بساط الريح..وخرافات القرطبي

سامح عسكر Ýí 2019-07-17


زمان عندما فكّر الإنسان في الطيران وقبل أن يحاول ذلك فعليا بأشهر حدث وهو "عباس بن فرناس" كان يتخيل نفسه كطائرا في السماء بأربعة وسائل:

الأولى: بساط الريح..أو السجادة الطائرة

الثانية: على ظهر التنين

الثالثة: بعصا المكنسة

الرابعة: الحصان الطائر 

ولكل وسيلة منهم حكاية، فالنبي سليمان طار على بساط الريح في تراث المسلمين، والقديس مارجرجس والنبي دانيال قاتلا التنين في المسيحية، وركب النبي الحصان الطائر – البراق - في الإسلام، وأخيرا لم تجد عصا المكنسة شرف الطيران مع الزعماء والأنبياء وألصقوها بالساحرات الحقيرات..

وبغض النظر عن المكنسة والحصان والتنين فالحديث فيهم يطول خصوصا التنين الذي تخيله الأوائل بخليط بين الثعبان والتمساح مع جسد كبير ينفث النار أو يطير أحيانا، وبعض المسيحيين ليُعقلنوا قصص التنين مع دانيال ومارجرجس قالوا بمعاصرتهم للديناصورات..لأن التنين ديناصور..برغم أن عمر أقدم حفرية لأجداد البشر 4 مليون سنة والديناصورات انقرضت من 65 مليون سنة.

لكن في تقديري أن الإنسان عرف التنين وتخيله عن شكل عظام الديناصورات ، وقتها لم يعلموا حقيقة هذا المخلوق ولا شكله النهائي، وقديما تحدثت مع صديق في ذلك وقال أن عظام الديناصور في طبقة العصر الطباشيري على عمق كبير، قلت: ربما حفر أحدهم ووصل لهذا العمق ثم رأوا تلك العظام الغريبة، ولأن الإنسان وقتها كان يُقدّس ويعبد كل ما لا يفهمه عبدوا التنين وأقاموا له المعابد ووضعوه في الأساطير كحقيقة ثم أضافوا له قدرات خارقة كنفث النار والطيران..لكن لم يفارق خيالهم له شكل الزاحف لكثرة تعرضهم لهجمات التماسيح والثعابين الضخمة، لذا فبيئة خلق التنين ظهرت في الأدغال والغابات ولم تظهر في الصحاري..بالتالي نفهم لماذا خلا تراث المسلمين والعرب من ذكر التنين.

أما الآن فمع قصة جديد مع حكايا محدثي المسلمين صنفها القرطبي في تفسيره الجامع (13/ 256) عن بساط الريح.

القصة باختصار: "معاوية بن أبي سفيان قرر أن يغزو الروم واصطحب معه "عبدالله بن عباس" الذي لم يحارب أبدا، لكن هنا كان محاربا ..سبحان الله، ثم وصلوا لمكان أصحاب الكهف الستة المذكورين في القرآن (الذي لم نعرف أين هو ولا معاوية نفسه يعرف ..!) أراد معاوية أن يدخل الكهف فحذره ابن عباس..وهنا الدلالة التي أراد إيصالها صاحب القصة، ابن عباس هنا متقمص شخصية الحكيم..وهي نفس الشخصية التي لعبها مع الخوارج في نصحهم حتى اشتهر ب "ترجمان القرآن"..والدارس لعلم السيمياء سيجد أن ذكر ابن عباس في حكاوي المحدثين شبيه بقصص الأعرابي، مجرد خاطرة أو حكمة أراد ذكرها المؤلف فطرحها لشخصية إما مجهولة لعدم تعقب المصدر، وإما حكيمة مشهورة لعدم نقض المصدر أيضا..

المهم: وقف معاوية على باب الكهف وأرسل رجاله كي يدخلوه.. فأخرجتهم ريح من الداخل للخارج بسرعة..ولأن الله مسبب الأسباب فمؤلف القصة لم يذكر من أين تأتي الريح داخل الكهف لخارجه..!.ولماذا خاف معاوية من الدخول ونيل هذا الشرف بنفسه؟....ما علينا..ولأن ابن عباس الحكيم معاه فنصحه بقوله "لقد منع الله من هو خير منك عن ذلك" يقصد الرسول..ثم ساق القصة الأصلية التي أرادها المؤلف وما كان ذكر معاوية إلا حشو لزوم الإثارة.

أراد الرسول أن يرى أصحاب الكهف وهم نائمين فرفض جبريل ونصحه بأن يقوم بتلك المهمة أعز وأوثق من لديه..هنا كان دور الخلفاء الأربعة (أبو بكر – عمر – عثمان – علي) لاحظ الترتيب..ثم بسط النبي رداءه ليتحول في غمضة عين إلى (بساط الريح) فيطيرون للكهف ويدخلوه ويسلموا على أصحابه النائمين ويبشروهم بالنهاية ثم عرضوا عليهم الإسلام فأسلموا..ثم غادر الخلفاء الأربعة للكهف عائدين إلى المدينة ونام أصحاب الكهف الستة إلى حين ظهور المهدي.." انتهى

باعتباري أيضا ناقد أدبي وتاريخي وصلت لمدلول القصة في النهاية وأوجزها في التالي:

1- المؤلف ليس شخصا واحدا، بل عدة مؤلفين طرح الأول قصة تم البناء عليها لاحقا، فالمؤلف الأول كان يعيش في العصر العباسي الأول تحديدا بعد حرب المنصور والنفس الزكية..فقبل المنصور لم يجمع المسلمون على خلافة ورشد الأربعة لاسيما أن الأمويين كانوا يسبون عليّا ولا يعدوه من الأصحاب الثقات، وبعد قيام الثورة العباسية الشيعية سنة 132 هـ أعادت عليّا كخليفة أول وأسقطت الباقي..فلما حدث الخلاف بين المنصور والنفس الزكية وتحاربوا شاع تيار ثقافي وقتها ينكر على الشيعة إسقاطهم لأبي بكر وعمر مع حفظ مقام عليّ كصاحب مُقرّب، وهذا كان أصل حديث "تمسكوا بسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"

2- عقيدة المهدي المنتظر لم يعرفها السنة طوال العهد الأموي بل كانت حِكراً على الشيعة، ولما قامت الثورة العباسية واضطهدت الأمويين آمن بعضهم بالمهدي الذي يخلصهم من ظلم السفاح والمنصور وأبنائهم، المؤلف الأول كان من هؤلاء الأمويين.

3- قصة بساط الريح من الأدب الهندي والفارسي انتقلت للمحدثين المسلمين في عصر الموالي والفرس – العباسي الأول كما قلنا – لم يعرفها الأمويون الناقلون من أدب اليهود، لأن اليهود عرفوا الطيران على أجنحة النسور كما في سفر أشعيا لكن بطريقة مجازية، ومن يتذكر عملية "بساط الريح" اليهودية التي نقلوا بها يهود اليمن إلى إسرائيل بعد قيام دولتهم في الأربعينات، سموها العرب بساط الريح لكن سماها اليهود "أجنحة النسور"..

لكن في هذا العصر لم يذكر المحدثون قصة البساط لغرابتها وعدم ذكرها في الكتاب المقدس، ظلت قناعة شعبية ونخبوية إلى أن سجلت كحديث لاحقا.

4- المؤلف الثاني بنى على ما ذكره الأول باعتبار سنة الخلفاء الأربعة أوجب في الطاعة ومُكفّرة لمن ينكرها، والأرجح أنه عاش في عصر التدوين أو بعده بقليل..أي في أوائل العصر العباسي الثاني في القرن 4 هـ وقتها كان قد استقر تعظيم الخلفاء الأربعة ، ومصدر ذلك الاستنتاج هو أن المؤلف أعطى للخلفاء الأربعة ما لم يعطيه للنبي..!!...لاحظ أن جبريل قال للنبي لن تراهم ولكن ابعث (خيار أصحابك)..وهذا تأكيد للنقطة الأولى لأن عليّا لم يُعظّم كصاحب بل كهاشمي وآل البيت..تعظيمه كصاحب حدث من تيار توفيقي جمع بين مبادئ السنة والشيعة في حديث الخلفاء الأربعة

5- أما المؤلف الثالث هو الذي ترجم حواديت العامة عن بساط الريح لحديث عن الرسول في القرن 5 هـ وتحديد هذا الزمن خاص بالوثيقة القادرية التي فرضت على المذاهب كلها (تعظيم الخلفاء الأربعة) وتسمية أقوالهم بالسنة واجبة النفاذ كدستور عباسي في عهد الخليفة القادر بالله سنة 408 هـ ، وقد استفاد المؤلف من الوثيقة سياسيا وقانونيا، ومن اعتقاد عامة السنة بالمهدي المنتظر لأول مرة بعد تطوره في عصر الموالي ثم بعد تمكين المتوكل للحنابلة ليناسب معتقد السنة، مع العلم أن الحنابلة هم من أشاعوا ونشروا المهدوية السنية بعد أن كانت في بداياتها مجرد خواطر لفقهاء وأئمة يخشون ذكرها في الكتب لتعلقها بمذهب الشيعة.

6- القرطبي عاش بعد المؤلف الثالث ب 100 أو 200 عام فقد توفى نهاية القرن السابع الهجري، وقتها كانت حواديت بساط الريح وعقيدة المهدي وتعظيم الخلفاء الأربعة مستقر شعبيا وثابت دينيا وقبوله من تلاميذه ليس محل جدل.

7- الإمام الثعلبي ذكر القصة في كتابه ( تفسير الكشف والبيان 17/ 48) ولكن بترتيب مختلف (أبو بكر – عمر – علي – أبو ذر الغفاري) والثعلبي متوفي سنة 425 هـ والأرجح أنه كتب هذا الترتيب في وقت لم يقدس فيه عثمان دونا عن الثلاثة الآخرين ..لذلك حذفه ووضع أبو ذر مكانه، ولعل ما فعله الثعلبي من أثر ثورات الزنج والقرامطة الاشتراكية وبقايا التدوين السني المتأثر بوجهة نظر الشيعة، لذلك فقصة الثعلبي كانت قبل اكتمال رؤية المؤلف الثالث

معلومة: ثورة القرامطة أصلها ثورة اشتراكية كانت تطالب بالمساواه والقضاء على الإقطاع والطبقية، زعيمها حمدان بن الأشعث سمي بالقرمطي لعدة أسباب، فكلمة "قرمط" تعني التقريب ، قرمط بين اثنين أي قارب بينهما فالإسم كان يدل على التقريب بين الغني والفقير، ويقال أن كلمة قرمط سريانية نبطية تعني (فلاح) وهؤلاء جميعا مع الزنج عظّموا الصحابي أبو ذر الغفاري بوصفه أشهر صحابي اشتراكي نصيرا للفقراء والضعفاء في تاريخ المسلمين.

نعود لقصة بساط الريح فهذا لم يكن أول ذكر لها في التراث، ذكرت خاصة لسليمان بعد حيرة المفسرين عن وسيلة انتقاله السريعة والخارقة، فربطوا بينها وبين بساط الريح في الأدب الهندي كما تقدم، لكن العلم بسياقات التاريخ والاهتمام بمصادر الأفعال والسلوكيات وتفسيرها اجتماعيا وفلسفيا يُسهل من رصد وتفسير هذه الحكايا، فالقرطبي مثلا ولد ومات في عصر لم يكن فيه العلم بمصادر قصص ألف ليلة وليلة، فاشتبه عليه أن بساط الريح كان خصيصة إسلامية وحكاها في تفسير قصة أصحاب الكهف، وهذه من آثار جهل الأئمة بالشعوب والمجتمعات وانغلاقهم عن مصادر المعرفة.

اجمالي القراءات 7880

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 8,099,832
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 410
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt