أحمد سليم Ýí 2012-10-15
الدفاع عن البنية
تحت ظروف الغزو والاحتلال
( دراسة فى المقامات الزينية )
أحمد عزت سليم
عضواتحاد كتاب مصر وعضو آتيليه القاهرة
ahmadezatselim@hotmail.com
إضاءة :
عرف الناثر العربى منذ قديم الزمان الطاقة اللغوية الهائلة التى تتميز بها اللغة وعرف أن لها طيفاً كما أن للشيطان طيفاً ، وأن لها سيفاً كما أن للسلطان سيفا ، وقال ابن الرومى فى أقلامها :
فالموت ، والموت لا شئ يغالبه مازال يتبع ما يجرى به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت أن السيف لها مذ أرهفت خدم ...
وناهيك عن القداسة التى تتمتع بها اللغة العربية لكونها لغة القرآن والخطاب النبوى الشريف- كما وضحنا – والتى ازدادت بهما اللغة عزة وبهاء.
وقد ظن البعض أن النثر العربى قد ارتبط بنظم الحكم وأصبح أكثر الكتاب يعملون فى دواوين الخلافة وسلطة الأمراء والملوك والسلاطين ولذا فقد ساهم النثر فى تغييب شعوب اللغة وخداعها، واخذ بقول العلامة أبى هلال العسكرى عن الكتابة والخطابة بأنهما "مختصان بأمرالدين والسلطان وعليهما مدار الدار ....."فى هذا الظن والاعتقاد ،وفى الحقيقة فقد ظل الناثر العربى يسمو فوق السلطة ويتحداها ،وفوق قوى القهر والبطش والتسلط ومظاهر الأبهة والبهرجة والفساد ومقاومة الغزو والاحتلال ،وكان فى أكثر أساليبه تعقيدا وتكلفا،تعبيرا عن تشوق الذات المبدعة للسمو فوق الواقع وقواه الظاهرة وتحديا لها للوصول إلى أسرار الكتابة ودقائق اللغة لتكون سلطته التى لا سلطان للواقع عليها ، ولا أمر للسلطان عليها ، فهى ضد أشكال الكتابة المعتادة والسائدة.
وحتى الصوفية التى كانت فى لباس الفقر المرقع والخرق البالية ، كانت فى أعظم صورها ، وفى أنقى صفائها وأشد جهادها وأقوى مكابداتها ، انتصارا للجمال اللغوى من أجل الوصول الى وحدة الشهود والتجلى والمعارف العليا وضد التسطيح والاهتراء، حتى صار الدخول الى إلحرف عند الصوفية دخولا الى العلم والحقيقة والمعرفة ، دخولا ضد ما هو سائد وظاهر من تفكير وتعبير وتكفير ،ودخول ابتكار وإبداع وصولا الى هتك حجاب الحرف من أجل العلم الذى يقف وراءه.
وبين هذا الطيف وهذا الهتك وهذا السيف لم يستطع الناثر العربى مهما بلغ به التعقيد مبلغه واشتد به التكلف وأخذته الغرابة واستغرقه الغلو والإيغال والمبالغة وذهب به التطريز والترصيع والتجنيس أينما ذهب ، أن يتخلى لهذه الأساليب عن رؤيته للواقع الاجتماعى الذى يعيشه وفكره الذى يسرى فى إبداعه أينما ذهبت به الكتابة ، فسرعان ما تكشف لنا هذه النصوص عن مكنونات الذات المبدعة وفكرها الذى يحركها للإبداع ومضامينها الاجتماعية التى يستهدفها المبدع من خلف هذه الأساليب التى قد تبدو للولهة الأولى أنها كتبت هكذا لذاتها وفى ذاتها مستقلة عن البعد الاجتماعى والأخلاقى أو كما يقول أصحاب مدرسة الفن للفن إنها غاية فى ذاتها . أو أنها كتبت لإبهار السلطان واستعراض فنون اللغة أمامه للارتزاق.
ولأن الأمر غير ذلك فقد شهد النثر العربى خروجا واسعا على التكرارية السلطوية التى حاولت أن تسم النثر بأهدافها وأغراضها وتحوله عن تيمته المؤثرة "يا معشر الناس" إلى نموذج الإله / الخليفة ،"فمن نموذج تقوى الله اتقاء الناس" الى من تقوى الله اتقاء الأمير والسلطان والجاه..........، وحتى فى داخل مؤسسة الوعظ والإرشاد كان هناك من يقف ضد السلطان وضد القهر..
وفى هذا الإطار عبرت الطاقة الحيوية اللغوية التى فجرها عمالقة النصوص النثرية أمثال الجاحظ وأبو حيان التوحيدى والهمذانى والحريرى والمعرى والنفرى والحلاج وابن عربى والوهرانى وغيرهم من الأفذاذ حتى عمالقة العصر الحديث من أمثال الكواكبى ومحمد عبده ومحمد صادق الرافعى وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ حتى أجيال عبد الحكيم قاسم وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط وغيرهم... عن التوق الى التحرر من أسر القيود التى كبلت الذات العربية ولم يكن دمج هؤلاء لظروفهم الموضوعية الاجتماعية والفكرية والسياسية فى فن أدبى فلسفى سوى تعبير عن توق الذات الى التحرر من الواقع والثورة عليه ورفض الاستلاب ،والسمو فوق السلطان والجاه ومقاومتهما.
والدخول الى عالم النصوص النثرية المعقدة لا يمكن أن يسير فى دراسته بشكل متواز مع الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية المصاحبة لها آنذاك فهذا كان من خصائص الدراسات السابقة التى تناولت هذه النصوص على نحو لا يداخل بين فاعلية النص وبين الحياة من حوله على النحو الذى يكشف عن أسباب اللجوء الى هذا النوع من الكتابة وبالتالى يكشف عن البنى الكامنة التى تصطرع فى الذات الادبية والعربية وتؤثر عليهما.. ولا شك أن هذه المداخلة وإن كان من الصعب تحقيقها لأنها تحتاج الى جهد جماعى علمى موسوعى قد لا يتوفر فى كثير من الظروف إلا أنها لا تزال هى الطريقة الوحيدة نحو كشف الأسباب الكامنة وراء هذه الفنون وإلقاء الضوء على مزيد من تراثنا وإبداعنا والرد على الذين يحاولون وضع لغتنا الفياضة فى قيد التصنع والشكل وإبعادها عن الجوانب الاجتماعية والفكرية وتحويلها إلى إيقاعات صامتة فى شكل هندسى متكرر لا يعبر إلا عن ذات مغرقة فى أنانيتها.
تنوير :
وفى هذا المقام فان دراسة المقامات الزينية (1) لأبى الندى معد بن نصر الله بن رجب البغدادى المعروف بابن الصيقل الجزرى المتوفى سنه 701هـ . يمكن اعتبارها نموذجا رائدا للحد العظيم الذى وصل إليه التعقيد والغلو والتكلف فى النصوص الأدبية العربية عند الذات العربية فى حالة من حالات نكوص الذات تحت قوى الغزو والاحتلال وفى مرحلة حاسمة من تاريخ العالم الاسلامى والعربى ،شهد فيها العالم سقوط حاضرة الخلافة على يد المغول ، ليؤكد بالنص أن الوطن باق بقيمته العليا وكيانه المقاوم رغم وطأة إجرام الغزو والاحتلال .
وفى الوقت الذى تفوق فيه ابن الصيقل الجزرى على أساتذته ومن سبقوه أمثال الهمذانى والحريرى فى التعقيد حتى وصف الدكتور عباس مصطفى الصالحى محقق هذه المقامات والذى بذل جهدا أسطوريا فى تحقيقها "أنها تصل الى حد اللغز المعمى والرمز الغامض".
والمداخلة إذن تبدأ من الفترة التاريخية التى عاشها ابن الصيقل الجزرى صاحب المقامات ،فعلى الرغم من عدم معرفة التاريخ الذى ولد فيه إلا أنه قد تأكدت سنة وفاته عام 701هـ وبالإضافة إلى معرفة تاريخ انتهائه من كتابة المقامات فى عام 672هـ وسمعها منه علماء بغداد فى رواق المستنصرية سنه 676هـ وكان حينئذ شيخا للأدب فيها ولأنه لا يصل إلى هذه المكانة آنذاك كإمام عالم ومفتى إلا من تعدى الأربعين أو جاوز الخمسين . فلا شك اذن أنه قد عاش فى عز شبابه ووعيه فترة سقوط بغداد سنة 656هـ وعاش تحت نير الاحتلال المغولى لها ....
شاهد إذن ابن الصيقل الجزرى المجزرة البشرية التى راح ضحيتها من القتلى الآلاف حتى وجدهم هولاكو عندما أمر بعدهم " ألف ألف وثمانمائة ألف وكسر " ويكون ابن الصيقل واحد ممن اختبئوا فى بئر أو قناة أو تحت جثث القتلى وشاهد وسمع عن قرب مصرع الآلاف من زملائه الشعراء والعلماء وشاهد منهم المشردين والهالعين والهاربين من البطش إلى العطش فى الصحراء حيث الموت والجوع أو داست أقدامه الدماء التى تجرى من الميازيب فى الأزقة أو يكون شاهد بنفس ما تردد عن إقامة المغول من كتب بغداد الفريدة بأعدادها الهائلة جسرا من الطين والماء عوضا عن الآجر.
أو لعله يكون ممن التجأوا الى دار الوزير العلقمى وأخذ منه الأمان وقد يكون ممن رفع الراية البيضاء مسلما بغداد ومدارسها للمغول وذلك حرصا على الوجود والاستمرار فى الحياة ومما قد يرجح هذا الاستنتاج الأخير أنه قد أهدى مقاماته الى عطا ملك بن محمد علاء الدين الجوينى أحد صنائع المغول وحاكم العراق بعد الخائن الوزير العلقمى وكما يقول رشيد الدين الهمذانى أحد كبار المؤرخين لهذه الفترة عن ابن عطا أنه أحد كبار الأمراء والعلماء الذين كانوا فى القلب مع هولاكو الدامى جنبا الى جنب عند دخوله بغداد وقتله الخليفة العباسى خنقا أو رفسا ومئات الآلاف المؤلفة من النفوس المسلمة .
وعطا ملك الجوينى التحق بخدمة المغول منذ الصغر وولى حاكما على العراق فى عهد هولاكو وابنه آبا قاخان ، وتوفى سنه 681هـ بعد انتهاء ابن الصيقل من كتابة المقامات بتسع سنوات والمعروف تاريخيا أن آل الجوينى وأولهم عطا ملك وأخوه شمس الدين وأبناؤهما كانوا من أهل الفضل والأدب وأرباب جود وكرم وكانت مجالسهم محط رجال الأدباء والكتاب ومناط آمالهم.
وقد يكون الذى مهد للعلاقة بين الجوينى وابن الصيقل هو الوزير مؤيد الدين بن العلقمى الخائن والذى تولى بغداد بعد أن سلمها للمغول ، وأن حب آل الجوينى معهم للعلم والدين دفعهم إلى التكفير عن ذنبهم بإعادة بناء مدارس بغداد فكانت مدرسة المستنصرية وشيخها ابن الصيقل أولى بالرعاية حتى صارت هذه المدرسة مرجعا للعلماء مدة قرنين من الزمان.
المؤكد اذن أن ابن الصيقل الجزرى فى ظل حماية عملاء المغول قد نجا برأسه من موت محقق وظل فى حمايتهم ، فى وقت خيل للمسلمين فيه أن العالم على وشك الانحلال وأن الساعة آتية من قريب ، وصاروا يؤولون كل ظاهرة على أنها تعبير عن سخط الله واتخذوها أدلة على ما سيحدث فى العالم من انقلاب سئ لخلوه من خليفة ، وذلك كما أورد لنا السيوطى فى تاريخ الخلفاء.
وبين هذا وذاك فان حياة ابن الصيقل الجزرى تكون شاهدا على الكثير من الرعب والفزع والدماء والخيانة والغدر والايمان والكفر والجهل والعلم ووقعت بين حدثين عظيمين أثرا على القوى السياسية وحركة العالم آنذاك فى فترة وجيزة تجعل من أى فرد كابن الصيقل العالم يعيشها وقد تخلخل فكرة بين الهاوية وبين الصعود والتطلع الى النجاة والمقاومة ، فقد سقطت الخلافة المقدسة بعد 500 عام على يد المغول ، ثم سرعان ما هزم المغول فى عين جالوت هزيمة ساحقة وبعد أن ساد الاعتقاد عنهم بأنهم قوم لا ينهزمون . وفى هذه الفترة التى اختلط الحابل بالنابل فيها كما يقولون ، ولا يمكن الحكم بإسلامية أو عدم إسلامية المتعاملين مع المغول فان كثيرا من العلماء دخلوا تحت إمرة هولاكو وكانت رسائله تحمل من النصوص الاسلامية ما يؤكد ان الاكتاف المسلمة التى حملت هولاكو على الدخول الى بغداد كانت مقتنعة به ، هذابالإضافة إلى دخول كثير من المغول أنفسهم فى الإسلام ، وسيطرة العناصر العربية على مقاليد الحكم والسلطة والاقتصاد فى العوالم الإسلامية الكبرى ، وانتشار العناصر الرافضية والمذاهب الشعوبية المختلفة بين المسلمين ... والغاية أن كل هذا يجعل من الصعب الحكم على ابن الصيقل بالعمالة للمغول على أن هذة الظروف فى جوهرها تلقى بأغلال التأزم على عالم فذ مثله كما تلقى بظلال كثيفة حول النص الزينى (المقامات). ومما يزيد الأمر تعقيدا حول حياة ابن الصيقل آنذاك هو انعكاس العداء المستحكم بين حكام المماليك وبين المغول بسبب هزيمتهم المنكرة فى عين جالوت حيث ملأ الرعب بغداد وبطش المغول " بكل من حامت حوله الشكوك فى الاتصال بالمماليك وهو أشد الجرائم السياسية فى نظرهم ، وقد اتخذ بعضهم من هذا الشعور وسيلة للإيقاع بكثير من رعايا المغول المسلمين " ومن الامثلة المعروفة فى هذا الصدد نكبة الجوينية خاصة بعد انتصار بيبرس وضرباته المؤثرة على المغول وقيامه بعملية إنزال جريئة عبر نهر الفرات حيث هزم الجيش المغولية وطارد فلولهم فى الأراضى العراقية حوالى سنة 672هـ وهى سنة انتهاء المقامات حيث ظهر الأمل فى القضاء على المغول على الأقل كطموح خفى يسرى فى بغداد ، لهذا كان سبب نكبة آل الجوينى بعد اتهامهم بالاتصال بالملك الظاهر بيبرس والاتفاق معه على تسليم العراق له ، ويرى المؤرخون أن الملك الظاهر بيبرس قد جذب بعد هذه الحوادث كبار رجال الدولة المغولية وأمن بذلك حدود دولته على النحو الذى كان فيه بيبرس نفسه على وشك مهاجمة بغداد ذاتها لولا خوفه كما تردد من عودة الخليفة إليها وبالتالى تقل أهمية دولته الفتية.
حركة الواقع آنذاك تتلخص فى تعرض المسلمين لهزيمة منكرة قضت على الخلافة العباسية ثم تعرض المغول أنفسهم لهزيمة ساحقة فى عين جالوت ثم هزائم متوالية وانسحاقهم فى مناطق كثيرة وهذين الحدثين والعداء المستحكم بين الطرفين خلقا الخوف الشديد والحذر والترقب من الهجوم المتبادل فيقول : كتبغانيون قائد المغول فى عين جالوت وصهر هولاكو ، قبيل مصرعه على يد قطز: " إنى إن هلكت على يدك ، فإنى أعلم أن الله لا أنت هو الذى أراد قتلى . فلا تنخدع بهذا النصر المؤقت ، لأنه لا يكاد يصل إلى هولاكو خبر موتى ،حتى يغلى غضبه كالبحر المضطرب فتطأ ارجل الخيول المغولية أرض البلاد ابتداء من أذربيجان إلى أبواب مصر ، ورد بيبرس على أباقاخان حين أرسل له رسالة قائلا فيها "أنت لو صعدت السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت منا " ،- رد بيبرس للرسول المغولى ــ : " اعلم أننى وراءه بالمطالبة ولا أزال أنتزع يده من جميع البلاد حتى استحوذ عليها ، من بلاد الخليفة وسائر أقطار الأرض".
وهذا التهديد المتبادل جعل أرض الواقع التى تدور عليها المقامات وتدور عليها رحى حركة التاريخ والواقع أشبه بالحصون العسكرية فقد تحولت القرى والمدن إلى ثكنات عسكرية ينتشر فيها الجند والمماليك وتتركز الثقافة فى مدينتين القاهرة وبغداد وينتشر الجوع والفقر والجهل والعصابات والحرافيش والحشاشين وجماعات المتصوفة وتنمو اللغة الفارسية ولغات الأجانب والمماليك الوافدين وتكثر تحالفات المغول والصليبين والمسلمين فيقتل المسلم أخاه وكذلك يفعل الصليبى والمغولى فى حركة من التوافيق والتباديل قد لا يكون لها مثيل فى حركة التاريخ سوى ما نراه يحدث اليوم !!
والجدير والمهم هنا أن دولة إيلخانت فارس على عهد هولاكو قد استطاعت فصل شرق دجله عن غربه وحاصرت الثقافة العربية وقوضتها وكان لزاما على ابن الصيقل الجزرى فى هذه الأجواء التى شهدت انفكاك الإمبراطوريات الإسلامية العظمى ( انهيار الخلافة العباسية والأندلسية ) - وهو الأديب البارع ، اللغوى ، والفقيه والمفتى ،المتفنن فى علوم كثيرة وأحد أعمدة المدرسة المستنصرية والشافعى أن يحافظ على تراثه ويتحدى عثرته وعثرة جماعته ودينه ولغته المقدسة فكانت المقامات الزينية دفاعا عن شرف الإسلام. ويقع النص الزينى الذى نشرته دار المسيرة فى طبعتها الأولى عام 1980 في 50 مقامة بطلها أبو النصر المصري وراويها القاسم بن جريال الدمشقى.
الحركة الجغرافية للبطل والراوى تعكس مناطق الصراع الدائرة بين القوتين الأعظم آنذاك المغول والمماليك وتعكس ديناميتها حركة التوتر الشديدة التى تسود موضعها ،بين الإقبال والإدبار والفر والكر ... هذه المنطقة الجغرافية التى يجرى فيها البطل والراوى تطل على مشارف قزوين وبلاد الروم واليمن وجنوب السودان وبلاد النوبة وبلاد المغرب العربى وتتوغل فى البلاد الفارسية والكردية والمصرية فتشمل الأسكندرية التى زارها بيبرس 4مرات والقاهرة التى حكم فيها وبغداد والبصرة وخرسان وفارس وطوس ونيسابور وديار بكر وهى مسرح لعديد من العمليات الحربية والكوفة وشيراز وحمص وحماة وحلب التى كان يعيش فيها الملك الظاهر قبل عودته الى القاهرة واللاذقية والموصل التى كان ملكها يراقب له تحركات المغول والرها والأهواز والمدينة ومكة التى حج إليها بيبرس وأرمينية وأرزنكان وماردين والشهررزور التى تزوج منها بيبرس وميافرقين وهذه فتحها بيبرس وقيل أنه أخذ خطة بناء مسجدها لبناء مسجده ، وسرج وعمان والبحرين والحجاز وغيرها من أعمال هذه المناطق والديار .. وقد شهدت هذه المناطق فى اغلبها معارك ومناورات ومناوشات ، وإفساد للطرق والوديان وخاصة المؤدية إلى الشام لمنع المغول من زحفهم لأنهم كان يسلكون الطرق التى تقتات منها الخيول الأعشاب . وكانت الغلبة فى هذه المعارك لبيبرس حتى أنه تزوج أبنه بركة خان ملك ملوك القفجاق وأول من اعتنق الإسلام من أولاد جنكيز خان ، وبها تقع البلاد التى جاء منها الظاهر بيبرس . وهذا الانتصار فى هذه الحركة الجغرافية يفسر لنا لماذا أضاف ابن الصيقل لقب المصرى إلى اسم نصر وهو أحد أسماء ابن الصيقل ذاته ليصير اسمه أبا نصر المصرى وليتضح لنا أن هناك مثلث للنصر كان دائماً هو مفتاح الحضارة والانتصار العربى والإسلامى ويتركز فى ابن الصيقل العراقى – العراق – والبطل أبى النصر المصرى – مصر – والراوى بن جريال الدمشقى ، دمشق !! فإذا ما انهار ، انهار هذا العالم من حوله !! وهذه من نبوءات النص الكامنة فى أعماق بنيته الفكرية .
وابن الصيقل الجزرى بهذا الاختيار يلقى بدلالة كبيرة حول الصراع والتأزم الذى يعيشه فى ظل الاحتلال المغولى والشك والريبة التى تملئ أجواء الواقع الاجتماعى ، وتوق ابن الصيقل إلى الانتصار على تأزم الذات ونكوصها فى ظل ظهور قائد مسلم يعيد للأمة مكانتها بعد انتكاسها وسقوط خلافتها المقدسة !!
فى هذا الموضع الجغرافى أبو النصر المصرى دائم التنقل والترحال لا يهدأ او لا يكل مثله مثل الظاهر بيبرس الذى قال عنه الشاعر سيف الدولة المهمندار:
يوماً بمصر ويوماً بالحجاز والشام
يوماً ويوماً فى قرى حلب
من هذه الخصيصة المشتركة داخل الموضع الجغرافى بين بيبرس وأبى النصر المصرى يقيم ابن الصيقل الجزرى على لسان جريال الدمشقى علاقاته الدلالية ورموزه إقامة ذات فاعلية تكشف عن هذه التجربة الفريدة ، ويكون أبو النصر تردد دلالى بين طموح بيبرس فالظاهر بيبرس الذى تميز بالدهاء والخديعة والسياسة والمداراة والجرأة حتى قيل أنه حلف للملك المغيث بن عمر بن العادل بن الكامل صاحب حصن الكرك أربعين يميناً من جملتها الطلاق من أم الملك السعيد ويقال أنها استحلت بمملوك ، ولم ير ذلك الملوك بعدها ، حتى تمكن من الملك المغيث وقيل تاريخياً أنه أثناء المفاوضات مع ملك طرابلس الصليبى بوهمند السادس كان مندساً بين أعضاء الوفد الذى كان يمثل بلاده ومتنكرا فى زى خادم حتى تتاح له الفرصة لمعاينة حصون طرابلس والكشف عن مواضع القوى والضعف فيها تمهيداً لفتحها . هكذا كان أبو النصر المصرى فهو السيد القملس الذئب الداهية والسيد العملس الغملس وهو الخبيث الجرئ وهو ظاهر الكرامة وافر الصرامة تعرق لوطأته الأصلاد وتغرق لسطا سطوته الألواد وهو أبو النصر العقربان العملس الثعبان وهو العضب العبقرى وهو تارة أديب مفوه وتارة حاكم وتارة وزير وتارة هده الفقر والمرض وتارة أتعبه الشبع والذهب وتارة خطيب بيت المقدس وتارة طبيب بارع ولعل هذا التنوع الفريد فى شخصية أبى النصر المصرى لاشك يقابلها وطأة الحياة وجدلها الذى اشتد حول ابن الصيقل الجزرى والذى عبر عنه وعن نكوصه القهرى شعراً فى المقامات بحيث صارت شخصية أبى النصر تردد دلالى بين أزمة ابن الصيقل وشجاعة وجرأة بيبرس :
فتنبأ لزمر بات فى الذل رافلا
يجــــر رداء الهــم بيـن الزراقـــــم
وسحقاً لمن يهوى المقام ببلدة
يرى الرزق فيها فى شدوق الأراقم
.................................................
وتعساً لمن لاهت عليه مذلة
تعانقها العقبان فوق الغمائم
فلا خير فى ربع تظل نعاله
باقادر أهل العى فوق العمائم
..............................................
ألا أن عيش الحر بين الأراقم
أحب وصالاً من وصال المصارم
وأهون من هون الهمام ووهنه
مصافحة الأعناق بيض الصوارم
وأصعب من كور الكروب وجورها
مجاورة تؤذى قـــــلوب الأكـــارم
وأفظع من ضرب النحور وأسرها
مجــــاورة تؤذى رجـال المكــارم
...............................................
التأزم عند أبى النصر المصرى واضح ومفجع بين حب الحياة والنجاة والقتل والعيش تحت العسف والجور وبين الرغبة فى التحرر من الذل والهم والكرب والفسق والجهل والحرص الذى أذل أعناق الرجال ، أنه واقع بين حدين الذل والقتل أنه يتطلع إلى الأمل عله يأتى من بعيد !!
الحركة الفكرية داخل النص تؤكد على التأزم بين المثال والواقع ، المثال فى النص يساوى العدالة والمفاخرة بالقوة العربية والشجاعة ونموذج فروسيتها والحكمة والاستشهاد وأن الشرف بالاكتساب لا بالانتساب ، فتنساب فى النص لمحات وإرشادات تمثل هذا المثال وبشخصيات تؤكدها أسماء بنت أبى بكر الصديق – عمر بن الخطاب والعدل العمرى – عبد الله بن الزبير – سليمان الفارسى – خالد بن الوليد – عمر بن معد يكرب – الإمام مالك – حسان بن ثابت – عنترة العبسى وملاعب الأسنة – عيسى المسيح – عثمان بن عفان – بلال بن رباح – الحسن بن على – قيس بن اللموح – موسى والخضر – حاتم الطائى وقس الفصاحة – وتماضر الخنساء – وهذه الشخصيات يتناولها ابن الجزرى فى النص من واقع الفكرة الإسلامية والرؤية الدينية المتفق عليها بما يشير إلى تطابق النص مع ما هو متفق عليه إسلامياً .
رافد آخر تستمد منه الحركة الفكرية داخل النص المثال فى قوة وسلاسة وبراعة فائقة تتمثل فى الاستشهاد بالآيات القرآنية والنصوص الأدبية والفقهية فلا تشعرك بملل أو اضطراب وتدفعك على مواصلة القراءة وتربطك بالنص ارتباطاً وثيقاً لأنها أصبحت داخل نسيج النص وداخل النسيج الدلالى للقارئ وعلى سبيل المثال لا الحصر .. يقول " عليك بالتأسى ولو نابك وثم وإياك وسوء الظن إن بعض الظن إثم..... " الحجرات /12 " إن بعض الظن إثم " ويقول : " .... لكان قدراً جيداً ، وأجراً كبيراً ، وعيشاً وثيراً ، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ، النساء /18 " فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " .
ورافد ثالث تستمد منه الحركة الفكرية داخل النص مثاليتها وهو الحركة الأثرية والتراثية داخل النص وما تلقيه من مدلولات عميقة تبين التأزم عندما يسيطر محتل غريب عنصر إجرامي على مقادير ديار الإسلام ، وطموح الذات فى التخلص من عثرتها وواقعها المنهزم ، الحركة الأثرية تظهر فى : تربة خالد بن الوليد – طور الجبل – الصخرة الشريفة – أبواب دمشق – أبواب جامع دمشق – المروة والصفا – منى – كثبان الحسن والحسين – زاد المسافر أول فرس انتشر فى العرب من خيل سليمان – مغارة الدم – وهى من المواضع الشريفة فى دمشق . معالم الإسكندرية الإسلامية بالإضافة إلى البلاد التى فتحت أيام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد أمثال دارين ومردين وميافارقين ونيسابور وطوس .
ومن كتب التراث مقامات الحريرى وكتاب الحماسة لأبى تمام ، والواقية الكافية فى النحو لابن حجاب . ثم يأتى التنوع العلمى والرياضى كاحد الروافد التى تغذى الحركة الفكرية داخل النص ابتداءاً من المسائل الفقهية المعقدة والصرفية والنحوية المبهمة إلى المسائل الرياضية والقضايا الطبية والفلكية والكيميائية لتشغل معاً كلاً واحداً داخل المساحة الشاسعة لحركة الإبداع والتى استطاع الكاتب فى براعة يحسد عليها أن يسيطر عليها سيطرة فائقة فلا تظهر فيها عوج ولا اضطراب ولا فراغ يقطعه ويهرئه وعلى سبيل المثال أيضاً لا الحصر ... نذكر هذه النصوص الذكية :
- " .... أراك متشحاً بشعار الاستشعار وعلى صدر صدرك صدار الأصفرار وسيمياء الفضائل فائضة لديك ، وكيمياء المكارم متراكمة عليك " .
- " .... ثم أنه وعز لهما من عباب عينيه بعدد عضل عينيه ، مشفوعة مع حدة ذلك الرجاء بعدد صور حروف الهجاء " ، وكما تقول الحاشية : فإن عدد عضل العين 6 وحروف الهجاء 19 فيكون المجموع 25 فمراده دام ظله أنه أعطاه 25ديناراً .
- " ..... وشب شباب مذلتى ، وغاض ماء منتى ، واستفاض قيظ بهماء أنتى ، ويدرعى من الرقاع لديه عدد الخارج من قسم تسع وتسع عليه ، وما كلفته مذ عرفته درهماً ولا سألته بالرامتين سلجماً . وتقول الحاشية: فإنه يكون عدد الرقاع = 9 ÷ 9/1 = 9 × 1/9 = 81 .
ورافد رابع يستمد النص الزينى منه تأزمه وهو الأمثال الشعبية ومنها على سبيل المثال ( أخس من جاجة وأنصب من بحيس " و " أشأم من طويس " و" أسرق من ذبابة ، وأخدع من يربوع ، وأفرس من ملاعب الأسنة ، وتركتهم فى حيص بيص ، تسألنى بالرامتين سلجماً ، خير من تفاريق العصا ، لو ترك القط لنام ، عند جهينة الخبر اليقين ، فى الصيف ضيعت اللبن ، من أشبه أباه فما ظلم ، النقد عند الحافره ، المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، المستشار مؤتمن ، والمستشير معان ، ومن عز بز ومن دخل ظفار حمر ، ومن وقى شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقى " .
هذا الغنى الذى يملأ الخطاب الزينى يعبر عن توق الذات الأدبية إلى النموذج الذى يطمح الكاتب إلى عودة ريادته ، إنه يعبر عن أيديولوجيا الكاتب باعتبارها مجموعة ضخمة من الإشارات تشكل فيما بينها تصورات الكاتب التى تعلو الواقع المادى لتتماهى فيه وتشكل بدورها واقع النص ، هذا الذى يمتلئ بدوره بمستويات الغرابة والكثافة والتلاعب اللفظى بحيث يشبع الجمل والعبارات والفقرات بألوانه المختلفة ويستخدمها استخداماً يبرز منها أهمية عناصر التركيب داخل الجمل والعبارات والفقرات وبالتالى داخل النص وبدورها داخل الخطاب ، الذى يبدأ من المبدع / ابن الصيق الجزرى العراقى إلى داخل النص على لسان ابن جريال الدمشقى / الراوى ومع أبى النصر المصرى / البطل / الفاعل الذى يأخذ بزمام زمن الوقائع والأحداث فتنهض معه الرؤية ، وتنطبق بنية النص بأديولوجيا الخطاب ، الذى يقف وراءه الراوى يراقب ويحلل ويكتشف ويشارك ويصطدم مع البطل ثم يقدمها الكاتب توصيلاً للدلالات التى يريد هو إيصالها فى زمن السماع والقراءة المفتوح والممتد فيما بعد داخل المستقبل التاريخى إلى ما بعد ما تعيشه بغداد الآن ! ، وهذه العلاقة تأخذ الشكل التالى :