"إتيكيت" الجوع عند الفلسطينيين
سفر الجوع الفلسطيني (1)
قصتان من دمشق وغزة بينهما 60 عاما
من أشد مسببات المرارة المضاعفة في المسألة الفلسطينية تكرار حلقاتها، واستمرار المعاناة كما لو كانت دوامة لا تنتهي. حيث لا تقدّم يتحقق للأمام. من بين عشرات القصص المؤلمة حول استمرار عملية الجوع والتجويع لدى الفلسطينيين، اخترت اليوم قصتين بينهما نحو ستين عامًا، الأولى عقب النكبة الفلسطينية، عام 1948، والثانية في غزة هذا العام 2009.
وفيهما لا بعض أوجه المعاناة في البحث عن متطلبات الحياة الأساسية وحسب، ولكن أيضا الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تسببها هذه الحالة.
دمشق بداية الخمسينيات:
يقدّم الكاتب والباحث فيصل الحوراني في سيرته الذاتية التي وزّعها على خمسة مجلدات مجموعها نحو 1200 صفحة، سردا مفصّلا لا لحالات ولثقافة الجوع والتجويع وما ينتج عنها من عادات وأنماط اجتماعية وآثار نفسيّة.
الحوراني، يتيم الأب، يتحدث عن لجوئه وعائلته من قريتهم "المسميّة" إلى زقاق بدر في حي العمارة، في دمشق، حيث كان جده يقيم وكان متزوجا من سيدة هناك (زوجة ثانية).
يصف كيف يفهم الطفل أنّه لا يوجد طعام كافي، فيقول: "وقد صار علينا أن نقتصد في طعامنا فنتناول أقل مما يملأ المعدة، ينطبق هذا حتى على الخبز. لم يعلن أحد، صراحة، أن التقنين قائم، لكن الطريقة التي يقدّم بها الطعام تجعل التقنين أمرًا واقعاً. كنا نتحلق لتناول الفطور، فيكون أمامنا طبقان صغيران أو ثلاثة فيها زيت وزعتر وزيتون أو مكدوس أو مُربى فاكهة مصنوع في المنزل، وفي كل طبق كمية لا تسمح لأي منّا بأن يطلق لشهيته العنان، بل توجّب عليه أن يقتصد، تلقائيا، فيراعي حاجات الآخرين. أمّا الخبز، فكان جدّي يتولى توزيعه على أفراد الأسرة، يقطع الأرغفة ويضع أمام كل واحد منّا قطعة، فنفهم دون توجيه، أنّ هذه هي الحصة التي لا ينبغي أن نتجاوزها، ويتكرر الأمر ذاته في وجبتي الغداء والعشاء: تتحلق الأسرة حول الطبق الوحيد، المصنوع من العدس والرز أو البرغل، أو من الخضار المطبوخة بالزيت؛ ويتوجّب على كل واحد منّا، كرّة أخرى، أن يوازن بين حاجته وحاجات الآخرين".
ويصبح الحصول على طعام هاجس يومي "لم يعد التنزه في البساتين والحقول وسيلة للتمتع بالطبيعة والترويح عن النفس، بل فرصة نغتنمها لجمع ما يصلح للأكل من أعشاب الأرض وبقولها أو التقاط ما يمكن أن التقاطه من الثمر حين تغفل أعين النواطير".
وعن الضيافة يقول: أمّا "القهوة فما عادت تقدّم إلا بوجود الضيوف. وكنّا ندرك الظروف ونفهم دوافع الجدّة للتقتير، فلم نعد نلّح في الطلب كي لا نثير لواعجها".
وفي مشهد بالغ السوداوية، أو فيه كوميديا سوداء، أصبح موضوع الغذاء موضوع تحايل اجتماعي، تتجلى فيها آداب وبروتوكول الجوع، سواء بين أفراد العائلة ذاتهم أو مع ضيوفهم، فيقول الحوراني: "علّمنا الحرمان آدابًا وأوجه سلوك تواطأنا عليها حتى دون اتفاق مسبق بشأنها، فحين يمرض أحد أفراد الأسرة، ويصير بحاجة إلى تغذية ملائمة. كنّا نتعفف عن الإفراط في تناول الطّعام وندّعي أننا نلنا كفايتنا منه لنوفّر للمريض لقما إضافيّة تعينه في مرضه. وكنّا، في كل الأحوال، نبالغ في ترديد عبارات الحمد للرّب على نعمائه، بعد كل وجبة، في محاولة للتظاهر بأننا شبعنا، حقّا، وارتوينا. وحين يصدف أن يصل زائر غريب أثناء تناولنا الطّعام كنّا ننهض عن المائدة متظاهرين بأننا فرغنا للتّو من الأكل، ومظهرين للزائر أنّ عندنا من الطّعام ما يكفي حاجتنا ويزيد. وأتذكر تقليدًا طريفًا اتبعناه، هو الآخر، دون اتفاق مسبق. فقد كان يحدث أن يحين أوان تناول الطعام بوجود زائر لدينا، دون أن يكون في حوزتنا ما يدخل المعدة سوى الخبز الجاف أو ما هو في حكمه. وفي حالة كهذه كنا نغمس الخبز بالزيت والملح الأمر الذي يخجلنا أن نطلع الزائر عليه. فكنّا نحتال كي لا يعرف الزائر الحقيقة: تدعونا خالتي شفيقة إلى الأكل في الحجرة التي لا يكون الزائر فيها، فنلوك لقماتنا القليلة على مهل ونطيل القعود ونتبادل عبارات توهم الزائر بأننا نتعازم على أطايب الأطباق. ثم، إمعانا في الإيهام، كنّا نتوجه الواحد تلو الآخر إلى المغسلة التي في المدخل، حيث يصبح بمقدور الزائر أن يرانا، فنغسل أيدينا بالماء الفاتر والصابون كي يقتنع زائرنا بأننا أكلنا وجبة دسمة".
قصة تخصيص الأكل لشخص واحد أكثر من غيره لأنّه مريض أو أحوج، نراها تتكرر في غزة بعد نحو ستين عاما، فبحسب تقرير لأشرف الهور في القدس العربي في نيسان/ إبريل 2009 جاء:
غزة 2009
"اكتشفت مؤخرا إحدى الأسر التي حرمت من تذوق اللحم، مرض أحد أطفالها بـ ‘الأنيميا’ (ضعفالدم)، بسبب سوء التغذية، ونصحها الأطباء بضرورة إطعام طفلها وعمره ثلاثة أعوام لحوما بكثرة، لكن ربة الأسرة التي قالت إن وجبة إفطار وعشاء أطفالها الستة تعتمد على ‘الدُقة’، وهي أكلة شعبية مكونة من القمح المطحون، وقليل من البهارات، أكدت أنّها لا تستطيع شراء اللحم، وذكرت أنها عملت على شراء كميات قليلة جدا من اللحم لطهوها لطفلها المريض خلال وجود أشقائه في المدرسة". حيث أنّ غالبية السكان (في غزة)يشتكون الآن (2009) "من عدم تمكنهم من شراء اللحم". وقد غيّر الحصار عاداتالأكل لدى الغزيين، حيث أصبحت الغالبية تعتمد على طهي الخضار، وبالطبع المتواجدمنها، خاصة وان أسعار الخضار ارتفعت أيضا. ويقول محمود وهو عامل بناء توقف عنالعمل أن دخل أسرته المكونة من 10 أفراد لا يمكنه من شراء اللحوم. ويشير إلى أن زوجته التي لجأت إلى مهنة الخياطة تدبر أمر الطعام من مساعدات تقدمها جهات دولية،ومؤسسات محلية تمنحها ‘سلة خضار’ أسبوعيا. وتتمنى زوجة محمود أنتُقدّم وكالة ‘الأونروا’ وجبات من اللحوم بشكل أسبوعي للأطفال في المدارس، بدل سندويتشات الأجبان، والبسكويت والعصائر التي تقدم يوميا. وذكرت أنّه في الوقتالحالي تمر أسابيع على منزلها دون أن توضع قطعة لحم في ‘طنجرة الطبيخ’، وأن أسرتها أصبحت تقيم وليمة دسمة على أقل من كيلو واحد من اللحم.
ملاحظة: هذه فقرات من دراسة عنوانها: سفر الجوع الفلسطيني، أستعد لنشرها قريبا.