شريف هادي في الثلاثاء ٢٣ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً
مر حامد من باب المحكمة وفي يده طفلته الصغيرة التي لم تبلغ عامها الخامس ، وتوجه لقاعة محكمة الجنح ، وتفقد اسمه في كشف المتهمين حتى وجده رقم (87) في رول المحكمة ، ودخل القاعة الكبيرة لمحكمة الجنح وطفلته بجانبه ، وأخذ ينظر بترقب وحذر للمنصة التي يجلس عليها القاضي ، وراح بذاكرته للوراء ، عندما تقابل مع زوجته للمرة الاولى بالجامعة ، ونشأت بينهما علاقة حب ، انتهت النهاية الطبيعية لأي علاقة سوية وهي الزواج ، وتزوجها بعد التخرج والحصول على العمل المناسب ، واستمرت الحياة بينهما إلي أن رزقا بابنتهما نسمة والتي تجلس بجواره ولكن أصيبت الأم بمرض السرطان وسرعان ما وافتها المنية ووقف وهو يحمل ابنته يبكي على قبرها فقد غادرته شريكة حياته مسرعة للقاء ربها وتركته يواجه مصيره وحيدا مع ابنته ، يواجه قدره ، خاصة وهي وحيدة أبويها وهو له أخ واحد فقده في العراق أثناء الحرب اللعينة بين العراق وإيران ، ثم جائت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وبدأت الدولة في اتباع سياسة الخصخصة ، وتم توفيرة وتعويضه بمبلغ من المال ، ولكن بين توفيرة وتعويضة وقت ليس بقصير ولم يترك قريب أو بعيد إلا واستلف منه مبلغ من المال ، ولما تقطعت به السبل لإطعام صغيرته البريئة ، لم يجد أمامه إلا السرقة ولكن حتى هذه خابت ولم يكن له أي حظ من هذه السرقة اللهم إلا وقوفه متهم أمام محكمة الجنح التي عاقبته غيابيا بالحبس سنة مع الشغل ولما كانت الجريمة سرقة فلا ايقاف في جريمة السرقة وجاء اليوم في جلسة المعارضة ، وقد راح يتذكر أحداث أول وآخر جريمة سرقة يرتكبها ، أخذت ابنته تطالبة بالطعام وتبكي لعدم وجود طعام وكان قد تركها آخر يومين عند جارته لكي تأكل معها وهو جائع أيضا فتفتق زهنه عن حيلة وهي سرقة إطارات أي سيارة واقفة بأن يضع أربعة قطع من الطوب بجوار الإطارات ثم يفرغها من الهواء ويسطو عليها وقد فعل وبينما هو يأخذ الإطارات لبيعها أوقفته الدورية الراكبة للشرطة وتم إقتياده لقسم الشرطة حيث قام ضابط المباحث بضربة علقة ساخنة ثم إلي النيابة العامة والتي أفرجت عنه بالضمان المالي بعدما عرف وكيل النيابة ظروفة قام بسداد الكفالة له وأفرج عنه ، وجاء اليوم ليقف أمام القاضي.
لم يكن يعرف المسكين أن الحبس في جريمة السرقة وجوبي ولن تكفي الكفالة لخروجه وأن التنفيذ سيكون بمجرد تثبيت الحكم عليه من المحكمة ولن يشفع له الاستئناف لسدا كفالة والخروج من الحبس ، لذلك اصطحب معه ابنته ولم يتركها لدى الجيران كما كان يفعل دائما
(محكمـــــــــــــــــا) هكذا صاح حاجب المحكمة فتماثل الجميع وقوفا ، لا يستطيع أحد على وجه الأرض ولا حامد نفسه أن يصف شعور حامد لحظة صياح الحاجب ووقوف كل من في القاعة ، فهو شعور بالرهبة إمتزج بمجموعة من الأحاسيس المتضاربة ، لعله يلوم نفسه وضعفة البشري أو يلوم ظروفه أو الأجراءات البيروقراطية التي أخرت صرف مكافئة التوفير أو حتى موت زوجته أو يلوم ابويه رحمهما الله لأنهما لم ينجبا عدد أكبر من الأبناء أو حماه لنفس السبب أو يلوم أخوه الذي ضاع في العراق أو يلوم الحرب بين العراق وإيران ، أو يلوم كل ذلك وقد بلغ الذروة في تفاعل أحاسيسه البشرية حتى وصل لمرحلة تبلد الحس الأدمي ، راضيا بمصيره مهما كان ، وأخذ يتابع سير جلسة المحكمة وكأنه يتفرج على جهاز التلفاز ، إلي أن نطق الحاجب اسمه (87 حامد سعيد فرحان) قال نعم وهو في الحقيقة (تعيس حزنان) وإن كان وما زال وسيظل (حامدا) مهما كانت أقداره.
وقف أمام القاضي الذي تفحص ملف القضية ثم وجه سؤال لحامد (ليه سرقت يا حامد) فأجاب حامد (غلطة يا بيه ومش ح تتكرر ، ودي أول وآخر مرة يا سعادة البيه) نظر القاضي في صحيفة الحالة الجنائية لحامد (الفيش وتشبيه) فوجدها نظيفة ، أي أن حامد ليس مجرم معتاد الإجرام ، فقرر القاضي أن ينزل بالعقوبة من سنة حبس مع الشغل ويكتفي بمعاقبة شهر حبس مع الشغل ، خاصة وقد أعترف حامد بالجريمة والاعتراف سيد الأدلة ، والجريمة نفسها تمثل الحالة الشائعة من حالات التلبس ، فقال القاضي لحامد ( طيب الحكم آخر الجلسة) ، وعندها قام الحرس بأخذ حامد من يده ووضعه بالقفص الحديدي الخاص بالمجرمين ، فمد حامد يده لتعانق يد ابنته من خلال أسياخ القفص الحديدي ، وعندها فقط عاد الحس المتبلد ليصحى من جديد ودبت الروح في أوصال حامد المرتجفه وقد سقته أبنته من خوفها خوفا ومن رعبها رعبا وبدأ الطرفان في بكاء صامت.
شاهد القاضي هذا المنظر ، وكان هذا المنظر وحده كفيل لأن يتفاعل القاضي معه وينشغل تماما عن باقي القضايا ، ولم يستطع القاضي أن يتابع الجلسة وتجاهل هذا المشهد الأنساني الفريد ، فظلت نظراته ترقب هذا المشهد حتى نظر للجمهور في القاعة وقال بصوت هادئ واثق ( ترفع الجلسة للاستراحة ) ودخل إلي غرفة المداولة وطلب من الحاجب إحضار حامد ، واستمع منه لقصته ولماذا أقدم على جريمة السرقة ، وكأن حامد قد نقل كل همومه وأحزانه ومشاكله لتقع على رأس القاضي الذي أصبح في موقف لا يحسد عليه ، كانت الاختيارات أمامه قليلة تكاد تكون منعدمه.
الاختيار الأول: الحكم على المتهم ولو أسبوع واحد حبس
الاختيار الثاني: الحكم على المتهم مع إيقاف التنفيذ
الاختيار الثالث: الحكم بالبراءة
بالنسبة للاختيار الثاني والثالث ضد القانون ، فلا يجوز الحكم بإيقاف التنفيذ في جريمة السرقة ، كما لا يجوز الحكم ببراءة متهم معترف بجريمة متلبس بها ، فلو جاءه تفتيش قضائي سيعتبر هذا الحكم سقطة له وسيحاسبه عليه.
أما الاختيار الأول فهو ضد الانسانية والدين معا ، فكيف يحكم على متهم لم توفر له الدولة وسائل الحياة الشريفة فاضطر للسرقة ، ثم ان الحكم عليه لن يلزمه بل سيتعداه لابنته البريئة الصغيرة فلو دخل السجن ولو ليوم واحد فقط وإعمال لنظرية الاحتمالات قد يأخذها شهم ليحافظ عليها حتى خروج ابوها من السجن وقد تضيع البنت ويأخذها من لا ضمير لديه ليستفيد بها في أي من الأعمال الحقيرة.
وهنا أنتبه على صوت كاتبه والذي شعر بشعوره وأحس بأحاسيسه ، وقال له (ياباشا لو عايز تديله براءة أو ايقاف مش مهم وانا ممكن أخبي الملف ده بعد كده) ، وكان ذلك اختيار رابع له ولكنه مرفوض فمن يضمن له أن الكاتب لن يأتيه بعد ذلك ويطالبه بالتساهل في قضايا أخرى (وده قريبي ، وده نسيبي ، وزي القضية اياها) وهكذا فقال للكاتب بصوت حازم (اسكت) وكان قد حزم أمره ثم عاد ووجه كلامه لحامد (براءة خ د بنتك وروح من سراي المحكمة) وأخذ القاضي ملف القضية وكتب إستقالته والتي جاء فيها (تأكد لدي أني لا أصلح لأن أكون قاضيا فالقانون يطالبني بتوقيع العقوبة المقررة ، ولكن الانسان داخلي يرفض ذلك وقد تعارض الانسان والقاضي فاخترت الانسان لذلك أرجو قبول استقالتي) وأرفق القاضي الانسان ملف القضية بمذكرة استقالته وأرسلهما معا لرئيس المحكمة المختص.
وجاء قرار رئيس المحمة برفض الاستقالة ، فالقاضي الشريف طبق روح القانون ولم يطبق نصه ، فالقاعدة القانونية الاصولية تقول (شخصية العقوبة) ولو عاقب المتهم لتعدت العقوبة لتصيب بريء وهي ابنته البريئة نسمة.
دعوة للتبرع
الروك: أقوم باعدا د بحث ماجيس تير عن طبقة...
قرآنا عربيا: لماذا القرآ ن كرر في عديد من الصور على كونه...
عن الوحى الالهى: الدكت ور احمد صبحي منصور اكرمة اللة اشكر لكم...
عقويةعلى غير المسلم : لو فيه تطبيق للعقو بات في الاسل ام مثل فرضا...
الوحي التوجيهي : هل هناك ما يعتبر وحي من الله غير الكتب...
more
شكرا أخ شريف هادي على هذا المقال