شبكات إجرامية تُشغّل متسوّلين أجانب في العراق
لم يعد التسوّل أمراً يلجأ إليه المحتاجون في العراق، مثلما جرت العادة، بل تحول إلى عمل يُدار عبر شبكات محترفة، بعضها من الأجانب. ولم يعد التسوّل مشهداً هامشياً، بل صار واقعاً ثقيلاً يزداد استفحالاً. ويؤكد رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، أن "التسوّل في العراق خرج عن كونه سلوكاً فردياً، وتحول إلى عمل منظم تقوده شبكات إجرامية تستغل النساء والأطفال، وتوظفهم داخل البلاد، أو تستوردهم من دول آسيوية تحت غطاء العمالة المؤقتة، أو السياحة الدينية، أو حتّى صفة اللجوء، وتتصدر الجنسية السورية بين الجنسيات العربية".
ويكشف الغراوي، أن "وزارة الداخلية رحّلت أكثر من 40 ألف متسوّل أجنبي بين عامَي 2023 و2025، لكن العدد الذي يمتهن التسوّل يفوق ذلك بكثير، وهناك أنماط حديثة بدأت تبرز، مثل التسوّل الإلكتروني، أو التذرّع بحاجات طبية وهمية، أو استخدام أطفال مرضى أداةً للاستجداء، كما أن الظاهرة تحولت إلى واجهة للاتّجار بالبشر، مدفوعة بتدهور اقتصادي، وضعف في تطبيق القانون، وغياب المعالجات الجذرية".
ويشدّد الحقوقي العراقي على "ضرورة إطلاق حملة وطنية شاملة للقضاء على ظاهرة التسول، وعلى الحكومة إعادة المتسوّلين الأجانب إلى بلدانهم، وملاحقة العصابات التي تدير هذا الأمر، وتشديد القوانين والعقوبات بحق من يشارك أو يسهم في استمرارها".
بات مشهد التقاطعات المزدحمة بالمتسولين في وسط بغداد مألوفاً لدى العراقية منى محمد، وتقول لـ "العربي الجديد": "يومياً أرى الوجوه نفسها. نساء بملابس رثة يحملن أطفالاً أو يدفعن عربات فيها رضّع، وبينهنّ من يتحدثن بلهجات غير عراقية. قلبي يتقطع عليهنّ وعلى صغارهنّ، لكنّي أحياناً أشعر أن ما يجري ليس حقيقياً، إنه يشبه المشهد التمثيلي أو العرض المسرحي الذي يتكرر".
ويقول مسؤول أمني طلب عدم الكشف عن اسمه كونه غير مخوّل بالحديث للإعلام، لـ "العربي الجديد"، إنّ "التعامل مع ملف التسوّل لم يعد محصوراً في الجوانب الاجتماعية أو الأخلاقية، بل دخلنا في نطاق التهديد الأمني. لدينا تقارير تثبت أن بعض المتسوّلين، سواء محليين أو أجانب، متورطون في جرائم سرقة، وهناك من يستخدم مظهر المتسوّل غطاءً لخطف الأطفال".
إنهاء التسول من بين حلول مكافحة مافيات الاتجار بالبشر في العراق، 7 يوليو 2018 (وليد الخالد/ فرانس برس)
مافيات تدير التسول في العراق، 7 يوليو 2018 (وليد الخالدي/Getty)
ويروي الشاب العراقي سعد الدهلكي، موقفاً عايشه وغيّر نظرته إلى التسوّل. يقول لـ"العربي الجديد"، إنه كان يجلس في مقهى داخل سوق تجارية وسط بغداد حين رأى شاباً آسيوياً يعرض صورة لسيدة ترقد على سرير في مستشفى متواضع، مؤكداً أنها أمه، وأنها بحاجة ماسة لإجراء عملية جراحية حرجة، وأنه لجأ إلى التسوّل ليتمكن من جمع المال الذي يمكّنه من إجراء العملية لها.
ويؤكد أن "جميع التجار والبائعين تأثروا بقصة الشاب الآسيوي، وجمعوا مبلغاً كبيراً، حتى قال إنّ المبلغ اكتمل لأنه يتسوّل منذ أيام، وفرح الجميع بذلك. بعد نحو شهرين، رأيت الشاب الآسيوي نفسه يحمل الصورة ذاتها، ويتسوّل في مكان آخر، فانتابتني نوبة من الضحك، إذ أيقنت أن هذا الشخص ممثل بارع، وقد تمكّن من إقناع الجميع فأغدقوا عليه النقود".
ورغم أن المتسوّلين في العراق من أعمار وجنسيات مختلفة، ومن كلا الجنسين، إلّا أن العراقيين يؤكدون أنهم يتأثرون أكثر حين يرون امرأة أو طفلاً يتسوّل. تقول الطالبة الجامعية حنين يوسف، لـ "العربي الجديد"، إنها اعتادت التعاطف مع المتسوّلات الأجنبيات بسبب مظهرهنّ البائس، مضيفة: "يظهرنَ وكأنهنّ فعلاً جائعات ومريضات"، وتضيف حنين أنّها رأت إحداهنّ تستعين بعكاز حين تسير، وتبكي من الألم، مبينة أنها أشفقت عليها وأعطتها حينذاك نصف المبلغ الذي كان معها.تتابع: "تفاجأت حين تابعتها بنظراتي من دون قصد سوى أنني تأثرت لحالها، أنها وصلت إلى سيارة تقف على جانب شارع فرعي، ثم اعتدلت في مشيتها ورفعت العكاز وأخرجت ما في حقيبتها من مال وأعطته للشخص الموجود في السيارة".
ولاستعطاف الناس صور وقصص مختلفة بعضها قديم، وأصبح أشبه بعُرف يتوارثه المتسوّلون، وآخر حديث مبتكر. يقول جاسم أبو كرار، وهو سائق سيارة أجرة في العقد الخامس، لـ"العربي الجديد"، إنه يصادف خلال عمله عشرات المتسوّلين كل يوم، ويضيف: "بعض المتسوّلين يعرضون صوراً لأطفال جرحى، أو منازل مدمّرة، ويقولون إنهم من سورية، أو من أفغانستان، أو بنغلادش، أو إيران. غالبية هؤلاء يعملون لصالح شبكات تسوّل تدار من قبل عصابات مسلحة، لكن رغم ذلك ينخدع كثيرون بهم".
اجمالي القراءات
19