محطة الانتظار :
محطة الانتظار

أسامة قفيشة Ýí 2019-02-27


محطة الانتظار

هي نقطة الفصل بين واقعين , و هي فترةٌ زمنية بين فترتين من الزمن ( بين الزمن الأرضي و الزمن الأخروي ) , فلها مكانٌ معين كما أن لها زمانٌ معين .

محطة الانتظار هي محطة الموت التي لا بد للجميع الانتظار فيها , للشروع و الدخول إلى الزمن الخالد الأبدي لحياة الآخرة , فهي الفترة التي تفصل زمنين مختلفين عن بعضهما البعض .    

و الموت له محطتان , فنحن قبل أن نخوض الحياة الدنيا و نأتي على وجهها كنا متواجدين في محطة الموت الأولى و هي ( محطة الانطلاق ) التي انطلقنا منها لخوض الحياة الأولى , حيث كانت أنفسنا مستقره فيها ( كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) , و محطة الموت الثاني هي ( محطة الانتظار ) و التي سنتجمع فيها للدخول إلى حياة الآخرة ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) فالجمع هنا هو جمع الأنفس قبل البعث , حيث سيتم إيداع كل نفسٍ و عملها في تلك المحطة ,     

حيث يقول جل وعلا ( وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ) ,

الإنشاء هو البناء و الخلق الذي يحتاج إلى النشوء التدريجي , أي على مراحل و فترات و هي ثلاث مراحل أو ثلاث فترات ( نطفة , علقة , مضغة ) , وما نقصده هنا بإنشاء هذا الخلق أو مراحل تكوينه هو في فترة الحمل ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ ) هذا بالعموم , و لكن هناك بعض الحالات الخاصة المستثنية كخلق آدم عليه السلام و عيسى عليه السلام أيضاً , فآدم و عيسى عليهما السلام لم يكن لديهم مراحل إنشاء في خلقهم , و إنما كان ذلك بمجرد كن فيكون ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ,

هذه الأنفس البشرية هي نفسٌ واحدة في أصلها ( أي لا فارق و لا اختلاف بين الأنفس ) أي أنها ما تزال بلا هوية , مستقرة في مقرها و موتها الأول بعد أن اكتسبت فطرتها التي تعرفت من خلالها على ربها ,

كل جنينٍ يأتي للحياة سواء ذكر أو أنثى , و سواء كان الجنين في السند أو في الهند , في الشرق أو في الغرب , ستسكنه نفسٌ من تلك الأنفس و بشكلٍ عشوائي متدرج إلى أن تخرج جميع الأنفس للحياة , فتتكون هوية تلك النفس و تخوض تجربتها في هذه الدنيا , لأن الأنفس قبل تقمصها للجسد الأرضي كلها واحده لا اختلاف بين تلك الأنفس و لا فارق بينهم , فكل تلك الأنفس لازالت طاهرة نقية ,

ما ستكتسبه تلك النفس بجسدها الذي تقمصته و سكنته هو الذي يحدد هويتها و مستقبلها , فأطفال العالم كل العالم هم متشابهون في فطرتهم و براءتهم , و لكنهم سرعان ما يكبرون و يختارون طريقهم الذي يحدد هويتهم و تجربة حياتهم ,

كما أن الأجساد لا قيمة لها و لا اعتبار , فلا فارق بين جسد الذكر أو جسد الأنثى , و لا فارق بين الجسد الشرقي و الجسد الغربي , أو بين الأبيض و الأسود ,

المحور الذي يحدد الفارق هو فقط ما تختاره تلك النفس بجسدها بعد أن تمتلك قدراتها المعرفية و الإدراكية فقط , فإما أن تختار مسلك الفجور أو تختار مسلك التقوى , و قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها , فالجسد الأرضي مهمته فقط خوض الطريق , كالمركبة التي نركبها لتنقلنا من مكان لآخر .

فالمحطة الأولى من الموت أو ( محطة الانطلاق ) لا أحد يعلم مدتها الزمنية , و لا أحد يعلم مكانها , فمدتها و مكانها و ما يحدث فيها هو من الغيب الذي لا ندركه لأن النفس هناك لا تمتلك جسداً مادياً و الجسد البشري كما نعلم هو المسؤول عن الوعي و الإدراك و هو الذي يمتلك الذاكرة , أما النفس المجردة فما هي سوى ( طاقة ) فلا تمتلك الذاكرة لأن الذاكرة تحتاج للمادة الجسدية في الجسد البشري , فجميعنا لا يتذكر تلك الفترة من الموت لأن أنفسنا هناك كانت بلا جسد و بلا ذاكرة , و هذا المكان هو ( المستقر ) , حيث الأنفس كل الأنفس مستقره هناك تستعد للانطلاق و خوض التجربة .  

و المحطة الثانية من الموت أو ( محطة الانتظار ) فهي أيضا لا أحد يعلم مدتها الزمنية , و لا أحد يعلم مكانها , فمدتها و مكانها و ما يحدث فيها هو من الغيب الذي لا ندركه لأن النفس تكون قد غادرت جسدها المادي و لم يعد بمقدورها أن تتذكر شيء بدون جسدها الذي يمتلك الذاكرة , لذا لا يجوز لنا الخوض فيه , و هذا المكان هو ( المستودع ) , حيث سيتم فيه إيداع كل الأنفس العاملة التي خاضت تجربتها الحياتية , فاكتسبت ما اكتسبته .     

هل محطة الموت الثانية ( محطة الانتظار ) هي نفس الأولى ( محطة الانطلاق ) من حيث المكان أو من حيث ما يحدث فيها ؟

الجواب ( لا ) و هذا استناداً لقوله جل وعلا ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) :  

فبما أن الحياة الأولى غير الحياة الثانية , من حيث المكان و الزمان و ما يحدث فيها و ما فيها من أمور , فالموت الأول كذلك الأمر لا يشترط به أن يكون نفس الموت الثاني , سواء من حيث المكان أو من حيث ما يحدث فيه , فبما أن الحياتين مختلفتين عن بعضهما لذا لا نستطيع الجزم بأن الميتتان متماثلتان , بل الراجح أنهما مختلفتان أيضاً لأن الأنفس في محطة الموت الأولى ليس لديها عمل أي لم تكتسب شيء بعد , أما في محطة الموت الثانية فكل نفسٍ لديها عملها و ما اكتسبته في اختبارها الدنيوي .

هذه المقدمة هي للحديث عن ما يقال عن عذاب القبر أو نعيمه , و هو الموت الثاني أو كما عرفناه  ( بمحطة الانتظار ) , الذي ينتظر فيها الجميع للدخول إلى الحياة الآخرة ,

فالحديث هنا فيه ما فيه من نفيٍ و تأكيد , و يختلف العلماء حوله , فمنهم من يحاول النفي و منهم من يحاول التأكيد .

ما أقوله في هذا الجانب هو رأيي الشخصي و فهمي الخاص حول هذا الأمر ,

ما يهمنا هو ما جاءنا في كتاب الله جل وعلا فقط , ضاربين بما سواه عرض الحائط , و هذا هو نهجنا و منهاجنا .

لا يوجد في كتاب الله جل وعلا ما يشير لما يسمى بعذاب أو نعيم القبر , لأن القبر بمكانه لا يضم سوى الجسد الفاني , و هذا الجسد لا اعتبار له كون النفس هي جوهر الأمر , و كل ما يشاع من أقاويل حول ما سيحدث للميت حال دخول جسده إلى القبر هو محض افتراء و كذب ,

هذا و لأن النفس قد غادرت هذا الجسد و انقطعت عنه ( أي تم فصل الطاقة عن الجسد المادي ) , و لا يصح ربط مكان تواجد جسد الميت بمكان تواجد النفس , فنحن نعلم مكان وضع جسد الميت , و لكننا لا نعلم مكان تواجد النفس , و لأن مكان تواجد تلك النفس ينبغي أن يكون فقط في محطة الانتظار التي لا نعلم مكانها ,

كما لا نعرف و لا نعلم مدة تواجد تلك النفس فيها , كما لا نعلم ما يحدث في تلك المحطة أبداً , و السبب بأن هذا من الغيب الذي لا ندركه .

السؤال المطروح هل هناك أحداث تحدث للنفس في محطة الانتظار ؟

هنا يجب التذكير بأننا نتحدث عن مرحلة الانتظار و هي المحطة الثانية من الموت , فيجب الفصل بين الأموات و بين من يقتل في سبيل الله جل وعلا , لأن من يقتل في سبيل الله جل وعلا ليسوا بأموات , و لا يتعامل معهم معاملة الأموات , فهم حاله خاصة على الرغم بأنهم مثال و ليس استثناء , و لا استبعد تواجدهم في نفس المحطة ينعمون و يرزقون فيها , كما سيتواجد فيها أيضاً كل الأنفس بمؤمنها و كافرها منتظرةً الدخول للحياة الثانية ,

حتى هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله جل وعلا , و الذي قال عنهم الحق جل وعلا بأنهم ليسوا أموات , فنحن لا نعلم مدة بقائهم أحياء يرزقون عند ربهم , فهل هذا لفترة معينة و مؤقتة ! أم مستمر لنهاية الحياة الدنيوية ! كل هذا من الغيب الذي لم نطلع عليه , حيث يقول جل وعلا ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) و يقول ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) فبما أن كل شيء سيهلك في هذا الكون فهم في نهاية المطاف سيهلكون ثم يبعثون .

بعد أن تنتهي جميع الأنفس من تجربة حياتها الدنيوية تتجمع جميع الأنفس بعملها منتظرة بعثتها الجديدة بجسدٍ جديد , لتستقبل به الحياة الآخرة , هذا الانتظار لا أحد سيشعر به , و لا أحد سيتذكره بعد أن تبعث الأنفس بأجسادها الجديدة , و السبب في ذلك يكمن بأن تلك الأنفس هناك لا تملك جسداً مادياً تخزن فيه ذاكرتها , فالذاكرة تحتاج للجسد المادي و للوعي و اليقظة كي تدرك ما جرى معها و تستشعر بالزمن أيضاً ,

الفارق الوحيد بين الموت الأول و الموت الثاني هو العمل الذي يصاحب تلك الأنفس , هذا العمل قد يؤثر على تلك النفس خلال تواجدها في موتها الثاني , هذا التأثير سيكون نفسياً فقط لأن النفس تكون بلا جسد , كما أن هذا التأثير لن يتذكره أحد لغياب الذاكرة المقترنة بالجسد المادي ,

و يضرب الله جل وعلا لنا مثالاً على ذلك بفرعون و آله ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) , هنا نلاحظ بان عمل هؤلاء المجرمون قد أثر على أنفسهم المتواجدة في محطة الموت الثانية , و كان هذا التأثير تأثيراً سلبياً , و ربما يؤثر العمل الصالح أيضاً تأثيراً إيجابياً على الأنفس المؤمنة التقية في محطة الموت الثانية , و هنا أقول بان الحديث عن فرعون و آله ما هو إلا مثال , و لم يرد هذا الحديث في معرض الاستثناء , أو تم حصره بفرعون و أله فقط دون سواهم من المجرمين , 

و يضرب جل وعلا لنا مثالاً آخر عن عذاب المنافقين أيضاً حيث يقول ( سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) هنا يتحدث الحق عن عذابهم بأنه على ثالث مراحل مختلفة , مرتان في الحياة الدنيا , و مرة في الحياة الآخرة :

ففي الحياة الدنيا سيعذبون في معيشتهم و هم أحياء ( إما جسدي و إما نفسي , أو النوعين معا ) , ثم ستعذب أنفسهم مرةً أخرى عذاباً نفسياً و هم أموات , و هذا أيضاً في الحياة الدنيا ,

و في الحياة الآخرة بعد أن ترد أنفسهم لأجسادهم سيعذبهم الله جل وعلا العذاب الثالث و هو العذاب العظيم الذي لم يذوقوه من قبل .

الموت حين يأتي , يأتي بغتة أي فجأة و بلحظة سريعة و خاطفة , و جاء التعبير القرآني بوصف الموت بأنه سكرة و ليس سكرات فقال جل وعلا ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) فسكرة الموت هي لحظة فصل الطاقة عن المادة , فبعد أن تفارق النفس جسدها يتم إيداعها في محطة الموت الثانية ( محطة الانتظار ) بصحبة و رفقة عملها , هذه الحالة الناتجة عن الموت الثاني جاء التعبير القرآني واصفاً إياها بأنها غمرات الموت فقال جل وعلا ضارباً لنا مثالاً عن عذاب الظالمين هناك ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) فلو كان المعنى بغمرات الموت هو سكرة الموت أو لحظة حدوثه لما جاء التعبير بمدة العذاب ( باليوم ) لأن مصطلح اليوم في القرآن يفيد الاستمرارية و البقاء , و لا يشار به للحظات المؤقتة أو للزمن القصير بل للزمن الممتد .

هذا العذاب لتلك الأنفس هو عذاب نفسي كما قلنا , فإن كان العذاب نفسياً مع غياب الذاكرة و اليقظة فهو يهون عن العذاب الجسدي بحضور الذاكرة و اليقظة .

أما في لحظة الموت أو سكرة الموت فهنا يجري أول حوار بين الأنفس و ملائكة الموت حين يتم انتزاع النفس من جسدها المادي و يكشف الغطاء عن تلك الأنفس تمهيداً لدخول النفس لبوابة الموت الثاني , كي يتم إيداعها في تلك المحطة ,

و هنا و على عتبات أو أبواب تلك المحطة إن جاز لنا التعبير و بعد أن تنقطع الصلة بالجسد المادي , يتم التبشير و يتم التهديد و الوعيد لكل نفسٍ لما جلبت معها من أعمال حيث يقول جل وعلا ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) :

1 – بلغت الحلقوم أي انفصلت تلك الطاقة عن جسدها المادي و وصل بها لعتبة المحطة الثانية ( الموت الثاني ) .

2 – يتم هذا الأمر بسرعة كبيرة و فائقة لا ندركها بفعل الزمن الأرضي الخاضعين له بأجسادنا ذات الكثافة العالية و الثقيلة .

3 – إن كانت تلك النفس تحمل معها عملاً صالحاً تقربت به لخالقها جل وعلا ( إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) و ( إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) يتم تبشير تلك النفس بالجنة و يتم طمأنتها بالسلام و الأمن , كما سيقال لهم في هذا التبشير بأن لا يخافوا و لا يحزنوا (ألَّا تَخَافُوا وَلَاتَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .  

4 – إن كانت تلك النفس تحمل معها عملاً غير صالح , و لم تتقرب لخالقها فكانت من المكذبين الضالين سيتم توعدها و تهديدها بالجحيم و الحميم .

كما يقول جل وعلا ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) :

فالبشرى في الحياة الدنيا تكون للنفس في الفترة التي يتم فصلها عن جسدها الدنيوي و إيداعها في محطة الموت الثانية ,

و عن تلك البشرى في حياة الآخرة ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

بعد هذا يتم إيداع تلك الأنفس مع أعمالها في محطة الموت الثانية و هي المستودع , و تبقى هناك إلى أن يحين البعث , و قلنا بأن عمل تلك النفس قد يؤثر سلباً عليها إن كان سيئاً , و ربما أيضاً يؤثر إيجاباً إن كان حسناً .

ليس بالضرورة أن يكون هذا التأثير هو تأثير دائم و مستمر أو أنه ممتد و متواصل منذ لحظة الموت إلى يوم البعث , أي من الممكن أن يكون تأثيراً مؤقتاً ثم ينتهي , و أعتقد بأن هذا الأمر راجعٌ لمدى و حجم هذا العمل الذي اقترفته تلك النفس , فالمثال الذي بيّنه لنا الله جل وعلا عن فرعون و آله خير دليل , فهم يعرضون على النار فقط غدواً و عشياً .  

قلنا بان هذا التأثر لا يمكن أن يتذكره أحد لغياب الذاكرة , و هو تأثير نفسي و ليس جسدي لغياب الجسد المادي , هذه الأنفس ستبعث من جديد بجسدٍ مادي جديد , و لن تستطيع تلك الأنفس من أن تتذكر ما حصل معها في موتها الثاني حين تبعث من جديد فيقول جل وعلا ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) ,

و عن عدم الشعور المادي بما سيحدث في محطة الموت الثانية , و عن عدم الإحساس المادي فيها أو الزمن المرتبط بالذاكرة و الوعي و انقطاعه بسبب أن الزمن هو عنصر مادي و بعد آخر من أبعاد المادة , يقول جل وعلا عن قوم نوحٍ عليه السلام ( مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ) , و هنا نلاحظ قوله ( أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ) فالتعقيب يدل على انعدام الزمن المستشعر بسبب غياب المادة و غياب الوعي و الذاكرة , و كأن فترة تواجدهم في موتهم الثاني لا وجود لها .

النوم هو شبيه الموت , و لكن في النوم لا تغادر النفس الجسد , بل تبقى فيه , و وجهه الشبه بين النوم و الموت هو فقدان الوعي و اليقظة و الإدراك الذي بدوره يعمل على انقطاع الزمن أو الشعور به بالشكل الصحيح , أما النفس فلا تغادر الجسد إلا مرةً واحده عند الموت .

يُعبر عن النوم و الموت بأنهما وفاة , فالوفاة قد تعني حالة النوم , و تعني حالة الموت , و لكن لا يعبر عن النوم بأنه موت ( بمعنى آخر كل نومٍ هو وفاة و ليس موت , أي كل موتٍ وفاة و ليس كل وفاة موت ) .

لماذا يطلق على النوم و على الموت بأنهما وفاة :

الوفاة من الفعل ( وفّى ) و منها الوفاء بالعهد و الوعد .

في حلة النوم : لأن النفس تستوفي عملها اليومي , و ينقطع الجسد مؤقتاً عن هذا العمل بالخلود إلى النوم ( هنا يتم التعبير عن النوم بأنه خلود و هذا لانعدام الإحساس بالزمن ) , ففي حالة النوم أي فقدان الوعي و الإدراك ألا إرادي لا تحاسب تلك النفس , فيقول جل وعلا ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) , هنا نركز على لفظ ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ) , أي حتى تستنفذ عمرها . 

في حالة الموت : لأن النفس تكون قد استوفت عملها و سعيها و استنفذت وقتها في ذلك , فتنقطع عن العمل بشكلٍ قطعي لا رجعة له , فيقول جل وعلا ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) . هنا نركز على لفظ ( لِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى ) أي وصلت و استنفذت عمرها .

و لنلقي نظرة على الوفاة المتمثلة في النوم و الموت , لنعلم بأن النوم ليس بموت :

يقول جل وعلا ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) :

1 – الإمساك يعني انقطاع و منع التواصل ما بين النفس و الجسد , و هو الموت فلا يحدث هذا إلا بالموت و لا يحدث في حالة النوم لأنه لو حدث سيتحقق الموت , و الموت قد يأتي للنفس و هي نائمة و قد يأتيها و هي مستيقظة فلا يوجد اقتران بين الموت و النوم .

2 – أما الإرسال في قوله ( وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ ) فالإرسال هو البعث و الانبعاث , أي استعادة الوعي و اليقظة لتلك النفس بعد نوم الجسد الذي تسكنه و انقطاعه و توقفه عن العمل .

من هنا نلاحظ بأن الموت تنقطع فيه النفس انقطاع دائم ( انقطاع و توقف للطاقة ) , فيصبح الجسد بلا طاقة فيه ,

أما النوم فينقطع فيه الجسد انقطاع مؤقت ( انقطاع و توقف للمادة عن السعي و العمل ) , مع استمرار تواجد تلك الطاقة المودعة فيه ,  

فالرابط الوحيد كما قلنا ما بين الموت و النوم هو فقط في غياب الوعي و اليقظة و الإدراك .     

و من مفاهيم الوفاة هو الجزاء الأوفى , سواء جزاء للخير بالجنة أو جزاء للشر بالنار ( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى ) , فالوفاة حينها هي استيفاء العهد و الوعد بناءاً على ميزان الأعمال , فإما الجنة و إما النار بدون ظلم بل بالعدل ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) .

إذا فيوم الحساب هو يوم الوفاء بالعهد و الوعد و من ضمن هذا الوفاء هو استقبال الملائكة لتلك الأنفس استقبالا يليق بكل نفس , حيث يتم قبل البعث استبدال الكون بكونٍ آخر يكون فيه الجنة و يكون فيه النار , و بعد الحساب و القول الفصل ستصطحب الملائكة جميع الأنفس بأجسادها الجديدة لتدخل أهل الجنة للجنة , و أهل النار للنار , و عن هذا الاستقبال الذي فيه استفاء لكل نفسٍ بما ستلقى يقول جل وعلا عن الطرف الأول و هم أهل النار ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) , و عن الطرف الثاني و هم أهل الجنة ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

هذا التسلسل للأنفس يمر بأربع مراحل منفصلة عن بعضها البعض كما يلي :

المرحلة الأولى :

خلق الأنفس جميعاً , لا فارق بين تلك الأنفس , و شهادة تلك الأنفس على ربها و خالقها من خلال الفطرة التي زرعت في كل نفس , مع تواجد تلك الأنفس و استقرارها في محطة الموت الأولى ( محطة الانطلاق ) تنتظر لحظة انطلاقها و اختبارها اختباراً عملياً قد يطول و قد يقصر أي فترة زمنية معينة لكل نفس ,

ينعدم الزمن في هذه المرحلة لأن النفس لا تمتلك جسداً مادياً , و تنعدم الذاكرة أيضاً لأن ذاكرتنا نحن البشر هي جزءٌ من جسدنا المادي .

المرحلة الثانية :

دخول النفس و تقمصها لجسدٍ مادي كي تخوض به مرحلة الاختبار و العمل , هذه النفس بهذا الجسد هي مسؤولة عن كل فعلٍ و قول ما دامت في حال اليقظة و الإدراك و الوعي , أما إن فقدت وعيها و إدراكها و يقظتها بفعل النوم أو بسببٍ لا إرادي كفقدان العقل أو الخلل فيه فهي غير مسؤولة عن هذا , و لكن إن فقدت يقظتها و وعيها بشكلٍ إرادي كتناول المخدرات أو المسكرات فهي مسؤولة عن كل فعلٍ سترتكبه , و تبقى تلك النفس في هذا الجسد حتى تستنفذ مهمتها و تستكمل عمرها المحدد , تلك النفس تستشعر الزمن و تخزن الذكريات بواسطة جسدها المادي , و بعدها تغادر النفس هذا الجسد برفقة عملها بالموت و الانقطاع , عملها هذا هو الذي سيكسبها هويتها بعد أن كانت في محطة الموت الأولى بلا هوية .

المرحلة الثالثة :

تدخل تلك النفس التي أنهت اختبارها و تجربتها الأولى و الوحيدة و يتم إيداع تلك الأنفس في محطة الموت الثانية ( محطة الانتظار ) مع عملها الذي اكتسبته و الذي أعطى كل نفسٍ هويتها و طابعها , تلك الأنفس في هذه المرحلة هي فاقدة للجسد المادي لذا ينعدم الزمن المادي و تنعدم الذاكرة بغيابه أيضاً , فتكون الأنفس فاقدة لليقظة و الإدراك , و في هذه المرحلة يمكن للعمل المكتسب بأن يؤثر على النفس تأثيراً نفسياً سواء كان التأثير سلبياً أو ايجابياً , و لا يشترط استمرار هذا التأثير طيلة تلك المرحلة .

المرحلة الرابعة :

يتم بعث تلك الأنفس بما تحمله من أعمال , بجسدٍ جديد من صنع عملها و تلك هي هويتها التي تُعَرِّف به عن ذاتها , هذه المرحلة هي المرحلة الأخيرة للنفس , ستخوض تلك النفس حياتها الأبدية و الخالدة بجسدها الذي اختارته بإرادتها , فهذا الجسد لن يتغير و لن يتبدل , تلك النفس بهذا الجسد تستشعر بكل اللذات و بكل الآلام  , و تلك المشاعر هي مشاعر جسدية و مشاعر نفسية أيضاً , أما بالنسبة للزمن حينها فلا نعرف ماهيته , و لكنه زمنٌ مختلف عن زمننا الذي نعلمه .

و الإعجاز القرآني لا يتوقف و لا ينضب و لنتفكر مرةً أخرى بعمق قوله جل وعلا ( كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) :

1 – البداية ( أموات ) .

2 – لم يقل سبحانه و تعالى عن الحياة الأولى ثم يحيكم بل قال ( فَأَحْيَاكُمْ ) دليل التعاقب الفوري لانعدام التأثر و الشعور , فالنفس هناك لا يؤثر عليها أي مؤثر فلا تحس بشيء .

3 – و بعد تلك الحياة بما فيها من تأثرات و مؤثرات يقول ( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) , ثم هنا تدل على خضوع النفس للتأثر و الشعور , فأحسته تلك النفس .

4 – و بعد الموت الثاني يقول جل وعلا ( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) , و ثم أيضاً هنا تدل على خضوع النفس للتأثر و الشعور الناجم عن العمل , فأحسته تلك النفس .   

و في الختام أؤكد بأن فهمي و تصوري لهذا الأمر ليس حكماً على الغيب , بل محاولة لفهمه بالتحليلات و الإدراك لأننا نؤمن بالغيب أيمانا لا لبس فيه . 

اجمالي القراءات 3986

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-04-09
مقالات منشورة : 196
اجمالي القراءات : 1,535,699
تعليقات له : 223
تعليقات عليه : 421
بلد الميلاد : فلسطين
بلد الاقامة : فلسطين