نهاية نظام ما بعد الحرب الباردة
بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط برلين انقسم التحالف إلى فريقين يتصارعان على النفوذ في العالم الجديد، هذا العالم الذي شهد اختفاء بريطانيا وفرنسا لأول مرة منذ قرون كقوى عظمى، وباتا في وضعٍ جديد يقومان فيه بدور التبعية لأحد الفريقين الجديدين الأمريكي والسوفيتي، أو بمعنى آخر الشيوعي والليبرالي...هذه المرحلة أطلق عليها.."الحرب الباردة"..أو .."الحرب بالوكالة"..
كان أول اختبار لهذه المرحلة هي الحرب الكورية بين عامي 50 و53 وكان اختبارا عنيفا للمعسكرين أدى لتقسيم كوريا لدولتين شيوعية في الشمال وليبرالية في الجنوب..ثم حروب فيتنام وأفغانستان، وصراعات سياسية وفكرية عديدة في شتى بقاع العالم..أدت في الأخير لهزيمة الفريق الشيوعي أوائل التسعينات وقطبه الأعظم الاتحاد السوفيتي وتفككه، ثم انهيار حلف وارسو وسقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية..
أما نظام ما بعد الحرب الباردة فهو الذي بدأ فور هذه الأحداث السابقة مباشرة وتميز.."بالقطبية"..أو.."القطب الأوحد"..ويعني سيادة قطب واحد على العالم وهو الفريق الليبرالي المنتصر وزعيمه الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن أفضل حالا من نظام الحرب الباردة حيث شاعت فيه الحروب بدعم هذا القطب وتشجيعه للأصولية الدينية الإسلامية، لذلك شاع أن من معالم هذا النظام شيوع التطرف الديني وانتشار الحروب المذهبية خصوصا في الشرق الأوسط..
الآن وبعد 25 عاما من هذا النظام-ما بعد الحرب الباردة-نشهد اضطرابات غير مسبوقة وتحولا عالميا في الأحداث والوقائع..أنتجت في الأخير نظام ثنائي الأقطاب أشبه بنظام الحرب الباردة شكليا لكن مختلف عنه في المضمون، وقد شمل التحول قواعد ومعايير أثرت على الأفكار..ولم تعد الليبرالية كقطب أوحد بعد صعود اليسار مرة أخرى في عدة دول، لكن لم يصل لمنصة الحكم بعد كي ينافس ويعيد نظام الحرب الباردة في الصورة.
نعم هو نظام مختلف عن نظام الحرب الباردة..فالفريق الشيوعي قديما كان لديه حلف عسكري ورؤية اقتصادية مستقلة عن الفريق الليبرالي، وكان يتضمن بعض الدول قبل تفككها كيوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا واليمن..أما الآن فالرؤية الاقتصادية مختلفة جذريا عن الرؤية الشيوعية، وشاع اقتصاد السوق والانفتاح المالي الذي جعل من بنوك الصين ونظامها المالي يؤثر بالسلب والإيجاب في كافة دول العالم، أما الرؤية العسكرية فلا يوجد الآن حلف عسكري حقيقي سوى حلف الناتو كقوة وحيدة باقية من زمن الحرب الباردة..لكن يبقى شبه معطل لم يمارس دوره المفترض في تعزيز فريقه الليبرالي وتقوقع على نفسه بشكل كبير..
معالم النظام الجديد هي صراع بين روسيا من جهة، وأمريكا والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، شمل هذا الصراع عدة مناطق في جورجيا ثم في أوكرانيا وأخيرا في سوريا، وفي كل مرة تنتصر الإرادة الروسية حتى وصلت الآن إلى أوج عظمتها في إدارة الملف السوري..
أي أن مدلول هذه المعالم هو مجرد صراع سياسي لم تتضح آثاره بعد .. سوى بروز روسيا كقوة عسكرية وسياسية..وكذلك الصين كقوة اقتصادية، أي أننا في المجمل في مرحلة تحول لم تصل لشكلها النهائي بعد..ولكن بعدة فرضيات يمكن استخلاص شكل النموذج العالمي القادم
الفرضية الأولى: تأثير الاقتصاد على الجميع بحيث ينتهي في الأخير إلى قبول بمبدأ.."البراجماتية النفعية"..أي أننا في خضم صناعة عالم براجماتي بحت..وقد ظهرت معالمه في تراجع أمريكا أمام روسيا في عدة ملفات خصوصا في أوكرانيا وسوريا، وتراجع روسيا في عدة ملفات خصوصا في اليمن حليفتها السابقة ضد أمريكا، وتضررها من انخفاض سعر النفط الذي خططت له أمريكا بمهارة عن طريق السعودية لتشكيل ضغط يوقف الدب الروسي ولو مؤقتا..
الفرضية الثانية: التأثير الديني في تشكيل تحالفات المستقبل، بحيث ينتهي إلى وجود فريقين على أسس براجماتية-طبقا للفرضية الأولى- وقد ينتج في الأخير صراعا سياسيا ذو ملامح دينية، وقد ظهرت معالمه في حروب العراق وسوريا واليمن، وفي تقديري أن تحالفات المستقبل ستضم إسرائيل لأحد الأطراف باعتبار وحدة الهدف بالقضاء على النفوذ الإيراني، أي يمكن أن نرى –بهذه الفرضية-تحالفا خليجيا إسرائيليا ضد إيران وحلفائها، وقد تنضم مصر للتحالف الخليجي الإسرائيلي الذي يعتبر كثير من المحللين تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية هو جزء من خطة تشكيل هذا التحالف..باعتبار أن دخول إسرائيل للحلف الخليجي المصري يلزمه أولا ضم السعودية لاتفاقية كامب ديفيد وقد حدث بتسليم الجزر..
الفرضية الثالثة: تأثير النفط على الدول المنتجة سلبيا، بحيث أن انخفاض أسعاره قد يؤدي إلى هدم وتفكك دول قائمة على أسس استبدادية..وهي نظم الخليج تحديدا..وأنظمة إيران وفنزويلا بالإمكان..وقد جعل هذا الانخفاض أمريكا في موضع الاتهام عن حدوثه، لكن عالم ما بعد الحداثة غالبا لا يخدم صحة هذا الاتهام بحيث أن أمريكا ستتضرر من فقد حلفائها في الخليج وفي تقديري أن سعي أمريكا لهدم دول الخليج غير منطقي..لذلك لا يمكن اعتبار القصد في حدوث هذه الفرضية..فربما هي نتيجة تفاعلات وضعت الجميع على المحك بمن فيهم أمريكا..
ثلاثة فرضيات تصنع نظام المستقبل الذي تدور رحي صراعاته الآن بكثافة، وفي تقديري أن الجانبين الاقتصادي والديني سيكونان لهما الحصة الكبرى في هوية هذا النظام..وربما ينتج في الأخير .."حالة فوضوية "..كما تنبأ بها الكاتب الاسترالي .."هيدلي بول"..في كتابه .."المجتمع الفوضوي"..وتعني أن صراعا سيحدث بين.."النظام واللانظام"..هو الذي سيحدد هوية عالم المستقبل
وبعد ثورات "الربيع العربي" يمكن القول مجازا أن جزء كبير من رؤية هيدلي بول قد تحقق، لكن لم تتوسع بعد لتشمل مناطق أخرى غير الشرق الأوسط ، فالصراع الحالي بالفعل هو صراع بين قوى مختلفة تقوم فئة بدعم النظام وحمايته وأخرى بهدم هذا النظام وتفكيكه، أو يحدث تبادل أدوار..بحيث من يدعم النظام يريده في النهاية.."براجماتي ديمقراطي"..وبالتالي لا مكان للنظم الاستبدادية في عالم المستقبل..وهذا ما يجعل النظم العربية الحالية موضع التهديد
اجمالي القراءات
6456