الوصاية الدينية في فقه ابن حجر العسقلاني (2)
لست من هواة هدم الرموز وهذه الدراسة لا تهدف لإسقاط ابن حجر كرمز سني كبير، بل هو في تقديري المرجعية الأولى لمسلمي السنة..سواء في الحُكم على الرواة أو في تفسير البخاري، وكثيراً ما يلجأ فقهاء السنة للاعتداد بتأويله وتوجيهاته النصوصية لتفسير التعارضات، ورغم خروج الكثير منها بطريقة غير مقنعة إلا أن فقهاء السنة يتعصبون لابن حجر وكأنه مجدد الإسلام إلى الآن.!
لذلك عكفت على اختيار عنوان لهذه الدراسة يُراعي منزلة ابن حجر في المذهب السني، ويُعالج في نفس الوقت الآثار السلبية المترتبة على مكانته في المذهب، ولم أجد أهدى من ذلك العنوان الذي أراه رقيقاً في التعامل مع مؤرخ ومحدث وفقيه بحجم ابن حجر، ولكونه مثلما أضر النصوص بتحكماته الواهية هو أيضاً خدم النصوص الدينية في مواقع أخرى، لذلك لم أشأ إسقاطه عند محبيه، ولكن أردت التذكرة إلى أن ما يعاني منه المسلمون الآن من الإرهاب وشيوع الوصاية الدينية هو من بقايا مذهب ابن حجر وطريقة تفكيره التي ورثها عن شيوخه، ثم أضاف لبعضها حتى خرج إنتاجه غزيراً لا زال يُدرس في جامعات المسلمين.
مبدئياً فابن حجر عندي أفضل حالاً وأقل حدة وتكفيرا وهدراً للدماء من ابن تيمية، وهذا هو السبب في نقدي الحاد السابق لابن تيمية كونه توسع في إطلاق أحكام الكُفر والقتل دون حساب، ولكن مع ذلك تجب الإشارة إلى أن موقع ابن حجر في الثقافة السنية تسمح للرجل بالتمدد في عقول الفقهاء إلى عصرنا هذا، تقريباً فالأشاعرة والسلفية يؤمنون بمرجعيته، وأحيانا يتشاكسون للفوز بانتمائه لأحدهم، ولكن إذا عُدنا لتاريخ ابن حجر فسنجده أحد علماء البلاط في عصر المماليك، أي بلغة العصر هو.."فقيه سلطة"..ولكن الحال في تلك العصور لم يكن يسمح بمعارضة هؤلاء المشايخ أولاً لنفوذهم الديني ثانياً لنفوذهم السياسي.
لذلك خرجت تأويلات ابن حجر محل ثقة علماء عصره ومن تبعه تحت إمارة المماليك، وبعد سيطرة العثمانيين على مصر لم يهدموا النفوذ المملوكي-الديني والسياسي-في قلوب الشعب، ولكنهم حرصوا على الاستفادة منهم في إدارة مصر، وفي تقديري أن مدرسة ابن حجر السنية كانت من هذه التركة التي اعتمد العثمانيون على تسويقها رغبةً في شراء بيعة المصريين.
يكفي العلم أن عصر ابن حجر كان عصراً شارحاً ومقدساً للبخاري بطريقة عجيبة، فكَتب ابن حجر(فتح الباري) وكَتب القسطلاني(إرشاد الساري) وكَتب العيني(عُمدة القاري)..وهذه كلها كتب تشرح صحيح البخاري وتقدمه للناس بصورة مقدسة أقرب إلى القرآن في مكانته وفي بلاغته ومعانيه، حتى أنهم لم يفرقوا بين القرآن وكتاب البخاري في أحكام الناسخ والمنسوخ، فأطلقوا عبارات النسخ في حق كليهما عملاً بعقائدهم التي تضع صحيح البخاري في رتبة المعصوم.
ولكن كل هذا شئ وطريقة ابن حجر –وسائر الشُراح-في تأويل النصوص شئ آخر، فهم قد جعلوا أنفسهم أوصياء على النص، وحكموا على القرآن بلغة زمانهم، وعلى متون البخاري بلغة مذهبهم، فخرجت مذاهبهم في الأخير متسقة مع ظروف زمانهم الدينية والسياسية، ولكن أكثر ما خدع المسلمون-بعد ابن حجر-هو أنهم تعاملوا مع كتابه-فتح الباري-كأنه نص مقدس هو الآخر، فلم يكفهم تقديس صحيح البخاري ونسب قداسته لله واعتباره وحياً معصوما، بل أيضاً وضعوا كتاب ابن حجر في نفس المنزلة، حتى أنه يمكننا القول بتطابق أقوال علماء السنة مع أقوال ابن حجر بعد وفاته وإلى الآن ، ومن هنا انتقل ابن حجر من كونه فقيهاً للسُلطان ومعلما وشارحاً للبخاري إلى كونه مرجعية سنية لا يُشقّ لها غبار.
يقول ابن حجر في كتابه فتح الباري (1/221):
"من ادعى أن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب"..انتهى
الترجمة: يعني ابن حجر أن الحقيقة لا نعرفها سوى من الأنبياء، ومن يدعِ غير ذلك فهو كافر مباح الدم، ولكن ماذا يقول في علوم الفلسفة والكلام والفقه الذي يعمل فيه ابن حجر نفسه، وقد علم أن الرسل لم يصلنا من أخبارهم ما يكفي لمعرفة كل أوامر الله ونواهيه، إذن فاستثناء الأنبياء بالحقيقة ليس له محل من الإعراب لانتفاء المصدر، الأنبياء لا نستطيع الوصول إليهم أو ماذا قالوا، حتى أن مذهب ابن حجر في الحديث يؤمن بأن خبر الواحد لا يُعمل به في العقائد والدماء، وإذا كان فيه شرط العلم ارتقى لمنزلة التواتر فوجب العمل به تنزيلا.
في هذه الجزئية يُشبه ابن حجر همجية ابن تيمية في توسعه المشين والعدواني في هدر الدماء، ولكنه يبقى أقل توسعاً من ابن تيمية في ذلك للإنصاف، ولعل هذه من سقطاته التي انتشرت في ضمائر فقهاء السنة فيما بعد، وأستطيع الجزم أن سبب هذا القول منه هو إنكارة لنظرية المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، وهو ما يظهر في سياق حديثه أعلاه حيث يقول.." وإن العقل لا يحسن ولا يقبح وأن ذلك راجع إلى الشرع فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن وما قبحه بالذم فهو قبيح"..(المصدر السابق)..وكذلك في تصديه -الغير مقنع- للوازم هذا القول التي تدعي أن موسى كان أعلم من الخضر بالحقائق، وهو ما يُجافي نص القرآن.
لقد أوجد ابن حجر تبريراً يتسم بالعصبية في رده على المخالفين حيث قال مفصّلاً.. "وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ومخاطبون بحكم نبوته ،حتى عيسى وأدلة ذلك في القرآن كثيرة ويكفي من ذلك قوله تعالى يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وسيأتي في أحاديث الأنبياء من فضائل موسى ما فيه كفاية قال والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم، وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي وهو أمر مقطوع به عقلا ونقلا ،والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة قال وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانا لموسى ليعتبر الثانية"..(المصدر السابق)
شرح كلام ابن حجر: هو يريد القول أن الفارق بين الخضر وموسى أن ذلك نبي وذلك رسول..والرسول أفضل، هكذا ابن حجر هو صاحب معايير تفاضلية مذمومة، ولم يدر الرجل أن ما أقره مصادماً لحقائق القرآن التي وصفت النبي بالوصفين معاً..النبي(ياأيها النبي) والرسول(ياأيها الرسول)..وهذا يعني أن المعنيين واحد ضمن سياق المنزلة، وعليه لماذا أصر ابن حجر على تحكمه في النص وتوجيهه بهذه الطريقة وإن قصد خلاف المعتزلة؟!..رغم أن لديه أدلة أخرى كثيرة يمكن الاعتماد عليها في رده غير هذا الدليل.
إن تعصبه في رده أفقده الحكمة وظهر بمظهر المتشدد لرأيه الفاقد للدليل، حتى أنه طرح قول القرطبي برفض الحديث المشهور.."استفت قلبك ولو أفتوك"..وقال أن هذا القول كفر وزندقة لما يترتب عليه من إدخال الرأي في التشريع،وبذلك يكون حنفياً أو معتزلياً دون أن يدري..!!
نهايته: إن التأويلات بطُرق الليّ والتجعيد والقصّ والفرم التي اتبعها ابن حجر تُخرج في النهاية تأويلاته لخدمة مذهبه السياسي لا أكثر، وتفضح تدخله في الشأن العام للمسلمين، ومصادرته على أصحاب الحقوق والرأي وأنهم –لديه-كفار وزنادقة حلالي الدم، حتى أنه لم يُراعِ كونه مجتهداً ويخرج بالحقائق خلاف ما عُرِف عن الرسول، ولنا في شرحه للبخاري وتشريعه لكتابه خير دليل، فقد كان أكثر الفقهاء الذين وجدوا أعذاراً لسقطات البخاري..سواء في حفظه وأمانته في السند أو لعدم دقته في المتون التي خرج الكثير منها ضد الشريعة المحمدية المسطورة في القرآن، وضد العقل والبداهة الإنسانية الرافضة للعدوان والهمجية باسم الدين.
اجمالي القراءات
9016