وفاة عمر الشريف وهيولي أرسطو
محطات مر عليها الفنان الراحل عمر الشريف الذي افتقدناه أمس ونعاه العالم من شرقه لغربه، ختمها الفنان بعودة أبدية إلى مصر منذ عام بعدما تقدم به السن ولم يعد قادراً على العطاء.
محطات يمر بها أي فنان حينما تنحسر عنه الأضواء يلجأ إلى إما أدوار ثانوية-وهذه فعلها عمر الشريف- أو يلجأ للظهور كضيف شرف في مسلسلات أو برامج وهذه أيضاً فعلها..
لكن ما استوقفني في مشهد وفاة الفنان هي الصورة القديمة له التي انطبعت في أذهان الجماهير، وهي الصورة التي نعوه بها في الإعلام، ولم ينتبهوا أن الرجل مات وحيداً في دار للمسنين في حلوان ، لم يكن معه حتى أولاده، ولم نقرأ عن زيارات أو وفود له من الوسط الفني أو حتى السياسي باعتباره قيمة فنية عالمية.
رأيت أن نعي الجماهير له تجاهل ما أطلق عليه أرسطو.."الهيولي".. ، ولأن العديد لا يعرف ما الهيولي فتعريفه باختصار هو.."الجوهر"..وتم تفسيره على أنه لا متعين وبدون صفة ولا صورة، أي يحتاج الهيولي إلى صفة وصورة كي يتم تعيينه.
ماذا يعني ذلك..
تعالوا نتأمل هذه الأشياء
صورة دكتور زيفاجو والشريف حسين في لورانس العرب ، صورة حسين الخجول في إشاعة حب ، ورجب في صراع في الميناء، وعادل في سيدة القصر...صور عديدة قدمها الفنان الراحل جمعت بينها صفات.."الرقة والوسامة والشجاعة والذكاء والتحدي"..كلها صفات تعطي معنىً أكثر جاذبية عند النساء وأكثر قوة عند الرجال.
لكن هل هذه الصفات كان يتمتع بها الفنان قبل وفاته؟
بالطبع لا..الرجل جاوز الثمانين من عمره وأصيب بمرض الزهايمر، وقبل وفاته بأعوام اشتهر بالعصبية وقلة التركيز، حتى تاريخه -الذي هو رصيده عند الجماهير-لم يعد يتذكره.
هنا الإشكال الذي يفسر معنى الهيولي
بمعنى أن هذه الصورة الشهيرة للفنان هي التي عينت الهيولي في الواقع، لكن هذه الصورة هي مجرد صورة للأصل، أي يحتمل أن يأخذ الأصل صفات وصورة أخرى متعينة..
بمعنى أوضح أن من نعاه الجمهور لم يكن هو عمر الشريف الذي مات، بل هي الصورة القديمة للهيولي، بينما الصورة الجديدة يرفضها من نعاه بدليل أن الرجل مات وحيداً حتى بدون تكريم يليق به من الدولة.
لكن ليس معنى اختلاف الصورة هو اختلاف الهوية، لا..عمر الشريف القديم هو هو من مات في دارس المسنين في حلوان، ووصفنا له بأنه هو.. يعني اعترافنا بالهيولي الذي يمكن أن يتغير الإنسان عشرات المرات لكن يبقى الهيولي الخاص به واحد لا يشاركه فيه أحد..
بالمناسبة اختلاف الصور هذا مع بقاء الهيولي كان محور فلسفة هيراقليطس حين أقر مبدأ الصيرورة، وأن الوجود الثابت مجرد وهم، ولأن أرسطو متأخر عن هيراقليطس فربما يكون الهيولي- الذي أقره وشرحه أرسطو- هو تطور لمبدأ الصيرورة الذي شرحه هيراقليطس من قبل بأنه لا يمكنك عبور النهر مرتين لأن في المرة الثانية يكون النهر قد تغير.
فهل يعي من نعى الفنان أنه نعى شخصاً آخر بصورة أخرى ؟
في تقديري أن ثمة نفاق يشوب أي عمليات نعي على هذا المستوى الإعلامي والاجتماعي الكبير، وأن الأولى بمن نعوا أن يسألوا عن .."هيولي"..عمر الشريف ويخاطبوا وجدانه ويبعثوا له الأمل على الشفاء وأن صورته الحالية ليست نهائية..بل يمكنها أن تتطور لصورة أخرى رأينا من هو أكبر منه عمراً في مستوى ذكاء جيد بل ويعالجوه من الزهايمر الذي يصر الأطباء أن علاجه اجتماعي أكثر منه كيميائي.
رحم الله الفنان.. ولكل من أحب شيئاً عليك بالاهتمام به.. حتى وإن تغيرت صورته المألوفة لديك، فداخل كل إنسان كيان لا يتغير مهما اختلفت الصور
اجمالي القراءات
12908