أطباء مصر بين العبودية الجديدة والهجرة القسرية
لا طريق أمام أطباء مصر سوى الخضوع للعبودية الجديدة، والقبول بالانتهاكات الإنسانية والمهنية البغيضة التي تُمارس ضدهم ليل نهار، أو الهجرة القسرية إلى الخارج حيث التقدير المادي والمعنوي، واكتساب الخبرات الجديدة في المجال الطبي الذي يتطور بسرعة.
أمس الثلاثاء خرجت علينا طبيبة مصرية شابة بكلمات صادمة وقاسية تكشف لنا أوضاع الأطباء المتردية، سواء تعلق الأمر بالنواحي المادية الضعيفة والرواتب المتدنية، والتي لا تتجاوز 200 دولار شهرياً وربما أقل، أو بظروف وبيئة العمل بالغة السوء والقسوة، أو الضغوط الإدارية الشديدة وحالات القهر التي يتعرضون لها ليل نهار، والتي تصل إلى العمل لأيام متواصلة، وإلى حد تهديدهم بالفصل التعسفي والإحالة للتحقيق وقطع الأرزاق دون أي مبرر إداري أو أخلاقي.
وفي رسالة طويلة على صفحتها في "فيسبوك" تحكي الطبيبة، رنين جبر، قصة عملها في أحد المستشفيات الحكومية والضغوط الشديدة التي تعرضت لها مع زملائها، ودفعتها إلى الاستقالة والمحافظة على ما تبقى من حالتها الصحية والنفسية. تقول الطبيبة إنها رقم ثمانية من بين زملائها الأطباء الذين استقالوا من قسم النساء والتوليد بجامعة طنطا من بين 15 طبيباً، أي استقالة ما يزيد عن نصف العدد، وإن رؤساءها يجبرونها على العمل المتواصل لمدد تصل إلى يومين، وربما ثلاثة أيام، وإن المدة قد تصل إلى 82 ساعة في حال المرور المفاجئ من مسؤول.
وتقسم قائلة: "والله والله كنا ننام في الـ82 ساعة أقل من 6 ساعات، وأيام كثيرة لا ننام فيها أصلا، أو نقسّم فترات النوم بحيث يكون نصيب كل واحد نصف ساعة أو ساعة إلا ربع فقط، ويشهد ربنا إنني عملت كل حاجة أقدر عليها وأديت من كل طاقتي وصحتي ونفسيتي عشان خاطر هذا المكان". وتتحدث عن بيئة العمل المدمرة داخل المستشفى الحكومي قائلة: "كنا ننام على الأرض أو على أسرّة المرضى أو الولادة.. وأحياناً كنت أنام على الكرسي الذي أجلس عليه لأنه لا يوجد مكان آخر!، ويمر أسبوع كنا ننام في المستشفى على الأرض ولا نرى أهالينا..
وممنوع ننزل نأخذ دش في السكن وممنوع ننزل من قسم الولادة لأي سبب.. وممنوع ننزل نشتري مياه من تحت، أو ندخل الحمام في السكن من غير ما نعرف كل رؤسائنا في العمل.. بقالي 11 شهر في المكان حضور يومي، لا يوجد ولا يوم إجازة.. لا يوجد حاجة اسمها إجازة مرضي، أو حاجة اسمها إجازة عارضة أو اعتيادية، لو بتموت أحضر للعمل وفق التعليمات الصادرة لنا". وتحكي رنين عن سياسة القهر والبطش التي تمارس ضدها والأطباء العاملين معها قائلة: "في يوم من الأيام جمعونا، وقالوا لنا بالنص إن وجودكم غير مرحب به في القسم، ومش هنشغلكم، فقدموا استقالاتكم وامشوا".وتنهي الطبيبة رسالتها قائلة بقهر وعتب شديد "كان نفسي مثلما أتعب ألاقي.. كان نفسي ألاقي تقدير لمجهودي.. كان نفسي أتعلم، كان نفسي أبقى دكتورة نساء شاطرة، كان نفسي زي ما تعبت وتفوقت في سنين دراستي.. جامعتي تقدرني وتكرمني.. مش يتقلي احنا مش عايزينكم ووجودكم مش مرحب به! القسم خسر 8 أطباء شاطرين ومجتهدين، اشتريت نفسي وصحتي، وكرامتي وأهلي وبيتي، والأهم راحة بالي، شكراً على أوحش 11 شهر قضيتهم في حياتي".
رسالة الطبيبة ورغم قساوتها إلا أنها تعبر عم ملايين المصريين وتفسر جزءاً من تنامي ظاهرة هروب الأطباء المصريين إلى الخارج، والأسباب التي تدفع آلاف من خريجي كليات الطب بالجامعات المصرية إلى الهجرة وربما البحث عن فرصة عمل في مجال أخر.
السؤال هنا: هل ما قامت به الطبيبة وزملاؤها هو عمل كريم وواجب إنساني يجب تقديره والاحتفاء به، أم أنها كانت تعمل في اطار نظام سخرة واحتقار، في علم الاقتصاد يسمون الممارسات التي تعرضت لها الطبيبة وزملاؤها استغلالاً وإهداراً للخبرات وهضماً لحقوق الكوادر البشرية وفشلاً إدارياً وسوء بيئة العمل، وفي علم الحياة يطلقون عليه عبودية.
وبعدها نسأل ببلاهة: لماذا يهرب الأطباء المصريون إلى الخارج، وتصبح المستشفيات الحكومية خاوية على عروشها، ونتعجب حينما نتابع الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة المصرية، والتي تشير إلى أن أكثر من 60% من الأطباء المصريين باتوا يهربون إلى الخارج، وأن هناك زيادة في أعداد الأطباء الذين يتقدمون باستقالاتهم من الوزارة سنوياً بغرض الهجرة والسفر والعمل في دول الخليج، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا والولايات المتحدة، وربما حفاظاً على الصحة النفسية.
اجمالي القراءات
25