احمد صبحى منصور في الخميس ٠٩ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس)
ملاحظة : سبق نشر هذا البحث فى الفصلية العلمية ( الانسان و التطور ) التى يصدرها المفكر المصرى د. يحيى الرخاوى ، فى قسمين تحت عنوان ( بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة فى الإسلام)
أنتظر فرسان التصحيح لمراجعة هذا البحث..
يا أهلا و سهلا..
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس)
ملاحظة : سبق نشر هذا البحث في الفصلية العلمية ( الإنسان و التطور ) التي يصدرها المفكر المصري د. يحيى الرخاوي ، في قسمين تحت عنوان ( بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة في الإسلام)
عدد 65 - 66 1999
بعض مراتب ومراحل:
الاستنارة الدينية الحديثة في الإسلام (1 من 2)
رؤية إسلامية: د. أحمد صبحي منصور
مقدمة:
1- كعادتنا فإنا نبدأ بتحديد المفاهيم ووضع النقاط فوق الحروف.
في موضوعنا عن مدرسة الاستنارة الدينية بين مصر وتونس في القرن العشرين لابد أن نبدأ بتحديد الفارق بين الدين والتدين، وبين التدين المصري والتدين التونسي، وتأثرهما بالظروف الجغرافية والطبيعية للبلدين، واختلافهما عن أنواع التدين الأخرى، خصوصا التدين البدوي الصحراوي، ومدى اقتراب هذا وذاك من القرآن الكريم.( [1])
وفى ورقة بحثية موجزة كهذه فإننا نكتفي بإعطاء لمحة سريعة فيما يلي:
2- فالدين هو ما ينزل من السماء كتابا سماويا على النبي، ويكون النبي أول الناس طاعة واقتداء بهذا الدين، وتطبيق النبي لهذا الدين مرتبط بإمكاناته البشرية وظروف عصره، وبالتالي فإن التطبيق البشري للدين يختلف من عصر لآخر، وهذا التطبيق البشري المختلف حسب الزمان والمكان وحسب الظروف هو ما يعرف بالتدين، فالتدين هو نوعية الاستجابة للدين وكيفية التفاعل معه بالسلب أو الإيجاب.
ومن هنا تنشأ الفجوة بين الدين الحقيقي وأنواع التدين لدى الأمم والشعوب، سواء كانت إسلامية أو مسيحية وقد يكون ذلك مقبولا ومعقولا بسبب تأثر الإنسان بظروفه الاجتماعية والطبيعية، ولكن ليس مقبولا ولا معقولا أن يعطي الإنسان تدينه البشرى مشروعية إلهية زائفة عن طريق نسبته للنبي (كما يفعل أهل السنة) أو نسبته لأقارب النبي (كما يفعل الشيعة) أو نسبته لأشخاص آخرين يزعمون قدسيتهم وعلمهم اللدني الإلهي (كما يفعل الصوفية).
الدين كتاب إلهي، ومالكه هو الله تعالى الذي يملك يوم الدين، والدين يحاسب البشر أجمعين من أنبياء وأئمة وصالحين وعصاة، أما التدين فهو فكر بشري وسلوكيات إنسانية، فيها الخطأ وفيها الصواب. وفيها الحق والباطل، وإذا كان الحق في الكتاب الإلهي مطلقا، فإن ما نفهمه من الكتاب، وما نصل إليه بتفكيرنا الديني يظل في إطار الحقيقة النسبية إذا كان حقا، ويظل في إطار الباطل النسبي إذا كان خطأ، لأنه يجرى في إطار الاختلاف المذهبي الذي يصل بأصحابه إلى التعصب واعتبار ما "يذهبون" إليه من " مذاهب" أنه دين، وفى مواجهة هذا التعصب المغالي نضطر إلى القول بأن الحقيقة في التفكير الديني البشرى نسبية، والباطل فيها أيضا نسبي، وذلك حتى لا نقع في تكفير أحد.
والمهم أن الدين الإلهي يظل واحدا مهما اختلفت الرسالات السماوية في لغتها وفى أزمنتها وأمكنتها وظروفها، يظل الدين الإلهي يعني - بكل لغات البشر - إسلام القلب والجوارح لله تعالى في التعامل مع الله، والسلام مع الناس في التعامل مع الناس.
لكن يظل التدين لدى البشر مختلفا ومنقسما بين طوائف ومذاهب وملل ونحل وجماعات وفرق، وتظل الاختلافات الدينية الفكرية هي الأسرع في الانقسام والتكاثر من أي اختلافات فكرية أخرى سياسية أو اجتماعية أو علمية.
3- ومع هذه الاختلافات المتشعبة في تدين الناس إلا إن هناك سمات عامة تجتمع فيها أنواع التدين الكبرى لدى الشعوب، وعلى سبيل المثال فالتدين الإيراني يقوم أساسا على التشيع لظروف تاريخية واجتماعية، والتدين البدوي الصحرواي في نجد في الجزيرة العربية يقوم على أساس التشدد مهما كانت نوعية المذهب الذي ينتسبون إليه ، ويتخذ ذلك التشدد زيا دمويا بسفك الدماء واستحلال أموال الآخرين وأعراضهم، والتدين المصري أو التونسي يميل إلى الاعتدال والتسامح، ولا شك أن ظروف كل بلد هي التي أعطت له ملامحه في التدين.
أ- فالقومية الفارسية تحقد على أبي بكر وعمر اللذين أسقطا الإمبراطورية الكسروية، ومن الطبيعي أن تؤيد حق " علي بن أبي طالب" في الخلافة، خصوصا وأن " الحسين بن علي" كان قد تزوج إحدى أميرات البيت الكسروي، كما يقال، ومن الطبيعي أن تعود من خلال هذا التشيع لعلي وبنيه ملامح الكهنوت الفارسي دينيا وسياسيا تحت رداء الإسلام، وهذا الرداء صناعة بشرية، أو تدين بشري يعرف بالتشيع، وله "موضات" أو أزياء مختلفة.
ب - وأهل نجد احترفوا استحلال الغرباء والقوافل التي تمر بهم من العراق إلى الحجاز ولذلك تتلون الدعوات الدينية في هذه المنطقة ليصبح السلب والنهب والاستحلال أهم شعائرها الدينية، كذلك فعل القرامطة، ثم الوهابيون، وفى ظل هذه الأحوال يتحول التدين النجدي إلى تطرف وتعصب وسفك للدماء فهذه طبيعة الصحراء القاحلة، وتلك طبيعة أهلها لا يرون غيرهم إلا أن يكون فريسة لهم.
جـ - وعلى النقيض من ذلك التدين البدوي نجد التدين " الزراعي" في المناطق التي تسكنها جماعات من عنصر واحد أو يغلب فيها عنصر واحد، وينطبق ذلك على مصر وتونس، فالبيئة المعتدلة في المناخ، والمنفتحة في الجغرافيا، والغنية بالثروات، تنتج شعبا محبا للحياة متسامحا مع الآخر معتدلا في مزاجه منفتحا على التيارات الوافدة، مع حرصه على الثوابت وعلى الوطنية والقومية، لذلك لا نعجب إذا كانت مصر تتعامل بالتمصير مع كل الوافدين إليها ثقافيا ودينيا، ولا نعجب إذا رفضت تونس قانون التجنيس مع انفتاحها على فرنسا وأوربا.
4- وذلك التوازن بين الثوابت الوطنية والانفتاح على الآخر، سواء كان الآخر عربيا أم أوروبيا هو السمة الأساسية لثقافة البحر المتوسط، وهى الثقافة الحقيقية لمصر وتونس وقد بدأت هذه الثقافة في مصر الفرعونية ثم انتقلت إلى اليونان، ومنها إلى روما، وسيطرت على البحر المتوسط في القارات الثلاث، ولم يمنع انتشارها اشتعال الحروب بين دول البحر المتوسط العربية والأوربية بعد الإسلام، أو دول آسيا وأفريقيا وأوربا قبل الإسلام، بل على العكس من ذلك، كانت الحروب الهيلينية والصليبية إحدى روافد التأثر الثقافي بين جوانب البحر المتوسط، بل كانت جزر البحر المتوسط نفسها تقوم بالدورين معا: الحربي والثقافي أي أن الحروب - وهى إحدى صور العلاقات العادية بين الدول والشعوب - لم تكن في هذه الحالة نفيا للآخر ومصادرة له في أغلب الأحوال، وحتى في الأحوال الاستثنائية مثل فرنسا والجزائر مثلا فإنه ينبغي ألا ننسى الأصول العربية الإسلامية للثقافة الفرنسية، خصوصا في النواحي القانونية والتشريعية بدءا من التأثر بالمذهب الملكي في الأندلس وانتهاء بقوانين نابليون التي تلونت بحملته على مصر وتأثرت بها
والمهم أن العنصر الغالب في ثقافة البحر المتوسط هو الاعتراف بالآخر والتواصل معه، وهذا يتناقض مع الثقافة البدوية النجدية التي لا ترى في الآخر إلا فريسة تستحل مالها ودماءها وشرفها.
وتختلف حظوظ دول البحر المتوسط في درجة التحلي بهذه الثقافة، كما تختلف الأحوال داخل الدولة نفسها، وذلك حسب الظروف الطبيعة والاجتماعية، ولكن تظل مصر وتونس أكثر الدول العربية حظا في إدراك هذه الثقافة، فالجغرافية المصرية يبدو فيها الاتجاه نحو الشمال، نحو البحر المتوسط بدءا من النيل إلى البحر الأحمر ذاته الذي يرفع إصبعيه كعلامة النصر كأنما يرحب باقترابه من شقيقه البحر المتوسط، وحتى أبناء جنوب الوادي في صعيد مصر يرحلون عنه إلى القاهرة - مركز ثقافة البحر المتوسط - وإلى الإسكندرية "عروس البحر المتوسط" فإذا استقروا في الدلتا والقاهرة والإسكندرية تخلصوا من التشدد وأصبحوا أكثر اعتدالا وتسامحا.
.وإذا انتقلنا إلى تونس وتأملنا خريطتها وموقعها الجغرافي وجدناها تبالغ في إعطاء الصحراء ظهرها وتبالغ في الالتصاق بالبحر المتوسط والتعمق فيه، ومن الطبيعي أن تساعدها سواحلها الطويلة على الاتجاه أكثر نحو البحر والاعتماد عليه والتعامل مع الدول التي تطل عليه من الناحية الأخرى، كما أن هذه الدول نفسها ترى في تونس القريبة منها أقصر طريق للتمتع بالشمس الإفريقية والحضارة الإسلامية العربية وهذا الاحتكاك البشري والثقافي ترى بصماته واضحة على تعامل تونس مع الغرب، منذ الأغالبة وحتى حكم البايات قبل الاستقلال وهو الانحياز للثوابت الوطنية والقومية مع الانفتاح على الآخر. وتلك هي فلسفة الثقافة البحر متوسطية.
5- وقد قلنا إن الدين السماوي هو الكتاب الإلهي السماوي، وقلنا إن التدين هو الفكر الديني للبشر والذي يختلف حسب الظروف، ورأينا طرفا من ذلك الاختلاف في التدين بين دول وشعوب المسلمين، ونأتي للسؤال الهام: أي من هذه المذاهب هي الأقرب للإسلام أو للدين الإلهي، أو للكتاب الإلهي؟وتأتي الإجابة على نوعين، وذلك تبعا لمنهج الأخذ عن القرآن الكريم، إذا نظرت للقرآن الكريم من خلال التراث، فستجد إجابات متنوعة تنتقى منها ما تشاء، فإذا كنت متعصبا وجدت في التراث من تفسير وحديث وتشريع ما يؤكد لك تعصبك ويجعله لك دينا، ويجعلك لا ترى في الآخر إلا مستحقا للموت في الدنيا والنار في الآخرة، وإذا كنت متسامحا وجدت في التراث نفسه من تفسير وحديث وتشريع ما يؤيد لك تسامحك، وفى الحالتين ستنتقى الآيات والتفسيرات، وستنام مرتاحا سواء كنت متعصبا أو متسامحا، لأن القرآن عندهم " حمال أوجه".
أما النوع الآخر من الإجابة فهو النظر للقرآن الكريم نفسه، وعن طريق مفاهيمه هو ومصطلحاته هو، وعن طريق لغته هو، هنا ستجد القرآن كتابا أحكم الله تعالى آياته ولا عوج فيه ولا اختلاف، هنا ستجد رأيا واحدا تدعمه كل الآيات، وبالنسبة لموضوعنا ستجد القرآن مع التوسط والاعتدال والتسامح والرقي الأخلاقي والسمو الحضاري، وذلك موضوع شرحه يطول، ولكن فيما يخص موضوعنا الحالي: ستجد ثقافة البحر المتوسط أقرب الرؤى البشرية للإسلام والقرآن، وبنفس القدر ستجد الرؤية البدوية المتعصبة الإرهابية أبعدها عن الإسلام وأكثرها تناقضا معه. وذلك أيضا موضوع شرحه يطول.
6- ولكن نتوقف مع مدرسة التنوير الديني التي نهضت بين مصر وتونس في القرن العشرين لتعبر عن حقيقة التدين المتسامح في البلدين، وكان لهذه المدرسة شيوخها، ومنهم الشيخ الطاهر بن عاشور التونسي.
وقد ورثت هذه المدرسة المستنيرة فكر المسلمين المتأثر بالعصور الوسطى وتعصبها، كما ورثت مجتمعا أرهقه التخلف والجمود، فنهضت للتقدم لتواجه ميراث الماضي وتخلف الحاضر، ولتواجه أيضا ما هو أشد وأعنف، وهو فكر التطرف الذي نما منذ منتصف هذا القرن، فما هو منهج هذه المدرسة؟
وكيف تعاملت مع أبرز قضايا عصرها؟
هذا هو موضوع هذه الورقة البحثية على نحو من الإيجاز والله تعالى المستعان.
مدرسة الاستنارة الدينية في القرن العشرين
بين مصر وتونس: الأرضية التاريخية والمنهج العلمي
الأرضية التاريخية:
1- انقسم المسلمون مبكرا حول الخلافة، وتحول خلافهم السياسي إلى حرب أهلية في الفتنة الكبرى، ثم تحول الخلاف السياسي الحربي إلى خلاف مذهبي ديني، ثم كانت الطامة الكبرى حين تحول إلى تدين وطائفية دينية، من السنة إلى الشيعة إلى الخوارج، ثم أضفوا على التدين المذهبي مشروعية زائفة عن طريق نسبته إلى النبي أو إلى آله وأقاربه، ثم اتسع الأمر بمزيد من الانقسام داخل الطوائف الكبرى، ثم بإضافة طوائف جديدة بدأت فلسفية ثم تحولت إلى التأثير في العوام مثل التصوف الذي بدأ نظريا ثم تحول إلى طرق صوفية شعبية.
خلال الفترة التي تميزت بقوة المسلمين لم تتأثر دولتهم بهذا الاختلاف المذهبي، فاستمر الأمويون - مثلا - في حروب في الداخل ضد مناوئيهم من الشيعة والموالي والخوارج مع استمرارهم في الفتوحات، ولكن بدأت الانقسامات الفكرية ترسم تجاعيد الضعف على وجه الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي الثاني، واستلزم الأمر مجيء عناصر عسكرية وافدة أعطت بعض الشباب والحيوية للدول الإسلامية مثل السلاجقة والبويهيين والأكراد والمماليك، ولكنها كانت في النهاية مجرد مساحيق لزينة وجه ضامر أضعفته الانقسامات المسلحة فكريا ودينيا واجتماعيا، وجاء الإنقاذ أيضا من الخارج مرتبطا بالسقوط الكبير للشعوب العربية والإسلامية تحت قبضة الدولة العثمانية، تلك الدولة العسكرية الفقيرة ثقافيا وأيديولوجيا، والتي لم تستطع التواصل مع الفكر السائد لدى العرب والمسلمين في الداخل، كما لم تستطع التواصل العسكري مع عدوها الأوروبي سواء في الشرق (روسيا) أو في الغرب (انجلترا وفرنسا)، وفى النهاية سلم الرجل العثماني المريض نفسه للموت ليرثه الأوروبي بعد أن أسهم العثمانيون في إضفاء المزيد من التخلف والضعف على الشعوب العربية والإسلامية التي كانت تعانى أصلا من الضعف والانقسام.
2- وعلى الجانب الآخر - أوربا - كان الروم البيزنطيون والغال في فرنسا والبابوية في إيطاليا، وما تبقى من أمراء إسبانيا يندحرون في هزائم متلاحقة فترة عنفوان المسلمين ثم بدأ الغرب حركة استرداد عن طريق البيزنطيين، ثم الصليبين ثم الإسبان، وتوقفت موجة الاسترداد الأولى حينا ثم عادت عبر البحر المتوسط تغير على الموانئ العربية الإسلامية في شمال أفريقيا ومصر، وعبر استرداد الأندلس قطعة قطعة، ثم توج ذلك بإخراج العرب من الأندلس ومطاردتهم في جنوب البحر المتوسط، ثم قطع احتكارهم للتجارة الشرقية، ودخل بذلك الأوربيون إلى الكشوف الجغرافية، ثم إلى الاستعمار، وفى الوقت الذي كان الغرب يزداد فيه قوة كان المسلمون تحت الحكم العثماني يزدادون ضعفا وكانت الحملة الفرنسية على مصر صفعة أثارت انتباه المسلمين، على أن العدو الأوروبي بدأ ثانيا يتجه إلى قلب العالم الإسلامي، وهناك في صحارى نجد حيث كان النفوذ الإنجليزي مسيطرا على الخليج والبحر العربي، توالت صفعات أخرى، قبل الحملة الفرنسية، ومن هنا ومن هناك جاء رد الفعل، وقدمت نجد مشروعها للنهوض بالمسلمين، وقدمت مصر مشروعا آخر مختلفا.
3- كان مشروع نجد هو النهضة عن طريق العودة للسلف وذلك على أساس الفكر الحنبلي التـيمي المتشدد الذي يلائم التدين البدوي، ولذلك كان " الاستحلال" هو أساس التحالف بين ابن عبد الوهاب وابن سعود، وعلى أساسه قامت وتوسعت الدولة السعودية الأولى.
وفى المقابل قدمت مصر مشروعها للنهضة في إقامة الدولة الحديثة بالأخذ عن الغرب خصوصا فرنسا في ولاية محمد على باشا الذي اهتم بالقضاء على رموز القديم وإقامة الحديث مكانه، في التعليم والجيش وإدارة الدولة، وكان طبيعيا أن تقف الدولة العثمانية ضد المشروعين معا، ولكن حتمت الظروف السياسية أن يلبي محمد علي باشا رغبة السلطان العثماني في القضاء على الدولة السعودية الأولى وتدمير عاصمتها الدرعية سنة 1818 م.
وبعدها جرت مياه كثيرة، فقد قامت الدولة السعودية الثانية ثم سقطت، ثم بدأ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إقامتها للمرة الثالثة سنة 1902 وأكمل سيطرته على معظم الجزيرة العربية سنة 1926، وأعطى الدولة اسم أسرته سنة 1932، وخلال تلك العقود وبعدها كان الفكر السلفي ينتشر ممثلا ليس للفكر الإسلامي ولكن للإسلام نفسه، ثم تحالفت عوامل أخرى لتزيد من انتشار الفكر السلفي، تبدأ بسقوط الخلافة العثمانية وقوة المقاومة للاستعمار الغربي ومذاهبه التي تنتشر في الداخل وأخيرا ظهور البترول وانتشار الفكر السلفي عبر قطار النفط السريع إلى عقول أغلبية الأمة.
وأدت سيطرة الفكر السلفي في القرن العشرين إلى نتيجتين متلازمتين، هما إجهاض التطور الطبيعي لمدرسة الاستنارة الدينية التي بدأها محمد عبده، والتحول عن هذه المدرسة المستنيرة إلى المدرسة السلفية التي تحولت بدورها إلى الطموح السياسي، لتنشئ دولا دينية على مثال الدولة السعودية.
هذا هو المسرح السياسي الذي تعين على مدرسة الاستنارة أن تلعب عليه، وهو المسرح الذي فرض على تلك المدرسة أن تقدم تنازلات تتفق مع الانتصار المضطرد والمتنامي للتيار السلفي ونستطيع أن نلمح درجات هذا التنازل حين نتوقف مع المنهج الفكري للمدرسة، بين مصر وتونس.
منهج مدرسة التنوير المصرية
بداية مدرسة التنوير المصرية:
1- أطلق الجبرتي شهقة المفاجأة الأولى حين شهد بعض المنجزات العلمية للعسكر "الفرنسيس". ولا تزال أصداء شهقتة تتردد بين سطور تاريخه " مظهر التقديس في خروج الفرنسيس" وكان التعبير الحضاري عن هذا الانفعال بالغرب والتجاوب معه قد بدأ يتحول إلى سياسة واقعية على يد خصم المؤرخ الجبرتي وهو الوالي محمد على باشا الذي أرسل البعثات إلى فرنسا، وتـوجت هذه السياسة بنهضة عسكرية ومدنية تحولت إلى استنارة فكرية على يد رفاعة رافع الطهطاوي الذي أطلق المزيد من شهقات المفاجأة حين عاش في باريس، وسجل حياته فيها في كتابه المشهور " تخليص الابريز فى تلخيص باريز".
2- وتحولت شهقات المفاجأة الجبرتية والطهطاوية إلى تأسيس مدرسة فكرية ما لبثت أن اشتعلت حماسا سياسيا بمجيء الأفغاني ووصل الحماس أوجه بالثورة العرابية، وبفشلها بدأ محمد عبده - أحد الثوار والمفكرين - يراجع نفسه وهو في منفاه في لبنان، فاختار تطليق السياسة والتركيز على الإصلاح الديني الفكري والعقلي.
قام محمد عبده "بإصلاح" حركة الإصلاح وإعادتها إلى الاتجاه السليم، وكانت مهمة عسيرة لأنه تحتم عليه أن يواجه زملاءه في الأزهر، وإصلاح الأزهر كان مهمة عزف عنها محمد علي بكل سطوته وقسوته، ولكن نهض لها محمد عبده في الزمن الخطأ، حيث كان يتمتع محمد عبده بكثير من الخصوم على رأسهم الخديوي توفيق نفسه.
ولا نريد أن نستطرد في حركة محمد عبده الإصلاحية ومعاناته، ولكن نود الإشارة إلى أن حجم هذه المعاناة وسوء المناخ السياسي والاجتماعي في هذا الوقت أجبر محمد عبده على التريث في إعلان كل تفاصيل منهجه الفكري، وأرغمه على أن يحصر هذا المنهج في محاولة الإصلاح والاجتهاد داخل الدائرة التقليدية المتوارثة، لأن عصره لم يكن يسمح بقبول منهج فكرى جديد مهما كانت قوة الحجج التي يقوم عليها.
3- باختصار نحن أمام عقلية كبرى تجاوزت عصرها، بل تجاوزت المستوى العقلي للحضارة التي تنتمي إليها، ولكن قسوة الخصوم وسوء المناخ أجبر هذه العقلية على أن تقلص حركتها في إطار المنهج التقليدي وتجتهد من خلاله، وربما كان يطمع محمد عبده إلى أن يمتد به العمر وأن يتغير المناخ العقلي للأفضل فاختار طريق التدرج، فبدأ الإصلاح في المنهج التقليدي، وبين سطوره نثر بعض ملامح المنهج الجديد مثل بالونات اختبار يمكن البناء عليها، فإذا عاش استطاع أن يواصل الطريق، وإذا مات فقد أعطى إشارات لمن يخلفه من المفكرين كي يبنى ويطور، ولكن حدث عكس ذلك، لأنه مات في السادسة والخمسين من عمره، وهو يلعن الشيوخ أثناء احتضاره، وأفسد خليفته رشيد رضا دعوة أستاذه المستنيرة. فتحولت إلى التشدد السلفي الوهابي، بحيث أصبحت مدرسة التنوير تلك مرتبطة لدى بعض المفكرين اليساريين بالسلفية، وبحيث أصبح محمد عبده نفسه رائدا لما يعرف بحركة الصحوة التي تمهد الطريق لقيام الدولة الدينية، وأولئك الدارسون يكتفون بالعناوين وليس لديهم ما يعينهم على فهم الأصول الفكرية واختلافها بين محمد عبده ورشيد رضا، وفى ورقة بحثية نضطر سريعا لإلقاء لمحة عن تلك الأصول الفكرية والعقدية والتي نحكم من خلالها على اختلاف المنهج بين محمد عبده وتلميذه رشيد رضا ثم نتعرف على منهج المدرسة التنويرية ومسارها بين مصر وتونس.
مقياس الاستنارة:
1- وللتيسير على المثقف غير المتخصص في الأصوليات وللتخفيف من وقع المفاجأة فإننا نكتفي بوضع مقياس قرآني للاستنارة العقلية ونبدأ بتطبيقه قرآنيا على النبي محمد عليه السلام نفسه، فالنبي هو القدوة وما لا ينطبق عليه لا يمكن أن ينطبق على غيره، وهذه العبارة يمكن فهمها حالا إذا عرفنا المقياس القرآني المراد. وهو باختصار، الإجابة على سؤالين: هل كان النبي يعلم الغيب؟ وهل كان النبي يفتى للمسلمين في التشريع ويجتهد برأيه في الأمور التشريعية؟.
2- إذا كان النبي يعلم الغيب فالواجب علينا أن نؤمن بكل الأحاديث المنسوبة للنبي في الغيبيات، بدءا من الحديث عن الأمم السابقة والأمم اللاحقة بعد النبي، والحديث عن علامات الساعة وما يجرى فيها من شفاعات وأحوال، والحديث عن العوالم الأخرى من ملائكة وجن وشياطين، وبالتالي يمكن أن نتسامح في معرفة الآخرين لهذا الغيب لأنهم على " قدم النبي" أي نؤمن بمقدرة الأولياء الصوفية وغيرهم من القديسين على معرفة الغيب، وبالتالي تتضخم مساحات الخرافة في عقولنا - وهى فعلا متضخمة - وتتحول تلك الخرافات المتضخمة إلى قدس الأقداس، وبالتالي تتضاءل المساحة التي يتحرك فيها العقل - وهى فعلا تضاءلت - ونصبح أسرى للخرافة - ونحن فعلا كذلك.
وإذا لم يكن النبي يعلم الغيب - وهذا ما يؤكده القرآن الكريم خلال أكثر من ثلاثين آية قرآنية - فإن كل تلك الأحاديث المنسوبة إليه مزيفة، وهى بمعنى آخر كاذبة في نسبتها للنبي، وإن كانت صادقة في أنها تعكس الحالة العقلية المتردية للذين صاغوها وللمجتمع الذي يؤمن بها، أي أن صدقها في تعبيرها عن حال أصحابها ومدى تحكم الخرافة فيهم، والمهم في ذلك المقياس من حيث عدم علم النبي بالغيب أنه يفتح كل الأبواب للعقل الإنساني في أن يفكر وأن يبدع طالما كانت الغيبيات محصورة في العلم الإلهي المذكور في القرآن الكريم وحده، وليس للنبي محمد ولا لأي إنسان آخر أن يتحدث فيها. إذاً علينا أن نسعى للبحث في عالم الشهادة طالما تقلص ميدان الغيب في آيات القرآن وحدها.
3- ومن ناحية أخرى فإذا كان النبي يفتي ويجتهد في التشريع فقد وضعت بذلك متاريس كثيرة أمام العقل المسلم، إذ كيف يـجتهـد في أمر قد أفتى فيه النبي سلفا؟ وكيف يفسر آية فسرها النبي آنفا؟ فمن الطبيعي أن يتحول ذلك الاجتهاد النبوي إلى دين، أو على الأقل يكون مصدرا للتشريع، وعليه فقد كان ينبغي للمذاهب الفقهية أن تبدأ أولا بجمع وتوثيق ذلك الاجتهاد النبوي كما حدث مع القرآن، ولكن ذلك لم يحدث، صحيح أن هناك التفسير بالمأثور، ولكن أعلن الإمام أحمد بن حنبل نفسه عدم الاعتداد به، حين قال " ثلاثة لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازي " ولكن الصحيح أيضا أن المنافسات الفقهية والمذهبية جعلت بعضهم ينسب رأيه في التفسير أو في الفقه للنبي عبر سلاسل مفتراة ذهبية أو معدنية، لا يهم، إنما المهم أنها افتراء على الله تعالى ورسوله وأنها في تضخمها أعاقت حركة المسلمين، وإذا كان سهلا أن نتذكر الآيات القرآنية التي تعلن عدم معرفة النبي بالغيب وتأمر النبي بأن يعلن ذلك عن نفسه بوضوح، فإن قضية اجتهاد النبي في التشريع والتفسير تستحق بعض التوقف بما يتلاءم وهذه الورقة البحثية الموجزة.
4- وهنا نكتفي بالدعوة إلى تدبر الآيات القرآنية التي تبدأ بقوله تعالى " يسألونك" ونعطى عنها لمحات سريعة.
أ- فالقرآن الكريم أكد أكثر من مرة على أن علم الساعة وموعدها وما يجرى فيها عند الله تعالى وحده (فصلت 47، لقمان 34، الزخرف 85) وأكد أيضا على أن النبي لا يعلم عن الساعة شيئا (الشورى 17).
ومع ذلك سألوا النبي عن الساعة، وكان يمكن أن يكتفي بالإجابة عليهم بترديد الآيات السابقة، ولكن لم يكن له أن يجيب على شيء طالما الوحي ينزل، لذلك انتظر إلى أن نزل قوله تعالى "يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها: النازعات - 46"
وبعد هذا التأكيد في الإجابة على التساؤل بأن النبي لا شأن له بعلم الساعة وأن وظيفته التبليغ والإنذار فقط، عاد نفس التساؤل، وكان يمكن أيضا للنبي أن يتلو الآيات السابقة التي ترد على نفس التساؤل، ولكن ليس له أن يجيب بنفي أو إيجاب، لذلك انتظر إجابة السؤال من السماء، ونزلت الإجابة تؤكد نفس الإجابة السابقة وتزيد تأكيدا عليها بأن النبي ليس له أن يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء (الأعراف 187: 188) وعاد نفس التساؤل وظل أيضا معلقا دون إجابة من النبي إلى أن نزل قوله تعالى " يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا، الأحزاب 63" أي أن النبي لم يكن مسموحا له أن يجيب على أسئلة يعرف مقدما إجابتها من القرآن، حتى لو تكررت الأسئلة وتكررت الإجابة عليها في القرآن من قبل.
5- وإذا كان هذا الموقف واضحا في أمور الغيب فإنه بنفس الوضوح في التشريعات، فعلى سبيل المثال نزلت آيات مكية كثيرة تحض على رعاية اليتيم وإعطائه حقوقه (الأنعام 15، الإسراء24 الفجر 17، الضحى 9، الماعون 2، البلد 15، الكهف 82) ثم نزلت آيات أخرى في المدينة في نفس الموضوع (الإنسان 8، البقرة 83، 177، النساء 36،10،8،6،3،2، الأنفال 41، الحشر 7) وتميزت الآيات المدنية بتشريعات تحفظ حقوق اليتيم المالية والاجتماعية والنفسية، وكانت تلك الآيات المكية والمدنية تتلى في المدينة ويرتلها المسلمون في صلواتهم ومناسكهم، ومع ذلك سألوا النبي مجددا عن اليتيم، وكان يمكن للنبي أن يتلو عليهم بعض الآيات وفيها الإجابة، وكان يمكنه أن يستشهد بها في فتواه، إذا كان له حق الفتوى، وكان بإمكانه أن يحيلهم إلى تلك الآيات ويدعوهم للتدبر فيها بأنفسهم، لم يغفل ذلك، وانتظر إلى أن نزل الوحي بالإجابة " ويسألونك عن اليتامى، قل: إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم: البقرة 22" وهى إجابة تؤكد ما سبق قوله في الآيات السابقة عن رعاية اليتامى وجاء تساؤل آخر عن اليتامى من النساء، وكالعادة لم يتصدى النبي للفتوى، بل انتظر إلى أن نزل قوله تعالى " ويستفتونك في النساء، قل: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، النساء 27" ويلاحظ هنا أن الرد الإلهي على استفتائهم جاء بقوله تعالى " قل الله يفتيكم" لم يقل قل أنا أفتيكم، وتردد هذا في قوله تعالى " ويستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة: النساء 176" أي طالما أن الوحي الإلهي ينزل فإن الله تعالى هو صاحب الفتوى، وما على الرسول إلا البلاغ، أي بتبليغ الوحي كما هو،
دون أي إضافة، حتى لا يكون للدين الإلهي إلا مصدر واحد، هو الله تعالى، وحتى يتنزه دين الله تعالى من أي مصدر بشرى، وبعد نزول الوحي وموت النبي يكون تدين الناس وفكرهم وتدبرهم وتفسيراتهم للكتاب، وهم عنها مسئولون، ولكن لا يمكن أن تكون دينا، لذلك فإن الله تعالى يوجه نظرهم إلى ما نزل في الكتاب في موضوع النساء اليتامى فيقول: قل الله يفتيكم، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء" أي أن للناس - دون النبي- الحق في الاجتهاد، لأنهم ليسوا مبلغين عن الله، ولأنهم يتحملون وزر ما يقولون، وهذا منطقي ومعقول، لأن كل مؤلف من البشر يكتب اسمه على الكتاب الذي يؤلفه ويكون مسئولا عنه، والنبي محمد ليس مؤلفا لأي كتاب، ولكنه قام بتبليغ كتاب الله تعالى وتلك مهمته وتلك مسئوليته وليس عليه غيرها.
ج- ونعود إلى لمحات سريعة آخري عن كلمة "يسألونك" في القرآن فقد كانوا يسألون النبي عن أمور يعرفها بثقافته العربية والدينية، وكان المنتظر منه أن يجيب عنها من واقع المعرفة والتعود العربي، ولكنه لم يكن يجيب بما يعرف، وانتظر الإجابة من الله تعالى، ولذلك حين سألوه عن الأهلة (جمع هلال) لم يرد عليهم إلى أن نزلت الإجابة في قوله تعالي" يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج، البقرة 189" وبالتأكيد فإن هذه الإجابة معروفة مسبقا للنبي ولأي عربي، فقد اعتاد العرب اتخاذ التقويم القمري مواقيت شهرية، وعلى أساسها كان العرب يحجون للبيت الحرام، ولكن لم يبادر النبي بالإجابة رغم أن الإجابة لا تحتاج إلى اجتهاد في الرأي، لأنه لا يملك الإفتاء أو الاجتهاد في الدين.
د - ونحن نعتقد أن النبي عليه السلام قد بلغ الكمال الإنساني في الذوق الرفيع، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته: "الأنعام 124" ولذلك فإننا نتوقع أنه يعرف الإجابة مقدما حين يسأل عن مباشرة الزوجة في المحيض، ومن المتوقع أن تكون إجابته بالنهى عن ذلك لأن المحيض أذى، ذلك هو ذوق الصفوة من الناس، ولكن النبي لا يقول رأيه، وينتظر الإجابة إلى أن ينزل قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن: "البقرة 222" ويلاحظ أن البخاري أعطى في باب الحيض في كتاب الطهارة إجابة مخالفة لهذا التساؤل في حديث كاذب يزعم أن النبي كان يباشر نساءه في المحيض" وتأسيسا على موقف النبي من الرد على تساؤلات واستفتاءات الناس في عصره، وانتظار الإجابة من الوحي فقد حدث موقف طريف للنبي، فقد ظاهر رجل امرأته كعادة الجاهلية، وجاءت المرأة تستفتي النبي وتطلب منه حلا، ولم تكن حالتها النفسية ترضى بأن يمهلها النبي إلى أن ينزل الوحي بالفتوى، كانت تريد من النبي بأن يسرع بإعطائها فتوى سريعة، والنبي لا يملك حق الفتوى، فظلت تجادل النبي إلى أن نزل الوحي بالفتوى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله، والله يسمع تحاوركما: المجادلة 1 فالمرأة حين يئست بعد الحوار والجدال اشتكت إلى الله تطلب منه الفتوى، فنزلت الإجابة في تشريع الظهار (المجادلة 2: 4).
5- باختصار.. ليس للنبي أن يتحدث في الغيبيات، وليس له أن يتحدث في التشريع أو التفسير أو أن يجتهد في هذا وذاك. لم يكن له إلا التبليغ للقرآن كما هو، فالاجتهاد في التفكير لنا دون النبي في أمور التشريع.
وباختصار آخر، فإن ما نسب للنبي بعد موته بقرون كان انعكاسا وتعبيرا للثقافات السائدة وقتها، وحيث كانت العادة السيئة في القرون الوسطى هي الانتحال الديني، فقد كان سهلا نسبة هذه الثقافات للنبي عن طريق الروايات والسلاسل الذهبية والفضية والمعدنية!!.
ومن الطبيعي أن الصدمة ستكون هائلة إذا طبقنا هذا المقياس العقدي والتشريعي على فكر المسلمين في طوائفهم المختلفة، ولكن ستكون لنا مفاجأة آخري إذا طبقنا نفس المقياس على فكر محمد عبده ومنهجه، ستكون مفاجأة سارة حين نراه يقترب ويناور ويلتف حول الموضوع إلى درجة تحس معها أنه يريد أن يصرح وأن يعلن لولا أن كابوس التقليد والجمود يرزح فوق أنفاسه ويمنعه من الاسترسال والإفصاح.
6- وفى هذه العجالة السريعة سنأخذ تفسير المنار للشيخين محمد عبده ورشيد رضا كحالة نموذجية نتفهم منها منهج محمد عبده، ومنهج تلميذه رشيد رضا، والفجوة بين هذا وذاك.
إن رشيد رضا يؤكد في مقدمة تفسير المنار أن شيخه محمد عبده توقف في تفسيره للقرآن عند الآية (126) من سورة النساء، وتوفى بعدها فأكمل رشيد رضا التفسير إلى بعض أجزاء سورة يوسف. وهذا هو محتوى تفسير المنار للشيخين، بغض النظر عن طريقة صياغة رشيد لأجزاء التفسير كلها، وما ينسبه لنفسه أو لشيخه، وتلك قضايا فرعية نعرض عنها اختصارا. ونكتفي بتوضيح منهج الشيخين في ذلك التفسير والفجوة بينهما.
منهج محمد عبده:
ماذا قال محمد عبده في المنار عن علم النبي بالغيب؟ وماذا قال عن تشريع النبي في تعليقه على آيات يسألونك في الجزء الذي قام بتفسيره؟
1- في تفسير قوله تعالى وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء: آل عمران 179 يقول محمد عبده إن بعض الناس قد وقع في الوهم حين ظن أن كل من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب، وزعم بعضهم أن النبي محمدا قد أطلعه الله تعالى على علم الساعة قبل وفاته، ويؤكد محمد عبده أن كل ذلك من الجرأة على الله، والقول عليه بغير علم، وهنا يستدل محمد عبده بقوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب (الآية الخمسون من سوره الأنعام ) ويقول محمد عبده إن هذا ما أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يبلغ عن ربه للناس ويؤكد محمد عبده مجددا عدم علم النبي بالغيب بقوله تعالى ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء: الأعراف 188
ثم يقول محمد عبده إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله تعالى عن نفسه وأن ذلك يقضى إلى تعطيل صفات الألوهية بالتأويل، فيجب أن نقف عند حدود النصوص في أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس ولا مجال فيه لعقول الناس، وسيأتي لهذا البحث مزيد بيان في سورة الأنعام وغيرها إن شاء الله تعالى أ.هـ.
ومات الإمام محمد عبده قبل أن يكمل في تفسيره إلى سورة الأنعام وما فيها من آيات تنفى عن النبي علم الغيب، وكان ذلك من حظ تلميذه رشيد رضا الذي استخدم كل مهاراته في التأويل والتحريف لكي يثبت للنبي علما بالغيب خلافا لمنطق القرآن الواضح، وخلافا لتفسير شيخه محمد عبده. وموعدنا مع تفصيل لذلك فيما بعد، ولكن نتوقف مع ما قاله محمد عبده بالمزيد من التأمل.
2- فالآيات التي تقطع بأن النبي محمدا لا يعلم الغيب لم تأت في الجزء الذي عرض له محمد عبده في تفسيره ومع ذلك فقد استشهد ببعض الآيات الواردة في سورتي الأنعام والأعراف قبل أن يصل إليها، ووعد بأن يأتي بمزيد من البحث ليؤكد عدم علم النبي بالغيب. أي أنه كان حاضر الذهن في الموضوع وقد اكتمل وعيه بحقائق القرآن التي تؤكد عدم علم النبي بالغيب.
ويكاد القارئ لما بين سطور الكلام أن يقطع بأن الإمام محمد عبده كان حاضر الذهن في نفى الأحاديث التي تنسب للنبي زورا العلم بالغيب، وإن لم يتعرض لها بالهجوم والاستنكار مكتفيا بالدعوة إلى الإعراض عنها تحت عنوان عام يحذر من تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل .
والمسكوت عنه في هذه العبارة يظهر حين نعيد شرحها أو نعيد صياغتها في ضوء التأكيدات القرآنية التي استشهد بها محمد عبده، فنقول إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله تعالى عن نفسه من أن النبي لا يعلم الغيب، إذا أجزنا أن نقيد ذلك بتلك الأحاديث التي تثبت للنبي علم الغيب فإن ذلك يفضى إلى تعطيل جميع صفات الألوهية بتأويل معناها، حيث إن العلم بالغيب مما اختص الله تعالى به ذاته، وأعطى بعضه لبعض الأنبياء كمعجزة ولم يكن منهم خاتم النبيين .
والمفهوم في منهج محمد عبده في هذا السياق انه اكتفى بتقرير القرآن في التأكيد على أن النبي لا يعلم الغيب، واكتفى بالإعراض عن الأحاديث المخالفة للقرآن في هذه القضية، ولم يشأ إعلان الحرب عليها، لأن المناخ السياسي والثقافي يحول بينه وبين ذلك. وهذا هو موقفه من الجزء العقدي في المقياس، أي ما يتعلق بعلم الغيب. فماذا عن الجزء الآخر التشريعي، وهو أن النبي كما لا يعلم الغيب فليس له أيضا أن يجتهد في التشريع؟
3- وهنا نجد تضاربا في منهج الإمام محمد عبده.
ففي تفسير المنار في الجزء الخاص به نجده يتبع المنهج التقليدي في الإصلاح الفكري، بمناقشة الروايات خصوصا أسباب النزول معتمدا في ذلك على ما ورد في الرازي والجلالين، ونحن نركز هنا على آيات يسألوك عن الخمر والميسر ويسألونك ماذا ينفقون، يسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض: (البقرة: 189، 222،220،219،217،215) ولم يستشف منها ما قررناه سابقا من أن النبي لم يكن له أن يفتى في أي تشريع.
وفى مقابل هذه النظرة التقليدية نجد الشيخ أكثر جرأة في إصدار الفتاوى الثورية التي تحل التعامل مع البنوك والتصوير الفوتوغرافى والاستماع إلى الراديو والتي تحل الإضراب للعمال المظلومين، كما نجد ما يؤكد هذه الثورية في اعتبار الأحاديث (الصحيحة) مجرد أحاديث آحاد تفيد الظن ولا تفيد اليقين.
هذا بالإضافة إلى اعتبار النظر العقلي لتحصيل الإيمان هو الأصل الأول للإسلام، وجعل تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض هو الأصل الثاني للإسلام، ثم جعل الأصل الرابع الاعتبار بسنن الله تعالى في الخلق (الإسلام بين العلم والمدنية 2 :106،105) (ط. الهيئة العامة للكتاب المصرية).
وباختصار فإن منهج محمد عبده قد اقترب من المقياس الصحيح في موضوع الغيب وتقاعس عن ذلك المقياس في موضوع التشريع والتفسير. كان في الجانب العقلي سابقا لعصره والعصور السابقة، بينما اكتفى في الجانب الآخر بالإصلاح التقليدي بمنهج المصلحين السابقين، في تتبع الروايات ومناقشتها، وتوضيح الصحيح من الفاسد تسليما بالمبدأ نفسه.
وهذا بدوره أعطى فرصه لتلميذه السلفي رشيد رضا لكي يرسي دعائم منهجه ولكي يفسد الثمرة التي ناضل من أجلها أستاذه وندخل بذلك على منهج رشيد رضا.
منهج رشيد رضا:
1-هربا من بيئة التعصب الديني (بين المسلمين والنصارى) والتعصب المذهبي (بين السنة والشيعة) والصراع الدولي (بين العثمانيين والأوربيين) جاء رشيد رضا من الشام إلى مصر، ضمن كثيرين من الشوام النصارى والمسلمين، الذين جاءوا إلى مصر يحملون داخلهم إفرازات التعصب الديني والمذهبي وموروثاته. وفى مصر كان التدين مختلفا، يسمح لهذا وذاك بحرية المعتقد وإمكانية الشهرة والثراء والنفوذ. وأتيح لهذه الكفاءات الشامية عن طريق (وكلاء) مصريين أن يحظوا بالشهرة والثناء، وعندها، وبعد الاستقرار والتمتع بالأمان، عاد أولئك الأعلام الشوام إلى استئناف خصوماتهم الفكرية في مصر، بين علمانيين وسلفيين، بين ملحدين ومتدينين، بين نصارى ومسلمين..
وكان من أولئك صاحبنا رشيد رضا الذي حمل في داخله التعصب السني السلفي بعد أن أحدثت الحركة الوهابية انتعاشا للفكر السلفي الحنبلي التيمي بالشام. وحاول رشيد رضا كبت مشاعره السلفية بكل ما أوتى من دهاء أهل الشام، ولا ريب أنه كان يتوجع من آراء أستاذة محمد عبده ومن انتقاده للأحاديث، خصوصا وقد كان الإمام محمد عبده لا يفتأ يهاجم التصوف والدعوة الوهابية معا.
2- وبينما كان رشيد رضا يحتفل بآراء شيخه في نقد التصوف ويرصع بها أقواله في تفسير المنار نجده على العكس يتجاهل أراء محمد عبده في السخرية وانتقاد الوهابية، ومنها قوله عنهم .. فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطفا وأحرج صدرا من المقلدين، وإن أنكرت كثيرا من البدع، ونحت عن الدين كثيرا مما أضيف إليه وليس منه.. فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء. (الإسلام بين العلم والمدنية: 47:148)
3- وكذلك تجاهل رشيد رضا ما أكده الإمام في نفس الكتاب السابق عن الأصل الثالث من أصول الإسلام وهو البعد عن التكفير، والتكفير أساس الاستحلال للدماء والأموال والأعراض، والاستحلال أساس قيام وتوسع الدولة السعودية الوهابية. وصاحبنا رشيد رضا أوقع نفسه في تكفير خصومه في المذهب وفي الدين في مواضع كثيرة من تفسيره في المنار، وذلك حين كان يخلط بين خطاب الله تعالى للبشر من مشركين وأهل كتاب (ومن حقه تعالى أن يقول لهم ما يشاء) وبين الأوامر الإلهية لنا بالحكمة والموعظة الحسنة وإرجاء الحكم في العقائد إلى الله تعالى يوم القيامة، وذلك في حوارنا مع المختلفين عنا في المذاهب والعقائد.
سار رشيد رضا على نفس طريقة السلف - خصوصا ابن تيميه - في إدمان التكفير لجميع من يخالفونه في الرأي.
4- وإذا كان محمد عبده في كتابه (الإسلام بين العلم والمدنية) قد جعل الأصل الخامس من أصول الإسلام "قلب السلطة الدينية.. والإتيان عليها من أساسها" فإن رشيد رضا لم يفهم من هذا المبدأ إلا الهجوم على أولياء التصوف، ونراه في المقابل يعمل على تأسيس الكهنوت الديني السياسي أو الدولة الدينية، وهو المبدأ الذي وقف عليه نشاطه بعد أن تحالف علنا مع السعوديين، وبعد موت شيخه الإمام. والطريف - بل من غير الطريف - أن رشيد رضا يتحدث عن تأليف الإمام محمد عبده لكتاب الإسلام بين العلم المدنية فيقول في مقدمة تفسير المنار " زرته يوم الجمعة 13 رمضان فقرأ لي عبارة من كتاب فرنسي في الطعن على الإسلام، وطفق يرد عليها بعد أن قال أن هؤلاء الإفرنج يأخذون مطاعنهم في الإسلام من سوء حال المسلمين مع جهلهم بحقيقة الإسلام، وقال إن القرآن نظيف والإسلام نظيف وإنما لوثه المسلمون بإعراضهم عن كل ما في القرآن واشتغالهم بسفاسف الأمور.." والشيخ رشيد رضا لم يذكر لنا كل ما قاله له شيخه، كما لم يذكر أيضا لنا في تفسير المنار بعض ما قاله شيخه في نفس الكتاب " الإسلام بين العلم والمدنية".
5- ومن حقنا أن نتشكك في أمانة النقل لدى رشيد رضا في الموضوعات التي يختلف فيها مع شيخه الإمام، ويتأكد لنا هذا الشك في تفسير المنار ذاته، ففي نهاية الجزء الذي فسره الإمام محمد عبده وهو نهاية الآية (126) من سورة النساء يقول رشيد رضا هذه الآية كانت آخر ما فسره شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في الجامع الأزهر، وسنستمر في التفسير على هذه الطريقة التي اقتبسناها منه، ولكنه يناقض نفسه فيما كتبه في المقدمة، والعادة أن تكون مقدمة الكتاب آخر ما يقوم به المؤلف لأنه في نهاية حديثه في المقدمة يقول هذا وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيرا لها أو في حكمها وواقع الأمر أن منهج محمد عبده اعتمد على بعض مرويات الأحاديث ومناقشتها وإثبات ما يتفق منها مع وجهة نظره، ولكن الجديد الذي جاء به رشيد رضا ورفض أن يفصح عنه هو الإتيان بأحاديث سماها سنة صحيحة وهى تؤكد على رؤية رشيد رضا المخالفة لمدرسة شيخه التنويرية ونضرب لذلك مثلا واحدا: فالشيخ محمد عبده في تفسير آية وما كان الله ليطلعكم على الغيب وعدنا بتفصيلات أخرى تؤكد أن النبي لا يعلم الغيب، وذلك عندما يصل إلى الآية 50 من سورة الأنعام قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ومات الإمام قبل أن يصل إلى نهاية سورة النساء، وأكمل رشيد رضا التفسير، وحين جاء إلى الآية المذكورة حاول تأويل أو تحريف معناها الواضح ليثبت للنبي علم الغيب، وفعل نفس الشيء في موضوع الشفاعة، وهذه هي السنة الصحيحة التي يعنيها رشيد رضا،
6- وهنا تبدأ الفجوة بين محمد عبده ورشيد رضا، وهنا أيضا تتسع الفجوة: فالأحاديث النبوية عند محمد عبده مجرد أحاديث آحاد لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن، ولا تنهض وحدها دليلا إلا إذا اتكأت على آية قرآنية أو رؤية قرآنية واضحة. أما عند تلميذه رشيد رضا فالأحاديث هي مصدر قائم بذاته سواء اختلف أو تعارض مع القرآن، بل طبقا لمنهجه فإنه يستسيغ تأويل الآيات القرآنية وتحريف معناها كي توائم وتتفق مع الأحاديث الصحيحة لديها.
7- ولكن النتيجة الواضحة والمؤلمة أن رشيد رضا نجح في خنق وتحجيم حركة شيخه التنويرية وكان لذلك سببان: الأول يرجع إلى منهج محمد عبده نفسه الذي لم يكن متسقا ومحددا. إذ إنه بدون مبررات تشرح سوء الأحوال وعنف الأشياخ وتأثيراتها على تردد محمد عبده وعدم وصوله إلى منهج كامل متسق الأطراف يضع الأمور في نصابها، نقول برؤية منهجية فوقية أن هذا التردد وعدم حسم المشكلة الأساسية (الأحاديث المنسوبة للنبي في الغيبيات والتشريعات ) قد أتاح لرشيد رضا أن يجهض حركة محمد عبده التنويرية ويحصرها في الإطار التقليدي الذي تتقلص مساحته التنويرية شيئا فشيئا، والمؤسف أن عدم التحديد للمفاهيم و التواري في الهجوم خلف مصطلحات باهتة، مثل التأويل جعل الكثيرين يعتقدون أن رشيد رضا قد سار على منوال شيخه، لأن التلميذ الداهية استخدم نفس مصطلحات شيخه استخداما عكسيا، فإذا كان محمد عبده يريد أن يهاجم الأحاديث تحت لافتات أخرى مثل التأويل وسفاسف الأمور، فإن رشيد رضا بذكاء نادر استخدم نفس اللافتات في الهجوم على خصومه، ومنهم من كان قرآنيا حاول أن يبنى على ما أرساه الإمام محمد عبده، فكان أن سلط عليه رشيد رضا منبر المنار ليهاجمه ويستعدى المناخ مستخدما نفس مصطلحات شيخه.
8- والسبب الثاني يعود إلى المناخ الذي ساند رشيد رضا في منهجه: فرشيد رضا لم يكن في وزن شيخه محمد عبده ليكمل بعده مشوار الإصلاح ولكي يعادى شيوخ الأزهر وحلفاءهم في السرايا الملكية وقصور الإقطاع. هذا إذا كان رشيد رضا متحمسا فعلا للسير على طريقة شيخه، ولكن عرفنا اتجاهه الحقيقي، وقد وجد المناخ بعد موت الإمام محمد عبده مواتيا لكي يرسي دعائم دعوته السلفية ويصعد معها إلى القمة. فقد كان خصوم رشيد رضا من المفكرين الشوام ينشرون في مصر (المذاهب الغربية الإلحادية والعلمانية لأهل أوربا الكفرة الذين يستعمرون بلاد المسلمين) ومن الطبيعي أن يتحد رشيد رضا مع علماء الأزهر ضد أولئك الملاحدة، خصوصا بعد إسقاط الخلافة العثمانية وتحول تركيا إلى (العلمانية الكافرة) وتجدد الحديث عن الخلافة الإسلامية وبعثها، وما واكب ذلك من علو شأن الدولة الوهابية السعودية باستيلاء عبد العزيز آل سعود على مكة والحجاز سنة 1926، وتنافسه مع الحكام الآخرين في مزاد الحصول على لقب الخلافة والإمامة العظمى في مواجهة الغرب الكافر. من الطبيعي أن يحاول رشيد رضا بمهارته الشامية أن يظفر من هذا السوق السياسي بأي شيء. وقد ظفر فعلا بشيء وأشياء، وبغض النظر عن هذه الأوضاع السياسية فإنها خلقت مناخا ليس لديه أدنى استعداد للبناء فوق ما أرساه الإمام محمد عبده، ويكفى أن الظروف الاجتماعية والسياسية في مصر أصبحت تتقبل فكرة الدولة الدينية، بعد أكثر من قرن من النهضة الفكرية وتأسيس الدولة المدنية الحديثة، ومشاركة محمد عبده في تأسيس الحزب الوطني القديم الذي يفصل بكل وضوح بين الانتماء الديني والانتماء السياسي.
9- هذه النقطة استثمرها رشيد رضا في الدعاية لمشروعه السياسي للدولة السلفية الدينية، وكان قبل ذلك قد أسهم في تحويل الجمعية الشرعية من تدينها الصوفي إلى التدين الوهابي، كما نجح في إقامة جماعة أنصار السنة بزعامة صديقه الشيخ حامد الفقي، كما أسهم في إقامة جماعة الشبان المسلمين أي أنه أكمل إرساء الدعوة السلفية بديلا عن دعوة محمد عبده المستنيرة، ثم كان أن قام رشيد رضا بأخطر عمل سياسي، وهو إقامة جماعة الأخوان المسلمين عن طريق تلميذه الشاب حسن البنا سنة 1928 وبذلك تحول الفكر السلفي من مجرد الدعوة إلى الحركة السياسية النشطة إلى إقامة الدولة الدينية. ونجح حسن البنا خلال عشرين عاما (1928-1948) في إنشاء خمسين ألف شعبة في العمران المصري، وساعد على نجاحه استثمار المناخ الديني والاجتماعي لصالحه بالإضافة إلى حرمان الطبقات الوسطى والدنيا من طموحها السياسي، مع التبرعات المالية من السعودية قبل ظهور البترول فيها. واستثمر حسن البنا كل أنواع الخلل الاجتماعي والسياسي لصالحه، وتحالف تبعا لمصلحته مع حكومات الأقليات، ومع كل أنواع الثوار وفى النهاية تحالف أتباعه بعد مقتله مع حركة الجيش، وأسهموا في قيام الثورة، ثم اختلفوا مع عبد الناصر فانقلب عليهم فهرب من نجا منهم إلى موطنهم الروحي (السعودية).
10- وقد استفاد الفكر السلفي من هذا المناخ السياسي الصاعد والهابط على السواء بالنسبة للحركة السلفية السياسية، والدليل على ذلك أن عبد الناصر وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الوالي محمد على من قبل، حين قضى على الدولة السعودية الأولى دون أن يقضى على أساسها الفكري والديني. وإذا كنا نغفر للوالي البلقاني محمد على هذا الخطأ فكيف نبرره لعبد الناصر وهو أقرب لفهم ما يجرى أكثر من الوالي محمد علي. والمهم أن عبد الناصر قضى على الإخوان سياسيا ولكنه تبنى الفكر السلفي أو على الأقل تصالح معه، ووضع عبد الناصر بذلك الأسلوب العسكري في مواجهة الحركات الدينية السياسية، وهو أن تكون الدولة العسكرية- خصوصا في وقت ضعفها - معتمدة على أشياخ التطرف في محاربتها للتطرف نفسه، وتكون النتيجة أن تحاول الدولة المزايدة على المتطرفين بأن تكون أكثر تدينا منهم، وكذلك فعل عبد الناصر، وكذلك فعلت الجزائر وكذلك تفعل السياسة المصرية الراهنة، وكذلك يستفيد التطرف السلفي على صعيد السياسة، وعلى صعيد الفكر، وعلى صعيد المنهج الفكري، وهنا يكون اختبارا صعبا أمام أي مفكر مسلم مستنير يحاول مواجهة الفكر السلفي السائد والذي يحظى بمساندة الدولة نفسها. وتلك هي الأرضية التي قام فيها فكر الشيخ شلتوت في عهد عبد الناصر وهى نفس الأرضية التي انتشرت فيها غابات الشوك، والتي يتحتم على كاتب هذه السطور أن يسير فوقها خلال ما تبقى له من عمر..
منهج الشيخ شلتوت:
وقد سار الشيخ شلتوت على منهج الإمام محمد عبده في الصياغات العامة وغير المحددة. فإذا كان محمد عبده قد جعل العقل يحتل الأصلين الأول والثاني ضمن أصول الإسلام في الإيمان والتشريع، فإن محمود شلتوت يتحدث في كتابه من توجيهات الإسلام عن الإسلام دين العقل والعلم ودين الواقع والحقائق. ويردد نفس المقولة في الفتاوى عن قيمة العقل (من توجيهات الإسلام: 236،176،140،18، الفتاوي: 332) وتحت هذا الشعار تزدحم كتبه وفتاويه بالأحاديث التي ينتقيها موافقة للقرآن ومنهجه العقلي، وذلك بدرجة أكبر مما نراها في كتابات محمد عبده، وفى المقابل، فإذا كان محمد عبده يبتعد عن أسلوب التكفير ويجادل النصارى والملحدين بالتي هي أحسن، نرى شلتوت في الفتاوى يحكم بكفر من يفعل كذا وكذا بنفس طريقة الفقهاء في العصور الوسطى.
وإذا كان محمد عبده قد أعلنها صريحة في أن النبي لا يعلم الغيب فإن الشيخ شلتوت تحاشى ذلك الإعلان، واكتفى بين سطور الفتاوى بعدم الاعتداد بما يقال عن العلاقات الحسية بين الإنس والجن وما يقال من تزاوج بينهما، وحتى لا يصطدم بأحاديث في البخاري تكرس ذلك الاعتقاد نرى شلتوت يحاول من خلال الفتاوى الإيحاء بأن تلك المقولات عن علاقات الإنس والجن مجرد فتاوى فقهية كانت للتدريب النظري، فحسب ثم يدعو في النهاية على استحياء إلى الرجوع إلى القرآن (الفتاوى 19: 21)
أي أن مساحة التنوير تناقصت لدى شلتوت عما كانت عليه عند محمد عبده بسبب تسيد المنهج السلفي وغلبته، لذلك تضاءلت بالتالي تفصيلات التنوير لدى الشيخ شلتوت وتناقصت طرديا مع علو النفوذ السلفي على الحياة الدينية. ولذلك لا تعجب حين تعرف أن الشيخ شلتوت لم ينج من الاضطهاد، حتى حين كان مديرا لمكتب شيخ الأزهر المراغي. وأنه كتب أهم وأجرأ مؤلفاته بعد أن أصبح شيخا للأزهر، ومع ذلك فلم تنج هذه المؤلفات من امتعاض الشيوخ، ومن الطبيعي أن يسوء الحال أكثر بعد عصر شلتوت وعبد الناصر، حين تحالف السادات مع الإخوان والسعوديين وفتح الباب واسعا أمامهم ليسيطروا على المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية.. وهذا ما كان كاتب هذه السطور شاهدا عليه وأصبح جزءا من تاريخه النضالي. وذلك يستحق لمحة سريعة..
منهج ما بعد شلتوت
1- كان الدكتور محمد البهي (توفى في حدود 1980م ) أبرز دعائم المدرسة التنويرية بعد الشيخ شلتوت وهو الذي نشر مؤلفات شلتوت حين كان مديرا عاما للثقافة الإسلامية في الأزهر، وقد عبر عن تضامنه وتفاعله مع هذه الاستنارة في أعماله حين كان مديرا لجامعة الأزهر أو وزيرا للأوقاف، وفى مؤلفاته وأهمها عن منهج القرآن في تطوير المجتمع. وفى نفس الوقت فإن الدكتور محمد البهي كان في بعثة الشيخ محمد عبده إلى الجامعات الألمانية سنة 1931 وقد حملت هذه البعثة اسم الإمام محمد عبده تيمنا باسمه، وعاد محمد البهي يحمل دكتوراه الفلسفة وعلم النفس من جامعتي هامبورج وبرلين. وكان ذلك أثناء مشيخة الشيخ الظواهري الذي وضع قانون إصلاح الأزهر سنة 1930 وكان الظواهري والمراغي من مدرسة محمد عبده في إصلاح الأزهر، ذلك الإصلاح الذي توجه في الأغلب إلى الشكل دون المضمون والمنهج، ولا يزال حتى الآن أي نفس المنهج القديم الذي لم يجرؤ محمد عبده على الاصطدام به مكتفيا بالعبارات العامة، وكان أول من اصطدم بالمنهج القديم العتيد هو كاتب هذه السطور.
2- بدأ ذلك بالمنهج الذي اتبعه كاتب هذه السطور في بحث الدكتوراه وكان عن أثر التصوف في مصر العصر المملوكي، وفيه بحث الحياة المصرية سياسيا ودينيا واجتماعيا وثقافيا من خلال تأثير التصوف فيها واستقال المشرف على البحث وكشف للشيوخ المنهج الذي اتبعه المؤلف، فبدأت حروب الشيوخ ضد المؤلف وكان وقتها مدرسا مساعدا في قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية اللغة العربية بالقاهرة جامعة الأزهر، واستمرت تلك الحرب ثلاث سنوات (1977 - 1980) وانتهت بحل وسط، وهو حذف ثلثي الرسالة ومناقشة الثلث فقط، وهو الذي يتعرض لأثر التصوف السياسي والاجتماعي والثقافي والعلمي، وخلال مراحل هذه الحرب لجأ المؤلف إلى الدكتور محمد البهي، وكان في عزلته بعيدا عن مشاكل الجامعة، وعرض عليه أن يتولى الإشراف على الرسالة باعتباره البقية الصالحة من مدرسة التنوير في الأزهر، واعتذر الدكتور البهي بلباقة وأشار على المؤلف بترشيح واحد من اثنين من تلامذته وقد سبق أن أرسلهما إلى ألمانيا حيث حصلا منها على الدكتوراه، وهما د.محمود زقزوق (جامعة ميونخ) ود. محمد عبد الغنى شامه (جامعة برلين الغربية) وأوصاهما الدكتور محمد البهي بالباحث خيرا.
وفعلا ذهب المؤلف إلى د. محمود زقزوق وكان يعمل وقتها عميدا لكلية الدعوة ، ولكن الدكتور زقزوق آثر السلامة فاعتذر، وحينئذ لم يبق للباحث إلا أن يلجأ لرفيقه الآخر د.محمد عبد الغنى شامة الذي استجاب وتشجع على المغامرة ولكن الشيوخ رفضوا إشرافه على الرسالة، وأسندوا الإشراف عليها إلى اثنين من الشيوخ معا..
وتلك لمحة سريعة يبدو منها التضاؤل الهائل في حجم وعمق المدرسة التنويرية في مصر في عصر السادات، وازداد التضاؤل بازدياد النفوذ السعودي في مصر، بحيث تبلورت مواقف كثيرة، حتى إن المتعصبين للتصوف أصبحوا متعصبين ضده حبا في البترودولار وفى الريال السعودي.
منهج مدرسة التنوير التونسية
بين بن عاشور ومحمد عبده:
1- لا مفر من الاعتراف بأن هذه الورقة البحثية تعانى من نقص حاد في المراجع التونسية، خصوصا تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور، وكل ما اعتمدت عليه هذه الورقة هو كتاب وحيد للشيخ ابن عاشور وهو أصول النظام الاجتماعي في الإسلام بالإضافة إلى كتابين أحدهما عن ندوة أقيمت حول إسهامات الشيخ الطاهر بن عاشور في تجديد الفكر الديني، وهى رقم (9) من سلسلة آفاق إسلامية، بالإضافة إلى العدد الأول من هذه السلسلة وكان عن الوسطية والتيسير في الإسلام.
وقد يكون بعض الإسهاب السابق في المدرسة التنويرية المصرية معينا على توضيح بعض النقاط الغائبة في توصيف المدرسة التنويرية التونسية، ولكن أرجو أن يتاح الوقت للاطلاع الكافي على المصادر التونسية لإعطاء صورة متكاملة في بحث متكامل يضع كل النقاط فوق كل الحروف
لقد تحدثت المصادر التونسية لدينا عن لقاء بن عاشور بالشيخ محمد عبده وتأثره به.
فالدكتور على الشابي يلاحظ اتساق الخطاب الإصلاحي للشيخ بن عاشور مع الحركة الإصلاحية الإسلامية خارج تونس وداخلها، وهو يركز على تفاعل بن عاشور مع الشيخ محمد عبده حين زار تونس للمرة الثانية سنة 1903 ويعطى بعض أمثلة للتشابه في الآراء بينهما في تقييد تعدد الزوجات وإصلاح حال المرأة ومحاولة إصلاح التعليم الديني وكيف هب الشيخ ابن عاشور للدفاع عن محمد عبده حين هوجم بسبب الفتوى الترنسفالية.
ويؤكد عبد العزيز يوسف والحبيب الشعبي ذلك التفاعل بين المدرسة الإصلاحية المستنيرة في تونس وبين محمد عبده حين زارها ويؤكد الشعبي ذلك التفاعل حين يتحدث عن معاناة ابن عاشور من المتزمتين حين أراد إصلاح التعليم الزيتوني، وكيف كان بن عاشور يسخر منهم، وهذا يذكرنا بمعاناة محمد عبده من شيوخ الأزهر المتزمتين، وكيف كان يسخر منهم، وفى حوار بين الشيخ محمد عبده والشيخ البحيري قال البحيري عن تعليم الطلاب: إننا نعلمهم كما تعلمنا، فقال الإمام محمد عبده وهذا الذي أخاف منه، فقال البحيري، ألم تتعلم أنت في الأزهر؟ وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم وصرت فيه العالم الفرد فأجابه محمد عبده إن كان لي من العلم الصحيح الذي تذكر فإنني لم أحصله إلا بعدما مكثت عشر سنين اكنس من دماغي مما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة (سلسلة آفاق إسلامية: ندوة الطاهر بن عاشور: رقم (9) 42،35،33،- 362،160، 367 381) (سلسلة الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده 179،178،3).
ومن الطبيعي أن يؤثر هذا التواصل والتفاعل بين محمد عبده وبن عاشور على منهج الأخير ونظرته للقرآن والحديث والتراث مع التأكيد بأن منهج بن عاشور - حسب ما لدينا من مصادر - قد احتوى على بعض التغيير الذي تميزت به المدرسة التونسية المستنيرة عن نظيرتها المصرية، نظرا لاختلاف الظروف التونسية عن الظروف المصرية، التي أسلفنا الحديث عنها.
منهج بن عاشور في التفسير والحديث:
(1) وقد أوجز الدكتور على الشابي منهج ابن عاشور في التفسير، فهو يقرأ القرآن قراءة لغوية وقراءة مقاصدية تتحقق بها المصلحة التي تتغير باختلاف الزمان والمكان ودرجة تطور المجتمع.
وهناك تفصيلات أخرى في الحديث عن منهج ابن عاشور في التفسير، فيرى محمد المهدي العروسي أن بن عاشور يعتمد التفسير بالرأي ويدعو إليه، ولكن يقرنه بالأساليب الاجتهادية التي تعتمد أساسا على اللغة العربية وعلومها، كما أن الشعيبي قد أورد رؤية الشيخ في إصلاح علم التفسير، وهى تفسير النص القرآني بمفاهيم اللغة الحقيقية ودلالات الألفاظ وعلوم البلاغة، وإنه لا يؤخذ من أقوال السلف إلا ما يوافق الأصول الدينية الثابتة، وتجنب الدعاية الحزبية والمذهبية، والاقتصار على تبين المعنى والاقتصار على استنباط المقاصد ودقائق الآيات.
(2) وبالنسبة للروايات، ترى وسيلة بلعيد أن الشيخ كان يعنى بتمحيصها ونقدها ويختار أقربها للصحة وفق مناهج المحدثين، أما الشعيبي فقد تحدث عن اهتمام الشيخ بنقد سلاسل الرواة والعنعنة مع ضرورة نقد المتن، وإنه اقترح إلغاء الأحاديث الضعيفة، والاكتفاء بذكر الراوي من الصحابة، والاهتمام بما يستنبط من الحديث (سلسلة أفاق إسلامية: رقم (9): 44، 245، 247، 253، 388، 138 - 389)
دور الشيخ خضر حسين:
(1) والواضح مما سبق أن الشيخ بن عاشور سار في نفس المنهج الإصلاحي التقليدي، نفس الطريق الذي سارت فيه الحركة الإصلاحية في منتصف القرن العشرين، وذلك بعد التأثير الذي انعطفت به هذه الحركة بالحركة الوهابية ودعاتها، من أبرزهم رشيد رضا. ورأينا كيف تأثرت المدرسة المصرية بهذا التغيير، وكيف حمل الشيخ شلتوت ذلك التأثر في منهجه، ومن المنطقي أن يصل ذلك التأثير إلى تونس، ليس فقط بحكم الصلة بين البلدين، ولكن أيضا لأن هذه الصلة توثقت بين المدرستين بوجود الشيخ خضر حسين التونسي الأصل في إمامة ومشيخة الأزهر، فيما بين (1952 - 1954)
ومع أن الشيخ محمد خضر حسين لا ترشحه مؤلفاته لكي يكون علما في مدرسة التنوير شأن شلتوت وبن عاشور إلا أنه كان حلقة وصل نشطة بين المدرستين المصرية والتونسية، إذ درس في الزيتونة وفى الأزهر، وعمل في الزيتونة مدرسا، ثم عمل في تونس قاضيا، وبعدها عاد إلى مصر ليرأس تحرير مجلة الأزهر، ثم يلتحق بعضوية جماعة كبار العلماء، إلى أن اختير شيخا للأزهر.
وهذا التنقل بين مصر وتونس عززه نشاط الشيخ خضر السياسي حين كان ينتقل منددا بالاستعمار الأوربي لبلاد المسلمين، وحين كان يدعو إلى نبذ الخلاف بين المسلمين من أجل الوقوف ضد الاستعمار.
وذلك الشيخ التونسي الذي أحرز شهرة في مصر والعالم الإسلامي كان أقرب للسلفية منه إلى الاستنارة فقد وصل إلى أعلى منصب في الأزهر بفكره السلفي الصوفي، وبهجومه على الشيوخ المستنيرين في مصر، فللشيخ خضر كتابان هامان وهما نقض كتاب الشعر الجاهلي يهاجم فيه د. طه حسين، وكتاب نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم يهاجم فيه الشيخ على عبد الرازق.
كما أن مواقفه السياسية التي تبدو متحررة كانت مغلفة بالتوجه السلفي إذ كان من أشد المؤيدين لاشتغال رجل الدين بالسياسة لأن الأمة لا تتقدم إلا بعلمائها وهى نفس دعوة رشيد رضا إلى الدولة الدينية، أو خطوة نحو تحقيق هذا المشروع، ولذلك نراه قد غضب من الرئيس عبد الناصر حين ألغى المحاكم الشرعية وحين تفجر خلافه مع الإخوان المسلمين.
(2) ولا يمكن إغفال الأثر الذي أحدثه الشيخ خضر حسين في الربط الفكري بين مدرستي تونس ومصر، كما لا يمكن إغفال التأثير السلفي لهذا الشيخ على المدرسة التونسية، خصوصا بعد أن أصبح شخصية مشهورة في مصر وتونس والعالم الإسلامي، وهذا التأثير لم يكن يشجع الشيخ بن عاشور على أن يقترب من القمة التي وصل إليها محمد عبده من قبل في المنهج وفى الجرأة، هذا بالإضافة إلى أن النشأة الاجتماعية للشيخ الطاهر نفسه توضح أنه كان سليل بيت أصولي عريق، تتردد في جنباته علوم التراث (المقدسة) من تفسير وحديث، وقد تفتحت عيونه ومعارفه على ذلك التراث الذي أصبح جزءا من مكانة الأسرة اجتماعيا. وقد يكون سهلا على الإمام عبده أن يطيح بما أسماه وساخات الأزهر لأن محمد عبده نشأ في أسرة ريفية مصرية عادية، فهو ليس له حسب أو نسب في الأرستقراطية الدينية بالقاهرة، ولكن ليس سهلا على سليل أسرة دينية متخصصة في علوم الدين أن يقوم أحد أبنائها بنسف ذلك التراث مرة واحدة. وهنا يمكن أن تتحدد ملامح المنهج الإصلاحي والفكر التنويري في الإصلاح التقليدي للموروث طبقا لما كان عليه الحال في عصور الاجتهاد في القرنين الثاني والثالث من الهجرة، أي نقد الروايات والإعلاء من شأن الرأي والعقل. وهذا بالضبط أساس المنهج الفكري لبن عاشور، وهو هنا يتفق مع رفيقه محمود شلتوت، بقدر ما يبتعد عن رفيقه الآخر محمد خضر حسين.
ونتوقف هنا قسرا بسبب المساحة واعدين بمشيئة الله أن نكمل الحديث
تحت العناوين التالية:
1ـ أثر الطبيعة التونسية وآثر الطبيعة المصرية: بين بن عاشور وشلتوت
2ـ بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
3ـ ملامح الوسطية والتسامح عند محمد عبده
4ـ من ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ الطاهر بن عاشور
5ـ ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ شلتوت
6ـ قضايا المرأة
7ـ في الموقف من غير المسلمين.
عودة إلى الفهرس
عدد 67&68 ديسمبر - يناير 1999-2000
بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة في الإسلام
(2 من 2)
رؤية إسلامية
د. أحمد صبحي منصور
ملخص ما سبق نشره
في مقدمة الجزء الأول من بحثه القيم عن 'بعض مراتب الاستنارة الحديثة في الإسلام' استعرض د. أحمد صبحي منصور بعض المفاهيم الأساسية اللازمة للتمييز بين مفهومي الدين والتدين, ثم تطرق إلى استعراض مدرسة الاستنارة الدينية, في مصر وتونس في القرن العشرين بادئا بشرح الأرضية التاريخية. ثم قدم شرحا لمنهج مدرسة التنوير المصرية مستعرضا منهج الإمام محمد عبده وخلفه الشيخ رشيد رضا مبينا كيف أن الأخير لم يكمل مسيرة الأول , بل لعله عكسها في أكثر من موضع.
كذلك استعرض الكاتب منهج الشيخ شلتوت وما بعده. كما استعرض منهج مدرسة التنوير التونسية بريادة الشيخ الطاهر بن عاشور.
وكما قدم لنا موجزا عن منهج بن عاشور في التفسير والحديث, أبان لنا دور الشيخ خضر حسين كحلقة وصل نشطة بين المدرستين المصرية والتونسية.
وفى هذا الجزء الثاني يواصل إنارته وإضافاته التي تضعه في مقام من يؤرخ لهم بإذن الله, وأكثر.
أثر الطبيعة التونسية وأثر الطبيعة المصرية:
بين بن عاشور وشلتوت
على أنه لا يمكن إغفال عامل آخر كان له تأثيره على منهج بن عاشور, وهو الطبيعة التونسية ذاتها التي نراها أكثر وضوحا لدى بن عاشور منها عند صاحبه خضر حسين. وتتجلى هذه الطبيعة التونسية في انحيازه لفقه المصلحة أو المصالح المرسلة, وتلك هي القراءة المقاصدية التي أشار إليها دكتور على الشابي عن منهج ابن عاشور في التفسير.
إننا لا نرى هذا الوضوح في الانحياز لفقه المصلحة لدى شلتوت, صحيح أنه (أي شلتوت) كان يتمتع بالمرونة والجرأة على الاجتهاد في الإطار التقليدي, وصحيح أيضا أنه اضطر لمسايرة النظام الناصري الاشتراكي, ولكنه ظل في داخله أزهريا عريقا يكتم غيظه من إصدار عبد الناصر لقانون 103 المشهور لسنة 1961 والذي قضى بتطوير الأزهر أو تأميمه حسبما كان يتناقل الشيوخ وقتها. وعقلية مثل هذه لا تتيح للشيخ شلتوت الانحياز إلى فقه المصلحة بنفس الدرجة التي كان عليها بن عاشور التونسي.
وفى هذا المجال فإنه من الواضح أن شلتوت يقف بين الشيخين التونسيين بن عاشور وخضر حسين. ومن الواضح أيضا أن العناصر التونسية داخل عقلية بن عاشور كانت أشد تأثيرا منها عند خضر حسين وان كان حظ العناصر المصرية في التطور لدى شلتوت معقولة وكافية. وهذا يدخل بنا إلى الاختلاف الكمي وليس النوعي بين قابلية التطور الفكري لدى المدرستين المصرية والتونسية, وهى المقارنة التي كانت تتردد في حديث الإمام محمد عبده في تونس.
فالملاحظ أن مصر احتاجت إلى حملة نابليون لكي تخرج من فكر العصور الوسطى إلى العصر الحديث, ولكن تونس القريبة جدا من قلب أوروبا النابض لم تكن تحتاج لحمله عسكرية, لذا كانت مبادرة أحمد باي (1806 - 1859) بالإصلاح الذي بدأ عسكريا ثم امتد إلى التعليم في الزيتونة حين أصدر منشور (1842) كما أقام إصلاحا سياسيا بإصدار قانون أو 'عهد الأمان' كأول وثيقة لحقوق الإنسان في البلاد الإسلامية, وقد وفق فيها بين الشرع الإسلامي والقانون الوضعي, وهذه الوثيقة هي التي أدت إلى إصدار الدستور التونسي (1859م).
وفى هذا المناخ الإصلاحي المستنير (بذاته ومن داخله) نشأ وترعرع الطاهر ابن عاشور (1879 - 1973 م) ثم جاء لقاؤه وتأثره بالشيخ محمد عبده ليتحدد منهجه بين إصلاح واستنارة داخل الإطار التقليدي وجرأة في الأخذ بفقه المصالح المرسلة بما يتمشى مع المواءمة بين ظاهر النصوص والانفتاح على الغرب الذي يجاور تونس ويكاد يلامس شواطئها.
اختلافها عن الطبيعة المصرية:
وبينما كانت هذه النظرة المتطورة أصيلة في الطبيعة التونسية فإننا نجد اختلافا لدى المدرسة المصرية مبعثه الاقتراب الشديد من السعودية وتأثيرها النفطي والاقتصادي على الشيوخ في الأزهر, وحاجتها إلى جعل مصر عمقا استراتيجيا لها في مواجهة الشيعة داخل وخارج المملكة. وهذا الاقتراب الجغرافي وتلك الحاجة السياسية السعودية أتاحت للنفوذ السعودي والفكر السلفي الانتشار والسيادة على العقلية المصرية, وفى نفس الوقت فإن سهولة الاتصال بالفكر الأوروبى وإرساء الفكر الاشتراكي في العهد الناصري وخصومة الاشتراكيين للتوجهات الساداتية جعلت اليسار المصري يقف خصما للتيار السلفي وطموحاته السياسية. وعلى صعيد المنهج الفكري أدى ذلك الصراع السلفي اليساري إلى نتيجتين سيئتين الأولى تهميش اتجاهات فكرية أخرى مثل الصوفية والقرآنيين, و ما يعنيه ذلك من تأكيد الاستقطاب بين معسكرين فقط, الأصولي والعلماني, وإجهاض محاولات الفكر القرآني ومنهجيته في الإصلاح والتنوير. والنتيجة الثانية هي اعتناق اليسار الإسلامي لفقه المصلحة ردا على تطرف الفكر السلفي المصري في الجمود والرجعية.
بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
اختلافها عن الطبيعة المصرية:
وبينما كانت هذه النظرة المتطورة أصيلة في الطبيعة التونسية فإننا نجد اختلافا لدى المدرسة المصرية مبعثه الاقتراب الشديد من السعودية وتأثيرها النفطي والاقتصادي على الشيوخ في الأزهر, وحاجتها إلى جعل مصر عمقا استراتيجيا لها في مواجهة الشيعة داخل وخارج المملكة. وهذا الاقتراب الجغرافي وتلك الحاجة السياسية السعودية أتاحت للنفوذ السعودي والفكر السلفي الانتشار والسيادة على العقلية المصرية, وفى نفس الوقت فإن سهولة الاتصال بالفكر الأوروبى وإرساء الفكر الاشتراكي في العهد الناصري وخصومة الاشتراكيين للتوجهات الساداتية جعلت اليسار المصري يقف خصما للتيار السلفي وطموحاته السياسية. وعلى صعيد المنهج الفكري أدى ذلك الصراع السلفي اليساري إلى نتيجتين سيئتين الأولى تهميش اتجاهات فكرية أخرى مثل الصوفية والقرآنيين, و ما يعنيه ذلك من تأكيد الاستقطاب بين معسكرين فقط, الأصولي والعلماني, وإجهاض محاولات الفكر القرآني ومنهجيته في الإصلاح والتنوير. والنتيجة الثانية هي اعتناق اليسار الإسلامي لفقه المصلحة ردا على تطرف الفكر السلفي المصري في الجمود والرجعية.
بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
1) بعد التعرف على الأرضية التاريخية والمنهج العلمي لدى المدرستين نأتي لبعض تفصيلات الاستنارة فيهما. ولا يتسع المجال هنا إلا للتعرض السريع لبعض عينات تتحدث عن الوسطية والاعتدال ولمحات أخرى عن نظرة المدرستين لقضايا المرأة وأهل الكتاب.
2) والمعروف لدى الفقهاء المتزمتين أن المرأة يجب تعليبها داخل الحجاب والنقاب, وإيداعها داخل البيت, ويتسلمها الزوج من أهلها 'بضاعة مزجاة' يستعملها حيث يشاء داخل بيته, وبين بيت الأهل وبيت الزوج, ليس لها الخروج إلا مرتين, عند الزفاف وعند الموت!!
أما أهل الكتاب, فإذا كانوا معنا فهم أهل ذمة. ومهما يقال في حقوقهم فهم في نهاية الأمر مواطنون من الدرجة الثانية أو العاشرة. أما إذا كانوا خارج الحدود فهم غالبا - محاربون, ليس لهم إلا السيف أو الدخول في الإسلام أو دفع الجزية إذا كان المسلمون أقوياء.
3) وتشريع القرآن يخالف ذلك كله, ولكن فهم تشريع القرآن يعنى أن تتدبر القرآن وتقرأه بمنهج قرآني, أي أن تقرأ القرآن بمفاهيم القرآن ومصطلحات القرآن ولغة القرآن وليس بمفاهيم التراث ومصطلحاته ولغته وأيضا من خلال فهم منهج القرآن في التشريع.. وذلك موضوع شرحه يطول.
4) ومقدار الاستنارة لدى شيوخ المدرستين مرهون بمدى اقترابهم من ذلك المنهج القرآني وبمقدار الابتعاد عن روايات التراث. فكل التعصب والتطرف ومفاهيم العصور الوسطى تجدها في التراث, فهو أصدق ما يعبر عن تلك العصور, بينما يؤكد المنهج القرآني صلاحية التشريع القرآني لكل زمان ومكان.
من ملامح الوسطية والتسامح عند محمد عبده:
1) من الصعب تتبع هذا الباب في فكر الإمام أو حتى في مواقفه, ولكن نكتفي بالإشارة إلى بعض عينات من تفسير المنار ومن كتاب الإسلام بين العلم والمدنية.
2) في الكتاب الأخير يجعل الأصل الثامن من أصول الإسلام 'الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة' وهو عنوان يوحي بالقصد والاعتدال والتوازن بين الدنيا والآخرة, وبين الدين والدنيا, ولكنه جاء بكلام عجيب يرعب الفقيه السلفي في عصرنا, فعن 'الصحة ' يقول 'الحياة في الإسلام مـقدمة على الدين' وهى عبارة خطيرة لا يدرك خطورتها إلا من يعرف سادية الفقه السلفي وحبه الشديد لسفك الدماء في مقابل الحرص الشديد في تشريع القرآن على الحياة وحرمة النفس الزكية. ولكن ما يعنينا هنا أن محمد عبده يخلط بذكاء بين الوسطية والتسامح, ونراه يتعرض للرخص والتيسير في الصوم والوضوء والغسل والصلاة والزينة والطيبات وفى الاقتصاد, وفى نهى القرآن عن الغلو في الدين, ويقول 'فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها' ويرى أهمية الجمع بين التمتع بالحياة الدنيا والرغبة في نعيم الآخرة, ويقرن ذلك بالعمل الصالح الذي لا يجعله مقتصرا على العبادة بل يشمل العلم والتقدم والرفعة (الإسلام بين العلم والمدنية 119 وما بعدها).
3) ومن تفسير الإمام في المنار نأخذ عينات أخرى.
في تعليقه على قوله تعالى 'وكذلك جعلناكم أمة وسطا' يرى محمد عبده أن الوسط هو العدل والخيار, لأن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط والنقص عنه تفريط وتقصير, وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الاستقامة, فهو شر ومذموم ثم يقول أن الإسلام قد جمع بين الحقين, حق الروح وحق الجسد, فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين وتبلغون الكمالين; لتكونوا شهداء بالحق على الناس, الذين اهتموا بالجسم وفرطوا في الدين, والروحانيين الذين أفرطوا وكانوا من الغالين. (المنار: 4/2: 5) ومن المتوقع أن ينفعل الشيخ الطاهر ابن عاشور بهذا الوجه السمح لشيخه الإمام محمد عبده.
من ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ الطاهر بن عاشور:
1) في كتابه 'أصول النظام الاجتماعي في الإسلام' لابن عاشور تعرض للوسطية أو الاعتدال وللسماحة. ونراه في موضوع الوسطية والاعتدال يبنى ويفرع ويفصل في رأى الإمام محمد عبده دون أن يشير إليه صراحة مكتفيا بقوله 'لقد تصفحت كلام فلاسفتنا وأساتذتهم.. فكانت خلاصة أبحاثهم.. أن قوام الصفات الفاضلة والفطرة السليمة هو الاعتدال في الأمور وأن النزوع إلى طرفي الغلو والتقصير أو الإفراط والتفريط إنما ينشأ عن انحراف في الفطرة..'
وقد يقال أن الشيخ الطاهر قد كتب هذا الكلام وفى ذهنه عبارة أرسطو المشهورة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين (فالشجاعة وسط بين رذيلتى التهور والجبن, والكرم وسط بين الإسراف والشح) ولكن الواضح في سياق حديث بن عاشور أنه يقترب أكثر من شيخه محمد عبده, حين يرى أن الاعتدال هو الكمال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص, وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء, أي الحكمة المشار إليها في القرآن. ويقرن الاعتدال بالتوسط, بعد أن نبهنا إلى صلة الاعتدال بالعدل, ويجعل التوسط من أوصاف الإسلام الثابتة مستدلا بقوله تعالى \\\'وكذلك جعلناكم أمة وسطا\\\'
2) إلا أن الشيخ الطاهر تفنن وأبدع في شرح التوسط والاعتدال لغويا ونفسيا واجتماعيا.
يقول (كأنه يقوم بتشريح المتطرفين في عصرنا نفسيا واجتماعيا) أن الغلو في الغالب يبتكره أصحاب الطموح إلى السيادة أو القيادة, وذلك بالتظاهر بالمقدرة ولإبهار الأتباع والأعوان لينقادوا لهم. وهذا الغلو أو الإفراط (أو التطرف) يقابله تفريط وتقصير, وهو من شيم الأتباع المنقادين, أهل النفوس الضئيلة.
وبعد هذا التفسير السيكولوجي النفسي يتوقف الشيخ مع معنى الوسط, ولا يكتفي بما يقال عن الوسط بأنه العدل ولكنه يرجع إلى اشتقاقات اللغة ودروبها لنعرف أن معنى الوسط هو الشيء المتوسط بين شيئين, ولأنه اسم قبل أن يكون وصفا فقد استوى في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه بمنزلة المصدر وأعرق منه في الجمود, ولذلك جرى وصفه في آية \\\' وكذلك جعلناكم أمة وسطا\\\' للأمة بدون علامة تأنيث, واستشهد بشعر زهير القائل:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم.
معنى \\\'وسط\\\' هنا عدول حكماء. وذلك معنى قوله تعالى \\\'قال أوسطهم\\\' أي أعلمهم وأعدلهم. وبعد هذا الفيض اللغوي الأدبي يدخل ابن عاشور في ذم التطرف مستشهدا بقوله تعالى \\\'قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين\\\' فالتكلف هو تجاوز الحد كما تشعر به مادة التفعل.
3) وكما مزج محمد عبده بين التوسط والتسامح, نرى بن عاشور يقرر أن السماحة وسط بين الشدة والتساهل, وكعادته في التأصيل اللغوي يقرر أن لفظ السماحة أرشق لفظ يدل على هذا المعنى, ويؤكد هذا الاتجاه بمرويات الأحاديث. وبنفس المرويات يربط السماحة بالتيسير المعتدل أو بيسر الإسلام, ويؤكد ذلك بآيات القرآن 'يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر' ويقرر أن استقراء الشريعة يدل على أن التيسير أصل في تشريع الإسلام, وقال إن السماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدى والإرشاد, ثم أن لها أثرا في سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها, كما أن الشدة في بعض الأديان تجعل الناس ينصرفون عنها أو يفرطون في تأدية مناسكها, فإذا أرغمهم سلطان جائر على تأدية تلك المناسك فان ذلك يصل بهم إلى الشقاء ويجعلهم يتصفون بأسوأ الخصال, ثم يعود لتأكيد صلة السماحة بأحكام الإسلام مستشهدا بقوله تعالى 'فمن اضطر غير باع ولا عاد فلا إثم عليه' وبحديث 'إن الله يحب أن تؤتى رخصه..' والقاعدة الفقهية القائلة 'المشقة تجلب التيسر'
4) ثم يعود بن عاشور في نفس الكتاب للحديث عن \\\'التسامح\\\' بعد أن تحدث عن \\\'السماحة \\\'. وبملكته اللغوية الفريدة يضع مفهوم التسامح أي إبداء السماحة القوية لأن صيغة التفاعل هنا ليس لها جانبان, فيتعين أن يكون المراد بها المبالغة في الفعل مثل قولك \\\'عافاك الله\\\', وقد فضل مصطلح \\\'التسامح \\\' على مصطلح \\\'التساهل\\\' الذي يؤذن بقلة تمسك المسلم بدينه, ويرى أن مصطلح التسامح يعنى التسامح مع المخالفين للمسلين في الدين, ويناقش الاتهام الموجه للمسلمين بعدم التسامح ويرى أنه رد فعل لتعصب الآخرين واستغلالهم لتسامح المسلمين إلا إنه لا يتوقف كثيرا مع هذا الرأي ويأخذ في تحليل فضيلة التسامح من وجهة نظره, فالمتدين الذي يحب دينه يجعله ذلك الحب متعصبا لدينه ضد الأديان الأخرى وأصحابها انطلاقا من كون الدين - في تاريخ البشر - جامعة مانعة, واستشهد بما كان يفعله الغالب من فرض دينه على المغلوب وبإيذاء قريش للنبي محمد (ص) وأصحابه. وأما الإسلام فقد جعل الدين جامعة عظمى لأصحابه, إلا إنه لم يجعل تلك الجامعة سببا للاعتداء على الآخرين, إذ جعل التسامح أصلا من أصوله, ويؤكد أن التسامح الإسلامي وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق, وهما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. فالفكر الصحيح الصالح يؤدى إلى العقيدة الحقة الموثوق بها والتي لا يخشى عليها من العقائد الأخرى ولا تحتاج إلى دفاع أو تأويل أو تعصب في هذا السبيل,
بعكس العقائد الهشة والزائفة التي لا تقوى أمام الحجة, ولا تستطيع أن تصمد إلا متكئة على تعصب أصحابها ودفاعهم عنها. وفى نفس الوقت فإن كرم الأخلاق يؤدى بصاحبه إلى سعة الصدر في التعامل مع المخالفين. واستشهد بآيات القرآن التي تعزز من ثقة المؤمن في دينه, وتأمر بحسن التعامل مع المخالفين في الرأي, وانتهى من ذلك إلى أن التسامح أشهر مميزات الإسلام وأنه من النعم التي أنعم الله تعالى بها على أعدائه وبها كان الإسلام رحمة للعالمين.بعكس العقائد الهشة والزائفة التي لا تقوى أمام الحجة, ولا تستطيع أن تصمد إلا متكئة على تعصب أصحابها ودفاعهم عنها. وفى نفس الوقت فإن كرم الأخلاق يؤدى بصاحبه إلى سعة الصدر في التعامل مع المخالفين. واستشهد بآيات القرآن التي تعزز من ثقة المؤمن في دينه, وتأمر بحسن التعامل مع المخالفين في الرأي, وانتهى من ذلك إلى أن التسامح أشهر مميزات الإسلام وأنه من النعم التي أنعم الله تعالى بها على أعدائه وبها كان الإسلام رحمة للعالمين.
ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ شلتوت
1) يسير الشيخ شلتوت في كتابه 'من توجيهات الإسلام' على نفس النسق الذي سار عليه شيخه الإمام محمد عبده في كتابه 'الإسلام بين العلم والمدنية' فالشيخ شلتوت تحت عنوان 'يسر الدين وسماحته' يتحدث عن اعتدال الإسلام 'في مصادرة الحقة' وابتعاده عن الإفراط والتفريط. ثم يؤكد من خلال الآيات القرآنية على الأساس العام للتشريعات, وهو اليسر لا العسر ورفع الحرج وعدم تكليف النفس إلا وسعها, ثم يسير مع التشريعات الجزئية في الاعتقاد والعبادات وما فيها من رخص (جمع رخصة), ورفع للمشقة في الصوم والطهارة والصلاة.
2) ثم يعود الشيخ إلى التوسع في الموضوع تحت عنوان 'الروحية المهذبة: لا تبتل ولا تكالب على الدنيا' ليتحدث عن منهج الإسلام في تكوين الفرد, وهو نفس الموضوع الذي انشغل به الطاهر بن عاشور في كتابه 'أصول النظام الاجتماعي في الإسلام' وتقترب المسافة بين الشيخين حين يتحدث شلتوت عن تكوين الفرد المسلم على أساسين: تحديد علاقته بالدنيا وإحياء شعوره بالوحدة الإيمانية والوحدة الوطنية الخاصة والوحدة الإنسانية العامة. وعن تحديد علاقة المسلم بالدنيا يناقش الشيخ شلتوت أعداء الدنيا من الزهاد, ليؤكد لهم أن الرهبانية تعطيل لأسرار الله تعالى في الإنسان والكون, كما يناقش المتكالبين على الدنيا بأدلة قرآنية وتاريخية واجتماعية. ثم يشير إلى عناية الإسلام بتهذيب الروح بالفكر والذكر والمزاوجة بين حظوظ الجسم والروح, ثم يهاجم الذين يحرمون الطيبات كما يهاجم الذين يخرجون عن الاعتدال في التمتع بزينة الحياة (من توجيهات الإسلام: 21, 116ـ 135).
3) وعكست فتاوى الشيخ شلتوت جانبا من هذا التوسط والاعتدال والتيسير, فقد أكد في الفتاوى أن مصافحة المرأة لا تنقض الوضوء تأسيسا على أن معنى الملامسة هو المخالطة الجنسية وعلى أن الآية تختم بالتيسير وعدم المشقة والحرج. كما أفتى بصحة الصلاة بالبرنيطة أو القبعة التي يرتديها الغربيون. وأكد عدم تحريم سوى الأربعة أطعمة المذكورة في القرآن (الميتة,الدم, لحم الخنزير, ما أهـل لغير الله به) ورأى أن الأحاديث التي اعتمد عليها الفقهاء في تحريم أشياء أخرى ليس دليلا كافيا للتحريم, وقد تفيد الكراهة, ولكن لا تفيد التحريم. وعن صبغ الشعر وما أثير عن تحريمه, رأى الشيخ شلتوت أنه من الشئون البشرية التي لا يحتمها أو يمنعها الدين, وأنهى بذلك الاشتباكات والتضارب بين الأحاديث وتحت عنوان 'الشريعة تـنـظـم الغريزة' ناقش حكم الشرع في الغناء والموسيقي, وبعد استعراض تاريخي واجتماعي وفقهي, انتهى إلى أن الأصل هو الحلال في سماع الموسيقي, وأن التحريم فيه عارض أي إذا اسـتعين به على محرم, ثم ختم حديثه بالتحذير من الإفتاء الجزافي في التحليل والتحريم.
وبنفس المنهج سار الشيخ مع ختان الأنثى, فأشار إلى تاريخه والصراع الفقهي بشأنه وأفتى في النهاية بأن الختان لا يخضع لنص منقول وإنما يخضع لقاعدة شرعية عامة, وهى أن إيلام الحي لا يجوز شرعا إلا لمصالح تعود عليه وتربو على الألم الذي يلحقه, وعليه فهو يرى أن ختان الأنثى ليس هناك ما يدعو إليه أو يحتمه لا شرعا ولا خلقا ولا طـبا. وحتى ندرك أهمية هذه الفتوى منذ نصف قرن تقريبا, علينا أن نتذكر فتوى سامة أعلنها شيخ الأزهر السابق جاد الحق وهى إعلان الحرب المسلحة على كل من يمنع ختان الأنثى, وذلك إثر الجدال الذي احتدم في مصر منذ سنوات حول مشروعية الختان. (راجع الفتاوى للشيخ شلتوت: 78 -, 357,82 -, 379 -, 304-, 306 -).
قضايا المرأة:
نصيب المرأة من الفقه السلفي نفسه يزيد على النصف, أي يزيد على نسبتها في المجتمع. وهذا يعكس لديهم نوعا من الاختلال الفكري لا محل لمناقشة مظاهره وأسبابه الآن, ولكنها إشارة تؤكد الحجم الهائل لقضايا المرأة واضطرارنا إلى الاكتفاء بعينات منها في فقه شيوخ الاستنارة بين مصر وتونس.
محمد عبده وقضية المساواة بين المرأة والرجل:
في التعليق على قوله تعالى 'ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف'
1) قال الإمام محمد عبده أنها قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله 'وللرجال عليهن درجة' وقال إن المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء, فهما متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل, أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مـصـالـحـه وقلب يحب ما يلائمه, فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبداً, ولاسيما بعد عقد الزوجية.. وقال محمد عبده: هذه الدرجة التي رفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق, بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام وبعده. وهذه الأمم الأوربية التي حفزتها حضارتها على المبالغة في تكريم النساء واحترامهن وتعليمهن, لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها. ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها, ومع ذلك فإن أولئك الإفرنج يفخرون علينا في إعلاء شأن النساء..
2) ويؤكد محمد عبده على المساواة أيضا في تعليقه على قوله تعالى 'فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أثنى بعضكم من بعض' ويرى أنه لا فارق بين المرأة والرجل في البشرية ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال وكرر نفس اللفتة عن سبق الإسلام للأوروبيين وأشار الإمام إلى أن الله تعالى لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى أوضح أن العمل هو الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة فقال 'فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم...' (المنار: 250,4,297,2).
قضية المساواة عند الشيخ بن عاشور
1) إلا إن الشيخ بن عاشور قد أخذ الخيط من شيخه محمد عبده ليؤكد المساواة بطريقته اللغوية المتفردة, إذ فطن من الآية الكريمة إلى أن صيغ التذكير تشمل النساء, فبعد أن ذكر أنه لا يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو أنثى جاء بتوجيه الخطاب للجميع بقوله 'فالذين هاجروا ' فمع أنه الذين يقصد بها الذكور إلا إن الخطاب هنا يشمل النساء, وذلك أكبر دليل على المساواة.
2) والواقع أن المنهج القرآني هنا يعطى الكثير مما يؤكد المساواة بين الرجال والنساء في التشريع وفى الطبيعة البشرية. فكلمة 'زوج' في القرآن يطلقها القرآن على الرجل والمرأة, والسياق هو الذي يحدد المقصود بل إن كلمة زوجة لم تأت مطلقا في القرآن. كذلك كلمة 'آباؤكم ' في آية الميراث وغيرها تفيد الرجل والمرأة معا, ومثلها الوالدين والإحسان إليها, تفيد الاثنين معا, وعلى سبيل المساواة فالمرأة أب ووالد, بالمساواة مع الرجل الأب والوالد.
كما أن المنهج القرآني ينبذ من البداية تلك الروايات (الصحيحة) التي تجعل المرأة ناقصة عقل ودين وأنها تكفر العشير, وأنها خلقت من ضلع أعوج ويظل على عوجه حتى لو كسرته, وأنها في الشؤم كالدار والفرش وكلها في البخاري, وتعبر عن ثقافة العصور الوسطى وتعصبها للرجل ضد المرأة
3) ونعود للشيخ بن عاشور وهو يقيم بحثا رائعا عن المساواة من حيث المعنى اللغوي, وتقيدها في الشريعة وفى الطبيعة البشرية, وكيف تظهر في إطار الأخوة الإسلامية وفى تلقى الشريعة والتكليف وكيف تظهر في تساوى الخلقة البشرية إلا إذا جد مانع, وموانع المساواة عوارض تقتضى إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء, وهذه العوارض تنبه إلى أن إجراء المساواة ليس في صالح العدالة, وقد تكون هذه العوارض دائمة وقد تكون مؤقتة, وجعل من العوارض عدم مساواة غير المسلم من أهل الذمة للمسلم في بعض الحقوق مثل ولاية المناصب الدينية وفى إرث قريبه المسلم, وفى القصاص له من المسلم وفى قول الشهادة, وعدم مساواة العبد بالحر في الحدود.. وقسم العوارض المانعة في المساواة إلى أقسام, موانع جبلية أي طبيعية وشرعية واجتماعية وسياسية.
ومن الموانع الجبلية الطبيعية منع مساواة المرأة للرجل فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بموجب الخلقة مثل إمارة الجيش والخلافة عند جميع المسلمين, ومثل القضاء والإمامة وقتال العدو عند جمهور علماء المسلمين, ومثل منع مساواة الرجل للمرأة في حق كفالة الأبناء الصغار وفى حق النفقة لكون الرجل هو المكتسب للعائلة.. وهذه الموانع قد تتعلق بالأصناف تعلقا ذاتيا كضعف الأنوثة عن تحمل بعض الأعمال الشاقة (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 97 -, 143 -)
قضية زينة المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) يرى الدكتور على الشابي أن زينه المرأة المكشوفة عند الشيخ بن عاشور زينتان, زينه خلـقية وهى الوجه والكفان أو نصف الذراع والقدمان والشعر وزينه مصطنعة كالحلي والكحل والخضاب واللباس الفاخر, أي الزينة التي لا تؤدي إلى التبرج.
أما محمود شمام فقد أورد بعض آراء الفقهاء السلفيين في زينة المرأة, ومنعهم من ارتداء المرأة للشعر المستعار اعتمادا على التفسير المشهور لقوله تعالى 'فليغيرن خلق الله' وعلى حديث لعن الواشمات والمستوشمات أو المتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن, المغيرات خلق الله'
ثم جاء بآراء الشيخ الطاهر بن عاشور في أن المراد بقوله تعالى 'ولآمرنهم فليغيرين خلق الله', التعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية, وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن مثل حلق الشعر وتقليم الأظافر وثقب آذان النساء لوضع الأقراط والحلي. وبالنسبة للأحاديث التي تلعن الواصلات للشعر والمتنمصات للحسن, فالغرض منه النهى عن سمات كانت العواهر يتخذنها في ذلك العهد, أو من سمات المشركات وقتها, وإلا لو فرضنا هذا منهيا عنه لما بلغ النهى إلى حد لعن فاعلات ذلك وهن مسلمات محصنات, واستنتج محمود شمام من ذلك أن الشيخ بن عاشور أفتى بجواز لبس الباروكة وما شابهها وتزجيج الحواجب وتكحيل العيون, لأن هذه الأمور يقصد بها الآن الزينة وليس تغيير خلق الله ولا تبديله. وبرأيه أن المشكلة بذلك قد تم حلها. ومعلوم أن المشكلة هنا هي تفسير سلفي, وأحاديث منسوبة للنبي, وقد تم إبطال مفعولهما مع الحفاظ عليهما لتنفجر كقنبلة موقوتة فى بلاد أخرى غير تونس (راجع: سلسلة أفاق إسلامية رقم (9): 45, 77 - 80).
2) والواقع أن الإمام محمد عبده كان أقرب إلى المنهج القرآني هنا من تلميذه بن عاشور, ففي تعليقه على مقالة الشيطان لله تعالى عن بني آدم \\\'ولآمرنهم فليغيرن خلق الله\\\' قال: إن المراد بتغيير خلق الله هو تغيير دينه, أي تغيير الفطرة الإنسانية, فالإنسان قد فطره الله تعالى على طلب الحق والاستدلال بما يظهر له من الدليل على أنه الحق والخير (المنار: 35,5).
والواقع أن الإمام محمد عبده تجاهل هنا الإشارة لحديث لعن الواصلات والمتفلجات.. والعجيب أن تلميذه رشيد رضا سار على منواله, وإن كان ما نقله عن الإمام مضطربا إلى حد ما.
3) والمنهج القرآني كفيل بتوضيح القضية في بساطة شديدة, فلكي نفهم المعنى القرآني لكلمة \\\'ولآمرنهم فليغيرن خلق الله\\\' يرجع إلى قوله تعالى \\\'فأقم وجهك للدين حنيفاrlm; عبده وابن عاشور:
1 - يرى محمد عبده في المنار أن تعدد الزوجات جاء في سياق الكلام عن اليتامى, وعند الخوف من عدم العدل فلابد من الالتزام بواحدة فقط, وقال إن الخوف من العدل يصدق بالظن أو بالشك فيه بل يصدق بتوهمه أيضا. ويؤكد الإمام على أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل, وبعد هذه الفتوى الفقهية يتحدث محمد عبده كمصلح اجتماعي فيقول إنه لا يمكن أن تصلح أمة من الأمم فشا فيها تعدد الزوجات لأن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم له نظام, بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت, كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو, فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ثم إلى الأمة وخلص الإمام إلى أن اشتراط العدل بين الزوجات, وهو شرط صعب تحقيقه يعنى النهى عن التعدد (المنار 4/ 285- 287).
2 - وقد لاحظ الدكتور على الشابي تأثر الشيخ الطاهر بن عاشور برأي محمد عبده في تضييق التعدد إلى درجة المنع, ونقل عن \\\'التحرير والتنوير \\\' وصف واقع المجتمعات الإسلامية الذي عرف شيوع التعدد, كما نقل عنه صعوبة العدل وما يترتب على ذلك من اختلال نظام العائلة وعقوق الزوجات والأبناء وذلك ما أسهب فيه الإمام محمد عبده في المنار.
إلا أن الجديد والجريء الذي جاء به بن عاشور هو الإشارة إلى أنه لولى الأمر أن يمنع المباح إذا خيف وقوع الضرر والفساد, ولكن الدكتور على الشابي يرى أن هذه الجرأة مستوحاة من حديث محمد عبده الاجتماعي عن اختلال المجتمع إذا فشا فيه تعدد الزوجات, مما يجعل من مسئولية ولى الأمر درء المفاسد, وذلك ما أكده بالتفصيل محمود شمام (سلسلة آفاق إسلامية (9) 41 -, 80)
قضية ضرب المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) في تعليقه على قوله تعالى \\\'واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن, فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا\\\' النساء: 34 يرى الإمام محمد عبده إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو في الفطرة بحيث يحتاج إلى التأويل, فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة, وإنما يباح للرجل إذا رأى أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه. أما إذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب فلكل حال حكم يناسبها في الشرع, ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان وإذا أطاعت المرأة بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها, أما القانتات المطيعات فلا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح - وقوله سبحانه وتعالى: \\\'إن الله كان عليا كبيرا\\\' يعنى أن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم, فإذا بغيتم عليهن, عاقبكم. وجاء هذا النهى عن البغي حتى لا يحس الرجل في نفسه بالاستعلاء على زوجته, فذكره الله تعالى بعلوه وكبريائه ليتعظ ويخشى ويتقي الله فيها وفى النهاية يقول الإمام: واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم, إنما يلدون عبيدا لغيرهم, يعنى أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم. (المنار 5, 62 - 63).
أما رأى الشيخ بن عاشور فقد حلله الدكتور على الشابي فقال: إنه فسر الآية تفسيرا كشف عن منزع اجتهادي عز نظيره, إذ اتفق مع رأى عطاء في أن ضرب الزوج امرأته أمر إباحة (أي لا يفيد الوجوب) واعتبره يقضى بعدم ضرب الزوج امرأته, واعتبر الضمير فى قوله تعالي: 'تخافون ' متجها أيضا إلى ولاة الأمور لأن تطبيق الأحكام من اختصاصهم, وقد وضع الشيخ هذه المسألة في إطارها الزمني وفى سياقها الاجتماعي, إذ كان أهل البدو في العصور الوسطى لا يعدون ضرب المرأة اعتداء, بينما يعتبره أهل الحضر اعتداء, وقد خلص الشيخ إلى ربط هذه المسألة بأصل قواعد التشريع التي لا تسمح لأحد بأن يقضى لنفسه لولا الضرورة, ومن ثم انتهى إلى القول بأنه يجوز لولي الأمر أن يعلن أن من ضرب امرأته عوقب, كي لا يتفاقم أمر الإضرار بالأزواج (سلسلة آفاق إسلامية (9): 46 - 47).
والواضح هنا أن الشيخ الطاهر قد تجاوز المدى الذى وصل إليه الإمام محمد عبده, فالإمام اجتهد في إطار النص, أما الشيخ فقد وضع النص في إطار زمني وسياق اجتماعي, مع ربطه بقواعد التشريع الفقهي, ليصل في النهاية إلى منع الزوج من ضرب زوجته, وحق ولي الأمر في عقوبة الزوج إلى فعل ذلك.
2) والمنهج القرآني - عندنا - يقف بين هذا وذاك بين الإمام والشيخ ونوضحه سريعا في هذه القضية, فالتشريع القرآني يتكون من 'أحكام تشريعيه' (أوامر ونواهي) وهذه الأحكام التشريعية تسير في إطار 'قواعد تشريعية ' وهذه القواعد التشريعية بدورها تسعى لتحقيق غايات ومقاصد تشريعية.
والمقصد التشريعي في أحكام الأسرة هو حفظ كيانها ورعايتها. ولذلك كانت أغلب تشريعات القرآن الاجتماعية تسعى لبناء الأسرة والحفاظ عليها, ذلك أنه إذا كان الفرد هو الخلية الأولى فى المجتمع الغربي, فإن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع الإسلامي والشرقي. وكان المقصد التشريعي للقرآن هو حفظ كيان هذه اللبنة الأولى في بنيان المجتمع حفظا لكيان المجتمع ذاته.
ومن خلال هذا المقصد التشريعي جاءت القاعدة التشريعية في التعامل بين الزوجين في قوله تعالي: 'وعاشروهن بالمعروف, فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا' النساء 19, ومن خلال هذه القاعدة التشريعية تجرى الأحكام التشريعية في إصلاح الشقاق إذا أتى من المرأة أو إذا أتى من الرجل أو إذا أتى منهما معا, ونفهم معنى قوامة الرجل على المرأة وشروطها (سورة النساء: 128,35,34), وعليه فضرب المرأة وارد إذا كان هو السبيل الوحيد لمنعها من النشوز الذي يهدد بتحطيم أسرتها ومستقبلها, وفى إطار معاشرة زوجها لها بالمعروف, بحيث لا يكون هو الآخر ناشزا عليها, ونشوز الزوج في مفهوم القرآن يعنى مجرد إعراضه عنها وعدم اهتمامه بها.
أما عن تدخل المجتمع ممثلا في السلطة فقد حدد القرآن له طريقين, إذا أرادت الزوجة افتداء نفسها بالتطليق من الزوج (البقرة 229) أو إذا حدث نشوز متبادل بين الزوجين قد يؤدى إلى تحطيم الأسرة (النساء 128), مع ملاحظة أن قوامة الزوج تعنى قدرته على حماية الزوجة والإنفاق عليها, وإلا فلا قوامة له عليها, وبالتالي فإذا كانت لها العصمة وتنفق على نفسها فليس له قوامة عليها, وبالتالي ليس له أن يستطيل عليها بالضرب أو بغيره. والعصمة من حق المرأة إذا أرادت وإذا رضي الزوج لأن الزواج عقد يتم بالتراضي بين الطرفين وتصبح بنوده شريعة المتعاقدين.
5) شلتوت وقضايا المرأة:
للشيخ شلتوت كتاب 'القرآن والمرأة' واستعراضه يخرج بنا عن المطلوب. ولكنه في كتابه 'من توجيهات الإسلام', عقد فصلا عن شئون المرأة أكد فيه مبدأ الطبيعة الواحدة بين الرجل والمرأة, ومساواتها بالرجل, وعرض للمرأة في القصص القرآني مع تحليل رائع لشخصيات النساء في قصص الأنبياء, مع تنوع أدوارهن, خصوصا ملكة سبأ, وانتهى من ذلك إلى أهمية تثقيف المرأة, ثم عرض لتاريخ المرأة في عهد النبوة المحمدية, ومبايعة النبي للنساء. (من توجيهات الإسلام 204 -).
في الموقف من غير المسلمين:
هنا أم المشاكل, وبداية الاختلاف بين تشريع الإسلام في القرآن وتشريعات المسلمين في التراث. ويرجع السبب هنا إلى السياسة ونظام الحكم الذي أصبح عضودا وراثيا ملكيا مستبدا, أي أصبح يحمل ملامح الدولة في العصور الوسطى وكشأن الاستغلال الديني في ذلك الوقت, كان اختراع التشريع ليلائم سياسة هذه الدول وليسبغ عليها مشروعية.
وقد تكلف المصلحون المستنيرون من أمرهم عسرا, وهم يحاولون الاقتراب من تشريعات القرآن في التعامل مع الآخر, وهذه الصعوبة مردها إلى أنهم كانوا يفهمون الآيات بمصطلحات التراث ورواياته, فأبرزوا من تسامح الإسلام أشياء وغابت عنهم أغلب الأشياء. ونعرض لبعض ما أبرزوه ولبعض ما غاب عنهم أن يبرزوه.
رؤية الإمام محمد عبده:
في البداية يقرر الإمام أن الأصل الثالث من أصول الإسلام هو البعد عن التكفير, صحيح أن حديثه قد انصب أساسا على التعامل بين المسلمين, ولكن المستفاد منه عمومية التعامل بهذا الأصل, لأنه أصل من أصول الإسلام, وعليه فينبغي أن نبتعد عن تكفير غير المسلم, وإن كان ذلك مستحقا لتوضيح وتأكيد أكبر من الإمام. ولكن سكوته عنه أعطى الفرصة لتلميذه السلفي كي يبالغ في تكفير خصومه.
إلا أن محمد عبده جعل الأصل السادس من أصول الإسلام حماية الدعوة من الفتنة, لأن القتل ليس من طبيعة الإسلام, بل في طبيعته العفو والمسامحة, ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم, ولم يكن ذلك للإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه, ولذلك كان المسلمون في الفتوحات لا يجبرون البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام.
ثم جعل الإمام الأصل السابع من أصول الإسلام مودة المخالفين في العقيدة وذلك بالمصاهرة حيث أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج من الكتابية دون تفريق بين الزوجة المسلمة والكتابية في الحقوق, وما تؤدى إليه المصاهرة من اختلاط وتشابك ومودة وقربى بين المسلمين والكتابيين (الإسلام بين العلم والمدنية 106 -,113 -, 117-)
إلا إن الإمام محمد عبده اقترب أكثر من المنهج القرآني حين أدرك معنى الفتنة التي جاءت في سياق تشريع القتال 'والفتنة أشد من القتل, وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة 'البقرة 193,191 فرأى أن الفتنة هنا تعنى الاضطهاد في الدين. وهذا صحيح, وعليه فقد اقترب من فهم المقصد التشريعي للقتال في الإسلام, وهو انه لتقرير الحرية الدينية, ولمنع الاضطهاد في الدين.
رؤية الطاهر بن عاشور:
في المصادر القليلة التي معنا بعض إشارات في هذا الموضوع تنبئ عن فكر متقدم مستنير للطاهر بن عاشور. ومن ذلك ما يذكره محمود شمام من شرح بن عاشور لحديث 'لا تخيروني على موسى' على أساس أنه مظهر من تسامح الإسلام مع أهل الكتاب وقمعا لباب الخصومة الدينية معهم, فاليهودي ظل على يهوديته في دولة الإسلام, ولم يلزمه الإسلام بتغيير دينه واعتقاده, والعلماء يقولون أن أهل الكتاب لا يعاقبون على ما يقولونه من أصل دينهم. وبعض هذه المعاني تردد في كلام الشيخ في حديثه عن التسامح مع أهل الكتاب في 'أصول النظام الاجتماعي في الإسلام'.
وفى هذا الكتاب عرض الشيخ تفسيره التاريخي للغزوات في عهد النبي عليه السلام مستشهدا بالقرآن الكريم وبعض روايات الحديث والسيرة, وكيف كان تكوين الجيش الإسلامي وقتها. ثم كيف تطور الجهاد إلى فتوحات في الشام والعراق. وقرر أن ذلك كله كان دفاعا عن الحوزة وتأمينا للمسلمين ودينهم.
وقد يكون ذلك التفسير التاريخي للشيخ عاديا سبق إليه كثيرون,إلا أنه سبق الكثيرين في الإشارة إلى حقيقة قرآنية تاريخية لم يلحظها كثيرون, وذلك في معرض تعليقه على قوله تعالى 'ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا: الحج 40' فقد لاحظ أن الدفاع عن بيوت العبادة لغير المسلمين دفاع عن الحق. والمعنى المقصود تأمين بيوت العبادة لغير المسلمين داخل الدولة الإسلامية, وهذا المعنى قل من التفت إليه من المسلمين على مستوى السياسة وعلى مستوى الفقه والثقافة, إذ إن ثقافة العصور الوسطى القائمة على التعصب الديني داخل بلاد المسلمين وخارجها كانت تستهدف بيوت العبادة للآخرين بالمقت والكراهية, ولذلك لا نعجب من الجدل الفقهي الذي كان يزايد على منع أو هدم الكنائس في البلاد التي فتحها المسلمون (عن مؤلفات ابن عاشور راجع أصول النظام الاجتماعي في الإسلام 216 - 2207, بالإضافة إلى ندوة سلسلة آفاق إسلامية الشيخ عاشور (9): 59, 356).
رؤية محمود شلتوت:
نلمس هنا بعض التراجع في بعض القضايا.
فالمصاهرة بزواج الكتابية والذي احتفل به الإمام محمد عبده, نجد الشيخ شلتوت يناقشه على طريقته الخاصة في عرض آراء الفقهاء ثم يخلص إلى رأيه وهو أنه إذا ضعف الرجل المسلم فالواجب منعه من الزواج بالكتابية, وأنه ينبغي تقييد ذلك أو منعه, هذا مع أنه في ' التوجيهات ' أشار إلى دعوة الإسلام إلى البر بغير المسلمين من المسالمين, وقال إن المبدأ العام في معامله أهل الكتاب هو المساواة بينهم وبين المسلمين وإعانتهم في النكبات وإباحة التعاون معهم ومصاهرتهم, وهو هنا يتفق مع شيخه الإمام محمد عبده الذي استدل بنص أية 'لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين..' على دور المصاهرة في دعم الترابط بين المسلمين والنصارى. (عن الشيخ شلتوت, يراجع: من توجهات الإسلام 93, الفتاوى 252)
وهذا التراجع لدى الشيخ شلتوت استمر بعده إلى أن أصبحت الفتنة الطائفية تهدد مستقبل مصر, خصوصا بعد استشراء الفكر السلفي واضطهاده للنصارى المصريين, ومع سيادة ثقافة التطرف والإرهاب فإن خطرا هائلا يهدد مستقبل مصر ووحدتها الوطنية. وليس هناك من سبيل إلا بمواجهة ذلك الفكر السلفي بالمنهج القرآني الذي يوضح الأمور بصورة قاطعة.
وقفة مع المنهج القرآني في التعامل مع غير المسلمين:
بعيدا عن روايات التراث وفتاويه ومصطلحاته فإن القرآن فيه الرؤية الواضحة, ولكن هذه الرؤية تحتاج إلى من يقرأ القرآن ويفهمه بلغته ومصطلحاته, مع فقه قواعده التشريعية.
وقد قلنا أن التعامل مع غير المسلمين هو أم المشاكل وبداية الاختلاف بين تشريع القرآن وتشريع المسلمين في التراث. وذلك لأن البداية تكمن في تعريف المسلم والمؤمن والمشرك والكافر طبقا لمفهوم القرآن واختلاف ذلك عن مفاهيم التراث. حيث تمت صياغة التراث في أحضان نظم سياسية قامت بتوجيه الثقافة بما يخدم أغراضها.
وباختصار شديد نقول من خلال المنهج القرآني ومفاهيمه أن المؤمن له مفهومان, تبعا لعلاقة المؤمن بربه أو علاقته بالناس: 'آمن بـ ' تأتى في القرآن بمعنى اعتقد وآمن, أي في التعامل مع الله, وحينئذ ينبغي أن يكون الإيمان بالله تعالى كاملا. أما 'آمن لـ ' فتأتي في القرآن بمعنى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب, أي في التعامل مع الناس . وورد الأسلوبان كثيرا في القرآن, حيث أن الأمن هو أصل كلمة الإيمان, واجتمع الاستعمالان معا في قوله تعالى عن النبي ' يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين, التوبة 61 ' فالنبي يؤمن بالله إيمانا كاملا , وذلك في التعامل مع الله, أما في تعامله مع المؤمنين فإنه يثق بهم ويطمئن لهم, وهذا هو مفهوم المؤمن في القرآن. إذا حقق الإيمان بالله كاملا وحقق الأمن مع الناس, استحق الأمن في الآخرة كما تردد ذلك في آي القرآن العظيم.
ولكن الإيمان بالمفهوم القلبي في التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة, وليس لأي بشر حتى النبي أن يحكم على ذلك. وعشرات الآيات القرآنية ترجع الحكم في العقائد إلى الله تعالى يوم القيامة, وعلى ذلك فإن كل إنسان مأمون الجانب لا يعتدي على أحد يأمنه الناس ويأمن الناس يكون مؤمنا في التعامل البشري, حتى لو كان بوذيا أو هندوسيا. أما عقيدته وفكرته عن ربه فمرجعها إلى الله تعالى يوم الدين الذي سيفصل فيه رب العزة في كل ما يتعلق بعلاقة البشر بالدين.
ونفس الحال في المسلم فالمسلم له مفهومان, أحدهما في التعامل مع الله تعالى والآخر في التعامل مع الناس.
المسلم في التعامل مع الله تعالى هو إسلام الوجه والقلب والجوارح إلى الله تعالى (الأنعام 162:163) والحكم على ذلك مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة وليس لأحد من البشر أن يحكم على ما في القلوب من إخلاص أو رياء أو نفاق. أما مفهوم المسلم في التعامل مع الناس, فهو السلام أو أن يسلم الناس من يده ولسانه, فالمسلم هو المسالم المأمون الجانب, وهذا أمر يحكم الناس فيه وعليه, وتشريعات الإسلام في العقوبات نزلت لمعاقبة المعتدي على حقوق غيره في الحياة والمال والعرض.. وليس في عقوبات التشريع الإسلامي إلا حفظ حقوق الأفراد, أما حقوق الله تعالى فليس عليها عقوبة دنيوية أو 'حدود ' بمفهوم التراث. وقد اخترعوا ' حد الردة ' لأغراض سياسية في العصر العباسي كما أوضحنا ذلك في كتابنا ' حد الردة: دراسة أصولية تاريخية '.
ومفهوم الذين آمنوا والذين كفروا والمشركون والفاسقون.. الخ حين تأتى في تشريعات القرآن يقصد بها التعامل البشري, فالذين آمنوا أي الذين اختاروا الأمن والأمان, الذين اجتمعوا حول النبي محمد كانوا من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان, وكان منهم ذوو شأن وجاه, ولكن اختاروا أيضا طريق الأمن والسلام, لذلك يقول تعالى لهم ' يا أيها الذين آمـنوا آمـنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنـزل من قبل' النساء 136 أي بعد أن حققوا الإيمان بمفهوم الأمن والأمان عليهم أن يحققوه بمفهوم الاعتقاد.
وفى المقابل فإن المشركين والذين كفروا هم في تشريع القرآن في التعامل البشرى أولئك الذين يعتدون على المؤمنين المسالمين الذين لا يعتدون على أحد, والسبب واضح. إن تطبيق الناس للشرع ينبغي أن يكون في إطار قدرتهم على التطبيق. وليس في قدرة النبي نفسه أن يعلم خفايا القلوب, فقد كان لا يعرف بعض المنافقين الذين يعيشون إلى جانبه وقد مردوا على النفاق (التوبة 101) فإذا كان النبي لا يعرف خفايا القلوب فغيره أولي, ولذلك فإن الحكم على الناس بالشرك يرتبط في تشريع القرآن بالاعتداء, وذلك في موضوعات التعامل البشري, وقد قلنا إن التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة حسبما أكدت عشرات الآيات القرآنية.
وهذا يدخل بنا على ناحية أخري, وهى وجود نوعين من الخطاب في القرآن الكريم فيما يتعلق بغير المسلمين, وهذا يختص في موضوع العقائد والتعامل معه جل وعلا. فمن حقه تعالى أن يقول ' لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم: المائدة 17 ' لأن تلك قضية تخصه جل وعلا, فهذا خطابه لنفر من خلقه أخطؤوا في حقه وموعدهم معه ليحاسبهم على ذلك الافتراء. ولكن الله تعالى يأمرنا أن يكون لنا خطاب مختلف معهم, وذلك بأن نجادلهم بالتي هي أحسن, وأن نقول لهم آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (العنكبوت 46). والدليل الأكبر على ذلك في الأمر بالمباهلة الذي نزل للنبي أساسا ولنا من بعده. فبعد أن أوضح الله تعالى قصة عيسى وحقيقته البشرية قال للنبي محمد 'الحق من ربك فلا تكن من الممترين' ثم جاءت الآية التالية بتشريع المباهلة, فإذا جاء نفر من النصارى للنبي يجادلونه في موضوع ألوهية المسيح بعد أن أنزل الله تعالى الحق للنبي فليس للنبي أن يتهمهم بالكفر, ولكن يدعوهم إلى المباهلة, يجمع كل فريق من المسلمين والنصارى أبنائهم ونسائهم, ثم يبتهل كل فريق بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين (آل عمران-61).
والواضح أن هذا التشريع القرآني غريب في دنيا التعامل الواقعي. والأغرب منه حين نتعرف على لمحة سريعة عن تشريع القتال في القرآن.
فقد قلنا أن تشريعات القرآن هي أحكام وتفصيلات تشريعية تخضع لقواعد تشريعية, والقواعد التشريعية تخدم هدفا أو مقصدا تشريعيا, ومن الخطأ أن نخلط بين هذا وذاك.
فالأوامر والأحكام التشريعية جاءت كثيرا تأمر بالقتال, ولكن تقرنة بالقاعدة التشريعية وهى أن يكون القتال للدفاع ورد الاعتداء بمثله كقوله تعالى 'وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين'... 'فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله: البقرة 190, 194' وفى هذا الإطار أيضا يأتي المقصد التشريعي من القتال, وهو أن يكون بهدف منع الفتنة في الدين أو منع الاضطهاد في الدين, أو أن يكون الدين لله تعالي, أي مرجعه لله تعالى يحكم على الناس بشأنه يوم القيامة, وحتى تكون لله تعالى الحجة على البشر فلابد أن يتمتع أولئك البشر في الدنيا بحرية الاعتقاد, وألا يكون هناك اضطهاد في الدين, وذلك معنى قوله تعالى 'وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله' البقرة .193
وعليه فالقتال هنا دفاعي ضد اعتداء المشركين الكافرين.
والمشركون الكافرون هم المعتدون الظالمون مهما كانت عقائدهم ومبرراتهم وتأويلاتهم وشعاراتهم, ينطبق ذلك على مشركي قريش كما ينطبق على الإرهابيين في عصرنا.
والمسلمون المسالمون هم أولئك الآمنون الذين لا يرفعون سلاحا, مهما كانت عقائدهم وطقوسهم وينطبق ذلك على كل المسالمين من كل الديانات والمذاهب..
وهنا يتفق تشريع القتال في الإسلام مع مفهوم المسلم والمؤمن والمشرك والكافر في مصطلحات القرآن ولكي تبقى بعض نقاط الاتصال الأخرى نشير إليها سريعا.
فالمؤمنون الذين تجمعوا حول النبي طلبا للسلام والمسالمة كانوا يكرهون الحرب مع أنها السبيل الوحيد أمامهم للبقاء حتى لا يفنيهم المشركون, ولذلك قال تعالى لهم 'كـتـب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم, وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم' البقرة 216 ومع ذلك فإن بعضهم احتج على الله تعالى حين فرض عليهم القتال وطلب تأخير الأمر بالقتال فقال تعالى 'ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة, فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية, وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال, لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟: النساء 77' ولذلك فرض الله تعالى على النبي أن يحرض المؤمنين المحبين للسلام أن يقاتلوا, فقال 'يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال: الأنفال' 65 وقال له 'وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا' النساء 84.
ومع ذلك فقد كان بعضهم يتقاعس عند الحرب, فقبيل غزوة بدر - خلافا لما ترويه السيرة- كان فريق من المؤمنين يكرهون الاشتباك مع العدو ويجادلون النبي في الحق الواضح, وحين تحتم عليهم القتال كانوا كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون (الأنفال: 6,5) وتلك أولى غزوات النبي, ولكن الوضع لم يختلف مع آخر غزوة وهى ذات العسرة وفيها يخاطب الله تعالى المؤمنين قائلا 'يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض'؟... التوبة 38.
والمستفاد من تلك الأوامر التشريعية تأكيد المفهوم القرآني لمعنى الذين آمنوا أي الذين اختاروا الأمن والسلام, وآثره بعضهم حتى عندما يكون القتال واجبا للدفاع وخوفا من الإبادة والاستئصال.
ومثل آخر من الأوامر التشريعية يؤكد المفهوم القرآني لكلمة المؤمن وأنه المأمون الجانب بغض النظر عن عقيدته ودينه.. فالله تعالى يقول 'وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ' أي غير معقول أن يقتل المؤمن المسالم المأمون الجانب رجلا مؤمنا مسالما مثله إلا على سبيل الخطأ. ثم وضحت الآية تشريع الدية في ذلك القتل الخطأ. وجاءت الآية التالية بأقسى عقوبة في الآخرة لمن يقتل مؤمنا متعمدا وهى الخلود في جهنم والعذاب العظيم والغضب من الله ولعنته. ثم جاءت الآية التالية تحدد ماهية ذلك المؤمن الذي يستحق قاتله كل ذلك العذاب واللعنة, يقول الله تعالى 'يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء 94' فالمؤمن هو أي إنسان مسالم أو ألقى السلام. وحين الاشتباك الحربي يجب على المؤمنين حقن دماء ذلك المؤمن المسالم حتى لو كان في معسكر الأعداء وكل ما هو مطلوب منه أن يقول: السلام عليكم وقتل ذلك المسالم يستحق كل ذلك العذاب وتلك اللعنة والخلود في النار.
وهذا هو الإسلام دين السلام لكل الناس الذي أنزله رب العالمين رحمة للعالمين..
جذور الارهاب فى العقيدة الوهابية
كتاب ( مصر فى القرآن الكريم )
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس)
تصحيح كتاب( ليلة القدر فى رمضان هى ليلة الاسراء، ليلة ن
( كتاب الموت )
دعوة للتبرع
زواج الهبة حرام: اتفقت معها على ان تهب لى نفسها بالزو اج ...
ثلاثة أسئلة: السؤا ل الأول فى ثقافت نا الشعب ية : الآتى...
معنى المرشد : لماذا اختار الاخو ان لقائد هم لقب ( المرش د )...
الزواج من أمريكية: أريد الزوا ج من أمريك ية كانت لها علاقا ت ...
لا تفريق بين الرسل: قال جل وعلا :( وَقَا لُوا كُونُ وا هُودا ً ...
more
أهلا بكم أحبتى أهل القرآن
ومزيدا من الشكر للاستااذة محمد مهند مراد أيهم و عمر الشفيع و أسامة حمود .
وهذا بحث فقهى جديد عن مدرسة الاستنارة التى أرساها محمد عبده فى مصر ووصلت أصداؤها فى تونس ، وما لبث أن توارت واختفت ، ثم قام (أهل القرآن ) بإحيائها والبناء عليها . وهو يرجو منكم التصحيح و المراجعة.
ويعرض للنقاش الان الكتاب السابق عن ليلة القدر .
أهلا بكم للتصحيح والمراجعة هنا ، و النقاش و التعليق هناك.
خالص محبتى.
أحمد