عودة آلاف العراقيين من المهجر بين تحسّن الفرص وتحديات الاندماج
يعود آلاف العراقيين سنوياً من المهجر بحثاً عن الاستقرار والدفء الأسري، ورغم صعوبات وتحديات الاندماج الاجتماعي، فإن الأمل لا يفارقهم بغدٍ أفضل.
يعود أكثر من سبعة آلاف عراقي سنوياً من دول المهجر إلى بلادهم، وفق تقرير حديث للمنظمة الدولية للهجرة، في ظاهرة تعكس أبعاداً اقتصاديةً واجتماعيةً وسياسية إيجابية. ويشير مختصون إلى أن عدداً من هؤلاء يعود بسبب تحسّن نسبي في الوضع الاقتصادي داخل العراق وتنامي فرص الاستثمار، بينما يواجه آخرون صعوبة في الاندماج بالمجتمعات الغربية، وارتفاع تكاليف المعيشة، إضافةً إلى التعقيدات القانونية المرتبطة بالإقامة أو الحصول على الجنسية، فضلاً عن الحنين العاطفي والارتباط الأسري الذي يدفع الكثيرين إلى التفكير في العودة.
علي السيد، عائد من فنلندا بعد هجرة دامت سبع سنوات، يقول لـ"العربي الجديد": "قررت الهجرة إلى فنلندا في عام 2004 بعدما أصبحت الظروف الأمنية في العراق لا تُطاق، إذ كنا نعيش حالة خوف يومي من العنف والتفجيرات والاقتتال"، ويضيف: "رحلة الهجرة لم تكن سهلة، فقد استغرقت وقتاً طويلاً بسبب تعقيدات أوراق الجنسية والإجراءات القانونية، وحتى بعد الوصول إلى فنلندا لم يكن الحصول على حق اللجوء أمراً يسيراً، بل واجهت العديد من العقبات والانتظار المرهق".
ويتابع: "كنت أطمح لبدء حياة مستقرة هناك، لكن الضغوط العائلية والحنين إلى الوطن لعبا دوراً كبيراً في قراري بالعودة إلى العراق. ظننت أن العودة قد تمنحني بعض الاستقرار، لكن الواقع كان أصعب مما توقعت. بعد عودتي، اضطررت لتغيير مكان سكني أكثر من مرة بسبب الخوف المستمر من الوضع الأمني، الذي لم يتحسّن، وكان يدفعنا للعيش بحذر وقلق دائمين"، ويشير إلى أنه "لم يجد أي دعم حقيقي من مؤسسات الدولة العراقية، أو منظمات المجتمع المدني التي من المفترض أن تكون حاضنة للعائدين".يأتي ذلك في وقت تشهد فيه بعض المناطق العراقية استقراراً أمنياً نسبياً، ما شجع العديد من العائلات على العودة والاستقرار مجدداً في البلاد، ويقول الباحث الاقتصادي العراقي الدكتور علي الكعبي في تصريح خاص لـ"العربي الجديد" إنّ ظاهرة عودة آلاف المهاجرين العراقيين من أوروبا سنوياً تعكس مزيجاً من الإخفاق في تحقيق طموحات البعض هناك والتغير النسبي في الأوضاع داخل العراق.
ويضيف الكعبي: "الأرقام التي أعلنت عنها المنظمة الدولية للهجرة، والتي تشير إلى عودة نحو سبعة آلاف عراقي سنوياً، تعكس حقيقة أن الهجرة لم تكن بالنسبة للكثيرين مشروعاً مستداماً، بل محاولة للهروب من واقع صعب سرعان ما تبين أنه لا يقل تعقيداً". ويوضح: "قسم كبير من العراقيين الذين غادروا البلاد خلال السنوات الماضية، خاصةً بعد 2014، فعلوا ذلك بدوافع أمنية أو اقتصادية، لكن الواقع الأوروبي لم يكن بالسلاسة المتوقعة، سواء من ناحية فرص العمل أو صعوبة الاندماج أو الشعور بالعزلة الاجتماعية والثقافية، ما جعل بعضهم يعيد التفكير في خيار العودة، خصوصاً مع وجود دعم حكومي من بعض الدول الأوروبية عبر برامج العودة الطوعية"، يتابع: "لا يمكن تجاهل أن الحنين إلى العائلة والشعور بالغربة الاجتماعية والنفسية يلعب دوراً كبيراً في اتخاذ قرار العودة، لا سيّما بالنسبة لبعض العائلات أو كبار السن الذين لم يستطيعوا التكيّف مع نمط الحياة الأوروبية".
ويبين الكعبي أن "هذه العودة ورغم أنها تحمل أبعاداً إنسانيةً وشخصيةً، إلّا أنها تطرح أيضاً تحديات اقتصادية على الحكومة العراقية التي يفترض أن تستعد لاستيعاب العائدين من خلال توفير فرص عمل وبرامج دمج اقتصادي واجتماعي، تمنع إعادة تدوير أزمة الهجرة من جديد".
من جهتها، تقول مديرة منظمة تمكين المرأة في العراق، ميسون البدري، لـ"العربي الجديد" إنّ المنظمة تتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي لتعزيز التعايش السلمي والمساواة في العراق، وتضع قضية إعادة إدماج العائدين من أوروبا إلى العراق في صميم أولوياتها، إذ نعمل من خلال المراكز الألمانية-العراقية للوظائف والهجرة وإعادة الإدماج (GMAC) في بغداد وأربيل على توفير حزمة متكاملة من الخدمات للعائدين. وتشمل هذه الخدمات الاستشارات الفردية، والتدريب المهني، والمساعدة في الحصول على فرص عمل محلية، إضافة إلى دعم مالي وفني لبدء المشاريع الصغيرة".
الصورة
تحديات كثيرة تواجه العائدين للاندماج في المجتمع، بغداد، 27 فبراير 2025. (أحمد الربيعي/فرانس برس)
تحديات كثيرة تواجه العائدين للاندماج في المجتمع، بغداد، 27 فبراير 2025 (أحمد الربيعي/فرانس برس)
وتشير إلى أنّ "المنظمة تدرك أن العودة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي تحدٍّ اقتصادي واجتماعي ونفسي، لذلك نوفر كذلك برامج للدعم النفسي والاجتماعي عبر شركائنا المحليين من منظمات المجتمع المدني، هدفنا النهائي هو تمكين العائدين من بناء حياة كريمة ومستقرة في العراق، والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلد".
الدكتور فراس الراوي يعمل في دائرة القنصليات المعنية بملف عودة المهاجرين من الخارج يقول لـ"العربي الجديد": إنّ "عودة المهاجرين العراقيين جاءت في إطار تعاون وتنسيق مشترك بين الحكومة العراقية والمنظمات الدولية المعنية بملف الهجرة وفي مقدمتها المنظمة الدولية للهجرة (IOM). لقد عملت الوزارة من خلال سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية على فتح قنوات مباشرة مع العائلات العراقية الراغبة بالعودة، وقدمت الدعم القنصلي والإداري لتسهيل إجراءات السفر بالتوازي مع تسيير رحلات طوعية خاصة ساهمت في عودة الآلاف".
ويضيف الراوي: "أسباب العودة متعدّدة، فالكثير من العراقيين واجهوا صعوبات حقيقية في بلدان اللجوء، منها طول مدة الانتظار للحصول على الإقامة أو رفض طلباتهم، فضلاً عن التحديات المرتبطة بالاندماج في مجتمعات جديدة"، ويلفت إلى أن "وزارة الخارجية لا تكتفي بعملية نقل المواطنين من الخارج إلى الداخل، بل تعمل بالتعاون مع الجهات الحكومية الأخرى على ضمان إعادة دمجهم في المجتمع المحلي من خلال برامج خاصة أُطلقت بالتنسيق مع وزارة الهجرة والمهجرين والمنظمات الدولية، تشمل التدريب المهني وتقديم حزم دعم مالي أولية، ومساعدات لوجستية، بما يضمن أن تكون عودتهم بداية جديدة مستقرة وليست مجرد انتقال جغرافي من بلد إلى آخر".
ويرى المتحدث أن "الوزارة تنظر إلى ملف العودة باعتباره مسؤوليةً وطنيةً وإنسانيةً، ونعمل على أن تكون عودة أبنائنا إلى وطنهم محفوفة بالكرامة والدعم اللازم لهم. العراق بحاجة إلى طاقاته البشرية، وعودة هؤلاء تمثل خطوة إيجابية نحو استعادة الكفاءات والخبرات التي يمكن أن تسهم في إعادة بناء الدولة".من جانبه، يوضح مدير عام دائرة شؤون الهجرة الدكتور صفاء أحمد لـ"العربي الجديد"، أن وزارة الهجرة تتابع باستمرار عودة العراقيين إلى البلاد، وقد وضعت خطةً شاملةً تهدف إلى تسهيل اندماجهم مجدداً في المجتمع المحلي، فعودة هذا العدد الكبير لم تكن مجرد خطوة إجرائية، بل هي ملف متكامل يرتبط بالأوضاع الإنسانية والمعيشية لهؤلاء المواطنين". ويضيف أن "عودة الآلاف من أبنائنا تشكل رسالةً إيجابيةً عن الثقة المتزايدة بالاستقرار داخل العراق، ونحن في وزارة الهجرة والمهجرين سنواصل العمل مع كل الجهات المعنية لتوفير الدعم لهم، لأنهم يمثلون جزءاً أساسياً من نسيج المجتمع العراقي وإمكاناته البشرية التي يعوَّل عليها في مرحلة إعادة البناء".
بدوره، يقول المحلل والخبير بالشأن العراقي الدكتور أسامة السعيدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن عودة آلاف العراقيين من أوروبا خلال الفترة الأخيرة ليست مجرد ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية، بل هي مؤشر استراتيجي على تغيّر المزاج العام لدى شريحة من المهاجرين، الذين باتوا يشعرون بأن كلفة البقاء في دول المهجر أعلى من المنافع التي يحصلون عليها، فالتشدد في سياسات الهجرة الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، ورفض الكثير من طلبات اللجوء، خلق بيئةً ضاغطةً على المهاجر العراقي، دفعت الكثيرين إلى التفكير جدياً بالعودة".
ويوضح السعيدي: "من الناحية الاستراتيجية، تمثل عودة هذا العدد الكبير فرصة للدولة العراقية إذا ما جرى استثمارها على نحوٍ صحيح، فالكثير من العائدين يمتلكون خبرات مهنية وتجارب حياتية اكتسبوها في أوروبا، ويمكن أن يكونوا قوة دفع لعملية التنمية إذا جرى دمجهم في سوق العمل ومشاريع الدولة. في المقابل، إذا لم تجرِ متابعة أوضاعهم جيداً، فقد تتحول العودة إلى عبء اجتماعي واقتصادي جديد".
ويشير إلى أن "العراق بحاجة إلى بناء استراتيجية متكاملة لإدارة ملف العودة، تتضمن الدعم المالي، وأيضاً خططاً طويلة الأمد لإعادة الاندماج، وضمان شعور العائدين بالاستقرار والأمان. هذا الملف لا ينبغي النظر إليه باعتباره مسألة إنسانية فحسب، بل ملفاً وطنياً يمسّ الأمن المجتمعي والاستقرار السياسي".
اجمالي القراءات
26