتظر "ليلة القدر" كي تتحقق فيها آمالنا , وارتبطت ليلة القدر في عقول العوام بما يشبه العثور على خاتم سليمان والجن الذي يحقق الآمال . وحمل المثل الشعبي هذه المعاني في قوله " فلان انفتحت له ليلة القدر" تماما كما ينفتح القمقم ويخرج منه الجني الذي يقول : "شبيك لبيك"
وبعيدا عن هذه الأوهام التي تحقق راحة نفسية لهواة أحلام اليقظة من المحبطين واليائسين فإن ليلة القدر هي حقيقة دينية تقع ضمن الغيب الذي أخبر به رب العزة جل وعلا في القرآن الكريم , ولأن النبي محمداَ عليه السلام لم يكن يعلم الغيب ولأن القرآن أكد في عشرات الآيات أن النبي عليه السلام لم يتحدث في الغيبيات فإن حديث الله تعالى في القرآن يظل هو المرجع الوحيد الذي نتعرف منه على المتاح لنا معرفته عن ليلة القدر ..
ملامح ليلة القدر في القرآن : ـ
ــ يتجلى في ليلة القدر ملمحان , هما : نزول القرآن فيها , وهو ملمح انتهى ومضى , ثم نزول الأقدار للبشر , وهو ملمح يتكرر سنوياً ..
عن الملمح الأول يقول تعالى عن نزول القرآن "
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ " القدر: 1 , ويقول " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ " الدخان : 3
وعن الملمح الثاني يقول عن هبوط الملائكة بأقدار البشر ـ " تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ " القدر : 4 , ويقول تعالى " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ " الدخان : 4, 5 ,6.
ويرتبط بما سبق بعض الملامح الجزئية وهى تصف ليلة القدر بأنها " خير من ألف شهر " وأنها " سلام هي حتى مطلع الفجر " وأنها " ليلة مباركة " وهذه الملامح الجزئية هي أوصاف دائمة لليلة القدر التي تأتى كل عام في رمضان . حيث نزل القرآن في شهر رمضان " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... " البقرة : 185 .
ونبدأ بالحديث عن الملمح الثاني وهو دور الملائكة بالنسبة للبشر ، والذي يتجلى ضمن ما يتجلى في ليلة القدر.
دور الملائكة بالنسبة للبشر :ــ
الملائكة هي القاسم المشترك في كل ملامح ليلة القدر . إذ إن ليلة القدر هي الموعد السنوي الذي يلتقي فيه جبريل والملائكة المرافقون له بعالم البشر . وحين جاءت بعثة محمد النبي خاتم النبيين عليهم السلام كان الموعد هو ليلة القدر الذي نزل فيه القرآن الكريم دفعة واحدة مكتوباً على قلب النبي عليه السلام , ثم نزل فيما بعد متفرقاً حسب الحوادث , ونزل القرآن الكريم رحمة للعالمين , لكل البشر , باعتباره الكلمة الإلهية الأخيرة للبشر قبل قيام الساعة . وسيأتي تفصيل ذلك .
وقبل أن نتعرض للملمحين الأساسيين في ليلة القدر وهما نزول القرآن ونزول التدبير الإلهي للبشر فيها , فإنا سنتوقف مع دور الملائكة بالنسبة للبشر .
وهنا نضع بعض الحقائق القرآنية : ـ
(1) ـ فهذا الكون المرئي وغير المرئي من الأرض والسماوات السبع قد خلقه الله تعالى من أجل أن يختبر الإنسان. يقول تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " هود : 7 ، وحين تنتهي مدة الاختبار تقوم الساعة ويدمر هذا الكون ويتبدل بسماوات أخرى وأرض أخرى " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " إبراهيم : 48
(2) ــ وهنا تتجلى عظم مسؤولية الإنسان ,الذي خلق الله الكون من أجله وسخره له في الدنيا " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ " الجاثية : 13 , وفى هذه الدنيا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة في الطاعة أو العصيان , في الإيمان أو الكفر , و الرسالات السماوية تنزل لتوضح له الحق من الباطل , وعلى الإنسان تقع الأمانة أي المسؤولية والتكليف , وذلك ما تميز به الإنسان في هذا الكون " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " الأحزاب : 72 , ويوم القيامة هو يوم حساب الإنسان على هذه المسئولية وتلك الأمانة .
(3) ــ والملائكة من عناصر ذلك الاختبار للإنسان في هذه الدنيا . وهذا هو المعني الرمزي لأمر الله تعالي لهم بالسجود لآدم , ولخلافة آدم في الأرض. وحتى حين عصى إبليس الأمر بالسجود حين كان من الملائكة فانه بعد طرده من الملأ الأعلى أصبح يقوم بدور آخر هو غواية الإنسان لتكتمل بذلك عناصر الاختبار: بين نفس بشرية ألهمها الله تعالى الفجور والتقوى , وإرادة إنسانية حرة تستطيع أن تزكي النفس وتعلو بها , أو تفسد الفطرة السليمة وتنحدر بها " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " "الشمس : 7, 8, 9, 10 " ... وبين ملائكة تنزل بالرسالات السماوية للهداية وشياطين يوحون لأوليائهم أحاديث ضالة تقوم بإفساد الدين الإلهي . " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا، شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " الأنعام : 112 ..وهنا نرى ملائكة الوحي الإلهي يقابلهم في الناحية الأخرى شياطين الوحي المزيف والأحاديث الكاذبة ، والتي يقوم بها أعداء الله تعالى ورسله .
(4) ـ على أن للملائكة أدواراً أخرى في حياة الإنسان الأرضية والأخروية :
فهناك ملائكة الموت التي تقبض النفس عند انتهاء حياته , ومنها ملائكة حفظ الأعمال التي تسجل على الإنسان أقواله وأعماله وخطرات عقله . ولكل إنسان ملكان رقيب وعتيد , وعند البعث يتحول رقيب وعتيد إلى سائق وشهيد , يسيران بالنفس الإنسانية إلى حيث الحساب ولقاء الله تعالى , يقول تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) "( سورة ـ ق ).
ثم هناك ملائكة العذاب , وسيخلقهم الله تعالى مع خلق الجحيم حين يأتي رب العزة وتأتي الملائكة صفا صفا : (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) (الفجر 21: 23 )، يقول تعالى عن نار يوم القيامة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم 6 ) . هؤلاء الملائكة الغلاظ الشداد منهم مالك الذي يستغيث به أهل النار يطلبون الموت راحة من العذاب الأبدي : " وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ " الزخرف : 77 "
(5) ومن بين الملائكة يتميز جبريل أو الروح .
ـ فهو الذي قام بنفخ النفس في آدم حين كان آدم بلا أب وبلا أم . وهو الذي تمثل لمريم بشرا سويا ونفخ فيها نفس المسيح . والنفخ يعني انه حمل كلمة "كن " الإلهية فكان آدم وكان المسيح "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ :آل عمران 59"
ـ وهو الذي نزل بالوحي علي كل الأنبياء "يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ : النحل 2" " يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ: غافر 15"
ـ وهو الذي نزل بوحي القرآن علي خاتم النبيين "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ : الشعراء 193" "قل نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ : النحل 102"
ـ و هو الذي ينزل بالأقدار للبشر ليلة القدر من الأمور الحتمية الأربعة التي قد كتبها الله تعالي سلفا على كل إنسان قبيل وجوده المادي في الدنيا، وهى : ما يخص الميلاد والموت والمصائب المكتوبة والرزق الموعود ...
هذا عرض سريع لدور الملائكة بالنسبة للبشر، خصوصا الروح جبريل .
ونرجع إلي ليلة القدر التي تمثل الموعد السنوي لصلة الملائكة بالبشر، حيث كانت تنزل بالوحي،وحيث لا تزال تنزل بأقدار البشر.
نزول القرآن ليلة القدر
بالرغم من كثرة ما يقال عن ليلة القدر ونزول القران فيها فإن الحقائق القرآنية في ذلك الموضوع لا تزال في أكثريتها غائبة وبعيدة عن مجال التدبر . وفي هذا المجال نقتصر من هذه الحقائق القرآنية علي ثلاثة قضايا تخص الوحي ؛ معناه ، وكيف نزل الوحي في ليلة القدر وغيرها، ومتى وأين نزل الوحي ليلة القدر..
أولا: معني الوحي وأنواعه
الوحي هو طريقة تفاهم أو اتصال غير مألوفة، أي بغير الحديث العادي الذي قد يتم بين جانبين في وسط واحد. فالحديث بينك وبين إنسان أخر يظل اتصالا عاديا، سواء كنت تهمس له في أذنه أو تحدثه بالتليفون، طالما كانت وسيلة الاتصال هي اللغة والصوت والاستماع بالأذن..
أما إذا اختلف الأمر فأصبح التفاهم بينكما بغير الصوت هنا يكون الوحي أو الإيحاء له بالمعني الذي تريد توصيله إليه بدون كلام وبدون صوت، وهذا ما نفهمه من قوله تعالي عن زكريا ("فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا : مريم :11") ذلك أن الله تعالي جعل آية زكريا أنه لن يستطيع أن يكلم الناس ثلاث ليال سويا، حتى يتأكد أن الله تعالي سيهبه ابنا رضيا. وتحققت الآية فلم يستطع الكلام وخرج علي قومه من المحراب يشير إليهم أو يوحي إليهم بالتسبيح وهذا هو معني الوحي.
ويتأكد معني الوحي حين يكون اتصالا بين عالمين مختلفين ،أي في مستويين مختلفين.
وهنا ندخل علي أنواع الوحي .
1 ـ فهنالك وحي من الله تعالي للملائكة "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ : الأنفال12"
2 ـ وهناك وحي من الله تعالي إلي بعض البشر من غير الأنبياء. مثل أم موسي "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى : طه 28" "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ : القصص 7" ومثل الوحي للحواريين "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا : المائدة 111"
3 ـ وهنالك وحي من الله تعالي للأنبياء "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ : النساء 163"
وقد يكون الوحي الإلهي لغير الأنبياء من البشر نوعا من الإلهام القوي الذي يتأكد معه أولئك البشر أنه وحي إلهي. ولكن من المؤكد أن الوحي للأنبياء يكون شيئا مختلفا لأنه نظام متكرر واتصال مستقر ومستمر ينتج عنه كتاب سماوي يقوم كل نبي بتبليغه لقومه...
وهذا الوحي الخاص للنبي يستلزم كيفية خاصة يكون بها النبي الرسول متميزا عن باقي البشر بأنه يوحي إليه. أو كما قال الله تعالي لخاتم النبيين "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ : الكهف 110"
4 ـ وهناك وحي من الله تعالي للكائنات ، ومنها الحشرات كالنحل : " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ : النحل 68"
والوحي للنحل وغيرها يعني الغريزة التي أودعها الله تعالي في هذه الكائنات وجعلها تهتدي بهذه الغريزة في حياتها ومعاشها مصداقا لقوله تعالي "الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى : طه 50". فكل كائن (مبرمج ) على كيفية الحصول على غذائه وتناسله وتعامله مع الطبيعة و الوسط المحيط به. هذه البرمجة هي بلغة القرآن الكريم وحى.
5 ـ ويمتد هذا الوحي الإلهي للمادة من أصغرها ( الذرة ) إلى أكبرها من النجوم والمجرات والسماوات التي تتوضع فيما وراء الكون المرئي وغير المرئي لنا . في داخل الذرة يدور الإلكترون حول النواة لا يتوقف ولا يأخذ إجازة ، وتدور الأفلاك حول بعضها ؛القمر حول الشمس ، و الأقمار الأخرى حول كواكبها ـ وكل كواكب المجموعة الشمسية حول الشمس ، والشمس حول مركز المجرة . كل هذا التسيير الذاتي جاء بوحي إلهي ، يوجزه قول الله جل وعلا (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ( فصلت 11: 12 ). وبالطبع ليس لنا أن نتساءل عن كيفية الوحي أو التخاطب بين الخالق جل وعلا ومخلوقاته من السماوات والأرض . الذي نفهمه من القرآن أن طاعتها للخالق جل وعلا هي تسبيح لا يمكن لنا أن نفقهه لأنه فوق إدراكنا (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )( الإسراء 44 ).
هذا الوحي اللاهي للعالم المادي لا يزال مستمرا بعد خلق العالم ليشمل تدبير هذا العالم المادي وما فيه من تقلبات وكوارث ، وقد أشار الله تعالى إلى طوفان نوح على انه يدخل في هذه النوعية من الوحي ـ من بدايته إلى نهايته ـ وفق تقدير إلهي محسوب ، نفهم هذا من التدبر في قوله جل وعلا عن بداية الطوفان: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)(القمر 11: 12) وعن نهايته: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )( هود 44 ).
2 ـ والنبي موسى عليه السلام كان ينزل عليه الوحي التوجيهي قبل وبعد نزول ألواح التوراة . بدأ مع الوحي المباشر له عند الشجرة في الوادي المقدس ( طه11 ـ ) ( الشعراء 10 ـ ) ( النمل 7 ـ )( القصص 30 ـ) ثم صحبه الوحي التوجيهي بعدها في المباراة مع السحرة ( طه 68 ـ ) ومع وقوع الاضطهاد عليهم من فرعون ( يونس 87 ـ ) والهروب ببني إسرائيل وعبور البحر بهم (طه 77 ) والاستسقاء لهم ( البقرة 60 ) إلى أن جاء لميقات ربه ليتلقى ألواح الكتاب المنزل عند جبل الطور ( الأعراف 142 ـ ) واستمر بعدها
الوحي التوجيهي بأخذ العهد والميثاق عليهم عند جبل الطور حين رفع الله تعالى الجبل فوق رءوسهم وظنوا انه واقع بهم ( الأعراف 171 ).
3 ـ والنبي محمد عليه السلام نزل عليه وحي توجيهي تردد صداه في القرآن، نريى أمثلة لذلك بين :
* ثنايا الإشارة للهجرة (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( الأنفال 30 ) (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(التوبة 40 )
* وفي حروبه الدفاعية مثل بدر (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال 7) وفي غزوة ذات العسرة (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة 118 ).
*وفي علاقة النبي محمد عليه السلام بزوجاته (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) "التحريم 3 ,( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا )( الأحزاب 36 ـ ).
* وفى اختبار تغيير القبلة (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة 142 ـ ).
ولسنا في موضع التفصيل في هذا الوحي التوجيهي ولكن نؤكد على أن وحى التنزيل في الكتاب السماوي يظل مهيمنا علي ذلك الوحي التوجيهي لأنه علي أساس الكتاب السماوي ( وحي التنزيل ) وحده يتم حساب الناس يوم القيامة، وليس البشر مطالبين بشيء سواه ..
القرآن نزل مرة واحدة كتابا مكتوبا في قلب النبي محمد ثم كان ينزل متفرقا مقروءا حسب الحوادث.
ونتوقف بالتفصيل مع كيفية نزول وحي القرآن علي خاتم النبيين عليهم السلام ..
وخلافا للمألوف والمعهود فإن القرآن الكريم يؤكد علي أن وحي القرآن التنزيلي نزل مكتوبا علي قلب النبي محمد مرة واحدة ودفعة واحدة في ليلة القدر. ثم كان بعدها ينزل مقروءا على ذاكرته حسب الحوادث إلي أن انتهى نزولا بآخر آية في القرآن تقول " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا : المائدة 3"
والقرآن يؤكد أنه نزل مرة واحدة في ليلة القدر المباركة في شهر رمضان. كما أن القرآن يؤكد في سور مكية أنه نزل مرة واحدة كتابا أي مكتوبا، كقوله تعالي "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ : الكهف 1" وكقوله تعالي " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ : النحل 89" " أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ : العنكبوت 51" وحين نزلت هذه الآيات التي تخبر عن نزول الكتاب كان القرآن في مكة لا يزال يتنزل مقروءا على لسان النبي محمد, واستمر نزوله في المدينة. أي أنها تخبر عن نزول الكتاب دفعه واحدة قبل أن يتنزل على لسانه وذاكرته حسب الحوادث.
كيف نزل القرآن كتابا مرة واحدة في ليلة القدر؟
في بداية سورة الدخان يقول الله تعالي:( حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) فكيف نزل ذلك الكتاب المبين في تلك الليلة المباركة ؟.
الإجابة ترددت في القرآن الكريم في أكثر من موضع..
1ـ بعضها يؤكد على دور جبريل روح القدس الذي نزل بكلمة الله تعالي علي قلب النبي، أو كتب القرآن في قلب النبي. نلمح ذلك في قوله تعالي " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ : البقرة 97" وفي قوله تعالي " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ : النحل 102" وفي قوله تعالي " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ : الشعراء 192". ونلاحظ هنا وصف جبريل بالروح وروح القدس ، وأنه نزل على قلب النبي محمد . والقلب في المفهوم القرآني هو النفس والفؤاد ، وليس تلك العضلة التي تضخ الدم ونبض الحياة..
2ـ وبعضها يضيف لجبريل أوصافا أخري ويشير بإيجاز إلي كيفية نزول جبريل بالوحي علي قلب محمد عليهما السلام , نري ذلك في قوله تعالي عن جبريل والقرآن: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) ،وبعد هذه الأوصاف لجبريل يقول الله تعالي عن محمد مخاطبا مشركي قريش: ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) أي أنكم صحبتم محمدا قبل النبوة وعرفتم رجاحة عقله وصدقه وأمانته فكيف تتهمونه ( عندما نزل عليه القرآن وأصبح نبيا) بأنه مجنون، ثم يقول الله تعالي عن نزول القرآن من جبريل على محمد : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ( التكوير 19ـ23 ). أي أن محمدا رأى جبريل بالأفق المبين. وهذه إشارة موجزة لكيفية الوحي تفيد بأن محمدا رأى جبريل علي هيئته الملائكية الحقيقية حين كان جبريل بالأفق المبين أي الأفق الواضح الذي لا غيم ولا سحاب ولا ظلال فيه ،أي أفق في مستوى آخر من الوجود يختلف عن الأفق الذي نعرفه ..
3ـ وفي بداية سورة النجم تفصيلات أكثر مما جاء في سورة التكوير، ونتوقف معها بالتفصيل: .
تبدأ السورة بالقسم الإلهي بالنجم إذا هوى أن صاحبهم ـ أي محمدا عليه السلام ـ ما ضل وما غوى حين نزل عليه القرآن ونطق به،فما القرآن إلا وحي أوحاه الله تعالي له عن طريق جبريل الذي وصفه القرآن بأنه شديد القوي . ووصف كيفية نزول القرآن مرة واحدة علي قلب النبي ليلة القدر وكيف استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى أو الأفق المبين ثم دنا جبريل من محمد وتدلى إليه ومحمد على الأرض حتى أصبح جبريل قاب قوسين أو أدنى وتلامس المخلوقان , أحدهما علوي والآخر أرضي، وكان الملَك العلوي يحمل كلمة الله الأخيرة للإنسانية، وحين هبط علي قلب محمد وتلامس معه طبع فيه الوحي الإلهي وعندها أوحي الله تعالى إلى عبده ما أوحي وتلقي فؤاد محمد عليه السلام هذا الوحي فصار نبيا، وما كذب فؤاد محمد ما رآه بعيني القلب (النجم1ـ11)..
ـ ولأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا فان ما جاء في سورة التكوير عن نزول القرآن ليلة القدر تشرحه سورة النجم ..على النحو الأتي :ـ
الموضوع سورة التكوير سورة النجم ملاحظات
أوصاف جبريل عليه السلام إنه لقول(رسول كريم)
( ذي قوة عند ذي العرش)
( مكين )
(مطاع ثم )
( أمين ) علمه (شديد القوى )
( ذو مرة )
- أي قوة
الدفاع عن محمد عليه السلام بتذكير المشركين بأنهم صحبوه قبل النبوة وعرفوا صدقه وعقـله
(وما صاحبكم بمجنون)
(ما ضل صاحبكم وما غوى )
تأكيد هذا الدفاع بالقسم بالنجوم ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ) ( والنجم إذا هوى )
وصف كيفية الوحي ( ولقد رآه بالأفق المبين ) (فاستوى . وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى )
كيف نزل القرآن متفرقا حسب الأحداث:
والمستفاد مما سبق أن القرآن نزل كتابا على قلب النبي مرة واحدة ليلة القدر . ثم كان يتنزل على ذاكرة النبي حسب الحوادث , وفى ذلك يقول " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً : الإسراء : 106 " أي نزل القرآن المقروء بلسان النبي، نزلا تنزيلا متفرقا ليقرأه الرسول على الناس على مكث , شيئا فشيئاً . إلى أن انتهى نزولا ..
وهذا الازدواج في نزول القرآن كتابا مطبوعاً في قلب النبي مرة واحد , ثم في نزوله متفرقا على ذاكرته كان يؤثر على كيفية تلقى النبي لوحي القرآن في آياته المتفرقة .
وحتى نتخيل هذا الوضع نفترض أنك رأيت مناما قويا استكن في اللاشعور عندك . واستيقظت وأنت تحس به داخلك ولكن لا تستطيع تذكره بالتفصيل ولا تستطيع الإفصاح عما يجيش في داخلك , ثم فوجئت بما رأيته في المنام يحدث أمامك وأنت تسير في الشارع . ساعتها ستقفز الرؤيا المستكنة في عقلك الباطن ويسرع عقلك الواعي بتذكرها , ويسرع لسانك بنطق ما كنت تردده في الرؤيا ..
وهذا بالضبط ما كان يحدث للنبي في نزول الآيات , إذ إنه سرعان ما يتصاعد إلى لسانه مضمون الآية المطبوع في مكنون قلبه عندما تنزل عليه, فيسرع لسانه بنطق الآية في نفس الوقت الذي يتنزل فيه الوحي بالآية. والقرآن الكريم عالج هذه الحالة الفريدة في موضعين .. يقول تعالى للنبي " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا طه : 114 ".. أي لا يتعجل لسانك بقراءة القرآن قبل أن ينقضي الوحي . وقل رب زدني علما . والعلم المقصود هو القرآن , وهذا معنى قوله تعالى عن وظيفة جبريل بالنسبة لمحمد حين نزل بالقرآن " عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى : النجم : 5 " أي أن النبي مطلوب منه أن يدعو ربه أن يزيده وحيا أو علما بالقرآن . والعجيب أن رقم الآية هو (114) أي تشير إلى أن عدد سور القرآن سيكتمل عندما يصل العدد (114) .
وفى الموضع الآخر يقول تعالى " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ." إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" القيامة : 16 : 19 " أي ينهى النبي عليه السلام بألا يحرك لسانه بما يتذكره من الآية التي يوحى بها إليه , مكتفيا بأن يتتبع بلسانه ما يردد على ذاكرته من الوحي . والآيات تؤكد أن الله تعالى تكفل بجمع القرآن وببيان القرآن , حيث إن القرآن يفسر بعضه بعضا . كما حدث في هذه الآيات التي تفسر الآية السابقة من سورة طه .
بين نزول القرآن مكتوبا ومقروءا وبشرية النبي محمد :
بالوحي يتميز النبي ـ أي نبي ـ عن بقية البشر. بدون الوحي الإلهي هو بشر ، وبالوحي الإلهي هو أيضا بشر ولكن يوحى إليه ، أمر الله تعالى محمدا عليه السلام أن يعلن أنه بشر مثل قومه ولكن يوحى إليه: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ) ( الكهف 110).وقال الله جل وعلا عن قريش ورفضها الوحي الذي نزل على رجل منهم هو محمد بن عبدا لله : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ) ( يونس 2 ) وقال تعالى عن كل الأنبياء أنهم كانوا رجالا بشرا ولكن يوحى إليهم :(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ) ( الأنبياء 7 )
هذا الوضع الاستثنائي للنبي ـ أي نبي ـ يجعل له شخصية مزدوجة ، فهو الذي يبلغ الوحي الذي يجب على البشر طاعته ، وهو في نفس الوقت يجب أن يكون أول البشر في طاعة ذلك الوحي . بمعنى آخر يكون آمرا بصفته رسولا ينطق بالوحي الإلهي ، ويكون مأمورا بطاعة نفس الأمر الذي ينطق به ،فهو الرسول الناطق بالرسالة الإلهية والأوامر الربانية وهو في نفس الوقت ضمن البشر المطالبين بتنفيذ وطاعة تلك الأوامر البشرية.
ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا الازدواج بعض التداخل ، وأن يثير هذا الاستثناء بعض التساؤل .
منها تساؤلات عامة عن كل نبي حول مدى تطبيقه لأوامر الله جل وعلا ، وما ينزل من وحى يعلق و يعقب على ما قد يحدث من ذلك النبي من قصور يستدعى بعض المآخذ.
هذه التساؤلات تنطبق على حالة خاتم النبيين محمد عليه وعلى الأنبياء السلام .
ولكن حالة النبي محمد فريدة هنا لأسباب شتى منها : أنه خاتم النبيين أي أن رسالته هي الرسالة النهائية للبشر إلى قيام الساعة ، وهي المحفوظة من قبل الله تعالى إلى قيام الساعة. ومنها ،أنه عليه السلام قد تلقى الوحي القرآني مرة مكتوبا دفعة واحدة ، ثم تلقاه على لسانه حسب الحوادث ، وبالتالي فلا بد من التساؤل عن ذلك الوحي الذي كان يصاحب النبي في حياته معلقا عليها ، ألم يكن النبي محمد يعلمه مقدما قبل حدوثه ؟.
إن الأحداث التي جاء بها الوحي القرآني تنقسم إلى ثلاثة أنواع: أحداث تتعلق بالماضي عن الأنبياء السابقين والأمم السابقة وخلق العالم وخلق آدم ، وأحداث تتعلق بالمستقبل عن قيام الساعة وعلامات الساعة وما سيحدث في الآخرة ، وأحداث معاصرة كان الوحي ينزل تعليقا عليها بالتوجيه والتأنيب والتشريع .
وطبقا لنزول القرآن الكريم كتابا مكتوبا على قلبه مرة واحدة فالمنتظر أنه كان يعرف المكتوب في قلبه أي يعرف مقدما ما سيقع له من هزائم ومن أخطاء يترتب عليها تأنيب ، أو يعرف الأسئلة التي ستوجه إليه فيمكنه الإجابة عليها دون أن ينتظر الوحي المقروء ليقول له (يسألونك عن ..) ( قل ) .
القرآن الكريم ينفى هذا كله ، ولكن الأمر يحتاج توضيحا.
هذا التوضيح يقوم على حقيقتين من القرآن الكريم : الأولى هي حفظ الله تعالى للقرآن الكريم بما يتعدى إمكانات النبي محمد وضعفه البشرى ، والثانية هي أن النبي محمدا لم يكن يعلم الغيب ، ومن ضمن ذلك الغيب المحجوب عنه هو ذلك الوحي المكتوب في فؤاده والذي لم يكن يعرف شيئا منه إلا حين ينزل القرآن المقروء على لسانه تعقيبا على حدث ما أو إجابة على تساؤل ما.
ونعطي توضيحا أكثر:
النبي محمد كان لا يعلم الغيب :
لقد نزل القرآن مرة واحدة كتابا مكتوبا في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهو مرتبط بمغزى ومعنى تلك الليلة (ليلة القدر ) أي وثيق الصلة بما نشير إليه الآن عن الغيب المقدر للعباد من أمر الله تعالى . ومن الغيب ذلك القرآن المكتوب كتابا حكيما في قلب النبي محمد عندما التقى جبريل وكان قاب قوسين أو أدنى .
النبي محمد لم يكن يعلم الغيب ، ومن الغيب ذلك الوحي القرآني المكتوب في فؤاده . هذا المكتوب في فؤاد النبي محمد كان ضمن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله جل وعلا. ولكن بمجرد أن يأتي الوحي القرآني على لسانه تبعا للأحداث كان الغيب المكنون في فؤاده عليه السلام يصبح معلوما ، و يصعد معنى الآية إلى وعيه ويؤثر على لسانه .. ومن هنا نفهم قوله تعالى يربط بين الكتاب الحكيم والغيب (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ( البقرة 2: 3 ) ، ونفهم أيضا قوله تعالى للنبي محمد ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) ( يوسف 102) (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )( هود 49 ) (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ )(آل عمران 44 ) فلم يكن عليه السلام يعلم كل تلك الأمور الغيبية الماضية عن تفصيلات قصص الأنبياء السابقين كما لم يكن يعلم الأمور الغيبية المستقبلية التي كانت ستحدث له ، والوحي المكتوب في قلبه والذي سيتنزل على لسانه مقروءا معلقا على تلك الأحداث المستقبلية. ظل وحيا مكتوبا داخل فؤاده إلى أن نزل الوحي المقروء على لسانه فتذكر وعلم ما لم يكن يعلم.
وهكذا لم يكن عليه السلام يعلم في كل حياته ما سيجد من أحداث وما ستأتيه من أسئلة وما سيقع منه من هفوات و أخطاء يتعرض بسببها للتذكير و التأنيب ، وما كان سيحدث له من أحزان وآلام وهزائم ومكائد نزل القرآن الكريم يعلق عليها. كل ذلك كان غيبا قبل وقوعه بالنسبة للنبي محمد عليه السلام ،ثم أصبح في علم الشهادة و التحقق حين جاء وقته.وأزعم أنه لا يمكن للنبي محمد أن يعلم الغيب ، وأن يأتي التأكيد على ذلك في القرآن الكريم ليس حفظا للقرآن الكريم فقط ولكنه حجة على من أسند للنبي محمد عليه السلام زورا أنه كان يعلم الغيب أيضا.
حفظ الله تعالى التنزيل القرآني بما يتجاوز إمكانات النبي محمد البشرية:
هناك ثلاثة مراحل لحفظ الله جل وعلا للتنزيل القرآني :
الأولى : حفظه للوحي القرآني لحظة انتقاله من العالم العلوي إلى قلب النبي محمد في عالمنا المادي ، والقلب في مصطلحات القرآن هي النفس أو الفؤاد . هنا يقع المستوى اللامادي ، الذي لا نعرف عنه شيئا والذي يكتنف عالمنا المادي ويتخلله ويتجاوزه، وحيث ينعدم الزمن الذي نعرفه وتتجاوز السرعة حدود معرفتنا البشرية طبقا لإشارات القرآن الكريم.
يتضمن هذا المجال الملأ الأعلى من الملائكة ثم عالم البرزخ الذي توجد فيه النفس البشرية وعوالم الغيب الأخرى من الجن و الشياطين والقرين والملائكة خارج الملأ الأعلى. أقل المستويات في هذا العالم العلوي هو البرزخ الذي تدلف إليه النفس البشرية عندما تتحرر من روابط الجسد المادي مؤقتا عند النوم ، ومطلقا عند الموت .
حدود معرفة البشر بهذا العالم تقترب من الصفر ، ولكن العلم البشرى الآن وصل إلى حواف هذا العالم عندما تعرف على الطاقة و الأشعة والموجات ، وكلها تنتمي إلى عالمنا المادي ، وتعتبر جزءا منه، ولكنها تعتبر دليلا على وجود عوالم أخرى بذبذات أسرع وموجات أقصر وأعمق لا نستطيع الوصول إليها بحكم طبيعتنا المادية ، وإن كانت متداخلة فينا وتكتنفنا في نفس الحيّز المكاني كما يحدث في اكتنافنا بملائكة كتابة العمال حيث يتداخل في كل امرئ اثنان من الملائكة، ولن يراهما إلا عند البعث حين يتخلص الإنسان من ذلك الجسد المادي ،أو الغطاء الثقيل الذي كان يحجب عنه رؤية تلك العوالم ، يقول تعالى (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ( ق 17 : 22 ) وحيث يقوم القرين الشيطاني بتزيين العصيان لكل مجرم ابتعد عن نور القرآن ، ويظل العاصي من البشر يتبع وسوسته إلى أن يأتي يوم القيامة فيراه معه في الجحيم فيتبرأ منه بعد فوات الأوان ، يقول تعالى (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( الزخرف 36 ـ ).
ومعرفتنا المحدودة بعوالم الطاقة و الموجات مكنتنا من اختراعات اللاسلكي ثم تطورت إلى ثورة الاتصالات الحالية . وربما يقربنا هذا من فهم ما جاء في القرآن الكريم وهو يتحدث منذ 14 قرنا عن حفظ الوحي الإلهي حين كان يخترق تلك العوالم العليا من الملأ الأعلى إلى المستوى البرزخي حيث توجد نفس النبي محمد وسائر أنفس البشر ، وحيث توجد أيضا عوالم الجن والملائكة الآخرين والشياطين، وتلك الشياطين قد تخصصت في إضلال بني آدم بنفس ما يتخصص الوحي الإلهي في الدعوة لهدايتهم .
من الممكن أن نفهم وفق لغتنا البشرية أن حفظ الوحي هنا كان بمنع تداخل البث الموجي من كائنات ذلك العالم غير المادي من الجن
والشياطين مع الوحي الإلهي حتى يصل الوحي نقيا إلى نفس أو قلب أو فؤاد خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام، وأن ذلك المنع ترتب عليه طرد الجن والشياطين الذين اعتادوا التنصت على الملأ الأعلى الذي لا يقدرون على الدخول إليه .يقول تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ) ( الصافات 6 إلى 8). وحين جدّ هذا المنع تساءلوا عما يحدث لأهل الأرض، فيذكر رب العزة جل وعلا ما قالته الجن الذين آمنوا بالقرآن الكريم :(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ) (الجن 8 إلى 10).
الثانية : وبعد وصول الوحي الإلهي نقيا إلى قلب ونفس النبي محمد ـ وكل نفس بشرية في داخل جسدها هي أيضا غيب ـ فان الحفظ الإلهي يكون بالتحكم في نفس محمد خارج قدرة محمد كبشر وإنسان . هنا تأتى المرحلة الثانية من حفظ الوحي الإلهي داخل نفس محمد وفوق إمكاناته كبشر وإنسان . تأتى بعد نقل الوحي القرآني على يد جبريل مكتوبا مطبوعا في قلب النبي . وفيها لم يكن في وسع النبي وهواه البشري وضعفه الإنساني أن يؤثر في حفظ هذا الوحي أو في تبليغه.
1 ـ فالرسول مأمور بتبليغ الوحي ، وتلك هي وظيفته فما عليه سوى البلاغ ، والله تعالى قد تكفل ليس بحفظ الوحي فقط ولكن أيضا بحفظ النبي من أي تصرف بشرى يمنع الرسول أو يعيقه في عملية تبليغ الوحي ، يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (المائدة 67 )، فقوله تعالى ( ) أي يحفظك من الناس فلا يستطيع مخلوق من البشر أن يمنعك من التبليغ .
2 ـ فكيف إذا سولت للنبي نفسه أن يفترى على الله تعالى كذبا ؟ لا يستطيع ولا يملك هذا لو حتى فرضنا فرضا إنه حاول ذلك ، لأن قدرة الله تعالى ستتدخل وهى التي تتحكم في قلب النبي وتملكه ، ستتدخل لتمحو الباطل ولتحق الحق ، وسيحدث ذلك لأن القادر على ذلك هو الذي يعلم ما في الصدور ، يقول تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الشورى 24).
3 ـ فكيف إذا تقوّل بلسانه قولا ونسبه للوحي ، هنا يكون العقاب شديدا وعلنيا أمام الناس جميعا ، يقول تعالى (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (الحاقة 43 الى 47 ).
4 ـ فماذا إذا تعرض النبي لخديعة من المشركين ،بأن تسللوا إليه بالمعسول من القول كي يقول قولا ينسبه للوحي مقابل أن يتنازلوا عن شيء ، أي الوصول إلى حل وسط يرضى الطرفين ، وهو شأن مشروع في السياسة و لكن ممنوع في حقائق الإسلام وأوامره ونواهيه وشرعه ووحيه جل وعلا. ولقد تعرض النبي محمد لهذه المساومة وكاد أن يقع فيها وأن تنطلي عليه لولا تدخل الواحد القهار ، يقول تعالى:(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذَاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)(الإسراء 73 إلى 75). وهنا درس قرآني لمن يقول بعصمة النبي البشرية عن الخطأ ، فالعصمة من الله تعالى للرسول في أمور الوحي حتى يصل سليما نقيا للناس متخطيا ضعف النبي محمد كانسان وبشر. وهنا أيضا درس قرآني لكل داعية متمسك بحقائق القرآن؛ ألا يجعل منها مادة للمساومة بأن يخفي أو يتعلل ، بل عليه أن يقول الحق كاملا مع الإعراض عن الجاهلين واحتمال الأذى وانتظار الحكم عليه وعليهم إلى الله تعالى يوم الدين .
5 ـ يبقى تقرير أن الله تعالى هو صاحب الوحي الذي إذا شاء محا الوحي تماما من قلب النبي بحيث لا يستطيع النبي نفسه تذكر أو استرجاع ذلك الوحي الذي كان في داخله ، يقول تعالى:( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ) (الإسراء 86 إلى 89 ).
المستفاد مما سبق عن حفظ الله تعالى للوحي أن الوحي الإلهي قد تحكم فيه رب العزة متخطيا كل إمكانات النبي محمد البشرية ، حتى يصل نقيا للناس في نزوله وفى تدوينه ، فالمرحلة الثالثة
هي في تدوين القرآن الكريم بيد النبي محمد عليه السلام وفق رسم مخصوص وكتابة مخصوصة ، تعرضنا لها في بحث يؤكد أن النبي محمدا عليه السلام هو الذي كتب القرآن الكريم بيده.
وهنا نتذكر قوله جل وعلا (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة 16 : 19 ) فالله تعالى هو الذي تكفل بجمع القرآن الكريم وتعليم النبي قراءته ، ومسيرة تلك القراءة للقرآن بعد النبي ـ وهى قراءة واحدة وليس (قراءات ) كما يقول فقهاء التراث :(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ، ثم إن على الله تعالى بيان القرآن ، ليس فقط في داخل القرآن حيث يفسر القرآن بعضه بعضا ويفصّل بعضه بعضا ويشرح بعضه بعضا ، لكن ما جاء بالقرآن من أنباء سيأتي تحقيقها، يقول تعالى ينبئ مقدما عما سيصير إليه حال ( الصحابة ) بعد موت النبي محمد:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)( الأنعام 66 ـ) سيأتي بيان القرآن بقدرة الله تعالى خارج القرآن بيانا عمليا متجسدا في الدنيا ثم في الآخرة . وكل منا سيشهد في حياته طرفا من ذلك ، سواء في أحداث العالم التي نبّأ بها الله تعالى ، أو حين يلقى ملائكة الموت وهو على فراش الاحتضار ، حيث يرى الملائكة قبيل ترك الدنيا ولحظة دخوله البرزخ ، أو في المستقبل عند البعث والنشور و الحساب و الثواب و العقاب.
ثالثا : متى وأين نزل القرآن .. ؟؟
هناك إسراء وليس هناك معراج :
المشهور أن آيات سورة النجم تتحدث عما أسموه بالمعراج الذين يزعمون فيه صعود النبي إلى السماء . مع أن الآيات تؤكد أن جبريل هو الذي نزل حيث تقابل مع محمد , يقول تعالى عن جبريل ولقائه بمحمد عليهما السلام " وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى " أي أن جبريل هو الذي دنا فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى . ثم يقول تعالى بعد ذلك عن رؤية محمد لجبريل " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى : النجم : 13 " أي رآه حين نزل وهبط نزلة أخرى . وكان يمكن أن يقول القرآن " ولقد رآه مرة أخرى " ولكن لكي يؤكد انتفاء المعراج الذي اخترعوه فيما بعد أكد تعالى نزول جبريل للمرة الثانية فقال " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى " ..
وعموما فإن الروايات التراثية التي تثبت المعراج تقابلها روايات تراثية أخرى تنفى المعراج بل وتجعل الإسراء والمعراج معا مجرد رؤيا منامية يستطيع أي إنسان أن يراها . وروايات أخرى تؤكد على الإسراء وحده وتنفى المعراج بالمنام أو باليقظة. ( ) إلا أن القرآن الذي يؤكد حدوث الإسراء في سورة الإسراء هو نفسه الذي يؤكد في نفس السورة استحالة المعراج ( الإسراء : 93 ) وأيضا في سورة أخرى ( الأنعام : 35 ) وهذا التناقض في روايات التراث يحتم علينا أن نحتكم للقرآن الكريم في موضوع الإسراء وفى موضوع نزول القرآن الوارد في سورة النجم لنتأكد من أن القرآن يربط بين ليلتي الإسراء والقدر , أو بمعنى آخر فان الإسراء حدث ليلة القدر في شهر رمضان وليس في شهر رجب كما تدعي كتب التراث .
ليلة الإسراء هي ليلة القدر
ـ فالذي حدث أن الله تعالى أسرى بعبده ليلا , ليلة القدر ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ـ ليريه من آياته . " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ : الإسراء : 1 " وقد أسيء فهم قوله تعالى ( لنريه من آياتنا ) عندما تحولت الرؤيا في روايات الناس إلى فتنة للناس . يقول تعالى " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ : الإسراء : 60" والناس تقع في الفتنة في هذا الموضوع حين يتكلمون عما رآه النبي من خلال رواياتهم التي ينسبونها كذبا للنبي , ثم يختلفون بشأنها كما هو حادث في روايات الإسراء , وما يسمى بالمعراج . ولذلك فالأفضل أن نعتصم بالقرآن لننجو من هذه الفتنة .
والمنهج في هذا السبيل أن نتدبر آيات القرآن ونتتبع ما رآه النبي ليلة في الإسراء أو ليلة القدر .
ـ ففي سورة النجم وفى سورة التكوير يتكرر الحديث عما رآه النبي من الآيات , ولكن بتفصيل يتضح منه أنه رأى جبريل , يقول تعالى في سورة التكوير " وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ " ويأتي التفصيل في سورة النجم " مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى " إلى أن يقول تعالى " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " وهذا يشرح ما قاله تعالى فى سورة الإسراء " ..لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .. " ..
ماهية الرؤيا ليلة الإسراء أو ليلة القدر
ـ ومن خلال القرآن نتفهم ماهية الرؤيا . رؤيا الإسراء ، أو رؤيا ليلة القدر فهي رؤية جبريل وعالم البرزخ .
إن الإنسان ذلك المخلوق المادي لا يستطيع أن يرى الملائكة في هذه الحياة الدنيا . فطالما تظل النفس البشرية مسجونة داخل الجسد فإنه يستحيل عليها أن ترى من خلال ذلك الجسد عوالم البرزخ من الملائكة والشياطين والجن .
آدم وحواء في جنة البرزخ :
ـ وحين كان آدم وحواء في الجنة في مستوى برزخي كان بإمكانهما رؤية إبليس على المستوى الحسي في ذلك العالم . لذا كان إبليس في غوايته لهما بالأكل من الشجرة المحرمة يطوف معهما الجنة ويقسم لهما بأنه لهما من الناصحين , فلما ذاقا من الشجرة المحرمة تبدى جسدهما المغطى بنورانية البرزخ وحاولا تغطية جسديهما بأوراق الجنة النورانية فلم يفلحا , بينما إبليس ينزع عنهما لباسهما النوراني ليريهما جسدهما المادي البشرى " السوءة " وهبط آدم وحواء ، إلى الأرض إلى المستوى المادي وأنجبا أبناء آدم . وحرم أبناء آدم مما كان أبوهما آدم وحواء يرونه , أي إبليس وعوالم الملائكة , لذا يقول تعالى يخاطبنا " يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ : الأعراف : 27"
أبناء آدم لا يرون عوالم البرزخ طالما كانوا أحياء في الدنيا
ـ ومنذ ذلك الوقت ـ هبوط آدم وذريته إلى الأرض ـ أصبح الملائكة والجن والشياطين خارج عالم الشهادة ،وأصبحوا داخلين في عالم الغيب . ولذلك فان الإنسان لا يرى الملائكة التي تحيط به أثناء حياته , ولا يراها إلا عند الاحتضار , ثم عند الموت .
يقول تعالى عن الملائكة التي تقترن بكل إنسان تسجل عليه أقواله وأعماله "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ،مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " إلا أن يقول تعالى عن البعث " وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ : ق : 17: 20"
أي أن الملكين الموكلين بكل إنسان وهما رقيب وعتيد يتحولان عند البعث إلى سائق وشهيد . والإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يراهما , ولكنه عندما يفارق جسده المادي أو ينكشف عنه غطاؤه المادي يراهما ويخاطبهما ويصبح بصره ( بفؤاده أو بنفسه أو بقلبه ) حديدا . والنفس والفؤاد والقلب بمعنى واحد. بل إن الإنسان عندما تبدأ نفسه في مفارقة جسده بالموت يرى ملائكة الموت ويحدث حوار بينه وبينهم , ذكره القرآن , لكن الذين يتحلقون حول فراش المحتضر لا يرون ما يراه الميت ساعة الاحتضار . وفى ذلك يقول تعالى " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)" الواقعة .
تجسد الملائكة أمام البشر
ـ وفيما عدا الاحتضار واليوم الآخر فلا يستطيع الإنسان أن يرى الملائكة على صورتهم الحقيقية . لذلك كانت الملائكة تتجسد في صورة بشر حين يرسلها الله تعالى في مهمة , كالذي حدث في قصة الملائكة التي أرسلها الله تعالى لتبشر إبراهيم بإسحق ويعقوب ولتدمر قوم لوط ( هود 69ـ 83 ) وكما أرسل الله تعالى الروح جبريل إلى السيدة مريم لتحمل بعيسى عليه السلام فتمثل لها روح القدس بشرا سويا ( مريم ـ 17) .
رفض طلب المشركين لرؤية الملائكة
ـ والمشركون في قريش كانوا يطلبون من النبي محمد أن يروا الملائكة , وكان الرد القرآني ينزل بأنهم لن يروا الملائكة إلا عند الموت وعند اليوم الآخر , وكلاهما حق اليقين . وعندها فلن تكون لهم فرصة أخرى ولن تكون لهم مهلة أخرى , يقول تعالى "
وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ (8)" الحجر: ويقول تعالى " وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ : الفرقان 21،22"
خصوصية رؤيا محمد لجبريل والبرزخ
ـ وإذا كانت الرؤيا التي رآها محمد عليه السلام ليلة القدر أو ليلة الإسراء آية خاصة به , لأنه رأى جبريل على هيئته الملائكية , رآه في البرزخ بعين الفؤاد ، ورأى آيات الله في البرزخ , وذلك ما أشارت إليه سورة الإسراء " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا : الإسراء : 1 " أما سورة النجم فقد تحدثت عن بعض معالم هذه الرؤيا , ومنها أنها رؤيا بالفؤاد وأن المشركين في قريش أخذوا يجادلونه في هذه الرؤيا التي لا يستطيع وصفها لأن معانيها تخرج عن مألوف اللغة والمعنى , وكيف أنه رأى جبريل وهو يهبط مرة أخرى عند سدرة المنتهى عند جنة المأوى التي تعيش فيها أنفس الذين يقتلون في سبيل الله , والتي كان يعيش فيها آدم وزوجه قبل الهبوط إلى الأرض , وما كان يحدث في سدرة المنتهى ورآه النبي لا تستطيع لغة البشر وصفه لذا يقول تعالى " إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى : النجم : 16" , ولأنه عليه السلام كان يرى بقلبه أو بفؤاده فإن بصره المادي كان ثابتا لا يتحرك شأن المبهوت , لذا يقول تعالى " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ـ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " النجم 17 ـ 18 "
أهمية الإسراء لهذه الرؤيا المخصوصة
ولأنها رؤيا آية , ورؤيا خاصة لخاتم النبيين وحدثت في ليلة القدر فقد استلزمت استعدادا من نوع خاص , هو أن ينتقل النبي عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلا , وهذا هو الإسراء وهذه هي صلة الإسراء بليلة القدر . والجامع بينهما نزول القرآن في نفس الليلة على قلب النبي لأول مرة . وإذا كنا فهمنا الإجابة على سؤال متى نزل القرآن فإن سورة الإسراء في آيتها الأولى تجيب على السؤال الثاني وهو أين نزل القرآن في ليلة القدر , والإجابة معروفة من الآية , أنه نزل في المسجد الأقصى حيث أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ..
المسجد الأقصى هو في طور سيناء وليس القدس
ـ عفواً : ولكن أين هو المسجد الأقصى المقصود ؟ هل هو في القدس أم في مكان آخر ؟
الأصل التاريخي بين فتح الشام والدولة الأموية
إن المسجد الأقصى الموجود الآن بناه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك , وهو الذي بنى المسجد الأموي في دمشق . والمشهور في الروايات التاريخية عن فتح بيت المقدس فى خلافة عمر بن الخطاب انه لم يرد فيها ذكر لوجود المسجد الأقصى , وكل ما كان موجودا هو كنيسة القمامة أو القيامة . وقد اشترط بطريركها ألا يسلم المدينة إلا لعمر بن الخطاب , وجاء عمر بنفسه وتسلم المدينة "القدس" وحين أراد الصلاة لم يكن هناك المسجد الأقصى ليصلى فيه . وهناك رواية مشهورة تقول إن عمر رفض الصلاة في الكنيسة حتى لا تتحول فيما بعد إلى مسجد . والمهم في هذه الروايات عن فتح عمر القدس أو بيت المقدس أنها تخلو من وجود المسجد الأقصى أو ذكر المسجد الأقصى , ثم حين قامت الدولة الأموية في دمشق وتوطدت خلافة بني مروان وأصبحت الحاجة ماسة لإعلاء شأن الشام أمام الحجاز الذي يمثل المعارضة السياسية ضد الأمويين , ونذكر الوقائع الحربية بين الحجاز والشام في ثورة الحسين ثم في خلافة ابن الزبير إلى أن استقرت الأمور للأمويين في الشام , وانهزم الحجاز وبدأت الأضواء تنحسر عنه لصالح دمشق طبقا لسياسة الأمويين , وظهر هذا في خلافة الوليد بن عبد الملك , وتواترت روايات القصاصين , وهم جهاز الدعاية في الدولة الأموية تتحدث عن فضل بيت المقدس وعن المسجد الجديد الذي حمل اسم المسجد الأقصى , وتكاثرت الروايات التي تجعل الصلاة في ذلك المسجد مقدسة بالمقارنة بمسجد المدينة والمسجد الحرام , وتجعل نهاية الإسراء إليه , بل وتخترع المعراج منه إلى السماء . ثم جاء العصر العباسي فأتيح لهذه الروايات الشفهية أن تدون وتكتب في أسفار أصبحت بمرور الزمن مقدسة وتستعصي على المناقشة والنقد بدليل دهشة القارئ لما نقوله الآن .
السياق القرآني يؤكد أن المسجد الأقصى هو طور سيناء :
والموضوع طويل ولكن نقتصر منه على الإشارة الموجزة لآيات القرآن التي تؤكد أن المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء ليس في القدس وإنما في مكان آخر هو جبل الطور في سيناء. صحيح أن فلسطين وصفها القرآن بأنها أرض مباركة و مقدسة " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ : المائدة 21 " ويقول تعالى أيضا عنها " وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ الأنبياء : 71 " وهذا يتفق مع وصف المسجد الأقصى بأنه قد بارك الله حوله " إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ."إذاً فالمسجد الأقصى في الشام .
ولكن سيناء أو طور سيناء موصوفة بالبركة والقداسة في القرآن أكثر من الشام , وفوق هذا تزيد هنا على الشام باتصافها دون الشام بشيئين : الأول : الاقتران بالوحي , والاقتران بالبيت الحرام .
ـ وهنا نرتب الآيات موضوعيا لنتعرف على مكان المسجد الأقصى .. وذلك على النحو التالي .
1ـ في سورة الإسراء تتحدث الآيتان الأوليان عن نزول القرآن ونزول التوراة , والعادة أننا دائما نفصل بين الآيتين , ونقتصر في فهم الإسراء على الآية الأولى , ونتجاهل الآية الثانية ونقطع السياق بينهما , مع أن الآيتين موصولتان بواو العطف . يقول تعالى " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ " ومعلوم أن موسى أوتى الكتاب عند جبل الطور . إذن هنا الاقتران بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى . حيث حدث الإسراء من الأول إلى الثاني . ثم اقتران بين المسجد الأقصى وجبل الطور في سيناء لنفهم منه أن المسجد الأقصى هو الطور .
2 ـ وجبل الطور موصوف بالبركة والقداسة في سياق الحديث عن كلام الله تعالى موسى كقوله تعالى " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى :طه 11 , 12 "
بل إن البركة تمتد إلى شجرة الزيتون في طور سيناء حيث شهدت المنطقة المقدسة كلام الله تعالى , يقول تعالى " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ:القصص : 30" "فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا َ : النمل 8" بل إن شجرة طور سيناء وصلت بركتها إلى أن جعلها القرآن نعمة مستمرة مثل نعمة السماء والأرض والجنات يقول تعالى " وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ:المؤمنون 20 " ، بل ويقترن ذكرها بنور الله تعالى في صورة تمثيلية في قوله تعالى " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "فيقول تعالى "يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ " وتؤكد الآية أن المقصود بالنور هو الهداية " يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء:النور : 35" والهداية مرتبطة بالوحي . والنور هو الوحي الإلهي . وهذا يزيد من ارتباط طور سيناء بالوحي الإلهي . وبالتالي يزيد من ارتباط المسجد الأقصى بالطور. طور سيناء .
3ـ وجبل الطور مرتبط بنزول التوراة ارتباطه أيضا بكلام الله تعالى لموسى حين ناداه لأول مرة . كما أن جبل الطور هو الذي رفعه الله تعالى فوق بني إسرائيل في عهد موسى حين أخذ عليهم العهد والميثاق . فسجدوا على الأذقان وعيونهم تتعلق بالجبل المرفوع فوق رؤوسهم . كما أنه نفس الجبل الذي طلب موسى من فوقه أن يرى ربه ولما صعق موسى عندما تجلى ربه للجبل فإنه لابد وسجد حين قال تائبا "سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ : الأعراف : 143 "
إذن فالطور هو محل السجود أمام التجلي الإلهي في قصة موسى حين طلب رؤية الله وهو أيضا محل السجود حين رفع الله تعالى الطور أو الجبل فوق بني إسرائيل وأخذ عليهم العهد والميثاق . والمسجد من السجود .ولأن جبل الطور بعيد عن المسجد الحرام لذا جاء وصفه بالمسجد الأقصى .
4ــ وهناك صلة أخري بين القرآن وجبل الطور الذي شهد تلقي موسى الألواح (التوراة) ونريد أن نثبت الآن أن محمدا تلقى وحي القرآن مكتوبا في قلبه عند نفس الجبل .
فالله تعالى يقول عن موسى عندما جاء للقاء الله تعالي عند جبل الطور " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ :الأعراف 145 " أي تلقي موسى التوراة مكتوبة أو كتابا فيه كل شيء. وفى نفس سورة الأعراف يقول الله تعالى عن القرآن " وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً : الأعراف :52 " وآيات كثيرة تصف القرآن بأنه جاء تفصيلا لكل شيء يحتاج للتفصيل ولكن المهم هنا أن وصف القرآن في سورة مكية بأنه كتاب مكتوب بل إن افتتاح سورة الأعراف تتحدث عن نزول القرآن مرة واحدة " كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ : الأعراف : 2" أي أنه كما تلقى موسى كتاب التوراة مكتوبا عند طور سينا فكذلك تلقى محمد القرآن مكتوبا على قلبه في نفس المكان .
5ــ وصلة أخرى بين القرآن وجبل الطور الذي رفعه الله تعالى فوق بني إسرائيل حين أخذ عليهم العهد والميثاق .
وتتجلى هذه الصلة حين اختار موسى من قومه سبعين رجلا للقاء الله تعالى عند جبل الطور ليعلنوا توبتهم وأسفهم على عبادة العجل .وحين جاؤوا لميقات الله تعالى عند الطور أخذتهم الرجفة ، وطلب موسى العفو والغفران وأن يكتب الله تعالى لهم الرحمة ، ورد الله تعالى عليهم بأنه سيكتب رحمته للمؤمنين " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ : الأعراف 157" .
أي أن التوراة التي نزلت على موسى في جبل الطور تحدثت عن رسالة خاتم النيين ثم أخبر الله تعالى موسى فيما بعد أنه سيكتب رحمته لمن يؤمن بالرسول الأمي الذي نزلت بشارته في التوراة وستنزل بشارته في الإنجيل أي أنه في نفس المكان جبل الطور أخبر الله تعالى بالرسالة الخاتمة وصاحبها في حياة موسى.
6ــ وكما تحدثت التوراة ونزل الوحي على موسى يتحدث عن القرآن والنبي الأمي فأننا نجد نفس الشيء في حديث القرآن عن التوراة وعن موسى . فالحديث القرآني عن قصة موسى وبني إسرائيل يعدل حوالي نصف قصص الأنبياء في القرآن، والحوار مع بني إسرائيل وتذكيرهم بالتوراة الحقيقية أكثر من حوار القرآن مع أهل مكة أنفسهم . وبالرغم من وجود رسالات سماوية بين التوراة والقرآن فإن الله تعالى يصف التوراة في القرآن بما يصف به القرآن وينقل آيات من التوراة إلي القرآن ، ونراجع علي سبيل المثال : (الأنعام 91 :92, 154: 155, المائدة 43: 45 ،القصص 43, الأحقاف 30, الأعلى 19, الشعراء 192 :197 ).
والعجيب أن سورتي الإسراء والنجم نجد فيهما ذلك التزاوج بين القرآن والتوراة، وهما السورتان اللتان تتحدثان عن نزول القرآن . فسورة الإسراء ـ التي تسمى أحيانا سورة بني إسرائيل ـ تبدأ آياتها بالحديث عن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفي الآيات التالية تتحدث عن نزول التوراة وتاريخ بني إسرائيل وفي نهاية السورة عودة للحديث عن موسى وبني إسرائيل مرتبطا مثل البداية بالحديث عن نزول القرآن . والأعجب أن نهاية السورة تتحدث عن نزول القرآن مرة واحدة " وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " , ثم تتحدث الآية التالية عن نزوله متفرقا " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " ثم يخاطب الله تعالى العرب المشركين قائلا " قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ " , ويذكرهم بأن علماء بني إسرائيل إذا يتلى عليهم القرآن يخرون للأذقان سجدا ويتذكرون العهد والميثاق القديم الذي أخذه الله تعالى على أجدادهم حين رفع فوقهم جبل الطور، لذلك فإن أولئك العلماء يخرون للأذقان بنفس الهيئة التي كان يسجد بها أسلافهم حين كانوا يسجدون على الأذقان وينظرون بعيونهم إلى الجبل المعلق في الهواء فوقهم والمعنى أن أولئك العلماء يربطون بين نزول القرآن عند جبل الطور وما حدث سابقا عند جبل الطور، من نزول التوراة ومن التبشير فيها بالقرآن ، ومن أخذ العهد على أسلافهم بأن يؤمنوا بالقرآن ، وطالما كان من حظهم أن يشهدوا الرسالة الخاتمة فإنهم " ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا : الإسراء 101 ـ 109 "
أما سورة النجم فقد افتتحت بنزول القرآن ثم تحدثت في نهايتها عما جاء في صحف موسى "أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى " النجم : 36 , ونقلت إلي نهاية السورة "62" آيات من التوراة ومن رسالة إبراهيم ..
الاقتران بين الطور والبيت الحرام
و تبقى نقطة أخيرة ، وهي: إن آية الإسراء أشارت إلى المسجد الحرام (مكة) كما أشارت إلى المسجد الأقصى .والسؤال الآن ، إذا كان المسجد الأقصى هو في طور سيناء فلا بد أن القرآن الذي يفسر بعضه بعضا أن يرد فيه ذلك التزاوج بين المسجد الحرام وطور سيناء في مواضع أخرى لتؤكد نفس المعنى الوارد في سورة الإسراء..
والأمر لا يحتاج إلى كبير عناء ..
ـ فالله تعالى يقول: " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ،وَطُورِ سِينِينَ ،وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. " الزيتون دلالة على طور سيناء. أو سنين . والحديث عن طور سينين يقترن بالبلد الأمين وهي مكة التي جعلها الله تعالى مثابة للناس وأمنا . إذناً فالله تعالى يقسم بطور سيناء وأهم نعمة أو بركة فيه وهي التين والزيتون , كما يقسم بالبلد الحرام واهم نعمة فيه وهى الأمن .
ـ وفى سورة الطور يقسم الله تعالى بطور سيناء وبالبيت الحرام المعمور "وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ "ونلاحظ أن الحديث عن القرآن الكتاب المسطور جاء بين الطور والبيت المعمور . لأن القرآن نزل حين أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في طور سيناء ..
أي أن ليلة القدر أو ليلة الإسراء وما رأى النبي فيها من آيات إنما حدثت في طور سيناء . وأن المسجد الأقصى ليس في بيت المقدس الذي لم يرد ذكره مطلقا في القرآن . وإنما هو في طور سيناء. الذي تردد ذكره والإشادة به في كتاب الله العزيز . إن روايات التراث ودوافعها السياسية هي السبب في تجاهلنا لقيمة سيناء وهى بالصدفة جزء من مصر , وبالمناسبة فإن مصر هي البلد الوحيد الباقي الذي تكرر الحديث عنه بالاسم والوصف في عشرات الآيات القرآنية .
والخلاصة مما سبق :ـ
1ـ إن الملمح الأول من ليلة القدر هو نزول القرآن مرة واحدة مكتوبا في قلب النبي . ثم كان ينزل على ذاكرته حسب الحوادث . ولا يتذكر المكتوب في قلبه إلا عند الوحي الشفهي . إذ كان عليه السلام لا يعلم الغيب,وبعض المكتوب في قلبه من التنزيل كان يخبر بالمستقبل .
2ـ في ليلة القدر أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى , أي أن ليلة الإسراء هي نفسها ليلة القدر في شهر رمضان . وفى هذا الحدث اجتمعت طهارة الزمان وطهارة المكان . بركة الزمان والمكان . فالليلة مباركة وخير من ألف شهر والمسجد الأقصى بارك الله حوله , وكل ذلك لأن الوحي القرآني موصوف بالبركة " الأنعام 92, 155, الأنبياء 50 , ص 29 " ..
3ـ في ليلة القدر التي هي ليلة الإسراء كان الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في جبل الطور , حيث كان الله تعالى يكلم موسى وحيث أنزل عليه التوراة , وحيث رفع الجبل وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل , وحيث كان التبشير بنزول القرآن في إطار ذلك كله . ولهذا اقترن جبل الطور بالقداسة والبركة والطهر , كما اقترن جبل الطور أو المسجد الأقصى بالمسجد الحرام أو مكة , وذلك في سور الإسراء والتين والطور ..
4ـ الروايات التاريخية التراثية هي المسؤولة عن ذلك الخلط الذي وقعنا فيه. إذ تجاهلت طور سيناء وأدت العوامل السياسية إلى إطلاق المسجد الأقصى على الذي بناه الوليد بن عبد الملك الأموي في القدس . ولم يكن موجودا ذلك المسجد عند فتح القدس . بل إن القرآن لم يتعرض مطلقا للقدس أو بيت المقدس . إذ لم يذكر سوى البيت الحرام والطور , ووصفهما بالبركة . كما أشار إلى مسجد المدينة أيضا ( التوبة 108 , 109 ) ولو كان ذلك المسجد الأقصى موجودا فعلا في فلسطين وتم الإسراء إليه لتردد ذكره في القرآن بديلا عن طور سيناء ولاختلاف الروايات التاريخية عن فتح فلسطين بالاستيلاء عليه والصلاة فيه . ولكن ذلك لم يحدث .
نزول الأقدار ليلة القدر
ـ قلنا أن الله تعالى خلق الكون من أجل اختبار الإنسان , والملائكة عنصر أساسي في تجهيز ذلك الاختبار . وليلة القدر هي الموعد السنوي لنزول الملائكة بالأقدار , كما كانت موعدا لنزول القرآن .
ـ وفلسفة الاختبار تقوم على أساسين :
(1) ـ حرية الاختيار بين الطاعة والمعصية والإيمان والشرك .. ثم
(2) ـ هناك حتميات على الإنسان التعرض لها دون اختيار , أو الأقدار الحتمية التي لا يحاسب عليها الإنسان مثلما يحاسب على نتائج حريته في الاختيار . وهذه الأقدار الحتمية تبدأ بتحديد الميلاد ومن هم الآباء وتنتهي بتجديد موعد ومكان الموت . وبين الميلاد والممات هناك حتميات أخرى في العمر , مثل الرزق والمصائب التي لا دخل للإنسان بها . أي انه منذ هبوط آدم للأرض ، فإن الله تعالى قد عين لكل إنسان موعد ميلاده وحدد له آباءه , وضمن له رزقه , وكتب عليه المصائب التي سيقابلها والرزق الذي سيدخل جوفه , ونهاية عمره , ومقدار عمره , وكيفية وتوقيت هذا العمر وذلك الموت . والإنسان يتقلب بين هذه الأقدار الحتمية ويمارس حريته في الإرادة والاختيار إلى أن يموت .
وهكذا إلى أن يدخل في هذه " التجربة " أو ذلك الاختبار كل إنسان ، عندها تقوم القيامة , ويأتي يوم الحساب , ويأتي لقاء الله تعالى , حيث تأتي كل نفس بشرية يصحبها اثنان من الملائكة رافقاه في رحلة عمره " سائق وشهيد "ليحاسبه ربه على الاختبار الدنيوي.
ـ إذن فالروح جبريل نزل ليلة القدر بشيئين .. الوحي القرآني , وأقدار الناس . وبينما يتمتع الناس بالحرية في التمسك بالشرع الإلهي وتكمن مسؤوليتهم على ذلك يوم الحساب ، فإن الناس ليست لهم حرية الاختيار في تحديد الآباء والميلاد والموت والرزق والمصائب وبينما انتهى الوحي السماوي للأنبياء بنزول القرآن على خاتم النبيين فإن المهمة الباقية لجبريل هي النزول بأقدار الناس الحتمية . وتظل هذه مهمته كل ليلة قدر ، كل عام إلى انتهاء العالم .
الحتميات موجودة في علم الله تعالى الأزلي :ـ
يؤكد رب العزة على أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى وما تنقص الأرحام وما تزداد , وكل شيء عنده تعالى بمقدار (الرعد : 8) أي أن حمل الأنثى للجنين وولادتها له يكون بعلم سابق وأزلي عند الله تعالى .
وفى نفس المعنى يؤكد رب العزة انه ما من أنثى تحمل ولا تضع حملها إلا بعلمه , كما أن العد التنازلي للمولود يبدأ من لحظة الميلاد , إذ إن عمره مقدر سلفا وموعد موته مقدر مع موعد ميلاده . وقبل أن يؤول إلى المستوى الحسي. لذلك فإن كل دقيقة يمضيها من عمره يتناقص بها عمره المحدد .لأن العمر هو الشيء الوحيد الذي إذا طال قصر المتبقي منه . وذلك معنى قوله تعالى " وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ.. فاطر : 11 ".
ـ وفى نفس الكتاب المكتوب عند الله تعالى نجد الرزق الذي ضمنه الله تعالى لكل دابة على الأرض , ويقع هذا الرزق المضمون مع أشياء أخرى مسجلة منذ الأزل في علمه تعالى , يقول رب العزة " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ .. هود : 6 " أي أن مستقر الدابة على الأرض ومستودعها النهائي فيها مسجل سلفا مع الرزق في علم الله تعالى , وكل المستقبل الموعود من رزق وغيره نجده في علم الله تعالى " وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ : الذاريات 22 , 23 ".
ـ والإنسان العادي يخشى الموت , ولكن القرآن يقول " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ .. الجمعة :8 ".
لأنه لابد أن يلاقيك في لحظة مقدرة سلفا لا تستأخر عنها أو تستقدم ساعة . لذا : حين قال بعض المنافقين بعد غزوة أحد متحسرا على القتلى " لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا " كان الرد من الله تعالى " قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ : آل عمران : 154 ". أي أن الذي جاء أجله سيذهب إلى المكان المحدد له الموت فيه في اللحظة المحددة لموته سلفا . ويلقى اجله بالموت أو بالقتل .وهذا معنى تسمية الموت " بالأجل ". أي أنه بالوقت المحدد الذي ستسير إليه حتما .
ـ والإنسان العادي يتحاشى المصائب , ولكن المؤمن يعلم أن المصائب مقررة سلفا على كل إنسان . طبقا لقوله تعالى " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ : الأنبياء : 35 " . ولذلك فإن المؤمن يقول " قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا : التوبة : 51 " . أي من بين كل احتمالات الخير والسوء مما لا دخل لك به فلن يصيبك إلا ما كتبه الله سلفا لك أو عليك من ابتلاء بالخير أو بالشر . والتزاوج مستمر بين الشر والخير , والأمر فيها نسبي , لذا فالمؤمن يعلم أن كل ما يقع في الأرض من حتميات لا يستطيع التحكم بها إنما هو مقدر سلفا في كتاب الله تعالى قبل خلق الأرض والبشر . يقول تعالى " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ الحديد 22, 23" .
ـ إذاً هو تسجيل سابق في علم الله يحتوى على حتميات يتعين على كل إنسان أن يواجهها في ميلاده وفى حياته وفي موته . ولكن هذا التسجيل السابق الغيبي يلحق به في مسيرة كل إنسان تسجيل لاحق يحصي عليه كل أعماله وخواطره وأقواله , ويأتي الحساب على حريته في الإرادة , وليس على الخطأ والنسيان والإكراه والإجبار والنوم والجنون فيما قال وفعل . وفى هذا التسجيل للكتاب اللاحق يقول تعالى " وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا .اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ، مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا : الإسراء : 13: 15" . أي أن ما يطير عنك إلى عالم البرزخ من أعمال وأقوال يتم تسجيلها وحفظها , وتتجمع فى كتاب يحوي تاريخك يتم قفله عند الموت وتراه عند البعث والحساب منشورا يوم القيامة .
إذن هناك تسجيلان لك . تسجيل بالحتميات التي ستقابلها في حياتك الدنيوية ولن تحاسب عليها . وتسجيل بأعمالك , وهو محل الاختيار والاختبار والمساءلة يوم الحساب .
والتسجيل السابق في علم الله تعالى الأزلي يظل علما مكتوبا , ولكنه يتحول إلى دائرة الفعل والتطبيق عن طريق الملائكة . تتلقاه الملائكة وتنزل به إلى الأرض والبشر في موعد محدد كل عام , هو ليلة القدر .
الملائكة وانتقال الحتميات من دائرة العلم إلى دائرة الفعل :ـ
الزمن هو الحاضر الغائب هنا .
ـ كما تعلم فإن الزمن هو الضلع الرابع للمادة . وحيث توجد المادة يوجد الزمن , والإنسان بجسده ونفسه ، يعيش في إطار الزمن , فإذا نام وتحررت نفسه من أسر الجسد تحرر أيضا من أسر الزمن . فإذا استيقظ عاد للجسد والزمن معا . ونفس الإنسان في النوم وفى الموت تعود إلى عالم البرزخ الذي أتت منه . إلا أنها فى حالة النوم تعود بالاستيقاظ , وفى حالة الموت لا تعود إلا عند البعث . وفى الحالتين معا فإن الإنسان حين يعود لليقظة أو عند البعث فلا يحس بالزمن الذي انقضى عليه وهو البرزخ . يعتقد في كل الأحوال انه نام أو مات يوما أو بعض يوم . قالها الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه ( البقرة 259 ) وقالها أصحاب الكهف (الكهف 19) وسيقولها المجرمون عند البعث (الروم 55 ـ) أي أن البرزخ ليس فيه زمن . أو أن زمنه معكوس أو مختلف .. علم ذلك في غيب الله تعالى .
ـ ولكن الله تعالى يخبرنا في كتابه باختلاف الأزمنة فيما يتعلق باختلاف المستويات والأوامر .
فالله تعالى يقول " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . النحل : 1". أي أن أمر الله تعالى بقيام الساعة قد صدر فعلا طبقا للمستوى الإلهي في الأمر . لكن تطبيق هذا الأمر بقيام الساعة يستلزم أن نصل نحن إلى الزمن المناسب المقدر سلفا , لذلك يقول الله تعالى " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . " .
وهناك مثل آخر على تفاوت الزمن ، فالله تعالى يقول في سورة الأحزاب بعد موقعة الأحزاب عن اليهود " وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا: الأحزاب 27" . وحين نزلت الآية كانوا قد ورثوا فعلا بني قريظة بعد خيانتهم العهد . ولكن الأرض الأخرى التي لم يطؤوها بعد لم يكونوا قد ورثوها بعد . وهذا ما حدث في الفتوحات . ونزل القرآن يخبر به من علم الله تعالى الغيبي . والمعنى أن الأمر الإلهي قد صدر ولكن التنفيذ يأتي في أوانه .
ـ واختلاف الزمن بين عالمنا الأرضي وبين العوالم الأخرى يقول عنه رب العزة " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ . الحج 47 " . ويقول تعالى في سرعة تردد الأمر بين السماء والأرض " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ: السجدة 5 " . وهذا الاختلاف الزمني يستلزم نقطة زمنية للالتقاء , هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر . وحيث يتكرر شهر رمضان ألف مرة كل عام فان ذلك اليوم الإلهي الذي تتلقى فيه الملائكة أوامر الله تعالى وأقداره للبشر وتنزل به للبشر يساوى هو الآخر ألف سنة في حساب الزمن الأرضي .
ـ وحتى نزيد الأمر وضوحا فإننا نعطى مثلا بحياة نفس بشرية هي فلان .
فلان هذا خلق الله تعالى نفسه البشرية في نفس الوقت الذي خلق فيه كل الأنفس البشرية معا . لأن الله تعالى خلق الأنفس البشرية كلها معا . وذلك في عالم البرزخ , ويقول تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ : النساء : 1" , " وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ " الأنعام : 98 ". أي من نفس واحدة خرجت كل الأنفس البشرية , في كل منها مستقر الأنفس السابقة التي تسلسلت عنها , وفيها مستودع الأنفس اللاحقة التي سـتـتـسـلـسل عنها . وعند البعث يحدث الأمر ولكن بصورة عكسية , حيث ترجع الأنفس إلى الأصل الواحد الذي صدرت عنه , يقول تعالى " مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لقمان : 28 " .
والمهم ونحن نرجع الآن إلى نفس فلان التي خلقت مع جميع الأنفس البشرية في وقت واحد . تظل في البرزخ ميتة إلى أن يأتي دورها المقدر لتدخل اختبار الحياة ، وفى الموعد المحدد يتم نفخها في الجنين وقد تم الاختيار الإلهي لموقعها في التسلسل بين آبائها وذريتها . وحين ترتدي النفس زى الجسد تخضع للزمن الأرضي وتخرج للحياة لتواجه اختبار الدنيا بحريتها في الإرادة ولتواجه الحتميات الأخرى ومنها الرزق والمصائب وتحديد موعد ومكان الموت . ثم يأتيها الموت وترى عنده ملائكة الموت وتعلم مصيرها وتعود إلى البرزخ .
وفى هذا البرزخ توجد الأنفس الأخرى التي أخذت تجربتها في الحياة , والأنفس الأخرى التي لم تأخذ تجربتها بعد . ولكن الأنفس التي أخذت تجربتها في الحياة تصطحب معها نتيجة التجربة . حدث هذا مع الآباء وسيحدث مع الأحفاد الذين لا تزال نفوسهم ميتة في عالم البرزخ لم تدخل تجربة الحياة بعد .
وما حدث مع نفس فلان . سيحدث مع كل فلان إلى أن تأخذ كل نفس تجربتها واختبارها وبعدها تقوم الساعة .
ـ ولكن ما دور الملائكة هنا ؟ وما موقع ليلة القدر في قصة نفس فلان هذا ؟.
إن نفس فلان في موتتها الأول قبل أن تدخل تجربة أو اختبار الحياة لا تعلم عنها الملائكة شيئا . إنها رقم مستقر في علم الله تعالى لم يدخل بعد في دائرة الفعل والتنفيذ . وحين يأتي الأمر الإلهي بتوقيته وتحقيقه وإدخاله الاختبار تتلقى الملائكة والروح رقمه ضمن أرقام المواليد المقرر ولادتهم في العام القادم . ويحدث ذلك ليلة القدر , ويشمل الأمر كل ما تحمله الملائكة في هذه الليلة من علم الله تعالى الذي سيتحقق في العام القادم من مصائب وأرزاق ومواليد ووفيات.إذاً في ليلة القدر يأتي الأمر الإلهي بولادة فلان في الوقت المحدد لولادته , وفى ليلة القدر في العالم التالي يأتي ما يتعرض له من أقدار،وهكذا كل عام مقدر له أن يعيشه في هذه الدنيا،إلى أن تأتى ليلة القدر الأخيرة في عمره برقمه بين وفيات العام القادم.
هذا ما يحدث لفلان الذي هو أنا وأنت وهو و هي .. فأنا مثلا قبل موعد ميلادي بخمس سنوات كنت مجرد رقم ثم تحول هذا الرقم إلى حادث يوم أن تم نفخ نفسي في قطعة لحم حية في رحم والدتي .
ثم خرجت إلى الحياة بالميلاد . وفى كل ليلة قدر تنزل فيها أقداري للعام المقبل .والله تعالى هو الأعلم متى ستأتي ليلة القدر التي تحمل فيها الملائكة موعد موتي في العام التالي .
ـ وبالتأكيد فإن هناك ملائكة الموت الذين يتسلمون الأوامر الإلهية من الروح والملائكة أصحاب " الملأ الأعلى " الذين يتنزلون بالأوامر الإلهية وأقدار البشر ليلة القدر .
أي أنه إلى جانب الروح والملائكة هناك ملائكة أخرى تقوم بتحويل الأوامر إلى أعمال . وأبرزهم ملائكة الموت الذين يقبضون النفس عند انتهاء أجلها . وملائكة الموت يتبعون ملك الموت . ولهذا فإن حديث القرآن عن الموت له مستويات ثلاثة : المستوى الإلهي بالأمر الذي تنزل به الملائكة والروح "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الزمر : 42 " , ومستوى التنفيذ العلوي لملك الموت " قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ السجدة : 11 ". ثم أتباع ملك الموت من رسل الموت " حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ : الأنعام 61 ", وما ينطبق على الموت ينطبق على غيره من الحتميات ..
نبذة عن ليلة القدر في ضوء العلم الحديث
ـ كاتب هذه السطور ليس متخصصا إلا فى القرآن والتراث . وبالتأكيد فان المتخصص في العلم الحديث يستطيع أن يعيد كتابة الصفحات السابقة بصورة علمية تربط بين الآيات القرآنية وما وصل إليه العلم الحديث . مع الأخذ في الاعتبار أن الإعجاز القرآني متجدد , وأن هناك مناطق في القرآن لم يصل إليها العلم الحديث بعد ..
لكن كاتب هذه السطور في محاولته المتواضعة إنما يقدم دعوة للمتخصصين في العلم ليقدموا اجتهاداتهم حول ليلة القدر ، وبنفس الإخلاص يقدم دعوة أخرى لكل مسلم لكي يعطى القرآن العظيم بعض حقوقه علينا في التدبر والتقدير والتقديس والاهتمام ..
ـ ومما لا شك فيه أن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات قد أشعرت الإنسان بقدرة الله تعالى أكثر , بحيث تضاءل عدد الذين انبهروا قديما بمنجزات الثورة الصناعية , فقد اتضح أن الجزء الخفي الغيبي في مجال إدراكنا البشري يمكن استخدامه . ونرى تكنولوجيا هذا الاستخدام في التليفون المحمول والتليفزيون والأقمار الصناعية والانترنت , وكلها تؤكد أن مجال التقدم العلمي القادم سيكون أكثره في العالم الخفي عنا الذي يقع في مجال إدراكنا البشري . وذلك يؤكد أيضا أن عالم الغيب الذي يقع خارج إدراكنا البشري مثل عوالم البرزخ والملائكة والجن والشياطين سيكون من السهل الإيمان بها علميا , بعد أن اتضح أن عالمنا المادي الظاهر ليس إلا قمة جبل الثلج الطافي .
على أن بعض الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان واستخدمها من تكنولوجيا قد جعلته يلامس بعض مظاهر عوالم البرزخ . ونعطى لذلك بعض الأمثلة المتصلة بموضوعنا عن ليلة القدر وملامحها من الملائكة ونزول الوحي ونزول الأقدار ..
ـ أعلن اينشتاين نظريته النسبية الخاصة سنة 1905 م أكد أن الكون المادي رباعي الأبعاد . ( المادة + الزمن ) وأن سرعة الضوء في الفراغ هي الثابت المطلق والحد الأقصى للسرعة الكونية في هذا العالم المادي , وكل المقادير الفيزيائية تنسب لهذه السرعة (186 ألف ميل/ ثانية ) أو (299792.5كم / ثانية ) ..
وفى مقال للدكتور منصور حسب النبي في الأهرام ( 11/5/1995 ) قام بتفسير علمي لقوله تعالى " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ : السجدة : 5" , " وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ : الحج : 47 " فقال إن العبارة القرآنية " مما تعدون " أي بالحساب البشرى , أي بالزمن الأرضي وعليه فإن المسافة التي يقطعها الأمر الكوني في زمن يوم أرضي تساوي في الحد والمقدار المسافة التي يقطعها القمر في مداره حول الأرض في زمن ألف سنة قمرية بحساب أهل الأرض . وبحل هذه المعادلة القرآنية ينتج لنا أن سرعة هذا الأمر بالحساب الأرضي يساوى بالضبط سرعة الضوء فى الفراغ أي186 ألف ميل في الثانية أو 299792.5كم /الثانية وفي نفس المقال يقول د. منصور حسب النبي أن معادلات اينشتاين تنبأت قبل نظرية الأوتار الفائقة باحتمال تجاوز سرعة الضوء لجسيمات افتراضية غيبية ذات كتلة تخيلية تسمى التاكيون .
كما تنبأت نظرية الأوتار الفائقة بوجود كون آخر سداسي الأبعاد متداخل مع كوننا الرباعي الأبعاد والسرعة فيه تفوق سرعة الضوء ولكنها لا تخضع لقياسنا . أي أنه عالم الغيب الذي تحدثت عنه الرسالات السماوية والذي تشكل ليلة القدر نقطة اتصال بينه وبين عالم الشهادة ..
ـ ولنفترض أن فلانا يعيش في القاهرة وله أخ يعيش في الإسكندرية وكان قدر أخيه في الإسكندرية أن يموت في الساعة العاشرة من صباح أول مايو في حادثة في المكان الفلاني . ولنفرض أن فلانا هذا يريد السفر إلى أخيه في الإسكندرية في توقيت مقارب للحادث الذي سيحدث لأخيه وهو لا يعلم بالضبط , وان كان ذلك الحادث قد تم تضمينه ضمن الأقدار وذلك ليلة القدر في شهر رمضان الحالي والتي ستحدث في العام التالي .
والمهم أن صاحبنا يسافر إلى أخيه في الإسكندرية والمسافة بين القاهرة والإسكندرية ( 250كم ) ونريد أن نجعله يصل إلى أخيه في نفس اللحظة التي ستحدث له فيها حادثة موته . فإذا ركب قطارا سيصل إلى أخيه بعد الحادثة بعدة ساعات . فإذا ركب طائرة وصل بعد الحادثة بأقل من ساعة ولكنه إذا سافر بسرعة الضوء فقد يصل عند الحادثة بالضبط , أي أن الزمن يتضاءل حسب السرعة , فإذا سافر الإنسان بسرعة الضوء انمحى الزمن . ولكن يبقى أن الضوء في حد ذاته مادة . فإذا سافر الإنسان فرضا بسرعة تفوق سرعة الضوء فإنه حينئذ يرى الحادثة قبل وقوعها . أي يراها في عالم الغيب.. وهذا يحدث .. في الأحلام التي تنبئ عن المستقبل ..
ففي المنام تتحرر النفس البشرية من الجسد وتظل على صلة خفية به . ولأنها تنتمي إلى عالم البرزخ حيث السرعة فيه تفوق سرعة الضوء في عالمنا المادي فإن النفس في تجوالها بهذه السرعة قد تصطدم ببعض الأحداث وهى في صورة معنوية لم تتجسد واقعا ماديا في دنيانا . ولهذا ترى هذه المعاني في صورة تحتاج في اليقظة إلى تأويل وتفسير وتحقيق وقصة يوسف خير مثال على ذلك , إذ إنها قامت على أربع رؤى صادقة رؤيا يوسف ورؤيا صاحبي يوسف في السجن , ورؤيا الملك . والأنفس الأربعة لهم جالت في البرزخ ورأت أحداثا مستقبلية . ودارت الأيام وتحققت هذه المنامات . وهذا يعنى أن هناك مستويات مختلفة للملائكة وسرعاتها وتعاملها مع الأوامر الإلهية . وفى سورة المعارج يقول تعالى عن الروح والملائكة العلويين " تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ : المعا رج : 4"
أي أن الأمر الإلهي يأخذه جبريل والملائكة العُلْويون في زمن مختلف عند العروج لله تعالى , ثم يأخذ هذا الأمر مقياسا آخر في مستوى اقل في التعامل بين الملائكة حيث يساوى ألف سنة بحسابنا الأرضي . والنفس البشرية في المنام قد تتجول فتصطدم بنبأ في مستوى الألف عام , وقد تصطدم بنبأ في مستوى اعلى . ولكن ليلة القدر تتنزل فيه الأوامر والأقدار التي للعام التالي .. والله تعالى أعلم.
ـ والدكتور حسب النبي تحدث عما أشارت إليه النظرية النسبية ونظرية الأوتار الفائقة من وجود عالم سداسي الأبعاد متداخل مع عالمنا الأرضي الرباعي الأبعاد , والسرعة فيه تفوق سرعة الضوء . وهو هنا يشير إلى اكتشاف آخر أكثر غرابة .
فقد اتضح أن ذرات المادة الأرضية تدور بسرعة تتراوح بين 400 مليار دورة إلى 750 مليار دورة في الثانية الواحدة , وإذا استطاعت ذرة مادية أن تدور فوق 750 ألف مليون دورة في الثانية فإننا لا نستطيع أن نراها . وهذا يفسر لنا السبب في أن مروحة الطائرة إذا اشتد دورانها فإننا لا نراها مع أنها موجودة .. وهكذا بالنسبة لذرات الهواء والذرات المتطايرة من المواد الأخرى والتي نحس بها عن طريق الرائحة دون الرؤية ..
وذرات العالم السداسي الأبعاد أسرع دورانا وبهذا تخرج عن المستوى الاهتزازي لعالمنا المادي فلا نستطيع أن نراها . ومن العالم الذي لا نراه الجن والملائكة والشياطين , وحتى النفس البشرية خارجا عن الجسد . وقد دل علم الميكانيكا الموجية على أن الأساس في تداخل الأجسام أو عدم تداخلها يرجع إلى اختلاف المستوى الاهتزازي لهذه الأجسام أو تطابقه . فإذا كان المستوى الاهتزازي لهما واحدا لانتمائهما إلى نفس العالم فان تداخلهما يكون مستحيلا , فلا يستطيع الإنسان أن يخترق بجسده الحائط لأن المجال الاهتزازي بينهما واحد . أما إذا اختلف المجال الاهتزازي فيستطيع الكائن الأكثر اهتزازا أن يخترق الكائن الأقل اهتزازا . فالجن والملائكة تستطيع اختراق الجسد الإنساني والعالم المادي . ويكون التداخل بينهما طبيعيا . وعلى ذلك فان وجود جسمين أحدهما أرضى والأخر برزخي متداخلين ويشغلان مكانا واحدا في وقت واحد يعتبر ظاهرة طبيعية يؤيدها العلم . وجهاز الراديو أبرز مثال على ذلك فالكون ممتلئ بموجات لاسلكية تخترق الجدران لأن ذبذباتها أعلى من نظيرتها في العالم المادي وهي في نفس الوقت مختلفة الذبذبات لذلك تتداخل في جهاز الراديو ولا يحس بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض , وكلها في نفس جهاز الراديو , فإذا استقر مفتاح الراديو على موجة معينة التقطها دون أن يعوقه وجود موجة أخرى في نفس المكان أو نفس المحطة لأنها ذات ذبذبة أخرى . فإذا أردنا التشويش على محطة بعينها استخدمنا نفس الذبذبة ..
إذاً فالإنسان يعيش في عالمين متداخلين ولكل منهما مستوى اهتزازي يغاير الآخر . ويتداخل الجسمان : الجسد الأرضي والنفس البرزخية في كائن واحد ومكان واحد .
والإنسان أيضا لا يرى الملائكة بعين جسده , ومن الملائكة رقيب وعتيد , وهما مقترنان بكل إنسان يحفظان أعماله , ومع اقترانهما به ومعرفتهما به فإنه لا يدرى عنهما شيئا . ولا يكشف ذلك إلا عندما يموت لحظة الاحتضار وعند البعث عندما ينكشف عنه الغطاء ..
والنبي محمد في ليلة القدر انكشف عنه الغطاء فرأى جبريل والعالم البرزخي ورأى من آيات ربه الكبرى . ومنها سدرة المنتهى وجنة المأوى التي يعيش فيها من يقتلون في سبيل الله ويعيشون فيها متنعمين حيث لا نشعر بهم نحن في عالمنا المادي , وان كانوا يحسون بنا ( البقرة : 154 , آل عمران ـ 169 ـ ) ..
أي أن العالم البرزخي يحيط بنا بكل من فيه من ملائكة وشياطين وجان . وبكل ما فيه من أخبار وأنباء , كلها مستقرة فيه إما أنها وجدت وسجلت من خلال أولئك الذين عاشوا وماتوا أو أنها لم تحدث بعد وظلت مجرد أنباء وأخبار والله تعالى يقول " لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ : الأنعام : 67"
وسيأتي الوقت الذي سنعلم فيه .
ونرجو ألا نندم عندما نعلم .. حيث لا ينفع الندم ..
يبدو أن الدكتور قد أخطأ في حساب سرعة الضوء وهذا تصحيح قمت به بعيدا عن الأخطاء الإملائية والنحوية
وسرعة الضوء هي 299792.5 كلم في الثانية وبحسابها على الميل حيث إن كل 1 ميل =1.609269 كلم يصبح الناتج الصحيح هو 186 ألف ميل في الثانية تقريبا
ولكم الشكر
إخواني الأعزاء
تحية وسلاما
معنى التنزيل هو : التحويل إلى الممكن .
فإذا ما أخذنا بهذا المعنى والذي يتوافق مع كل الآيات القرآنية التي ورد فيها مادة " نزل " نجد الموضوع يزداد وضوحا .
دمتم جميعا بكل خير .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
من الواضح أنك ـ جزاك الله تعالى كل خير ـ قد أتممت مراجعة وتصحيح كتاب ( .. ليلة القدر.. ) المعروض هنا للتصحيح. ويبقى أن يتفضل بعض الأخوة بالمشاركة فى التصحيح ، وقد كتب لى الاستاذ عمر الشفيع بأنه قام بتصحيح بعض الكتاب ، فأرجو أن يتم التصحيح وينشره هنا ، وأرجو أن تتفضل يا أستاذ محمد مهند مراد أيهم بتنزيل كل التصحيح فى نسخة واحدة وترسلها لى لأنشرها للتعليق .
وبعد هذا الكتاب سيأتى ـ بعون الله جل وعلا ـ دور كتاب صغير آخر بعنوان ( مدرسة الاستنارة للامام محمد عبده بين مصر وتونس ).
جزاكم الله تعالى عنى كل خير.
أحمد
السلام عليكم
اتفق معك دكتور احمد تماما أن ليلة القدر أو ليلة الإسراء وما رأى النبي فيها من آيات إنما حدثت فى طور سيناء . وان المسجد الأقصى ليس فى بيت المقدس الذي لم يرد ذكره مطلقا فى القرآن . وإنما هو فى طور سيناء. الذي تردد ذكره والإشادة به فى كتاب الله العزيز .
... لكن لي تحفظ دكتورنا الكريم على اعتبارك ان طور سيناء يقع في الجانب المصري لصحراء سيناء ، كون ان كل الأحداث المرتبطه بطور سيناء والتي وقعت لموسى وقومه من رفع الجبل فوقهم حين اخذ عليهم العهد والميثاق ، وهو نفس الجبل الذي طلب موسى من ربه ان يراه من فوقه ، ونفس الجبل المكان الذي تلقى موسى الالواح من الله ، ونفس الجبل المكان حين اختار موسى سبعين رجلا من قومه للقاء الله تعالى عنده ليعلنوا توبتهم بعد اتخاذهم العجل ، كل هذه الاحداث حدثت بعد نجاتهم وغرق فرعون وجنوده ، اي انها حدثت بعد انفلاق البحر والعبور العظيم لموسى وقومه ، فلا بد ان تكون قد حدثت على الضفه المقابله لشاطىء سيناء اي الشاطىء الغربي لجزيرة العرب ، ومن غير المعقول ان تكون حدثت في الجانب المصري لسيناء كونها كانت تحت سيطرة فرعون وجنوده الذين لم يكونوا غرقوا بعد لانه ليس هناك بحرا يجتازوه بين النيل وشاطىء البحر الاحمر (شاطىء نويبع حاليا)
ويقول الباحثون ان هروب موسى عليه السلام ببني اسرائيل تم من خلال وادي في شبه جزيرة سيناء يدعى وادي وطير ، ووادي وطير هذا هو الطريق الوحيد بين الجبال الذي يمكّن من يسلكه من الوصول الى شاطىء البحر ، فاثناء هذا الهروب لم يرد اي ذكر لطور سيناء او اي من الاحداث التي حصلت ، فكل الاحداث التي ارتبطت بالطور حدثت بعد عبور البحر الاحمر ونجاتهم وغرق فرعون وجنوده ، فهي بالضرورة قد حدثت اذن على الضفه المقابله لشاطىء سيناء اي على الشاطىء الغربي لجزيرة العرب ، والحقيقه الاخرى ان الاسرائليون وطيلة احتلالهم لسيناء لم يجدوا اي اثرا جغرافيا يؤيد ايا من الاحداث التي حصلت لبني اسرائيل وتحدثت عنها التوراه والقرءان ، لكنك تجد الكثير من هذه الادله الجغرافيه في الجانب الشرقي المقابل لشاطىء سيناء ، وهي موجوده وظاهرة للعيان .
رسم توضيحي لطريق العبور ويظهر جبل سيناء على الجانب الشمالي الغربي لشبه جزيرة العرب
اخي العزيز الأستاذ / صائب مراد
تحية مباركة طيبة وبعد
بصفتي أحد المعنيين بهذا الموضوع ، يهمني التعرف بدقة على مكان الأحداث التي تمت بين الله جل جلاله وسيدنا موسى .
حيث أن الشائع أن ذلك حدث في شبه جزيرة سيناء ، ولم أسمع مطلقا أن جبل سيناء يقع في شبه الجزيرة العربية كما جاء بالخريطة المرفقة .
وقد ذهبت إلى منطقة كاترين مرتين ، وشاهدت ما يطلق عليه العليقة المقدسة " الشجرة التي خرجت منها كلمات الله تعالى " والتي مازالت حية ومورقة .
وسؤالي هل هذه هى الشجرة حقيقة أم هذا تزوير ؟
وإن كان تزويرا فأين هذه الشجرة ؟
هذا الموضوع يحتاج لكثير من التدقيق والتحري لأهميته القصوى .
دمت أخي بكل خير .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخي أحمد شعبان هل معقول تصدق شجرة معروف مكانها وهي نفسها من الاف السنين ولماذا تبحث عنها هل نريد نعبدها لا سمح الله. واخي صائب مرة ثانية أريدك تقول كيف نقوم بتنزيل صور على التعليق. زمان سألتك ولم تجاوب وربما لم تقرأ طلبي ولكن المرة الثانية لن أسامحك إذا لم تجاوب ولن أطلب منك مرة ثالثة أبدا إذا لم تجاوب هنا بالذات.
السلام عليكم ورحمة الله
في كتابه
خفايا التوراة واسرار شعب اسرائيل
يطرح كمال الصليبي الجغرافيا التاريخية للتوراة على المحك محاولا التأكد من صحتها وتصحيح ما ورد من تفاصيل في كتابه السابق "التوراة جاءت من جزيرة العرب". وهو، هنا، يعيد النظر في عدد من قصص التوراة المألوفة على ضوء جغرافيا الجزيرة العربية، مختارا تلك التي ترويها الاسفار الخمسة الاولى، ومضيفا اليها واحدا من اسفار الانبياء ، وفي هذا الكتاب يتحدث المؤلف عن عدم مطابقة جغرافية منطقة جبل موسى في سيناء لأحداث موسى وبني اسرائيل .
فالذي يبدوا ان الاحداث والطور والشجرة كلها ليست في سيناء المصريه كما يعتقد ، فقد توصل احد الباحثين ان الطور ـ جبل سيناء ـ هو نفسه ما يسمى جبل اللوز في المنطقه الشماليه الغربيه لجزيرة العرب ــ تبوك الآن ــ والمقابله لشبه جزيرة سيناء ، كما يوجد هناك الصخرة التي ضربها موسى بعصاة فتفجر منها الماء ، كما يوجد ما يشبه مكان معبد يعتقد ان عجل السامري كان يرقد هناك ، فالحقيقه تقول ان هناك ادله لبست سهله لصحة مكان الطور ، والمنطقه هناك فيها اكثر من اربعمائة الف شجرة زيتون وفيها من اشجار التين ايضا .
ودمت بكل الخير استاذي الباحث احمد شعبان فلعل الله يهديك الى الشجرة المباركه .
بعد إتمام التصحيح والمراجعة هنا سأنشر هذا البحث على حلقات للتعليق عليه ، كما يحدث الان مع كتاب الموت.
لذا أرجو همتكم فى التصحيح أولا . ثم بعدها همتكم فى التعليق .
جزاكم الله جل وعلا خيرا.
أحمد
السلام عليكم
هل يمكننا التعليق و اثراء الموضوع أم أنه لا يزال قيد التصحيح و النشر؟
شكراً لكم
جذور الارهاب فى العقيدة الوهابية
كتاب ( مصر فى القرآن الكريم )
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس)
تصحيح كتاب( ليلة القدر فى رمضان هى ليلة الاسراء، ليلة ن
( كتاب الموت )
دعوة للتبرع
الدعاء بلا صوت: هل ممكن الدعا ء لله فى نفسى بدون صوت وهل من...
حضور الخطبة للزواج : الحضو ر للخطب ة واجب ولايو جد دليل من...
الغش فى مصر : ما رأيك فى الغش المنت شر فى مصر الآن ؟ ومتى تصل...
سؤالان : سؤالا ن من الاست اذ سعيد على : السؤ ال ...
أيام الله : ما هى أيام الله المذك ورة فى القرآ ن ؟ ...
more
احبتى
بعد تفضل الأخوين الكريمين أسامة حمود ومحمد مهند مرادأيهم بتصحيح كتاب الموت. نأتى للكتاب الثانى ، وهو متاح لكم جميعا هنا للاطلاع و التصحيح ، قبل أن نشره فى ركن الكتب ، وسأكتب مقالة عنه تكون متاحا لكم فيها التعليق عليه.
خالص مودتى
أحمد