آحمد صبحي منصور Ýí 2019-10-04
سابعاً: الإعجاز في القصص القرآني
من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )
مقدمة
1 ـ القصص القرآني جزء من القرآن يتمتع بما تتمتع به آيات القرآن الكريم من إعجاز متجدد لا ينفذ.
2 ـ وقد ربط الله تعالى بين الوحي والقصص في قوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ..يوسف3 )فالقرآن أحسن القصص, بل جاء فعل ( يقص) مرادفا للدعوة التي يقوم بها كل نبي في قومه, يقول تعالى(.. أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا ؟..الأنعام130)
3 ـ ولأن القصص القرآني جاء وحياً من لدن الله فإن سمات الإعجاز فيه تعلو على إمكان البشر , شأن المعجزات والآيات التي يظهرها الله على عباده الأنبياء ويتحدى بها الناس فلا يستطيعون , وقد تحدى الله تعالى بالقرآن وما فيه من قصص – جميع البشر فعجزوا , وقرر تعالى استحالة أن يأتي الجن والإنس بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ..الإسراء88) .
4 ـ ولأن القصص القرآني جاء وحياً إلهياً فإن عناصر الإعجاز فيه ترجع إلى ما اختص الله تعالى به ذاته المقدسة من صفات إلهية قصرها على ذاته دون خلقه , ونعنى بالتحديد من تلك الصفات المقدسة أنه تعالى وحده يعلم الغيب , ومن واقع علمه تعالى بالغيب كان إخباره بالقصص القرآني إعجازاً لا يتسنى لأي بشر , فلا يعلم الغيب إلا الله (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ..النمل65) (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ..الأنعام59). والبشر لا يعلمون الغيب, وعندما يظهر الله آية على رسول من رسله فإنه يعلمه ببعض الغيب ولكن ليس ذلك عاماً في رسالة كل نبي , يقول تعالى مخاطباً المؤمنين (..وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ..آل عمران179) ويقول على لسان خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ..الجن26: 27). والجن لا تعلم الغيب , فقد مات سليمان عليه السلام وهو جالس أمامهم وهم مسخرون في العمل فلم يتبينوا موته إلا بعد أن تآكلت عصاه وسقطت جثته (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ..سبأ14) . وإذا كان الجن والإنس لا يعلمون الغيب إذن فلن يستطيعوا الإتيان بشئ من القرآن ولا حتى بجزء من القصص القرآني المعجز والذي يمثل الغيب إحدى جوانب الإعجاز فيه .
غيب الماضى
1 ـ فالقصص القرآني حين حكى أحوال الأمم البائدة المندثرة إنما كان يهتك حجاب الغيب وينبئ الرسول عليه السلام والعالم من خلاله بتاريخ أمم سحيقة انتهى العلم بها واندثرت بعد إهلاكها إهلاكاً تاماً واندثر معها تاريخها والعارفون بها ولم يبق من مخبر عنهم إلا الواحد القهار الباقي بعد كل فناء. فالقرآن الكريم بعد أن قص بالتفصيل موقف قوم نوح منه ومن رسالته وما حدث لهم في الطوفان قال تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ..هود49) أي أن قصص نوح وقومه كان من أنباء الغيب أوحاها الله لرسوله وما كان يعلمها ولا كان قومه يعلمون بها قبل ذلك وإنما حكى ذلك القرآن لرسوله كي يصبر فإن العاقبة دائماً للمتقين .
2 ـ وأحياناً يذيل القرآن الكريم على القصص بأنه وحى ما كان الرسول يعرفه وما كان الرسول حاضراً مع أبطال القصص حين كانوا يتصرفون , كأن يقول تعالى بعد قصة يوسف مع أخوته (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ..يوسف102) أي ما كنت حاضراً إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه .
3 ـ ويقص ربنا قصة ولادة مريم ونشأة مريم وكفالة زكريا عليه السلام لها وإنعام الله على زكريا وهو شيخ هرم بأن يكون والداً ليحيي عليه السلام واصطفاء مريم , ثم يقول تعالى لرسوله (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ..آل عمران44) وتكرر نحو ذلك في سورة القصص(44: 46).
4 ـ وهكذا فإن إعجاز القصص القرآني يتمثل في كونه المصدر الموثق الوحيد الذي عرفنا من خلاله تاريخاً بائداً ضاعت معالمه وبادت جذوره وأصبح غيباً لا يعلمه إلا علام الغيوب فأنزل العلم به وحياً قرآنياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
5 ـ ويعظم هذا الإعجاز في أعين المؤرخين خاصة , وهم أدرى الناس بما يشوب التاريخ الماضي المكتوب من خلط وخرافة وتشويش . فما البال إذا كان ذلك التاريخ ليس مكتوباً وليس معروفاً ثم جاء في أنقى صورة من الحقيقة من لدن الحكيم الخبير ؟ .
6 ـ ويعظم هذا الإعجاز في أعين المؤرخين وهم أدرى الناس بما يشوب التاريخ المعاصر للمؤرخ حين يكتبه المؤرخون ملوناً بنظرتهم معبراً عنهم أكثر من تعبيره عن الحقيقة , فيأتي القرآن الكريم بقصص حقيقي ليس لتاريخ حي نابض وإنما لتاريخ بائد لا نعرف عنه شيئاً .. ثم يأتي فيه بالحقيقة ناصعة جلية .
7 ـ ويعظم هذا الإعجاز في أعين المؤرخين وهم يدركون استحالة إثبات الأقوال إلى قائليها , فالمؤرخ يذكر أن السلطان قال كذا وما كان حاضراً لهذا القول وإنما أخذ ذلك وسجله عبر سلسلة طويلة من الرواة يستحيل معها التأكد اليقيني من ذلك القول .. هل قاله السلطان بحذافيره أم لم يقله أصلا .. ثم يجد المؤرخون القصص القرآني وقد حكى عن الأمم البائدة السحيقة أخبارها وأقوالها بالنص والحرف , وما كان معهم من شاهد على أقوالهم إلا الله .
8 ـــ ومن هنا يأتي التنبيه القرآني للرسول (..وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ..يوسف102). فمثلاً إخوة يوسف اجتمعوا وتشاوروا في مصير يوسف وحكى القرآن أقوالهم بالتفصيل. وسبحان علام الغيوب القائل :(مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ..المجادلة7).
ومن أمور النجوى والأقاويل السرية الشخصية – بين الفرد ونفسه أو بين مجموعة محدودة من الناس تحدثت فيما بينها سراً ـــــ من كل ذلك- أورد القرآن الكريم الكثير مما كان شاهداً عليه وأورده بحذافيره نصاً وحرفاً صدقاً ويقيناً.
9 ـ ففي قصة موسى عليه السلام حكاية أم موسى وأخته التي تقص خبره, وخبر موسى مع الإسرائيلى الذي قتل من أجله المصري، وذلك الرجل الناصح لموسى وسير موسى إلى مدين وحديثه مع الفتاتين, ثم حديثه مع أبيهما، كل ذلك في قصة واحدة بل في جزء من قصة واحدة لأحد الأنبياء – ومع هذا فقد دار معظمها في دائرة ضيقة تشمل شخصاً واحداً أو مجموعة أشخاص لا يزيدون في أي تجمع عن ثلاثة من بينهم بطل القصة موسى عليه السلام ,ثم يأتي القرآن بالأقوال بل والمشاعر ونبض القلوب كله في وضوح وصدق شديدين.
10 ــ وفى قصة يوسف مثلاً – أو في جزء منها – أحداث كثيرة كان فيها البطل منفرداً بنفسه أو وسط مجموعة ضيقة من الناس تبدأ برؤياه التي قصها على أبيه، ثم بإلقائه في الجب ثم بحمله إلى مصر , ثم موقف امرأة العزيز منه , ثم امرأة العزيز مع نساء الطبقة الارستقراطية في مصر القديمة ويوسف يمر أمامهن .. وما صاحب ذلك كله من أقاويل منها ما دار في الخفاء بين اثنين ومنها ما كان معلناً بين أكثر من اثنين , وما دار أثناء ذلك من تحركات ومؤامرات وصراعات ،حكى ذلك القرآن بصورة سهلة معجزة مثبتة الأقوال والحركات، حيث لم يكن ثمة شاهد على نجوى اثنين أو أكثر إلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور .
التاريخ المستقبلى
1 ـ ولم يقتصر إعجاز الغيب القرآني على الإخبار بأحداث الزمن الماضي وإنما أخبر بما سيكون في المستقبل من أحداث تاريخية حدثت بعد نزول الوحي. وهذا يعنى أن القرآن الكريم غطّى الزمن كله ماضيه وحاضره ومستقبله, وذلك إعجاز لا يوجد إلا في القرآن الكريم.
2 ـ فالمادة التاريخية في القصص القرآني تحدثت عن التاريخ الماضي وهو تاريخ الأنبياء والأمم السابقة قبل محمد صلى الله عليه وسلم , واحتوت على تاريخ معاصر لنزول الوحي حيث رصدت تحركات الدعوة الإسلامية منذ بدايتها إلا تمام انتصارها , وكانت تنزل حسب مقتضى الحوادث توجه وتنقض وتحذر وتوضح حسبما يقتضيه وضع المسلمين أمام أعدائهم من المشركين واليهود , ثم يأتي الإخبار بما سيكون في المستقبل فتحاً جديداً في عالم التاريخ لا يمكن أن يتأتي إلا في الإعجاز القرآني القائم على الغيب الإلهي .
2 ـ , فالله وحده هو الذي يعلو على الزمن الماضي منه والحاضر والمستقبل , لذا فإنه تعالى يعبر عن المستقبل – أحياناً – بصيغة الماضي كأن يقول تعالى عن قيام الساعة وهو أمر مستقبل لم يحدث بعد في زمننا (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ..النحل1) فعبر عن قيام الساعة بأنه( أتى)في الزمن الماضي . وقد جاء في أوائل سورة المعارج عن يوم القيامة (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ،مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ،تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ، وَنَرَاهُ قَرِيباً..المعارج 1: 7) وهنا إشارة واضحة إلى اختلاف الزمن الأرضي عن الزمن السماوي وأن اليوم السماوي يساوى عندنا خمسين ألف سنة ، وهذا بالنسبة لاختلاف الزمن ونسبيته بين نوعين من مخلوقات الله هما البشر والملائكة ، أما الله تعالى خالق البشر والملائكة والزمن فهو فوق الزمن ولا زمن عنده ،إذ يستوي الزمان والمكان حيث لا زمان ولا مكان ، والزمن الماضي يكون عنده تعالى كالزمن المستقبل ، من هنا كان التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي طالما يتعلق بأمر الله جلا وعلا . وتجدر الإشارة إلى أن اختلاف الزمن ونسبيته كان أهم اكتشاف في قانون النسبية لاينشتاين وقد ألمح إليه القرآن الكريم منذ ألف وأربعمائة عام . في أوائل سورة المعارج (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وفى سورة السجدة عن تدبير أمره تعالى بين السماء والأرض (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ..السجدة5 ) وصدق الله العظيم
3 ـ ومن الإخبار بالمستقبل بصيغة الماضي وردت إشارات في القرآن الكريم عن أحداث تاريخية مستقبلية منها ما نزل في القرآن الكريم في سورة الأحزاب عن موقعة الأحزاب وقد كانت محنة ابتلى فيها المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً , وجاءت البشارة للمؤمنين المحاصرين في المدينة بأن الله سينصرهم على مشركي العرب بل وسيورثهم أملاك كسرى وفارس , وجاء التعبير عن ذلك بصيغة الماضي , يقول تعالى (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا ..الأحزاب27) وهذا ما حدث فعلاً في الفتوحات الإسلامية حيث أورث الله المسلمين المحاصرين – في غزوة الأحزاب – أرضاً لم يطؤوها من قبل , والمهم هنا أن التعبير الإلهي بلفظ الماضي ( أورثكم – أرضاً لم تطؤوها ) معناه أن الأمر الإلهي قد صدر سلفاً وانتهى , وقد أخبر تعالى به بصيغة الماضي , بينما كان الزمن الذي يعيشه المسلمون – وقت ذلك الوحي – لم يصل بعد إلى وقت الفتوح، فكان ذلك الفعل ( الماضي – أورثكم ) بالنسبة لهم مستقبلاً . وقد استبشر المؤمنون بهذه البشارة وارتفعت روحهم المعنوية بينما سخر منها المنافقون (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ..الأحزاب12) .وقال أحدهم وهو معتب بن قشير ( كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ) [1] .
4 ـ وقد أصدر رب العزة جل وعلا قراراً بأن يكون فرعون وجنده أئمة لكل المشركين إلى أن تقوم الساعة. يقول تعالى عن فرعون وجنوده (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ..القصص40: 41), وبعد نزول القرآن الكريم بقرون يأتي الصوفية وينادون بأن فرعون إمامهم , يقولون هذا بالنص : ( فرعون إمامنا ) هكذا قال الحلاج وتوسع فيه ابن عربي حتى أنه كتبت في ذلك مؤلفات صوفية خاصة تدافع عن رأى ابن عربي في فرعون مثل رسالة ( إيمان فرعون ) لجلال الدين الديواني [2] التي أول فيها آيات القرآن الكريم التي نزلت في كفر فرعون وعتوه وعذابه باعتباره إماماً يستحق الدفاع عنه .أليس إعجازاً للقرآن أن يجعل فرعون إماماً لأصحاب النار ثم يأتي بعد نزول القرآن من يقولها بالنص ( فرعون إمامنا ) ؟؟ .
5 ـ إن من إعجاز القرآن أن يجعل آياته تظهر على أعدائه , فقد يخبر بما سيكون عليه المشركون في عنادهم فلا يسع المشركون – وهم أعداء القرآن وأكثر الناس حرصاً على تكذيبه – إلا أن يرددوا برغم أنوفهم ما حكاه القرآن عنهم من قبل . من ذلك قول الله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ..البقرة142). فقد وصف اليهود المعاندين بأنهم سفهاء وبأنهم سيقولون معترضين على تغيير القبلة إلى المسجد الحرام (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) , ومع أن أهل الكتاب أهل علم ودراية إلا أنهم لم يستطيعوا الخروج عما وصفهم به القرآن مسبقاً فقالوا ما قالوا – بعد نزول القرآن بآية ( سيقول السفهاء ) – واستحقوا أن يوصفوا بالسفه وأن يتحقق إعجاز القرآن فيهم .
6 ـ ونحو ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن مشركي مكة ينبئ عما ستكون عليه أقوالهم قبل أن يتفوهوا بها كقوله تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ..لقمان25) .(.. وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..الزمر38). وكقوله تعالى (قُل: لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ..المؤمنون84: 85) .
7 ـ وأحياناً لا يكون الإخبار عن المستقبل بأقوال المشركين بل وبحركاتهم أيضاً كقوله تعالى (قُل: كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا، قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ؟ ..الإسراء50 :51) فالقرآن يخبر مسبقاً بما سيقولونه بل وكيف أنهم ( سينغضون) أي سيحركون رؤوسهم استهزاءاً وسيقولون متى هو .
8 ـ وفي غزوة ذات العسرة التي اعتذر عنها المنافقون نزل على الرسول عليه السلام وهو عائد منها أن المنافقين سيحلفون له عندما يصل المدينة معتذرين بشتى المعاذير (سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ..التوبة95).
9 ـ وفى مكة – في المراحل الأخيرة من الدعوة الإسلامية فيها – نزلت آيات تتحدث عن تآمر المشركين بالرسول وطلبهم العذاب وصدهم عن المسجد الحرام وذلك في سورة الأنفال ابتداءاً من قوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ..الأنفال30) إلى أن يقول تعالى ملخصاً مستقبل المشركين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ، يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ، فَسَيُنفِقُونَهَا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ..الأنفال36) . فقوله تعالى ( فسينفقونها ) إخبار بما ستنفقه قريش من إعداد لحروبها ضد النبي عليه السلام بعد أن هاجر للمدينة , وقوله تعالى (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) إخبار بما سيصيب المشركين في بدر والأحزاب , وقوله تعالى ( ثم يغلبون ) إخبار بفتح مكة وهزيمة المشركين النهائية , ثم يأتي الإعجاز البلاغي في قوله تعالى في آخر الآية (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) فلم يقل ( ثم هم إلى جهنم يحشرون ) حتى لا يحكم على كل أهل مكة القرشيين بالعذاب ومنهم من آمن بعد الفتح لذا قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) ليجعل جهنم من نصيب الكفرة من القرشيين فقط .
10 ـ وهكذا يأتي الإخبار عن المستقبل بلفظ المضارع المصحوب بالسين ( سيقول السفهاء ) ( سيقولون لله ) ( فسينفقونها ) ( سيحلفون بالله ) ونحو ذلك في التنبؤ بنصرة الروم (غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ..الروم 2: 5).
11 ـ وقد يأتي الإخبار عن المستقبل باسمية الجملة ليفيد الثبوت في معرض التأكيد كقوله تعالى لرسوله وهو في طريق الهجرة من مكة حزيناً على فراق موطنه والمسجد الحرام (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ..القصص85).فأسلوب القرآن المعجز في فصاحته يأتي بما يناسب المقام, من استعمال الماضي أو المضارع أو الجملة الاسمية في الإخبار عن حدث مستقبلي. وما على المسلم إلا أن يعيش مع النص القرآني متدبراً مفتوح العقل والقلب لينهل منه المزيد والمزيد.
12 ـ والقرآن الكريم كما -أسلفنا - نبه كثيراً على أهمية التدبر والتعقل للآيات ليستفيد بها الإنسان في دينه ودنياه وآخرته وعلمه وعقله ، وربما يصل المؤمن بتدبره في آيات أخبرت عن المستقبل بما يفيده في حاضره ومستقبله ، وإذا لم يفعل فقد حرم نفسه من خير كثير بل ربما أصابه الضرر كما حدث للمسلمين في غزوة أحد .
13 ـ فبعد انتصار المسلمين في غزوة بدر واجهتهم مشكلة التصرف في الغنائم ، ونزلت سورة الأنفال – والأنفال تعنى الغنائم – تنبه منذ بداية السورة على أن الأنفال لا تستحق التنازع بشأنها إذ أنها في حقيقة الأمر لله ورسوله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ: الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ..الأنفال 1) فلم تبدأ الآيات في السورة بإصدار الحكم في كيفية توزيع الغنائم وإنما نبهت إلى أن الغنائم ينبغي ألا تكون هدفاً في حد ذاتها وإنما التقوى هي الهدف و الأساس . ثم تعرض الآيات لغزوة بدر وما ينبغي أن يكون عليه المؤمن المجاهد حين القتال ، ثم تبين حقيقة هامة هي أن نصر المؤمنين في بدر مرجعة لله وحده وليس مرجع ذلك لمجرد أن الرسول (ص) رمى بحفنة تراب في وجه المشركين (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً ..الأنفال17) ثم تؤكد على طاعة الرسول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ..الأنفال20 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ .. الأنفال24.. ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ ..الأنفال27) بعد ذلك يبين حكم الغنائم (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. الأنفال41 ) فعلّق استحقاق الغنائم على الإيمان ، ثم يعود ليؤكد على الثبات في القتال وطاعة الرسول وعدم التنازع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ..الأنفال45: 46 ) ثم يأتي الأمر بالأكل من الغنائم (فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ..الأنفال69 ) ويكون الأمر بالأكل من الغنائم الحلال مقروناً بالأمر بالتقوى .
وما حذر منه القرآن بعد غزوة بدر وقع فيه الرماة في غزوة أحد وتسببوا في إلحاق الهزيمة بالمسلمين في هذه الغزوة . فالرماة وضعوا الغنائم في بؤرة الشعور والاهتمام وفى سبيلها نسوا أمر الرسول وعصوه، ونسوا ما نزل في سورة الأنفال معتقدين أن مجرد وجود الرسول بينهم كفيل بضمان النصرة لهم إذ يكفى أن يلقى الرسول في وجوه الأعداء بحفنة تراب ليتحقق النصر للمسلمين .. ومعنى ذلك أن التحذيرات التي نزلت في سورة الأنفال إثر الانتصار في بدر كانت تحذر المسلمين مسبقاً مما سيحدث لهم في أحد .. فهنا إخبار ضمني بالمستقبل ، لم يفطن له المسلمون وقتها فمضى فيهم قضاء الله لأنهم غفلوا عن تدبر آيات الله وكان الله بهم غفوراً رحيماً كما ذكر تعالى في سورة آل عمران (152، 155، 157 ).
14 ــ وبعد أن هزم الله المشركين في بدر جمع الرسول اليهود في سوق بني قينقاع ودعاهم للإسلام وحذرهم من مصير المشركين في بدر ، فاستكبروا وقالوا ( لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة والله لئن حاربتنا لتعلمن أن نحن الناس ) [3] ونزل قوله تعالى فيهم (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ..آل عمران12) فأخبر الله بما سيحدث ليهود بني قينقاع من الهزيمة ثم جهنم . وذلك ما حدث فعلاً فقد حاصرهم الرسول (ص) واستسلموا له وأجلاهم عن المدينة .
15 ــ وخصوص السبب في النزول لا يمنع من عموم الاستشهاد فخطاب الله تعالى لرسوله عليه السلام عن اليهود (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ..آل عمران12) يمكن أن يكون عاماً لكل من سار موحداً مقتفياً أثر الرسول (ص). وعلى ذلك فالحاكم المسلم إذا سار في حياته وسياسته كما أمر الله وكما عاش الرسول لتحققت النبوءة وأمكن أن يعينه الله على دولة إسرائيل (..وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ..الفتح4).
16 ـ وواقع الأمر أن حديث القرآن الكريم عن اليهود وطبائعهم فيه الكثير مما ينفع المسلمين في مواجهتهم لعدوهم الصهيوني ، كأن يقول تعالى يصف نظرتهم العنصرية لغير اليهود (..وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ .. آل عمران75) أو يصف أسلوبهم الحربي الذي ألفوه منذ عهد الرسول (ص) حتى الآن (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ ..الحشر14) ولنتذكر المستعمرات الإسرائيلية المحصنة وخط بارليف .
17 ــ وما ذكره القرآن عن عادات اليهود الملازمة لهم – والتي أشرنا لبعضها ـ يحوى إشارة ضمنية لإخبار بالمستقبل , ذلك أن الأيام دول وقد أجلى الرسول اليهود عن المدينة وهاهم عادوا ، ولو أحسن المسلمون التدبر في القرآن لاستفادوا مما حكاه القرآن عن اليهود وطبائعهم , ولو التزموا بالقرآن والإسلام نصاً وروحاً لانتصروا على عدوهم الصهيوني ألم يقل الله تعالى يخاطب المؤمنين (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ، وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم، مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ , لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ..آل عمران110: 112). وهذه الآيات الكريمة لخصت تاريخ اليهود وأعطت العبرة لمن يتدبر حال المسلمين اليوم . بنو إسرائيل فضلهم الله على العالمين بالرسل والكتب , ولم يكن التفضيل لهم مطلقاً بل بما حملوه من مسؤولية الدعوة لله فلما فرطوا في المسؤولية وحرفوا في كتاب الله كتب الله عليهم الذلة والمسكنة : يقول تعالى عن تفضيل بني إسرائيل (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ..البقرة 47 ،122) ويقول عن لعن بني إسرائيل حين فرطوا في المسؤولية (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ..المائدة78: 79) أي أنهم كفروا وعصوا واعتدوا ولم يتناهوا عن المنكر , يقول تعالى (وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ, لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ المائدة62 :63 ).
18 ــ وقد نبأ بما سيحيق باليهود من ذلة وهوان بعد أن كفروا بالله وعبدوا عجلهم الذهبي , يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ..الأعراف152) وتذييل الآية بقوله تعالى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) معناه أن مصير اليهود من الإذلال يمكن أن يتكرر لمن يحمله الله المسئولية ثم يفرط فيها وهذا ما حدث للمسلمين . فالله تعالى جعل المسلمين خير أمة أخرجت للناس وقرن ذلك بشروط الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ..آل عمران110) وبين تعالى لو أن أهل الكتاب التزموا بمنهج الله لكان خيراً لهم من الذلة التي حاقت بهم بسبب انحرافهم فقال تعالى (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم ..آل عمران110) ثم تحدث القرآن عن المواجهة بين المؤمنين واليهود فأثبت أنها لن تكون إلا في صالح المؤمنين ولن يستطيع اليهود الإضرار بالمؤمنين إلا بمجرد الأذى القولي وإذا حدث قتال بين الفريقين فستكون النصرة الحتمية للمسلمين , يقول تعالى (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ.. آل عمران111: 112).
19 ـ ومعلوم أن ذلك النصر الإلهي مقرون بكون المسلمين مؤمنين فعلاً خالصي العقيدة لله تعالى وحده دون ولى أو ضريح أو واسطة , ولكن الذي حدث أن المسلمين بعد أن انتصروا بالتوحيد زحفت عقائد الشرك تحت أسماء التشيع والتصوف فذلوا بعد عز وهانوا على ربهم وضيعوا الأمانة فسلط الله عليهم أذل أمة وهم اليهود لتذيقهم الهوان كما هو حادث اليوم .
20 ــ وصدق الله العظيم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ..الأعراف152) فكذلك يجزى الله المفترين في كل عصر . ولا يقولن قائل أن اليهود وحدهم الذين اتخذوا العجل , فاليهود استعاروا عبادة العجل من مصر القديمة , ولا زلنا نحن المصريين مقيمين على عقائدنا الفرعونية من تقديس الأموات وتقديم النذور إليها.. ألسنا أصحاب (عجل السيد) , ولاحظ أن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا) يتحدث بالعموم عن الذين اتخذوا العجل في أي زمان وفي أي مكان.. من يهود أو غير يهود .
أخيرا
وهكذا فإعجاز القصص القرآني تجلى في الإخبار عما مضى من تاريخ الأمم والأنبياء السابقين بالإضافة إلى التنبؤ بما سيكون في مستقبل الزمان من أحداث تحققت بعد نزول الوحي , وواجب المؤمن أن يحسن التدبر في كتاب الله ليستفيد لحاضره من القصص القرآني , حيث أن التاريخ دائماً ما يعيد نفسه والقرآن الكريم ما حكى تاريخ السابقين وفصل القول فيه كرة بعد كرة إلا ليعتبر الإنسان ويتعظ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ،مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ..يوسف111).
تنبيه
المكتوب هنا كان يعبر عن ثقافة المؤلف وقتها عام 1984 . ومنها الخطأ المعتاد ، وهو إعتبار الفتوحات العربية فتوحات إسلامية . وفيما بعد أثبت المؤلف وأكد أنها أكبر جريمة دينية وقع فيها العرب وهى التى نشلرت الكفر بالاسلام ( بإسم الاسلام ) وأنها التى أسّست ما أسماه المؤلف بالأديان الأرضية ( للمحمديين ) من سنة وتشيع وتصوف . ما كتبه المؤلف هنا ظل يؤرّق ضميره الإسلامى والبحثى ، فكتب مقالا نعيد نشره هنا :
وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا ) ( الأحزاب 27)
آحمد صبحي منصور في الثلاثاء 05 ديسمبر 2017
مقدمة
1 ـ فى نهاية الحديث عن موقعة ( الأحزاب ) قال جل وعلا : ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) الأحزاب ) يعنى ان الله جل وعلا هو الذى ردّ جيوش الأحزاب بعد حصارهم المدينة ، وبدون أن يتكلف المؤمنون قتالا . وكان من أهل الكتاب قبيلة تجاور المدينة ولها حصون منيعة ، وقد شاركوا الأحزاب فى حصار المدينة ، وبعد رحيل الأحزاب والتأكد من إنعدام خطرهم قام النبى بحصار أولئك المعتدين من أهل الكتاب ، وحدث الاشتباك الحربى وانهزموا وسقط منهم قتلى ووقع آخرون فى الأسر . وتم إجلاء الأسرى مع الباقين ، وتركوا حصونهم وأرضهم وديارهم وأموالهم فكانت غنيمة ورثها المؤمنون . قال جل وعلا : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ( 27 )الاحزاب ).
2 ـ لفت نظرى قوله جل وعلا (وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا ) . إعتبرتها فى كتابات سابقة من الإعجاز التاريخى الذى ينبىء عن شىء سيحدث فى المستقبل . نزلت هذه الآية بعد موقعة الأحزاب وبعد إجلاء أولئك المتحالفين معهم من أهل الكتاب ( لم يقل رب العزة جل وعلا :" اليهود " ولكن أهل الكتاب )، وفى السياق أن الله جل وعلا أورثهم أيضا أرضا لم يطأوها بعد . أى ستقع فى حوزة المؤمنين ارض أخرى لم يطؤوها بعد .
3 ـ حين كنت أرى إنجازا تاريخيا هائلا فى تلك الفتوحات التى قام بها ابو بكر وعمر وعثمان كتبت أن المقصود ب (وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا ) هى تلك البلاد المفتوحة . وفى عملية تنظيف العقل والقلب من وساخة التراث عرضت من سنوات عديدة موضوع الفتوحات على القرآن الكريم وتأكد لى انها أفظع ردة عن الاسلام ، وأن أعدى أعداء الاسلام هم أولئك الخلفاء الفاسقون الذين يُطلق عليهم ( الراشدون ) . وأصلحت خطئى بكتاب ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) . بعدها ظللت أحمل السؤال : ما معنى (وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا )؟ ما هى الأرض التى أورثها الله جل وعلا للنبى والمؤمنين وجاءت بها البشارة مقدما بعد جلاء جيوش الأحزاب و إجلاء المعتدين من أهل الكتاب ؟ .
أولا : تدبر فى الآية الكريمة : ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).
معنى الوراثة فى: ( وأورثكم ) :
1 ـ الورث يعنى أن يملك شخص ما كان لشخص ، كأن يرث الابن أباه المتوفى كما قال جل وعلا :( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ )(16) النمل ). وفى قصة موسى وفرعون أن بنى اسرائيل ورثوا مصر بعد غرق فرعون وقومه ونظام حكمه ، قال جل وعلا :( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف )، وقال جل وعلا عن فرعون وبنى اسرائيل : ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء) ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28)الدخان ).
2 ـ بالتالى فإن المفهوم من قوله جل وعلا :( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أن أولئك المعتدين من أهل الكتاب قد جلوا عنها وتركوها فورثها المؤمنون ، وهذا بمثل ما ورث بنو اسرائيل مصر بعد غرق فرعون ونظام حكمه فى البحر . وبالتالى ايضا فإن معنى أن يرث المؤمنون أرضا لم يطؤوها أن تكون تلك الأرض قد جلا عنها أصحابها وتركوها فورثها المؤمنون .
3 ـ الفارق هنا بين حالتى الورث : أن المؤمنين ورثوا هذه الأرض بالقتال الذى أجلى أهلها المعتدين عقوبة على إعتدائهم . أما الورث فى الحالة الأخرى فقد تم بدون حرب أو قتال ، أو بالتعبير القرآنى ( أرضا لم تطئوها ) . هذا يدخل بنا على معنى ( وطء ):
معنى : ( تطئوها )
1 ـ هناك سير عادى ومشى عادى ، كقوله جل وعلا : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً ) (63) الفرقان ) ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا )(15) الملك ) (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) آل عمران ).
وهناك سير شديد يعنى المطاردة والحرب كقوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) النساء ) ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) النساء )
2 ـ ومنه الوطأ ، بمعنى المسيرة الحربية ، أو التحرك الحربى ، نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) الفتح ). الحديث هنا عن مناوشات حربية ، وفى السياق قوله جل وعلا : (أَنْ تَطَئُوهُمْ)، بمعنى أن يدخل المؤمنون مكة محاربين فيقتلون ـ بغير علم ـ بعض المؤمنين الذين يكتمون إيمانهم ، فيصبح ذلك عارا .
3 ـ بالتالى فإن قوله جل وعلا (وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا) أى لم تدخلوها محاربين . أى ورثتموها بلا حرب .
ثانيا : ما هى الأرض المقصودة بقوله جل وعلا (وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا )
1 ـ طبقا للقرآن الكريم فإن الأرض التى ورثها المؤمنون بلا حرب هى المشار اليها فى سورة الحشر فى قوله جل وعلا : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6))
2 ـ يلاحظ هنا :
2 / 1 : أن المؤمنين ورثوا تلك الأرض بلا قتال ، أو بالتعبير القرآنى :(فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ). أى جلا عنها أصحابها هلعا وذعرا وتركوها خالية خاوية على عروشها ، فدخلها المؤمنون بلا حرب ، أى لم يطئوها محاربين .
2 / 2 : إن الله جل وعلا هو الذى هزم جيوش الأحزاب ، قال جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) الاحزاب) . وعن هزيمتهم ووراثة المؤمنين أرض أهل الكتاب المعتدين والأرض الأخرى التى لم يطئوها بعدُ قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)( 27 ) الأحزاب ). هو نفس الحال مع أهل الكتاب المذكورين فى سورة الحشر ، وهم المعتدون الذين شاقوا الله جل وعلا ورسوله . فالله جل وعلا هو الذى أخرجهم وقذف فى قلوبهم الرعب حتى كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وايدى المؤمنين ( الحشر 2 : 6 ). وكما قال جل وعلا فى موضوع الأحزاب : (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قال فى موضوع المعتدين من أهل الكتاب فى سورة الحشر : ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)). فرب العزة القادر على كل شىء هو الذى هزم الأحزاب وهو الذى أيضا أجلا المعتدين من أهل الكتاب.
ثالثا : تخاريف التراث :
1 ـ جهل من يُطلق عليهم ( المفسرون ) يظهر فى كل ما يقولون ، وهم فى كل ما يقولون مختلفون . عن قوله جل وعلا ( وأرضا لم تطئوها ) قال القرطبى : {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها} بعد. قال يزيد ابن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها ، وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة ، وقال الحسن: هي فارس والروم ، وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة ). لم يفهموا معنى ( لم تطئوها ) .
2 ـ ابن إسحاق كان أشد جهلا و أكثر إفتراءا وكذبا . هو الذى كتب من دماغه ( السيرة ) وملأها شعرا من تأليفه ، وزعم أنه سمع رواياتها من فلان وفلان ، وهم لم يلتق أشهر من زعم أنه روى عنه وهو ابن شهاب الزهرى . ابن اسحاق هو الذى قال إن أهل الكتاب فى سورتى الأحزاب والحشر هم اليهود ، يهود بنى قريظة ويهود بنى النضير . قال هذا بعد حوالى قرن من إختفاء أولئك الناس . وهو الذى زعم ان النبى قتل أسرى بنى قريظة وأن النبى سبى النساء وبعث من إغتال زعماء اليهود ، ورسم شخصية للنبى محمد عليه السلام أشبه ما تكون بشخصية أبى جعفر المنصور الذى عاش خادما فى دولته . ونرجو أن يعيننا الرحمن على إكمال بحث فى تحليل سيرة ابن إسحاق .
3 ـ ما يهمنا الآن أن أبن اسحاق جعل من أسماهم بنى النضير هم المقصودين بما جاء فى سورة الحشر ، وجعل جلاءهم عام 4 هجرية ، ثم جعل موقعة الأحزاب عام 5 هجرية . وبالتالى أرسى إشكالا فى فهم قوله جل وعلا : ( وأرضا لم تطئوها ) . أما التدبر القرآنى فيظهر منه أن إجلاء أهل الكتاب المعتدين المشار اليهم فى سورة الحشر كان بعد إجلاء أهل الكتاب المعتدين المشار اليهم فى سورة الأحزاب . أى إن موقعة الأحزاب حدثت أولا ثم بعدها حدث إجلاء المعتدين المذكورين فى سورة الحشر .
4 ـ ونترك فرصة للمتدبرين فى القرآن الكريم ليتفكروا فى مزيد من أوجه الشبه بين أهل الكتاب فى سورة الأحزاب وإخوانهم فى سورة الحشر ، والذى يجمعهما من الاعتداء والتحصن فى الحصون ، وكيف ألقى الله جل وعلا فى قلوبهم الرعب ، وهى سُنّة الله جل وعلا مع الكافرين المعتدين ( آل عمران 151 ، الأنفال 12 ، الاحزاب 26 ، الحشر 2 ) .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5130 |
اجمالي القراءات | : | 57,288,978 |
تعليقات له | : | 5,458 |
تعليقات عليه | : | 14,839 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
أسئلة عن : ( بوتين سيقتل بشار ، سوريا وثقافة الاستبداد والاستعباد )
الغزالى حُجّة الشيطان ( الكتاب كاملا )
خاتمة كتاب ( الغزالى حُجّة الشيطان فى كتابه إحياء علوم الدين )
دعوة للتبرع
الموت حرقا : اود ان احكي لك شيئا جدث من فترة اثر في كثيرا من...
مقدار تلاوة القرآن: هل تنصح بنصيب معين (مقدا معين) من القرآ ن ...
آه من حماس: جاء فى محطة السى ان ان : ( (CNN)—ت داول نشطاء على...
سؤالان : السؤ ال الأول : قرأ الفتو ى عن هارون...
ننكر كل الأحاديث: يا اهل العلم توجهو ن اتهام اتكم في نقض...
more