آحمد صبحي منصور Ýí 2009-12-23
مقدمة
حتى في أشد العصور ظلمة كان هناك قضاة يخشون الله تعالى ويراعون العدل، وكانت كلمة الحق تخرج من أفواههم تزلزل قلوب الطغاة. كان أولئك القضاة المتقون دليلاً حياً على وجود نور الخير في القلوب مهما تكاثفت الظلمة .. كانوا برهاناً على أن التقوى الإسلامية هي الحل لإصلاح المجتمع أي مجتمع.
هذه النوعية من القضاة ممكن وجودها فى كل عصر مهما بلغ ظلم العصر ومهما بلغ طغيان المستبد ، وتلك النوعية تقبل بمنصب القضاء لتحاول ما استطاعت ان تنشر ضوء شمعة لتنير ظلمة الظلم و الاستبداد والجور .
ونتجول فى تاريخنا الاسلامى نعطى أمثلة ..
قضاة عدول وأذكياء
1 ـ إشتهر بعض القضاة قبل العصر العباسى بالعدل والذكاء مثل القاضى إياس بن معاوية ت 122 هجرية ، وكان قد تولى قضاء البصرة فى خلافة عمر بن عبد العزيز ، ولأن الخليفة عمر بن عبد العزيز ألزم القضاة وألزم نفسه بالعدل فلم يكن عدل القاضى إياس بن معاوية مستحقا للمدح . لذا ظهر أكثر فى ترجمة القاضى إياس بن معاوية ذكاؤه النادر وقوة بديهيته، حتى كان يضرب به المثل فى الذكاء كما يضرب المثل بمعاوية فى الحلم .
ويذكر ابن سعد فى الطبقات الكبرى فى ترجمته للقاضى ابن إياس أن الوالى الأموى على العراق يوسف إبن عمر قد عاقب القاضى ابن إياس بالضرب .
وهذا الوالى الجبار ( يوسف بن عمر ) سار على سنة الحجاج ، وجاء تعيينه رد فعل لتعاظم نفوذ القبائل اليمنية القحطانية بزعامة خالد القسرى والى العراق وكل الولايات الشرقية ، فتحول النفوذ ـ فى لعبة صراع مراكز القوى ـ لصالح القبائل المضرية القيسية ، فتم عزل خالد القسرى وسجنه وتعذيبه ومصادرة أمواله ، و تم تعيين والى اليمن يوسف بن عمر مكانه ، بل و تسلم يوسف بن عمر هذا خالد القسرى وتولى تعذيبه و استخلاص الأموال منه الى أن مات تحت العذاب .
المقصود أن فترة العدل القصيرة التى كانت فى خلافة عمر بن عبد العزيز ما لبث أن ولت سريعا بموته ومجىء خلفاء ظالمين ، وكان منتظرا أن ينال قاض عادل مثل إياس بن معاوية منهم الضرب لأن عمره طال حتى أدرك خلافة هشام بن عبد الملك . ولم تمنع شيبة القاضى الوقور وعلو سنّه و مكانته من التعرض للضرب فى اواخر عمره .!!
2 ـ نجا من هذا المصير القاضى شريح بن الحارث بن قيس ، وهو قاض مخضرم أدرك عصر الخلفاء الراشدين و الأمويين ، إختلفوا فى سنة موته ، قيل عام 78 أو 87 . ولكن اتفقوا على أنه عمّر كثيرا ، وأنه تولى قضاء الكوفة فى عهد عمر بن الخطاب ، واستمر فيه الى أن مات فى العصر الأموى ، وحاز شهرة فى العدل و الذكاء أيضا. ونقتصر من أخباره على ما اورده ابن الجوزى فى المنتظم 6 / 185 ، وقد جمع هذه الأخبار ممن سبقه .
من نوادره إنه حكم على رجل باعترافه فقال الرجل : يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة.! فقال:" أخبرني ابن أخت خالتك ". يعنى أنت الذى أخبرتنى .
ومن تثبته فى الحكم تلك الرواية التى حكاها الشعبى قال (: شهدت شريحًا وجاءته امرأة تخاصم رجلًا فأرسلت عينيها فبكت فقلت: أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة فقال: يا شعبي إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون. )!!
ولكن محور اتصافه بالعدل يأتى فى هذه الرواية التى حكم فيها على إبنه لصالح خصوم إبنه . يروى أن ابنًا لشريح قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم وإن لم يكن لي الحق لم أخاصم. فقص قصته عليه فقال له والده : انطلق فخاصمهم. فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى شريح على ابنه ، فقال له لما رجع داره: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك ..لقد فضحتني. فقال القاضى : يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله هو أعز علي منك ..خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فيذهب ببعض حقهم.
نقول عنها محور إتصافه بالعدل لأن القاضى شريحا قال لابنه (: يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله هو أعز علي منك ). أى إنه يخاف الله جل وعلا ومقام الله جل وعلا لديه اكبر من محبته لابنه ، والقاضى المسلم العادل هو الذى يخشى الله جل وعلا ويتقيه ويتحسب للقائه قبل يوم الحساب ، ويتذكر هيبة العزيز الجبار وهو يصدر رأحكامه.
إنه الله جل وعلا أيها الظالم .!!
1 ـ وهنا نعقد مقارنة بين هذا القاضى شريح فى القرن الأول الهجرى وبين قاض عادل آخر جاء فى العصر العباسى الثانى وقت تحكم الظلم واستشراء نفوذ القادة الأتراك وتحكمهم فى الخلافة العباسية قتلا ، ونحكى عن فترة كان المتحكم فيها فى الخلافة العباسية القائد التركى موسى بن بغا المشهور بعسفه وظلمه ، القاضى الذى حكم بالحق ولم يرهب موسى بن بغا الذى كان يرعب بنى العباس هو القاضى احمد بن بديل المتوفى عام 258 .
إذ كانت لموسى بن بغا ضيعة في منطقة الري ، وقد اشترى فيها ضيعة مجاورة، وبقى فى تلك الضيعة سهم ليتيم لا يمكن شراؤه إلا بموافقة القاضي وهو الولي عليه، وكان القاضي حينئذ أحمد بن بديل، فذهب كاتب موسى بن بغا إلى أحمد بن بديل وخاطبه في بيع حصة اليتيم ويأخذ له الثمن فامتنع ابن بديل وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه فيحدث للمال شيء فيضيع عليه، فقال له الكاتب نعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها، فقال: ما هذا لي بعذر في البيع، فظل الكاتب يلح عليه وهو يمتنع، فضجر الكاتب في النهاية وقال للقاضي: أيها القاضي: إنه موسى بن بغا!! فقال له القاضي كلمته المأثورة : أعزك الله .. إنه الله تبارك وتعالى ، فاستحيا الكاتب أن يراجعه بعدها .. ومضى إلى موسى بن بغا فقال له: ما عملت في الضيعة؟ فقص عليه القصة فلما سمع ابن بغا قول القاضي:" إنه الله تبارك وتعالى" بكى ومازال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة: وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح فإن كانت له حاجة فاقضها .
أى قال الكاتب للقاضى يخوّفه بالقائد الظالم ابن بغا (أيها القاضي: إنه موسى بن بغا ) ورد عليه القاضى المؤمن يذكّره بالقاهر الجبار جل وعلا (أعزك الله .. إنه الله تبارك وتعالى ). وحكى الكاتب للقائد المتجبر فلمع فى قلبه بقايا إيمان ورهبة من الله جل وعلا فبكى و استغفر .. ورجع عن ظلمه وقتها ..أى إن كلمة القاضى ابن بديل (إنه الله تبارك وتعالى ) التى قالها بضمير المؤمن الورع أيقظت قلبا غافلا لقائد ظلوم غشوم فى لحظة ايمان صادق.
ولله العزة ولرسوله و للمؤمنين
1 ـ ومن هنا كان القاضى المؤمن يستغل الترهيب فى مواجهة الظالمين من الحكام مستدلا بآيات القرآن الكريم وهو يعلم أن مهما بلغ ظلم المستبد ففى قاع قلبه لا تزال لمحة إيمان بالله جل وعلا و حفظ لبعض آيات القرآن الكريم ، وذلك القاضى حين يستعين بالله جل وعلا و يستغيث به و يستشهد بآياته إنما يجعل ذلك المستبد الظالم الفاجر فى مواجهة مع الله ، ويكون القاضى المؤمن العادل قد كسب مقدما الجولة وانتصر بايمانه على صولجان الظالم وحاشيته من العسكر و( رجال الدين ) المؤيدين للظلم والاستبداد .
وذلك التمسك بالحق و الاعتزاز بالله الواحد القهار العزيز المتعال يعطى القاضى المؤمن ثقة فى نفسه وعزة إيمانية تجعله لا يأبه لما حول المستبد من جند واتباع وكهنوت وزخارف ومواكب.
2 ـ وشاهدنا هنا أيضا هو القاضى أحمد بن بديل.
فقد بعث الخليفة المعتز العباسى إلى القاضي ابن بديل يستدعيه فأبطأ عليه، ثم جاء إلى دار الخليفة ودخل إلى الخليفة وهو يلبس نعليه ـ وهو خلاف البروتوكول في ذلك الوقت ـ وقال له الحاجب : يا شيخ نعليك. فلم يلتفت إليه، ودخل الباب الثاني فقال الحاجب التالي: نعليك يا أيها الشيخ. فلم يرد عليه واجتاز الباب الثالث فقال له الحاجب:نعليك . وكان قد وقف أمام الخليفة فألتفت إلى الحاجب وقال : أبالوادي المقدس فاخلع نعلي ؟ !! فدخل على الخليفة بهيئته فرفع الخليفة مجلسه واحتفى به وقال له: أتعبناك أبا جعفر ؟..فقال له : أتعبتني وزعرتني ، فقال: ما أردنا إلا الخير أردنا أن نسمع العلم .فقال له :وتسمع العلم أيضاً؟ ألا جئتني؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي، قال: يعتب علينا أبا جعفر فقال: خلبتني بحسن أدبك، أكتب ما شئت.. وأسمعه العلم . (المنتظم 12 /137 ـ وفيات 258).
لقد اعتز أحمد بن بديل بعلمه فعرف الخلفاء قدره.. وصدق الله العظيم" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" .
عزة القاضى العادل تغلب سطوة السلطان الجائر
1 ـ وذلك يذكرنا بقاضٍ اعتز بالله تعالى وبما أنعم الله عليه من العلم فوقف موقف صدق فرفع شأن العلم والعلماء في وقت اشتد فيه النفاق والتملق..
إنه قاضي قرطبة المنذر بن سعيد الذي كان يواجه الخليفة الناصر بما لا يمكن أن يتحمله من سواه . ويروى أن ذلك القاضي دخل على الخليفة الناصر في عظمته وهو يجلس فى قبة من ذهب وفضة وقد تجمع حوله المنافقون يحتفلون بافتتاح تلك القبة ، فقام القاضي المنذر بن سعيد خطيباً ، فقرأ قوله تعالى "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون" وواصل كلامه في انتقاد الخليفة الناصر أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس وأسكت المنافقين الحاضرين، واحتمل الخليفة انتقاد القاضي ولم يمسه بسوء لما له من مكانة علمية ومعنوية.
2 ـ ومن الأندلس نعود إلي مصر في سلطنة الملك الكامل الأيوبي حيث كان القاضي ابن عين الدولة في الإسكندرية ملء الأسماع لشجاعته ونبوغه ، وحدث أن الملك الكامل شهد أمام ذلك القاضي في حادثة ، ورأي القاضي ابن عين الدولة أن الملك الكامل لا يصلح للشهادة وليس عدلا ثقة تؤخذ شهادته .
وكان علي القاضى ابن عين الدولة أن يردّ ويرفض شهادة السلطان الكامل الأيوبى علنا في مجلس القضاة ، ولم يتردد القاضي الشجاع في ذلك ، فقال في لباقة للسلطان: ( إن السلطان يأمر ولا يشهد ) ، وفهم الملك الكامل أن القاضي لا يقبل شهادته فواجهه مهددا :" أنا أشهد في القضية ..أتقبل شهادتي أم لا " ولم يتردد القاضي الشجاع في إعلان رأيه في السلطان بصراحة فقال له أمام الملأ: ( لا أقبلك وكيف أقبلك والمغنية عجيبة تطلع عليك بموسيقاها كل ليلة وتنزل ثاني يوم وهي تتمايل سكري ) ، وأخذت السلطان العزة بالإثم فشتم القاضي بالفارسية ، فقال القاضي للحاضرين اشهدوا أني عزلت نفسي عن القضاء ، وترك المجلس وخرج غاضبا ، وأوصي المستشارون السلطان الكامل بأن يعتذر للقاضي حيث لا يشيع الأمر وتصل أخبار السلطان مع المغنية عجيبة إلي بغداد وتكون فضيحة ، واضطر السلطان للاعتذار للقاضي الشجاع حتى رضي أن يعود لمنصبه .
يتولى القضاء لانتزاع العدل من بين أنياب الظم
1 ـ ومنهم من كان يتولى القضاء لانتزاع العدل من بين أنياب الظم ، ولا بد لهذه النوعية الراقية من القضاة أن تتصف بالعفة والزهد فى الدنيا ومناصبها لأن شغلها الشاغل هو فعل الخيرات والأمر بالمعروف و النهى عن المنكر ، وإقامة العدل ومنع الظلم أولى ملامح إقامة المر بالمعروف و النهى عن المنكر ، كما أنها مهمة القاضى المنصف.
2 ـ وقد كان نصر بن زياد بن نهيك (ت236) أحد أولئك القضاة العظام .
تولى قضاء نيسابور بضع عشرة سنة، وكان محمود السيرة عند السلطان والرعية، وكانت الرسائل والمكاتبات متواترة بينه وبين الخليفة المأمون.
وكان شرط ذلك القاضي على ولي الأمر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان لا يرضى من العمال حتى يؤدوا حقوق الناس إليهم، وكان يقوم الليل ويصوم الاثنين والخميس والجمعة، فدخل عليه أحمد بن حرب يوماً يعظه ونصحه بأن يستعفى من القضاء فقال له نصر: يا أبا عبد الله ما يحملني على ما أنا فيه إلا نصرة الملهوفين والقدرة على الانتصار للمظلومين من الظالمين، ولعل الله عز وجل قد عرف لي ذلك.
وكان بعضهم ـ تحرياً للورع ـ يرفض تولى القضاء لأنه يعتبر عمله قاضياً مشاركة للدولة في أعمالها التي لا يوافق عليها، ولكن نصر بن زياد جاء بمفهوم جديد أكثر إيجابية هو أن ينهض بوظيفة القضاء ليقيم من خلالها العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذلك يؤثر في مجتمعه بالخير ولا يكتفي بالعزلة والزهد.
وذكر المؤرخون أن رجلاً قدم شكوى إلى عبد الله بن طاهر القائد العباسى المشهور فى وقته ، فقال له: من خصمك ؟ فقال الرجل: أنت أيها الأمير أصلحك الله . فقال: ما الذي تدعي علىّ ؟ وقال:ضيعة لي في هراة غصبها والد الأمير وهي اليوم في يده. قال: ألك بينة؟ قال: إنما تقام البينة أمام القاضي .
فاستدعى الأمير عبد الله بن طاهر القاضي نصر بن زياد إليه وقال الأمير للرجل: أدع: فأدعي الرجل حجته مرة بعد مرة، والقاضي لا يلتفت إليه ولم يسمع دعواه، ففهم الأمير أنه قد امتنع من نظر الدعوة حتى يجلس الأمير مع الرجل أمامه في مجلس الحكم متساويين، وقام الأمير من مجلسه وجلس بجانب الرجل،وعندئذ قال القاضي للرجل: أدعى ،فقال : أيد الله القاضي أن ضيعة لي بهراة وذكرها بحدودها وحقوقها هي لي في يد الأمير، فقال له الأمير عبد الله بن طاهر : أيها الرجل قد غيرت الدعوى إنما دعيت أولاً على أبى، فقال له الرجل: لم أرد أن أفضح والد الأمير في مجلس الحكم أمام القاضي وأقول والد الأمير غصبني ضيعتي وإنها اليوم في يد الأمير. فسأل نصر بن زياد الأمير عن دعواه فأنكر فالتفت إلى الرجل وقال : ألك بينة ؟ قال: لا.. قال فما الذي تريد؟ قال: يمين الأمير بالله الذي لا إله إلا هو ، فقام الأمير إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة برد الضيعة عليه. (المنتظم 11 /246 ـ )
3 ـ ومثله جميل بن كريب المعافري (المنتظم 8 / 23 وفيات 139 )
من أهل إفريقية. وكان من أهل العلم والدين. وسأله الأميرعبد الرحمن بن حبيب الفهري تولية القضاء فامتنع وتمارض وشرب ماء التبن حتى اصفر لونه فبعث إليه عبد الرحمن فقال له: إنما أردت أن تكون عونًا على الأمر وأقلدك أمر المسلمين فتحكم علي وعلى من دوني بما تراه من الحق فاتق الله في الناس. فقال له جميل: آلله إنك لتفعل فقال: آلله... فقبل.
فما مر إلا أيام حتى أتاه رجل يدعي على عبد الرحمن بن حبيب دعوى فمضى معه إلى باب دار الإمارة فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكاني وأن هذا يدعي عليه بدعوى. فدخل فأعلمه. وكان عبد الرحمن من أغنى من ولي إفريقية، ولكنه إحتراما للقاضى لبس رداء ونعلين وخرج إليه، فأقعده القاضى جميل مقعد الخصم مع صاحبه ، ثم نظر بينهما فأنصفه عبد الرحمن. وكان جميل يركب حمارًا ورسنه ليف وقعد فأراد أحدهما أن يمسك رأس الحمار فمنعه وأمسكه هو ثم ركب.
مشاكل القضاة مع الخلفاء المستبدين
1 ـ ومن الطبيعى أن يقع بعضهم مع الخلفاء المستبدين ، كانوا يقعون فى مشاكل مع الدولة العباسية وولاتها وخلفائها، ترى ذلك فى سيرة القضاة: وعبد الرحمن بن زياد ت 156 هـ وشريك النخعى ت 177، وسلمة بن صالح ت 180، وعبد الله بن ظبيان 19 هـ، وأسد بن عمرو ت 190 .
وقد عرضنا من قبل للقاضة شريك النخعى فى مقال مستقل . ونتوقف مع أمثلة أخرى .
2 ـ كان ابن زياد (عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أبو خالد الأفريقي)أول مولود ولد بإفريقية في الإسلام . وكانت له صحبة بابى جعفر المنصور فى شبابهما قبل أن يصير الأمر للعباسيين .وكان ابن زياد قد ولي القضاء فى شمال أفريقيا لمروان بن محمد آخر خلفاء بنى أموية ، ووفد إلى المنصور في بيعة أهل إفريقية ( شمال افريقيا ) وشكى إليه أن جور الولاة قد ظهر هناك .
تقول الرواية أنه لما قامت دولة بنى العباس تحيي الأمل فى العدل ظهر الجور مناقضا لذلك الحلم ، ولذلك لما قدم أبن زياد بالبيعة عزم أن يكلم الخليفة الجديد ـ صديقه السابق ـ أبا جعفر المنصور ويشكو اليه عمال ببلده ، فأقام ببابه أشهرًا ، ثم دخل عليه فقال: ما أقدمك ؟ قال: ظهر الجور ببلدنا فجئت لأعلمك فإذا الجور يخرج من دارك. فغضب أبو جعفر، وهمّ به يعاقبه ، ثم أمر بإخراجه .
وهناك رواية اخرى تقول عن بطل القصة :قال : أرسل أبو جعفر إلي: فقدمت عليه فدخلت والربيع ( وزير الخليفة ) قائم على رأسه ، فاستدناني ، ثم قال: يا عبد الرحمن كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا ؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت أعمالًا سيئة وظلمًا فاشيًا ظننته أبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان أعظم للأمر . فنكس رأسه طويلًا ثم رفعه إلي ، فقال: كيف لي بالرجال ؟ قلت: أفليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فإن كان برًا أتوه ببرهم وإن كان فاجرًا أتوه بفجورهم . .. فأطرق طويلًا فقال: لي الربيع وأومأ إلي أن أخرج ، فخرجت ، ولم أعد إليه .( المنتظم 8 / 190 وفيات 156 ).
قضاة عدول ضد العصر عندما فسد وضاعت القيم
1 ـ وبعض القضاة شهد فساد الزمان وتغير أخلاق الناس فآثر الاعتزال لأنه أصبح غريبا عن العصر وانحطاطه ، وركونه الى الظلم .
2 ـ وقد أدرك بعضهم مبكرا ذلك التغير فى اخلاق الناس فآثر مبكرا الاعتزال ، وهو القاضى عافية بن يزيد بن قيس . كان عافية من رفاق ابى حنيفة متمتعا بثقة أبى حنيفة فى علمه.
ولاه المهدي القضاء ببغداد في الجانب الشرقي . وهناك رواية تقول إن القاضى عافية طلب من المهدى أن يعفيه من القضاء ، وحكى السبب للخليفة فقال : كان يتقدم إلي خصمان موسران وجيهان منذ شهرين في قضية معضلة مشكلة ، وكل يدعى بينة وشهودًا ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت ، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا أو يتبين لي وجه فصل ما بينهما . فوقف أحدهما من خبري على أني أحب الرطب السكر فعمد في وقتنا وهو أول أوقات الرطب إلى أن جمع لي رطبًا سكرًا لا يتهيأ في وقتنا جمع مثله إلا لأمير المؤمنين وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي جملة دراهم على أن يدخل الطبق إلي ولا يبالىِ أن يرد ، فلما دخل إلي أنكرت ذلك وطردت بوابي وأمرت برد الطبق ، فلما كان اليوم تقدم إلي مع خصمه فما تساويا في قلبي ولا في عيني، وهذا يا أمير المؤمنين ولم أقبل، فكيف يكون حالي لو قبلت؟! ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني فأهلك وقد فسد الناس . فأقلني أقالك الله وأعفني ".
الشاهد هنا قوله ( وقد فسد الناس ) . فهذا القاضى العادل يفاجأ بأحد الخصمين يبعث له برشوة يسيرة وهو يعلم ان القاضى سيرفضها ، وذلك الخصم يعلم أيضا أن تلك الهدية أو الرشوة التى يحبها القاضى ( البلح الرطب ) ستترك أثرها فى نفس القاضى حتى لو لم يأخذها ، ولهذا بعث له بطبق الرطب السكرى ، فأثمر مرأى الرطب ( حلاوة ) فى قلب القاضى ، فأنكرها ، ووجد نفسه تميل نحو صاحب الهدية المرفوضة ، ولهذا السبب آثر القاضىى الاعتزال . ليس فقط لأن الناس فسدت أخلاقها و بدأت ترشو القضاة ولكن أيضا لأن نفس القاضى بدأت تتأثر ، ولأنه يخشى الله جل وعلا فقد آثر السلامة و طلب الاستعفاء.
على أن هناك رواية أخرى تجعل نفس الشخص ( عافية بن يزيد بن قيس ) قاضيا فى خلافة الرشيد . يحكى أحدهم قال: كنت عند الرشيد يومًا فرفع إليه في قاض يقال له: عافية ، فكبر عليه فأمر بإحضاره فاحضر، وكان في المجلس جمع كبير فجعل أمير المؤمنين يخاطبه ويوقفه على ما رفع إليه وطال المجلس ، ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته مَن كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فإنه لم يشمته ، فقال له الرشيد: ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم فقال له عافية لأنك يا أمير المؤمنين لم تحمد الله فلذلك لم أشمتك .. فقال له الرشيد: ارجع إلى عملك فأنت لم تسامح في عطسة تسامح في غيرها، وصرفه منصرفًا جميلًا ، وزبر( أى أغلظ فى القول ) القوم الذين كانوا رفعوا عليه ." .(المنتظم 9 / 51 ـ وفيات 180). هنا أيضا نجد الفساد فى الناس ، إذ يتوسطون لعزل قاض عادل .
4 ـ وبعضهم إعتزل لأنه راى نفسه لم يعد يصلح للقضاء لسبب لا دخل له فيه ، مثل صاحب ابى حنيفة وهو أسد بن عمرو بن عامر أبو المنذر البجلي الكوفي . كان قد ولي القضاء ببغداد وبواسط ، فأنكر من بصره شيئًا فرد القَمْطر واعتزل عن القضاء .(المنتظم 9 / 184 ـ وفيات 190)
القاضى العادل و المستبد ( العادل )
1 ـ هنا نرى موقفا محمودا لهارون الرشيد ، حيث نصر القاضى العادل على الناس الذين فسدت ضمائرهم ، فهل يعنى هذا أنه طالما يوجد قاض عادل فمن الممكن وجود مستبد عادل ؟
2 ـ نرى الاجابة فى سيرة القاضى سلمة بن صالح (أبو إسحاق الجعفي الأحمر الكوفي )،وكان قد ولي القضاء بواسط في العراق زمن الرشيد ثم عزله الرشيد وقدم بغداد فأقام بها إلى أن مات .
وكان سبب عزله عن واسط تبدل اخلاق الناس وسيادة النفوذ محل العدل ، وكان الخليفة يميل مع مصلحته وليس مع العدل وذلك القاضى العادل . ذلك أن هشيما بن بشيرأحد كبار رجال العشائر فى العراق كان فى خصومة أمام ذلك القاضى ، فكلّم الخصم هشيمًا بكلمة ، فرفع هشيم يده فلطم الخصم أمام القاضى ، فأمر القاضى سلمة بن صالح بهشيم بن بشير فضرب عشر درر وقال: تتعدى على خصمك بحضرتي؟ فأغضب ذلك مشيخة واسط وهم عشيرة هشيم ، فخرجوا إلى الرشيد فلقوه بمكة يطوف فكلموه في سلمة وقالوا: لسنا نطعن عليه ولكن رجل موضع رجل، فأمر بعزله ، وتقليد سواه . (المنتظم 9 / 49 وفيات 180).
نحن هنا أمام أناس يسعون فى عزل قاض عادل تعصبا لقريب لهم ظالم .
وكان ممكنا أن يشترى القاضى سلمة سكوتهم ويتجنب نفوذهم بغض الطرف عما فعله كبيرهم هشيم ، ولكن القاضى العادل لا يخشى إلاّ الله جل وعلا ، ولهذا عزله الخليفة. فالخليفة حريص على إرضاء ذوى النفوذ ليستمر سلطانه القائم على الظلم . فالخليفة المستبد (العادل ) ـ على فرض وجود هذا الصنف من البشر ـ يأخذ جانب العدل طالما لا يؤثر على سلطانه وتفرده بالملك والثروة و السلطة ، ولو حدث مع العدل أى مساس بالسلطة و السلطان فليذهب العدل الى ...وليذهب القاضى العادل الى بيته.
واختلف حال الرشيد فى موقف آخر ،لأن بطل القصة هنا لا يمثل خطرا على سلطان الرشيد ، وبالتالى لن يقف معه وهو ظالم ، بل مصلحة الخليفة أن يؤيد القاضى العادل ضد ذلك الظالم حتى لو كان عمه .
هنا ندخل على سيرة القاضى عمر بن حبيب العدوى البصرى، وكان قد قدم بغداد وولي بها قضاء الشرقية وولي قضاء البصرة أيضًا . تحكى الرواية أن عمر بن حبيب كان على قضاء الرصافة لهارون الرشيد ( فاستعدى إليه رجل على عبد الصمد بن علي فأعداه عليه فأبى عبد الصمد أن يحضر مجلس الحكم) أى إن رجلا غير معروف الاسم شكى للقاضى من عبد الصمد بن على عم الخليفة الرشيد ، فطلب القاضى حضور المشكو فى حقه فأبى الحضور لمجلس القضاء. ( فختم عمر بن حبيب قمطره وقعد في بيته فرفع ذلك إلى هارون فأرسل إليه فقال: ما منعك أن تجلس للقضاء فقال: أعدي على رجل فلم يحضر مجلسي . قال: ومن هو قال: عبد الصمد بن علي . فقال هارون: والله لا يأتي مجلسك إلا حافيًا ) أى بلغ هارون الرشيد أن القاضى أقفل القمطر الذى يحوى ورق القضايا و اعتزل مجلس الحكم ، وحقق معه الخليفة فعرف أن السبب هو رفض عبد الصمد حضور المجلس ، هنا أقسم هارون الرشيد أن يحضر عمه مجلس الحكم حافيا . ( وكان عبد الصمد شيخًا كبيرًا .. فبسطت له اللبود من باب قصره إلى مسجد الرصافة فجعل يمشي ويقول: أتعبني أمير المؤمنين أتعبني أمير المؤمنين . فلما صار إلى مجلس عمر بن حبيب أراد أن يساويه في المجلس فصاح به عمر وقال: اجلس مع خصمك . قال: فتوجه الحكم على عبد الصمد فحكم عليه وسجل به) أى رفض عم الخليفة أن يجلس بجانب خصمه فألزمه القاضى بالجلوس الى جانبه ، وبعد أن حكم القاضى للخصم على عم الخليفة استهزأ عم الخليفة بالقاضى وحكمه وقال ( لقد حكمت عليَّ بحكم لا يجاوز شحمة أذنك ) فقال له عمر:(أما إني قد طوقتك بطوق لا يفكه عنك الحدادون . قم ). (المنتظم 10 / 162 ـ وفيات 207 )
وفى العصر المملوكى صار الفساد أفظع ولكن القضاة العدول لم ينقطع وجودهم:
1 ـ والمقريزي مؤرخ درس تاريخ السابقين وعرف تاريخ الفضلاء من أهل العلم وكيف حافظوا على كرامتهم أمام السلاطين ولا ريب أنه كان يتمثل ذلك التاريخ الناصع لهم ويقارنه بحال الأشياخ فى عصره فيأسف ويغضب على زمنه ..
2 ـ وبعض الفضلاء من العلماء عاش حتى شهد أوائل ذلك التحول الخطير فكان يتبرم به ويحاول ما أمكنه الأنعزال عنه والنجاة بنفسه منه ، ونعنى بذلك قاضى القضاة برهان الدين ابن جماعة .. ففي الوقت الذي بدأ فيه الشراكسة فى التحكم فى سلطنة ذرية بنى قلاوون استقال ابن جماعة من القضاء ، يقول المقريزي في حوادث شعبان سنه 779 : " عزل ابن جماعة نفسه عن القضاء وخرج إلى تربة كوكاي ليعود إلى القدس بعد أن أنجمع – أي اعتكف – عن أهل الدولة وترك حضور الخدمة السلطانية بالإيوان فى يومي الاثنين والخميس مع الأمراء – أي الشراكسة – تورعا وأحتياطا لدينه لما دهم الناس من تغير الأحوال وحدوث ما لم يعهد وتهاون القائمون بالدولة بالأمور الدينية ".
وأعيد ابن جماعة للقضاء ، وحدث فى مناسبة قراءة البخارى او ( ميعاد البخارى ) فى القلعة فى شهر رمضان 783هـ أن تطاول شخص اسمه ابن نهار على الشيخ ابن جماعة وأتهمه بالظلم في الحكم ، فرجع ابن جماعة إلى الأمير الكبير برقوق – قبل أن يتولى السلطنة – وترك ابن نهار يحكي القصة ويسبه أمام برقوق لينظر كيف يتصرف برقوق ، وكان برقوق مشغول الفكر فلم ينتبه ، فما كان من ابن جماعة إلا أن أعلن عزل نفسه عن القضاء وتوجه كعادته إلى تربة كوكاي ليسافر منها للقدس ، وأفاق برقوق وأسرع فأحضر القضاة والفقهاء، فحكم الشيخ البلقينى بتعزيز ابن نهار فضربه والى القاهرة وجرسه فى الشوارع .
وبعث برقوق يسترضي ابن جماعة فلم يرض فراجعه ثانيا فلم يرض فبعث إليه الأمير قطلوبغا والأمير فخر الدين صرغتمش فلم يزالا به حتى أخذاه وجاءا به إلى الأمير الكبير برقوق فلما شاهده هب واقفا إلى لقاءه وأعتذر إليه فقال له ابن جماعة : أعدائي كثير وما آمنهم وما لي ولهذا الأمر ؟ فقال له برقوق كل من تعرض لك ولو بكلمة سوء ضربته بالمقارع، ثم ألبسه التشريفة وكرّمه..
كان ابن جماعة يحس بأنه أصبح غريبا فى ذلك العصر ، ولقد مات قبل أن يشهد التحول الكبير الذى أحدثه برقوق بعد أن تمكن من السلطة ونشر الرشوة والفواحش وقرب إليه الأسافل ، وسار من جاء بعده على نفس طريقه.
وجدير بالذكر أن برقوق حين بدأ مؤامرته الكبرى ضد السلطان على بن الأشرف شعبان ليعزله عن السلطنة ويتولى مكانه فإنه خشي من ابن جماعة فأثاره ودفعه للأستقاله ، وبذلك خلا الجو لبرقوق فتسلطن وتحكم ..
والمقريزي وهو يشهد ما آل إليه حال الفقهاء فى عصره كان يحتفل بتاريخ القضاة الأفاضل حين يحكي عن مواقفهم فى العصور السابقة كأنما يعتب على أقرانه فى القرن التاسع ما فعلوه بأنفسهم وبالعلم الذي ينتمون إليه.
يذكر المقريزي فى تاريخه أن الأمير منكوتمر صاحب النفوذ فى سلطنة المنصور لاجين بعث سنه 697 يستفتي الشيخ ابن دقيق العيد فى تاجر مات ولم يترك إلا أخا وأراد الأمير أن يفتي ابن دقيق العيد بأستحقاق ذلك الأخ للتركة بمجرد أن يخبر الأمير أنه أخ لذلك التاجر ودون أن يتحرى القاضي الأمر . ولم يوافق القاضي إلا بعد أن يتحرى بنفسه ، وأرسل إليه الأمير الرسل والقاضي يرفض ، فشعر الأمير بالحرج وبعث إليه بالأمير كرت الحاجب ، فلم يأبه له ابن دقيق العيد ، وظل الأمير الحاجب يتلطف بالقاضي ليثبت أن ذلك الرجل أخ للتاجر المتوفى فقال له ابن دقيق : وما الذي يجعلني متأكدا من عدالة الأمير منكوتمر؟ فقال له الحاجب :أليس الأمير عندكم عدلا تأخذون بشهادته ؟ فقال القاضي سبحان الله ! ، ثم أنشد :
يقولون هذا عندنا غير جائز
ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟
ثم قال : طالما لم تقم عندي بينه شرعية فلن احكم له بشىء باسم الله ..
فقام الأمير كرت وهو يقول : والله هذا هو الإسلام ..
وعاد إلى الأمير منكوتمر ونصحه بأن يجتمع بالقاضي بنفسه ، وفى يوم الخدمة السلطانية حيث يجتمع القضاة فى القلعة جاء الأمراء إلى القاضي يقولون له : يا سيدى الأمير ولدك منكوتمر يريد الاجتماع بك لخدمتك ، فلم يلتفت إلى أحد منهم، فلما ألحوا عليه قال : قولوا له ما وجبت طاعتك على ، فإني قد عزلت نفسى ، وأشهد القضاة على ذلك وعاد إلى داره وبعث إلى نوابه ونقبائه يمنعهم من الحكم بين الناس .
فلما بلغ السلطان المنصور لاجين غضب على الأمير منكوتمر وبعث للقاضي يعتذر إليه ويستدعيه فأبى ورفض المجيء، فأرسل إليه اثنين من أصدقائه ظلا يرجوانه حتى حضر ، واستقبله السلطان وأعتذر إليه ومازال يرجوه حتى عاد للقضاء !!
فقال له القاضي كلمته المأثورة : أعزك الله .. إنه الله تبارك وتعالى ، فاستحيا الكاتب أن يراجعه بعدها .. ومضى إلى موسى بن بغا فقال له: ما عملت في الضيعة؟ فقص عليه القصة فلما سمع ابن بغا قول القاضي:" إنه الله تبارك وتعالى" بكى ومازال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة: وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح فإن كانت له حاجة فاقضها .
أحمد بن بديل وقيمة التذكير بآيات الله يقول تعالى " {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }الفرقان73 إذ أن القاضي نجح في التأثير على الكاتب والقائد المتحكم في الخلافة العباسية بآية قرآنية خرجت من القلب ووصلت كذلك إلى القلب، وكان وقعها قوي إذ بكى القائد المتحكم في الخلافة وسكت كاتبه عن الكلام كذلك !! وصدق الله تعالي : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }الأنبياء18
كم مرة في اليوم ينسى أحدنا هذه الجملة؟؟
و لو كانت دائما نصب عينيه لما وقع في الإثم
كل عام و أنتم بخير و كل الأخوات و الأخوة بخبر
و أحبائنا في الإنسانية و أخوتنا في التوحيد أتباع المسيح بخير (ارجو أن يتقبلوا تهانينا بمناسبة عيد الميلاد المجيد)
و كل الشرفاء و المؤمنين في هذا الكون بخير و أخص (الشعب الأالماني والشعب المصري و الشعب الفاسطيني)
والسلام عليكم
هذا هو الفارق بين الواعظ الحقيقى الذى استطاع بضمير المؤمن الورع أن ييقظ قلبا غافلا لقائد ظلوم غشوم فى لحظة ايمان صادق ـ مثلما حدث مع القاضى أحمد بن بديل والقائد الظالم موسى بن بغا ـ وبين شيخ جاهل ينشىء الشك فى قلب مستمعيه مثلما حدث مع الدكتور مصطفى محمود وشيخ جامع عز الرجال والتى ذكرها فى مذكراته ونقطتطف منها هذا الجزء
( فمثلا الجميع يعرف قصة مرحلة الشك وكيف عبرت منها من الشك إلى اليقين، ولكن الذى لا يعلمه أحد أن إمام مسجد هو من زرع بداخلى بذرة الشك الأولى فى العقيدة، وفى كل ما يحيط بى خصوصا المسلمات (أى الأمور الفطرية التى يتعامل معها الإنسان كأنها أمور طبيعية مثل ما يتلقاه الابن من والديه فى طفولته وهكذا)، عندما تعامل معنا بجهل وكأنه يتعامل مع (شوية فراخ) دون أن يعلم أننى سأكون له بالمرصاد،...................................إلخ)
فهذا هو الفارق الواضح والصريح لشيوخ الجهل والضلال ،وشيوخ الإيمان الحقيقى ، فمن يستطيع أن يصل بمستمعيه مثلما فعل أحمد بن بدبل فليفعل ومن لا يستطيع فليصمت للأبد .ومن المفرح أن الدكتور مصطفى محمود بعد دراسته من البداية لكل العقائد وصل فى نهاية المطاف إلى أن القرآن وحده هو الحق .
" يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله هوأعز علي منك ..خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فيذهب ببعض حقهم."
نفتقد لمثل هؤلاء القضاة العدول الذى يؤثرون العدل على ابنائهم ونحن نرى هذه الأيام السوداء كم من ولاة الأمور يطلقون أيدى ابنائهم فى كل ما يملكون وما لا يملكون أيضا بلا رأفة ولا رحمة ولا رقيب ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ؟ بالطبع لا .
قرأنا كثيرا عن ظلم وجبروت عبد الله بن يوسف الثقفى فكيف كان يتعامل مع القضاة فى عصره وهل كان يسمح بوجود مثل هؤلاء القضاة العادلون ؟ وهو القائل " إننى أرى رؤسا قد اينعت وحان قطافها "
شكرا أحبتى وكل عام وانتم بخير.
كنت أهتز من التأثر وتكاد الدموع تغلبنى و أنا أنقل واكتب كلمة القاضى ابن بديل ( إنه الله ..!) وأيضا حين كتبت مقالة الأمير المملوكى كرت ( هذا والله هو الاسلام )
حرصى على ابراز تلك النواحى الايجابية النادرة و القليلة بين ملايين السطور فى التراث وتعبى فى جمعها ليس لمجرد التوازن بين قضاء السوء وقضاة العدل ولكن لاثبات أن تعاليم الاسلام ممكنة التطبيق لو وجدت رجالا يؤمنون بالله جل وعلا ويتقونه حق تقاته.
ليس القصور فى أوامر الاسلام ـ حاش لله جل وعلا ـ ولكن القصور و العصيان منا نحن المسلمين ، ثم تأتى الطامة الكبرى حين نضع على الاسلام سيئاتنا وخيباتنا و تهالكنا و شرورنا فيصبح الاسلام ـ بدلا منا ـ متهما بالظلم و العدوان .
رغم بساطة التعبير إلا أنه من الممكن أن يؤني أكله في كل وقت وفي مواجهة كل ظالم ، أهم شيئ أن يكون قائله على إيمان حقيقي بها ، بإن الله وحده لا شريك له هو الولي (المدافع ) .. وأن يكون القول مباشر بلا لف ولا دوران ..
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5130 |
اجمالي القراءات | : | 57,290,356 |
تعليقات له | : | 5,458 |
تعليقات عليه | : | 14,839 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
أسئلة عن : ( بوتين سيقتل بشار ، سوريا وثقافة الاستبداد والاستعباد )
الغزالى حُجّة الشيطان ( الكتاب كاملا )
خاتمة كتاب ( الغزالى حُجّة الشيطان فى كتابه إحياء علوم الدين )
دعوة للتبرع
عدنا بحمد الله تعالى: لماذا لم تنشر من 19 - 3 - 20118 لحد الان ارجو ان تكون...
العربية ليست الأقدم : هل اللغة العرب ية لغة آدم وهل هى أقدم لغات...
صوم الحامل: أنا حامل في شهري الأول وأعان ي من إنخفا ض ...
الخــــــــوارج: أريد كتابة بحث عن الخوا رج فى القرن الأول...
Islam for all: - How could this form of Islam be conveyed to the common people?...
more
فقال له القاضي كلمته المأثورة : أعزك الله .. إنه الله تبارك وتعالى ، فاستحيا الكاتب أن يراجعه بعدها .. ومضى إلى موسى بن بغا فقال له: ما عملت في الضيعة؟ فقص عليه القصة فلما سمع ابن بغا قول القاضي:" إنه الله تبارك وتعالى" بكى ومازال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة: وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح فإن كانت له حاجة فاقضها .
أحمد بن بديل وقيمة التذكير بآيات الله يقول تعالى " {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }الفرقان73 إذ أن القاضي نجح في التأثير على الكاتب والقائد المتحكم في الخلافة العباسية بآية قرآنية خرجت من القلب ووصلت كذلك إلى القلب، وكان وقعها قوي إذ بكى القائد المتحكم في الخلافة وسكت كاتبه عن الكلام كذلك !! وصدق الله تعالي : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }الأنبياء18