زبيب كامل الوزير وجاتوه ماري أنطوانيت
في نهاية القرن الـ 18 اندلعت مظاهرات حاشدة في العاصمة باريس واقتربت بشدة من قصر فرساي حيث مقر النخبة الحاكمة. وقتها خرجت ملكة فرنسا، ماري أنطوانيت، لتسأل من حولها باستغراب عن أسباب تلك الاحتجاجات الواسعة. وبسرعة جاءت إجابة الحاشية المحيطة بها: "الشعب جائع ولا يجد ما يأكله من الخبز". فردت الملكة المرفهة المدللة: "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء، فليأكلوا الجاتوه أو الكعك". وفي رواية أخرى قالت الملكة، زوجة الملك لويس السادس عشر، لمن حولها: "فليأكلوا البريوش"، وهو خبز فرنسي فاخر اشتهرت به موائد الملوك والأرستقراطيين في قارة أوروبا.
في ذلك الوقت كانت الثورة الفرنسية في أوجها، حيث كانت هناك بوادر نهاية الملكية المطلقة ومولد نظام علماني ديمقراطي، وكانت الدولة تعيش موجات من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الكبرى والعنيفة والأزمات الاقتصادية، وكان الشعب الفرنسي غاضباً من الملكة بسبب تردي أوضاعه المعيشية، وساخطاً شعبياً على نظام الحكم المستبد والفاسد.
ولأن الملكة أنطوانيت الملقبة بملكة البذخ كانت منفصلة عن رجل الشارع فقد خرجت عليه ساعتها، لتسخر من معاناته حتى في ذروة الثورة الفرنسية. فما كان من شعبها إلا أن أعدمها تحت المقصلة في 16 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1793 وعمرها 38 سنة بعد أن اقتيدت بعربة مكشوفة دارت بها في شوارع باريس حيث تم رميها بالقاذورات، وقصوا شعرها الطويل. وبعد سنوات قليلة من الإعدام انتهى عصر الملكية في فرنسا.وفي أغسطس/آب 2025 تابعنا تصريحات منسوبة إلى الفريق كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء المصري ووزير الصناعة والنقل، يدافع فيها عن فكرة تأسيس مصانع زبيب، ويرد على مهاجميه قائلاً باللهجة العامية: "هو الزبيب حرام؟ هو مصنع الزبيب عيب يعني؟ هو فيه حد مبياكلش زبيب، إحنا لما نصدّره ونحقق عملة صعبة حرام؟ لما نشغّل ناس في مزارع العنب ومصانع الزبيب حرام؟".
لم يقل أحد إن إنتاج الزبيب حرام أو عيب، لكن هناك ما يسمى بفقه الأولويات وترتيب الاحتياجات الضرورية للمواطن والاقتصاد، خاصة في دولة تعاني من عجز مالي حاد ودين عام غير مسبوق، وغارقة في الديون الخارجية. وهذا ما يجب أن يدركه الوزير جيداً بحكم موقعه السياسي ومركزه الاقتصادي داخل دولاب الدولة المصرية.
فالحكومة، أي حكومة، تضع نصب أعينها تلبية احتياجات المواطن بالدرجة الأولى، وتوفير الخدمات الأساسية له، وإنتاج ما يغطي أسواقه المحلية. والأولوية بالنسبة لغالبية المصريين هي توفير الاحتياجات الحياتية من مأكل ومشرب وعلاج وملبس وتعليم، ورفد الاقتصاد بالمصانع التي تساهم في الحد من تضخم الأسعار، وزيادة الصادرات وتوفير النقد الأجنبي.
أي أن المواطن والاقتصاد بحاجة إلى تأسيس مصانع متخصصة في إنتاج السلع والمواد الغذائية والطماطم والصلصة والأدوية وحليب الأطفال والأدوات الكهربائية والورق والبلاستيك ومواد البناء من حديد وصلب وإسمنت وبويات، وبحاجة ملحة إلى الصناعات الهندسية والكيميائية، والصناعات التي تلبي احتياجات قطاع الزراعة الحيوي مثل الأسمدة والمبيدات وغيرها. إضافة إلى الصناعات الحيوية مثل البتروكيماويات والسيارات وتكنولوجيا المعلومات والمعدات الثقيلة.مصر بحاجة إلى مصانع ومشروعات توفر فرص عمل لملايين الشباب العاطل، وإلى قطاعات إنتاجية حقيقية وليست ريعية، وليست بحاجة إلى مصانع لإنتاج مستحضرات التجميل والسلع الترفيهية والاستفزازية وإنتاج أفخم أنواع السيراميك، أو حتى الزبيب والفواكه الطازجة والشكولاتة. وليست بحاجة إلى إقامة مزيد من القصور والفيلات والمنتجعات السياحية والمدن الساحلية التي يقطنها الأغنياء والرأسماليين الجدد وغاسلي الأموال.
دافع كامل الوزير عن مصانع الزبيب رغم أنها لا تمثل أولوية للمصريين، وربما لا يعرف الملايين شكل الزبيب من الأصل، ولا أحد يموت إن لم يتناول زبيب أو مكسرات، وكأنه يمتلك الحجة والمنطق، ولا غرابة في ذلك، لأنها الأقرب إلى منطق سياسة "النيوليبرالية" المتوحشة والبرامج الاقتصادية الحكومية التي دهست الفقراء وقتلت الطبقة الوسطى، وغذت مجتمع الساحل الشرير وانحازت لأهالي "إيجبت" على حساب أهل مصر الغلابة، وسارت وراء صندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين لتقترض عشرات المليارات من الدولارات ليس لإقامة أضخم مصنع في الشرق الأوسط، بل لإقامة عاصمة للأثرياء وأصحاب الحظوة وأكبر مسجد وكنيسة ودار أوبرا في المنطقة.
اجمالي القراءات
39