في الغرب كما في الشرق تسيطر على شرائح غالبة من الرأي العام المسلم مشاعر الضحية والمظلومية التاريخية. العربي والمسلم، تبعاً لتلك المشاعر، مُستهدف من قبل الغرب تحديداً والعالم عموماً لتحطيمه وأسره وسرقة ثرواته وتغيير دينه. هناك بطبيعة الحال أسباب تاريخية وسياقات مختلفة لنمو وترسخ تلك المشاعر ليس هذا مكان سردها ونقاشها. لكن ما يتعلق بالمعالجة التي تتأملها هذه السطور هو الإشارة إلى استدامة وتواصل تلك العقلية وتضخمها في أوساط الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، بما يفاقم من تكريس أوضاع اجتماعية وثقافوية أقرب إلى القطيعة بين تلك الجاليات والمجتمعات المضيفة.
وتبعاً لهذه العقلية يتم انتقاء قوانين وسياسات وتسليط الضوء عليها، حتى لو كانت مبنية على أسس المصلحة السياسية والاقتصادية البراغماتية الصرفة ووضعها على سكة المؤامرة التي تستهدف المسلمين. تندرج أيضاً العولمة والاقتصاد والشركات العابرة للجنسيات والحروب وصراعات النفوذ وحتى تدخلات جمعيات حقوق الإنسان العالمية لمصلحة بعض الفئات المهمشة والمظلومة في العالم الإسلامي في تصور أشمل، مرضي في جوهره، يربط كل الأحداث والسياسات بأهداف غربية استعمارية تستهدف المسلمين وحدهم. وهكذا ومن منظور إجمالي فإن سيطرة عقلية الضحية واستبطانها في شكل جماعي توفر حالة شبه لا تورث سوى الشلل والسلبية تجعل الجماعة المعنية منغلقة على نفسها ضد التفاعل الإيجابي مع ما حولها ومع ما يحدث من تغيرات سياسية وثقافية وغيرها تبعاً للظروف والتحولات الحتمية.
"الخصوصية الثقافية"
إحدى نتائج عقلية الضحية والشعور الجمعي بالمظلومية التاريخية تبلور مفهوم مزدوج الاستخدام جوهره الظن بأن العرب والمسلمين مختلفون جوهرياً من ناحية ثقافية ودينية وبالتالي لا تنطبق عليهم كثير من التحليلات والنظريات والتطبيقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تنطبق على غيرهم. وهذا الاختلاف الموهوم يحلو لكل من يؤمن به عن قناعة وكل من يستخدمه لأهداف انتهازية أن يطلق عليه تسميه جذابة هي "الخصوصية الثقافية" والتي تبدو في ظاهرها محمّلة باحترام الآخر وخصوصياته الثقافية، في حين أن جوهرها يتضمن أقداراً كبيرة من احتقار الآخر والنظر إليه باعتباره أقل أهلية وكفاءة من أن يطلب منه تحمل أو تطبيق ما يُطلب من الذات نفسها.
وباستخدام الخصوصية الثقافية تتذرع الأنظمة العربية بعدم تطبيق الديمقراطية ومعايير حقوق الإنسان والمساواة التامة بين الأفراد على قاعدة المواطنة المطلقة. ويتم تسويغ الاختلالات الفاضحة بمبررات الدين أو التقاليد أو الثقافة. وباستخدام الخصوصية الثقافية فإن الحكومات الغربية لا تتدخل للضغط على هذه الأنظمة، لتحقيق الحدود الدنيا من الديمقراطية وحقوق الإنسان. أي أن الحرية والديمقراطية اللتين تطبقان في الغرب لا يصلح تطبيقهما في المجتمعات العربية والإسلامية. في الغرب نفسه يختبئ العرب والمسلمون خلف تمظهرات متنوعة من "الخصوصية الثقافية"، رافضين الاندماج في المجتمعات الغربية المضيفة لهم، مظهرين حساسية فائقة ضد كل ما قد يُفهم منه انه محاولة لتسهيل دمجهم في هذه المجتمعات.
عقلية عابر السبيل وليس عقلية المقيم
وتقود تصورات الضحية والمظلومية التاريخية ومزاعم الخصوصية الثقافية إلى تطور عقلية من نوع آخر، لا تقل تدميراً عن التصورات التي أنتجتها وهي عقلية عابر السبيل والمسافر وليس عقلية المقيم والمواطن. وهنا يمكن الزعم أن شرائح غالبة من الجاليات العربية والمسلمة في الغرب تسيطر عليها هذه العقلية الهروبية الطابع. ومعنى ذلك انه على رغم مرور سنوات وأحياناً عقود طويلة من الاستقرار في البلدان الغربية، والعمل فيها، والحصول على جنسياتها، فإننا نجد أن العائلات المسلمة وأفرادها لا يريدون حسم مشاعرهم الداخلية إزاء طبيعة وحقيقة الإقامة الدائمة في تلك البلدان. فالحسم بصورة قاطعة ولو على مستوى الشعور والوجدان الداخلي يخلق إحساساً بالتخلي عن الوطن الأم والخيانة الخفية.
وحتى لو كانت الرغبة في العودة إلى الوطن في شكل اختياري منعدمة تماماً سواء على مستوى الآباء أو أبنائهم، فإن تلك الرغبة لا يتم التعبير عنها في شكل صريح مع النفس والآخرين. وهناك تفاد دائم لسؤال العودة إلى الوطن، وهروب منه إلى الأمام. وربما يقضي الشخص فترة تزيد على الثلاثين عاماً أو أكثر في هذا البلد الغربي أو ذاك، حيث يكون قد تزوج وأنجب أطفالاً هناك، وترسخت مصالحه المهنية والعائلية، من دون أن يواجه ذاته بصراحة لجهة استمرائه العيش حيث يعيش وإقامته الدائمة في الغرب. وعوضاً عن ذلك، وكمحاولة سيكولوجية لا واعية لـ "التكفير عن ذنب الإقامة في الغرب"، يتم تبني إنكار لفظي متواصل لتلك الإقامة الواقعة على الأرض ونفي بأن تكون هناك "نية" في الاستمرار الدائم، يرافقها الزعم المتكرر بالرغبة في العودة القريبة إلى الوطن.
وهذه "العودة القريبة" تأخذ عقوداً طويلة ثم لا تتم في نهاية المطاف، لكن الخلاصة تكون في تأبيد العيش على هوامش المجتمعات الغربية وفي غربة "غيتوية" عنها. المعنى العملي والتطبيقي لهذا التشظي المشاعري هو عدم الاستقرار الوجداني وعدم الشعور بالانتماء الفيزيائي للمكان، وغلبة الإحساس بقرب السفر، وتبلور ما يمكن وصفه بعقلية عابر السبيل. فالبلد المُضيف وحيث أقام ويقيم الفرد سنوات طويلة أكثر من تلك التي أقامها في بلده الأصلي لا يتجاوز على المستوى الوجداني والشعوري موقع محطة القطار، أو الفندق، الذي يكون المرور فيه سريعاً وعابراً وموقتاً.
الشعور بالمسؤولية
حالة المسافر لا تملي على صاحبها الشعور بأية مسؤوليات أو انتماء تجاه محطة القطار تلك التي يمر بها، أو الفندق الذي يقيم فيه لفترة وجيزة، فهو مجرد عابر سبيل. علاقة المسافر بالمكان في هذه الحالة علاقة هشة وسطحية وخارجية، ليس فيها تداخل أو استبطان. وفي تلك العلاقة أيضاً شعور بالتعالي والازدراء، فالمسافر يمتلك حرية المغادرة وممارستها والانتقال إلى مكان آخر، بل هو دائماً على أهبة الرحيل، وجدانياً وتخيلياً. هو من يملك الخيارات فيما المكان، محطة القطار، تظل متجمدة في موقعها لا تتحرك ولا تملك أية خيارات أخرى. ذلك مجموعاً إلى ذاته يكرس مسافة لا شعورية بين العربي أو المسلم المقيم في الغرب والمكان، وهي مساحة باردة غير حميمية وعازلة. وهذا العامل يفاقم بطبيعة الحال من العزوف عن الانخراط في الحياة العامة أو التعرف الى المحيط ويكرس من التقوقع الفردي والجماعي على الذات.
وهناك جانب آخر لهذا الجدل متعلق بالعلمانية، التي تواجه في المجتمعات العربية والإسلامية فهما قاصراً وسمعة سيئة تماهي بينها وبين الكفر والإلحاد. هناك أسباب كثيرة لهذا القصور وتلك السمعة، أهمها تشويه الإسلاميين لها، لكن ليس هنا مجال نقاش تلك الأسباب. والنقطة ذات العلاقة هنا هي أن ذات الفهم القاصر والسمعة المشوهة موجودان بقوة وترسخ في أوساط الجاليات المسلمة في البلدان الغربية العلمانية. والإطار العلماني لهذه البلدان هو عملياً وسياسياً وفكرياً ودستورياً ما يتيح للجاليات المسلمة هناك أن تعيش بأمان وتمارس شعائرها الدينية بحرية، وتبني مساجدها، وتحتفل بأعيادها.
الحرية الدينية
فلو كانت البلدان الغربية مسيحية دستورياً وسياسياً وفعلياً لما أمكن للمسلمين هناك أن يمارسوا حياة طبيعية كالتي يمارسونها الآن. ولو كانت سيطرة الدين في البلدان الغربية تشابه ولو من بعيد سيطرة الدين في البلدان العربية والمسلمة لما أمكن للمسلمين هناك العيش بمستوى الحرية التي يمارسونها على رغم كل ما يُقال عكس ذلك، ولكان حالهم كحال الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية (المسيحية واليهودية والهندوسية والبهائية والأحمدية وغيرها) وهو حال مخجل بكل المعايير.
المعنى العملي للإطار العلماني الناظم للاجتماع السياسي في الغرب يتجسد بكونه النظام الحامي الحقيقي للوجود الإسلامي هناك. لكن ذلك الوجود الواقع تحت أسر عقليات "الغيتو" والضحية والخصوصية الثقافية وعابر السبيل، والانغلاق الداخلي، وازدياد التشبث بالهوية الدينية والمباهاة بها، واستمرار دفع الحدود إلى مساحات جديدة لتحقيق مكاسب دينية (وليس سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية) يقود إلى أكثر من رد فعل. الأول يأتي من المؤسسة الحاكمة والقوى المختلفة المؤثرة فيها، والتي ليست عندها مقاربة محكمة ومقنعة تعالج المطالبات بزيادة مساحات الدين وسيطرته خاصة عندما تتغلف تلك المطالبات بحرية الاعتقاد والممارسة وسوى ذلك، مثل المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في الغرب. فالرد يكون هنا متوتراً إما على شكل تشديد القوانين بغية المحافظة على النظام العلماني والتعددي، وهذا يخلق أصولية علمانية تنتج أعداء جدداً محتملين وغير محتملين.
وإما أن يكون الرد بتقديم المزيد من التنازلات للمطالبات الدينية، وهذا يخلق إرباكاً في دوائر واسعة وينتج أيضاً أعداء آخرين محتملين وغير محتملين للجاليات المسلمة وخاصة في دوائر الإعلام. وهذا ما نشهده في السنوات الأخيرة حيث أن زيادة سقف المطالب الدينية للجاليات المسلمة ألب ضدها دوائر أعداء لا تني تتسع. ويمكن القول أن السنوات المقبلة ستشهد انحساراً تدريجياً وربما متسارعاً في دوائر أنصار الجاليات المسلمة ومن يؤيد مطالبها الدينية، خاصة في أوساط الليبراليين واليساريين وهم الأكثر تفهماً وتأييداً حتى الآن لمطالب هذه الجاليات، على عكس تيارات اليمين المحافظ.
خالد الحروب
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010
خالد الحروب أكاديمي وإعلامي عربي معروف يعمل محاضرا في جامعة كامبريدج.