فقه الانتحار باسم الله
المتابع لسلوك الجماعات الإرهابية في "الجهاد" سيرى أنه يمكن اعتبار مطلع القرن الحادي والعشرين هو التشريع الرسمي لما يُسمّونه.."بالعمليات الاستشهادية"..كان قبل ذلك قتالاً يحرص على بقاء النفس بعيدةً عن الهَلاك إلا ما قُدّر لها أن تقع فستكون في عداد "الشُهداء".. وسنرى في هذه الدراسة ماهية هذه العمليات ، وعلاقتها بالانتحار المبني على إحباطٍ شديد ورغبة شعورية في تعويض هذا الإحباط بنجاحٍ وفوزٍ في الآخرة، ورغبة لا شعورية تحفظ لهم ما تبقى من كرامتهم أمام أنفسهم، والسبب أن هذه الفئة عنيدة إلى أقصى حد، فإذا ما ارتأت خطئها لا تسارع بالاعتراف، وهي جاهلة إلى حد بعيد تعجز عن إيجاد تصور واسع وصدر رحب، وهي ساذجة أيضاً كونها تقع بسهولة في قبضة الخصوم وتُصبح معها آداة للحرب ومُستهلَكة إلى حد بعيد.
مثل هذه النفوس هي حربية في المقام الأول، أي لا يمكن أن تمارس دورها في البناء إلا عن قاعدة حربية قتالية، وهذا يعني أن هناك بناءً قد يحدث عن تلك القاعدة، ولكنه بناءً يُقصد الاستمرار إلى ما بعد ذلك من قتال، وهذا يعني أن البناء المقصود هو للربط بين الماضي الحربي والمستقبل الحربي، فهم قومُ محاربون، وبالتعبير العصري.."أمراء حرب"..وظيفتهم هي الحرب، ولا يبرعون في شئ آخر سوى القتال، وهم بالتالي يُصبحون هدفاً لكل أمراء وبُغاة الحرب في العالَم، فيُجنّدَون وتستهدفهم أجهزة المخابرات وتدعمهم بالمال والسلاح، وأحياناً بالخطاب المعنوي والتعبوي بكافة أشكاله السياسية والإعلامية.
السؤال هنا ما الذي أدى بهم إلى أن يُصبحوا فريسةً وحقلاً للتجارب وضحايا ضروريون لمنافع الآخرين ؟..الإجابة هي رغبتهم في السعادة الدائمة كونهم قومُ مُحبَطون، فهم لا يمارسون إرهابهم إلا عن ضعفٍ غالبا، وهي رغبة مزدوجة مع الشعور باللذة تعبيراً عن رغبتهم في القتل والتعذيب وقهر الخصوم، وهذه الرغبة هي التي اكتسبوها من الفقه والتراث الإسلامي، فكما أشرنا من قبل إلى نفسية الإرهابي الاختزالية وكونه نزّاعُ للاختزال، فكما اختزلوا الإسلام في الشريعة، والشريعة في الحدود، هم أيضاً يختزلون الجهاد في القتال والحرب، وهذا غير صحيح، لأن مفهوم الجهاد القرآني مختلف عن مفهوم الجهاد في الفقه والحديث، كون الأخير يقوم على مبدأ القتال..بينما الأول هو أعمّ وأشمل ويضم معاني التضحية والفداء والصبر، وعليه فالقتال هو فرع من الجهاد وليس كله، ووارد أن تأتي بعض الآيات في سياق القتال بلفظ الجهاد، ولكن ليس بوارد أن تأتي كل آيات الجهاد بمعنى القتال.
إن لفظ الجهاد في القرآن أتى موافقاً لمعاني التضحية بالمال والنفس، وهو ليس قاصراً على القتال كما يفهمه فقهاء التراث الذين أنجبوا الإرهاب في عالمنا المعاصر، والدليل أن لفظ الجهاد بمعناه اللغوي أتى من فعل .."يُجاهد"..أي .."يُقاوم"..والمقاومة قد تكون لشئِ في غير ميادين الحرب، كمقاومة الشهوات والغرائز، ومقاومة الظلم بالكلمة، ومقاومة الجهل بالعلم، ودليل أن الأمر بالقتال جاء بلفظ.."قاتلوا"..وليس .."جاهدوا"..ولكن إذا تعرض لمقصود الجهاد -ذو المعنى الأشمل- قال أن.." جاهدوا بأموالكم وأنفسكم"..وأمر الله بذلك وأوحى إلى عباده أن الجهاد بمعناه اللغوي والقرآني هو من أسمى مراتب العبادة، كونه يقوم على أسس أخلاقية رفيعة تنصر المظلوم بالمال والكلمة والسلاح، وتخلق بذور الشهامة والمروءة والصبر ، وتُربّي النفوس على مجاهدتها بأن لا تقع في الحرام.
والغريب أن كتاب البخاري ينضح بروايات تعزز هذه الرؤية أن الجهاد غير القتال، وأن مفهوم الجهاد أعم وأشمل، فقد روى عن رسول الله أن عائشة سألته أي الجهاد أفضل قال.." أفضل الجهاد حج مبرور"..فالحج هو وجه من أوجه الجهاد وقس على ذلك بقية الفروض والشعائر كالصلاة والصوم والزكاة، جميعها شعائر تعكس معاني الصبر والكرم والشهامة والطاعة والتهذيب، وكلمة الحق عن السلطان الجائر..هي صنف "مشهور" من صنوف الجهاد بالكلمة، في النهاية تخرج معاني الجهاد شاملة وأخلاقية، وضروري أن نفصل بينها وبين القتال،عسى أن لا يُسقِط الجُهلاء معاني الحرب جميعها على آيات الجهاد، فيظنون –وقد حدث- أن الله يأمرهم بما يفعلون من قتل وتدمير وحرق ونهب وفتنة، وكل ذلك لا يمكن أن يكون من شريعة الله، لأن الله في كتابه أمر بالعدل والإحسان،وبالبر والتقوى، وأن لو جنحوا للسلم فاجنح لها، أما الجهاد فجاء مساعداً لتحقيق هذه الغايات، مما يعني أنه ليس هدفاً بل وسيلة.
نخلص من ذلك أن المنتحر باسم الله قد أقدم على جريمته لاجتماع الإحباط مع الجهل مع التمني المُفعَم بإزاحة نفسية لا تُحاكي أصل المُشكلة، من وجه آخر أن مؤثرات قد اجتمعت على التأثير في نفسيته، هي ليست مؤثرات عند آخرين، بمعنى أن صورة الشريعة في ذهنه ليست كصورة الشريعة عند البعض، وكذلك صورة الدولة ، كل هذه مؤثرات قد تُحدِث تفاعلاً مُركّباً ينتظر عود كبريت للاشتعال، وهذا يعني أن صناعة الانتحار باسم الله تبدأ من أولى المراحل التعليمية، وهذا يعزز موقف التنويريين الذين يرفعون مطلب.."التربية قبل السياسة"..ومن هؤلاء محمد عبده ورفاعة الطهطاوي، ويظهر من مبادئهم أن النهضة لا تقوم إلا على التربية، فهي التي تضبط سلوك المجتمع وتزرع في نفسه حُبّ المعارف، فإذا ما تحقق له ذلك أصبحت لديه السياسة مُنضبطة، فيمارسها عن فهم وعن التزامٍ تام بالقانون.
إن دور المؤثرات مهم جداً في فهم طبيعة.."الانتحار باسم الله"..فالوضع ليس متوقفاً على صورة تُراثية وروائية مُشوّشة، لأن الطفل لا يعرف أبيه أو أمه إلا عن صورة قديمة، كذلك فالمنتحر لا يُقدم على جريمته إلا عن صورة قديمة، ربما تكون انتقامية كالتي حدثت في فلسطين منذ سنوات ..وتحدث الآن في سوريا والعراق وليبيا ومصر، ومن قبلهم جميعاً حدثت في موقعة سبتمبر 2001 الشهيرة، والانتقام هو تعبير عنيف عن الكراهية، فكلما رأى المنتحر من يكرهه كلما ثارت لديه نوازع الانتقام، بالضبط هو نفس المؤثر الذي يؤثر في الطفل ويجعله يبكي كلما رأى الطبيب الذي وَخَزه بالإبرة وجعله يبكي أول مرة.
إذن هي مؤثرات فطرية تتحكم في المنتحر باسم الله، وتجعله مجرد آلة حربية لا تعرف علوماً ولا تسعى إليها، لأن من عَرِفَ الحرب كأداة دائمة للعلاج لا يمكن أن يعرف معنى الحوار، فالبشر قد اصطلحوا على الحوار إذا تعقدت مشاكلهم، أو شعروا بُقرب نذير الخطر، وإلا ما بقيَ العنصر البشري على الكوكب، وقد رأينا أنه ما من زمانٍ قد جهل فيه الإنسان طريق الحوار إلا وتكثر فيه الحروب والمآسي، وهذا يجعلني أتفهم موقف الرافضين للحوار مع الإرهاب ومع من ينتمون لفئة.."الانتحار باسم الله"..وأن التعامل الأسلم معهم لا يخرج من نفس الطريق الذي ارتضوه لأنفسهم، لأنهم لا يعرفون الحوار ويجهلون حتى أقصر الطُرق المؤدية إليه، بل هم لا يسعون إليه أصلاً، ولا توجد أي فكرة حوارية تواصلية على برامجهم وشعاراتهم.
من ناحية أخرى فيصعب التعرض لموضوع الانتحار دون التعرض لسؤال مباشر.."كيف يرى المنتحر الموت ؟"..في تقديري أن النفس المنتحرة تكون في حلٍ بينها وبين الشعور العادي بتمني الخلود دون تحقيقه، بمعنى أن الإنسان يتمنى الخلود ولكن يستحيل أن يحصل عليه، فالخلود صفة أزلية لله يُعبر عنها الله بأنه هو.."الباقي"..ولا باقي غيره، الجميع سيموت، أما المنتحر فيرى نفسه خالداً وأن موته هو مجرد مرحلة ينتقل منها من عذاب الدنيا إلى نعيم الآخرة، إذن فهو لا يشعر بانتهائه كنفس موجودة ، ويُعزز ذلك الغريزة اللاشعورية الموجودة داخل كل نفس بالخلود، فهناك شعور عادي يتملك الفرد منا بالفناء، ولكن هناك لا شعور –هو في حقيقته غريزة-تكشف إلى أي مدى ينظر الإنسان في حقيقته إلى الموت.
وهذه قضية مفصلية..لأن أصل ذنوب الإنسان هو في هذا الاعتقاد اللاشعوري بالخلود، وكأن الشعور العادي هو مجرد أمنيات مستحيلة، فالكذب والسرقة والقتل وسائر الذنوب تعني أن أصحابها لا يشعرون بالزمن، وأن متعتهم في تحقيق هذه الذنوب دون النظر إلى الحد الفاصل بينها وبين غيرها يعني عدم تصورهم لمستقبل ما بعد هذه الجرائم، وهذا ينطبق على جريمة.."الانتحار باسم الله"..فذاك المنتحر لا يرى مستقبله إلا بما أسلفنا أنه انتقال من عذاب إلى نعيم، وهذا يعني اعتقاد يقيني بالخلود يُساوي جريمة السرقة التي يعتقد صاحبها ببقاءه دون عقاب.
عكس ما يظنه الشخص العادي من خوفٍ مزدوج من الموت والسرقة كون ما يتبعهم مجهول لا يضمن فيهم مصيره، بتوضيح أكثر أن الشخص العادي يخاف من الموت كونه حالة مجهولة لا أحد فيها سيموت وبعد موته سيعود ليحكي ما حدث له، ومجهولية حال الأموات هو ما سببّ هذا الرعب الإنساني من الموت، وعزز هذا الرعب عند المسلمين هو اعتقادهم بظواهر وأشياء فظيعة ومخيفة تحدث لهم في القبر..فيما عُرِف لهم.."بعذاب القبر"..وقد أسلفنا في بحوثٍ سابقة أن تعرضنا لهذه العقيدة وبيّنا على وجه التفصيل أنها أسطورة عقائدية مصدرها خرافات اليهود القُدماء..والتي قد تكون مأخوذة عن الفراعنة وطريقة تصورهم للموت وأحداث الآخرة.
أما الشخص المنتحر باسم الله فهو ليس كذلك، هو لا يخاف من الموت لسببين، الأول هو طغيان العامل اللاشعوري لديه بخلوده، والثاني فرعُ عن الأول أنه يعلم حالة بعد الموت، يعلم أنه لو انتحر فسوف يبعث الله له مَلَكين في القبر يُؤنسانه في وحدته إلى قيام الساعة، وأن يُفتح له أبواب -من داخل حفرته التي تأوي جثته -ينظر بها على رياض الجنة ، وبعد ذلك سيُبعث ويدخل الجنة وينعم بالحور العين دون حساب، فهو في اعتقاده شهيد لا عليه حساب كما ظن من القرآن، ونحن أمام هذه الصورة أمام كارثة اعتقادية إنسانية تُبيح القتل وفناء الحياة على هذا الكوكب ،كون هذا الدافع هو أقوى الدوافع التي يمكن أن يحصل عليها إنسان للتضحية، وقد غفل الإنسان عن مواجهة هذه الكارثة وأسماها.."بالتطرف"..ومقاومته أمنياً دون التعرض لجذوره الذي يصنع يومياً مئات من هؤلاء على استعداد لتقديم أرواحهم وأنفسهم فداءً لما يعتقدون.
إن التعامل مع "ظاهرة" الانتحار باسم الله يستوجب أولاً أن نتعرض لأولى مراحل بناء هذه الظاهرة وهي النوايا ، وصحة أن يكون عامل الصدق هو المعيار الوحيد لسلامة تلك النوايا وما يتبعها من أفعال، وقد تعرضنا في بحوث سابقة لهذا الجانب وأوضحنا أن النوايا لا يمكن أن تكون فقط هي معيار صحة وسلامة الأفعال، فيما عُرِف بحديث النوايا الشهير وما أحدثه من أزمة فكرية واعتقادية خطيرة أطاحت وتُطيح بملايين الأنفس وممتلكاتهم على مر التاريخ، وحكينا كيف تصدى الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان لهذا الحديث الكارثة في وقته وما يَنتج عنه من قواعد وأزمات..حتى اتهمه المحدثون والرواة بالبدعة والكُفر فقط من أجل تصديه لهذا الحديث المنسوب كذباً لرسول الله.. وحكاه البخاري في مطلع كتابه المُسمّى بالصحيح.
وفي الإعادة إفادة.. أن حديث.."إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى"..هو تقرير نهائي بسلامة الأفعال بُناءً على سلامة النوايا، وهذا يعني بالضرورة أن كل قاتل بنية حسنة وكل سارق بنية حسنة هو صاحب فعل حسن في النهاية، وقد حرص المسلمون أن يُخلصوا نواياهم قبل كل عمل حتى لو كان فاسداً، والمعنى واضح وهو ما حمل أبو حنيفة على التصدي له وقال قولاً صريحاً خلده أتباعه من أهل الرأي.."أن الأعمال بالظواهر أما النوايا فهي لله"..وهذا يعني أن القول بأن الأعمال بالنوايا هو جريمة في حق الله وفي حق الدين، ولكن نَظَرا لخصومة البخاري المشهورة مع أبو حنيفة قام بتدوين هذا الحديث في مطلع كتابه ..كإشارة إلى الأزمة الفكرية التي كانت تجتاح هذا العصر بين أهل الرأي –ومنهم الأحناف والمعتزلة- وبين أهل الحديث وهم بقية مذاهب المسلمين سُنةً وشيعة.
إن القول بأن الأعمال بالنوايا لا ينفك عن جريمة.."الانتحار باسم الله"..فالمُنتحر يحرص قبل جريمته على إخلاص نواياه لله، ويردد الشهادة والنصوص والأدعية التي تُقنعه بسلامة عقيدته قبل موته، أو قبل انتقاله كما يعتقد، فيموت مرتاح البال والضمير وهو ينتظر أن يُكافئه الله تلك المكافأة الكبيرة التي ظنه أنه وعده به وهي الجنة والحور العين، رغم أنه في الحقيقة مجرد قاتل ومفسد كبير في الأرص ومُجرم في حق الله وفي حق الإنسانية كما يُفترض من كلام أبو حنيفة، لأن الأعمال عند أبو حنيفة هي بالظواهر وليست بالنوايا، وقد ظهر من العمل أنه فساد وانتهاك لحُرمة الدماء التي حذّر منها الله أو أن يقترب منها أي مدعٍ أو ظالم، فالنفس التي كانت هي سر عظمة الله في أرضه لا يُمكن أن تُستباح بهذه الصورة تحت عنوان مرضاة الله، فيخرج العنوان بأنه ادعاءُ كاذب وتعدٍ على الله قولاً واحدا.
من ناحية أن الله نهى عن قتل النفس تحت أي ادعاء، إذ قال الله في قرآنه.."ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما"..وهو نهي صريح عن الانتحار مهما كانت الدوافع، وإلا لاستثنى الله بعض الحالات التي قد تكون من ضمنها حالة ذلك المنتحر المجنون، ولكن هذا لم يحدث فالأمر على إطلاقه أنه لا قتل مُطلقاً للنفس حتى لو كان تحت عناوين مثل الجهاد أومقاومة الظلم، ومن ناحية أخرى أن التجارب أثبتت أن فقه الانتحار في المعارك لا يُمكن أن يُحدث نصراً عسكريا، إذ أنه بمثابة خيار أخير بعد استهلاك كافة الخيارات الأخرى ومنها المواجهة المباشرة، وبما أنه خيار أخير فهو بمنطق.."شمشون"..علي وعلى أعدائي، أي أنه قد يُحدث خسائر على مستوى الدماء والممتلكات، ولكن من الذي قال أن النصر يتحقق بمجرد إراقة الدماء ؟!..هذا تعطيل لكافة المفاهيم الحربية أن الانتصار في المعارك يستوجب حضوراً لكافة القُدرات البشرية من قوة ودهاء وحكمة وصبر.
لقد أحدثت الحرب الأهلية السورية هذا الفارق وأوضَحَت معنى الانتحار أنه مجرد جريمة قد تريق الدماء ولكنها لا تُحقق أي انتصار عسكري، فالمعارضة حرصت منذ بداية الحرب على تنفيذ عشرات بل مئات وربما آلاف العمليات الانتحارية في حق جنود الحكومة، بل وفي حق المدنيين من الشيعة والمسيحيين بل وفي الأحياء المعارضة لهؤلاء الانتحاريين حتى لو كانت سنية، ولكن الانتصار يبدو أنه يذهب لصالح الحكومة بعد أكثر من ثلاث سنوات من اندلاع هذه الحرب، وأتذكر هنا بالمناسبة مشهداً مُعبّراً من تلك الحرب، ففي ريف مدينة اللاذقية وبالقُرب من حدود تركيا مع سوريا هجمت جنود المعارضة على مرتفع جبلي من أجل السيطرة عليه، ويبدو من الهجوم أن هذا المرتفع المُسمّى.."بمرصد 45"..كان مرتفعاً هاماً من الناحية العسكرية ..يُتيح لمن يسيطر عليه أن يتحكم في الميدان.
المهم أن الهجوم قد بدأ بالفعل عبر سيارة مفخخة يقودها شخص انتحاري ، وتسبب هذا الانتحاري بالفعل في إحداث خرق لجبهة الدفاع عن المرصد/ المرتفع، وبعدها هجمت جنود المعارضة، وبدأوا ينعون صاحب هذه العملية الانتحارية من قبيل.."إلى الجنة ياشهيد ونلقاك مع الحور العين...إلخ"..ولكن المثير أنه وبعد ساعات معدودة هجمت قوات الحكومة وقتلت كل من سيطر على هذا المرصد، واستعادت السيطرة عليه بعملية عسكرية خاطفة كشفت إلى أي مدى تتحكم قوات الحكومة في المشهد الميداني، فهي عندما تخسر فهي قادرة على التعويض، وهذه قمة من قمم التفوق العسكري، أنه ليس بالخسارة الميدانية تحدث الهزائم ولكن تحدث الهزائم عندما يعجز المحارب عن التعويض.
وأنا أسأل هنا ما مصير هذا الانتحاري وقد أفنى نفسه مقابل لا شئ، قد يظن هو أو أتباعه ومناصريه أنه مع الحور العين، ولكن هذه قصة أخرى، ما يهمني أن انتحاره ذهب رخيصاً بل تسبب انتحاره في مقتل العشرات وربما المئات من زملائه الذين ساعدهم على اختراق الموقع، أين هي الثقافة العسكرية عند هؤلاء، وهل فنون الحرب لديهم قاصرة إلى هذا الحد ؟!
الإجابة تكمن في نفوسهم أنه من كثرة حديثهم عن.."الجهاد والاستشهاد"..أصبح الانتحار لديهم هدفاً وليس وسيلة تقربهم إلى الله، والسبب في هذا الخلل أنهم يُحاربون ليس من أجل الانتصار أكثر من أنهم أشخاص أنانيون يُريدون الفوز والنجاة بأنفسهم ، هكذا أحدث مفهوم الجهاد القاصر لديهم خرقاً على المستوى الفكري والسلوكي، فترى منهم من يقود مجموعة قتالية دون أي خبرة عسكرية أو إنسانية تُمكنه من القيادة ..فيُفاجأ هو وباقي أفراد مجموعته أنهم وقعوا ضحية لكمينٍ من قوات الخصوم، والمشهد السوري ملئ بهذه الكمائن التي وقعت فيها قوات المعارضة بكل بلاهة حتى تسببت هذه الكمائن في قلب الميزان العسكري والاستراتيجي في أنحاء سوريا بالكامل، رغم أن الدعم التي تلقاه قوات المعارضة أضعاف ما تلقاه قوات الحكومة من دعم.
لقد اجتمع ثلاثة أرباع العالَم على الاعتراف بما يُسمى.."بالثورة السورية"..منها أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي وتركيا ودول الخليج، اجتمعوا على هدفٍ واحد وهو دعم المعارضة الثائرة بكل ما يمكنهم من أدوات حربية سواء كانت سياسية أو إعلامية أو مالية أو فنية أو عسكرية، وقد جاهروا بهذا الدعم في مؤتمراتهم المُسمّاة.."بأصدقاء سوريا"..حتى أن الجامعة العربية هي الأخرى سارت في نفس النهج الخاطئ ودعّمت هذه المعارضة بطرد ممثل الحكومة والاعتراف بممثل المعارضة، ولكن ما هي النتيجة ؟
النتيجة أنه وبعد كل هذا الدعم الذي لو كان تحقق لألمانيا في الحرب العالمية الثانية لاستطاعت أن تغزو العالَم ..!
لقد فشلت المعارضة السورية وتفككت وانهزمت في معركتها العسكرية وبدا أن جماهير الشعب السوري غير متعاطفة معهم، وأن ما نُشر من قبل على هذا الإعلام الداعم للمعارضة كان مُصطنعاً، وأن ثقافة هؤلاء العسكرية هي في أمرين اثنين.."الحرب المقدسة والانتحار باسم الله"..وليس غريباً أن تدعم أمريكا هذه الثقافة وقد صنعتها من قبل في أفغانستان، فأمريكا هي التي أججت الأصولية الدينية في القوقاز بحُجة حرب الملاحدة الشيوعيين، وساعدهم في ذلك بلاهة شيوخ السلفية والإخوان الذين انتشروا في ربوع العالم العربي يطلبون المقاتلين والدعم المالي، وأفغانستان في الحقيقة كانت وجهاً من أوجه الحرب الباردة ولا مصلحة حقيقة للعرب أو للمسلمين فيها سوى أنها كانت محطة لتدمير أفغانستان، والدليل أن أمريكا احتلت بعد ذلك نفس البلد ولم يهب العرب لنجدتها سوى ما يفعلونه الآن مع فلسطين وغزة ، مجرد تنديد واستنكار وشجب وإدانة..
أخيراً لقد ساقنا الحديث إلى مواضيع جانبية ولكن هي في تقديري جزء من الكل، وأن التعرض لها ضروري بغرض كشف الجوانب المجهولة التي تتعلق بالقضية الرئيسية التي نحن بصددها وهي.."فقه الانتحار باسم الله"..وأن كشف هذه الجوانب مهم لبناء صورة واقعية تُترجم ما يسطره القلم على شكل صور وأحداث، وربما تكون هي طريقتي في النقد أحياناً، وأحياناً أخرى أتقيد بالنواحي النظرية والعقلية، ولكن في تقديري أن هذه القضية تمس جانبين مهمين وهما الأمن والدماء، وفي هذين الجانبين تسقط أي معايير نظرية لصالح الواقع، وأن التحقيق العقلي يجب أن يمس الواقع بشكل رئيسي، لأن الحقيقة في الأزمات هي على الأرض وليست في الذهن.
فالدماء لا يجب التسامح فيها، بل تجب مقاومة من لا يتسامح فيها أصلاً، وهذا ليس إقصاءً بالمناسبة، لأن إقصاء ومقاومة الإرهابي- والمنتحر باسم الله -هو فضيلة تعمر بسببه الأرض ويعم السلام والعدل، لأن ذلك المنتحر هو مصدر الفتنة والظلم، فهو لا يقبل الآخر دائماً ومعاييره دائماً تفاضلية وليست تكاملية، هذا أفضل من فلان، وهذا أتقى وأصلح من عِلّان، وتلك المعايير لا يمكن أن تنتج سوى إنسان إقصائي جاهل لا يعرف معنى العدل والإعمار، لذلك كان معياري في قبول الناس هو .."التكامل"..وليس التفاضل، والمعنى أن قصور الناس يستوجب تكاملاً بينهم يسد هذا القصور، فمن يبرع في شئ لا يبرع في آخر، فالناس جميعهم مُكمّلون لبعض.
اجمالي القراءات
11580