الإخفاء القسري في مصر... جريمة ممنهجة بعقلية النظام العسكرية

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٢٧ - أغسطس - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العربى الجديد


الإخفاء القسري في مصر... جريمة ممنهجة بعقلية النظام العسكرية

تمثل جريمة الإخفاء القسري في مصر أحد أخطر انتهاكات حقوق الإنسان، فهي لا تستهدف حرية الفرد وسلامته الجسدية فقط، بل تفرض على الأسر معاناة نفسية مدمرة تتركهم في حالة عدم يقين مستمر.

في قرية هادئة بمحافظة المنوفية، انقلبت رأساً على عقب حياة الطالب المجتهد كريم البالغ سن الـ15، حين تلقى ذات صباح مكالمة غامضة من جهة أمنية غيّرت مسار طفولته إلى الأبد. على الطرف الآخر من الهاتف، جاءه الأمر ببرودة وصرامة أن يترك كل شيء خلفه ويتوجه مباشرة إلى محطة القطار وليس إلى قاعة الامتحانات من دون أن ينطق بكلمة لأحد، فالتحذير كان واضحاً بأن أي محاولة منه لكشف ما يحدث ستعرّض عائلته كلها للانتقام".
مقالات متعلقة :


منذ تلك اللحظة، ابتلعت الأرض أثر كريم. غاب ثلاثة أسابيع كاملة عن عيني أسرته، وكان غيابه مثقلاً بالأسئلة والكوابيس. لم يعلم أحد أين يقضي لياليه، وماذا يواجه ثم جاء الفرج، ليس بفضل القانون أو العدالة، بل بتدخلات عليا بعدما طرق والده أبواب مجلس الوزراء. وبعدها ألقي الفتى في أحد أحياء القاهرة المزدحمة منهكاً وصامتاً.

عاد كريم إلى بيته لكن ليس كما كان. عجز عن البوح بما مرّ به، كأن كلماته محتجزة خلف جدار من الرعب. وكلما التقت عيناه بعيني والديه تلعثم صمته أكثر من أي حديث. ظل الخوف يرافقه في كل تفاصيل يومه، وكأنه لا يزال محتجزاً في غرفة التحقيق، يترقب صرخة أو صفعة.

اليوم، لا يحمل كريم همّ كتبه ولا امتحاناته فقط، بل همّ وجود ملف مفتوح باسمه في أروقة الأمن الوطني وتهديدات تلاحقه كلما حاول نسيان ما جرى. وفيما يحاول أن يتنفس حياة طبيعية تعيش أسرته كلها على وقع الصدمة نفسها والخوف الذي لا يغادر باب بيتهم. ورغم ذلك تعتبر القصة الحزينة لكريم قصيرة مقارنة بقصص آلاف المختفين قسرياً في مصر، والتي تحتوي على تفاصيل أكثر رعباً وذكريات أكثر إيلاماً وليالٍ متصلة لا يعقبها نهار، وتكشف اتساع نطاق جريمة الإخفاء القسري في مصر التي تحوّلت وفق منظمات حقوقية إلى "سياسة ممنهجة لإدارة الصراع السياسي والاجتماعي". وكان المنعطف الأكبر لهذه الجرائم بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس/ آب 2013، فمنذ ذلك التاريخ بدأت مئات الشهادات تتحدث عن نمط متكرر يشمل اقتحام منازل واعتقال شبان بلا إذن قضائي، ثم اختفاءهم أسابيع أو أشهراً قبل أن يظهروا أمام النيابة بتهم تتعلق بقضايا جاهزة. وبلغت الحالات ذروتها عامي 2015 و2016 ثم انخفضت باعتباره نتيجة مباشرة لآثار السياسات القمعية للسلطات الذي زادت فعّاليتها في خلق الخوف، ما أدى إلى تراجع العائلات عن الإبلاغ عن حالات ذويهم خوفاً من التعرض لمزيد من الانتهاكات.

وكشفت أرقام جمعتها منظمات مستقلة مختلفة، مثل حملة "أوقفوا الاختفاء القسري"، 4677 حالة إخفاء قسري بين عامي 2015 و2024، كما رصدت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 2723 حالة خلال خمس سنوات حتى عام 2024، وقدّرت المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب مجموع الحالات بـ4235 حتى أغسطس/ آب 2023. وتؤكد هذه الأرقام، رغم اختلافها، أن الظاهرة تتواصل حتى العام الحالي، وأنها ليست استثناءً بل ممارسة روتينية.

وعموماً تتفق قصة كريم مع تحقيقات حقوقية كشفت أن النمط السائد أخيراً لا ينحصر فقط في الإخفاء الطويل الأمد، بل الإخفاء قصير الأمد الذي يراوح بين يومين وستة أشهر، وهو يُظهر تحولاً تكتيكياً في سياسة القمع، ففي حين كانت حالات الاختفاء القسري تمتد فترات طويلة في سنوات الذروة عامي 2015 و2016، ما جذب الانتباه الدولي، أصبح النمط الآن هو الإخفاء فترات قصيرة. لكن هذا لا يعني أن حالات الاختفاء طويلة الأمد لم تعد تحدث، بل إن الأجهزة الأمنية تستخدم نمط الاختفاء القصير لتحقيق عدة أهداف تتمثل في بث الرعب في نفوس الأسر، وانتزاع اعترافات بالتعذيب بعيداً من الرقابة، ومحو فترة الإخفاء من السجلات الرسمية عند العرض على النيابة". وهكذا يصبح الإخفاء أداة مزدوجة للقمع النفسي والاجتماعي من جهة، وللتحكم القانوني من جهة أخرى.

ورغم الانتشار الواسع والممارسات الممنهجة لجريمة الإخفاء القسري، بحسب وصف منظمات حقوقية دولية ومحلية، تنكر الحكومة المصرية حصولها، وتزعم أن المعنيين محتجزون بموجب قرارات قضائية أو غادروا البلاد للانضمام إلى جماعات إرهابية، وهو ما تنقضه تقارير دولية. ومثلاً اعتبرت وزارة الخارجية الأميركية في تقرير أصدرته أن الإخفاء القسري شكل أحد أبرز الانتهاكات في مصر في عامي 2023 و2024 . وتحدثت العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" عن استخدام ممنهج لهذه الممارسة مع التعذيب والمحاكمات غير العادلة. كما أبقى فريق الأمم المتحدة المعني بالاختفاء القسري، في تقرير أصدره في يوليو/ تموز 2025، مصر على لائحة الدول المثيرة للقلق.ولا يتضمن قانون العقوبات المصري نصاً صريحاً يُجرّم الإخفاء القسري، إذ يجري التعامل مع الحالات من خلال نطبيق بنود عامة مثل الحبس غير القانوني، ما يُعطل أي محاسبة حقيقية. كما أن النيابة العامة، وفق شهادات محامين، لا تحقق بجدية في البلاغات، بل تلجأ إلى تسجيل تاريخ الاعتقال من لحظة "الظهور" الرسمي، وتتجاهل فترة الاختفاء، ما يخلق حصانة غير معلنة لمرتكبي الجريمة. وأكده المحامي مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، خلف بيومي، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "القبض التعسفي والإخفاء القسري والمحاكمات غير العادلة والتطوير واستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان جرائم ممنهجة يرتكبها النظام منذ سنوات".

وأوضح أن "أرقام المختفين قسرياً في مصر تجاوزت من 19 ألفاً، واتهم النظام المصري بالمضي قدماً في ارتكاب هذه الجريمة، رغم الإدانات الدولية المتكررة، بدافع الانتقام السياسي خاصة أنها في منأى تماماً عن القانون".

ويوجد تناقض صارخ بين الإطار القانوني الدولي الذي يجرّم الإخفاء القسري والوضع القانوني الداخلي في مصر. ففي وقت تحث الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري الدول الأطراف على تجريم هذا الفعل في قوانينها الجنائية، لم تصادق مصر على الاتفاقية. وهذا الفراغ التشريعي يشجع الجناة، ويمنح السلطات ذريعة للإنكار المستمر لوجود هذه الجريمة.

وعن محاولات الخروج من هذا النفق المظلم ووضع حدّ لهذه الجريمة، رأى بيومي أن "الحل يتمثل في تغيير عقلية النظام العسكرية التي تسيطر وتتحكم في أمور البلاد والعباد، خاصة أن النظام المصري يصرّ حتى الآن على إنكار وجود مختفين قسرياً، ويرفض توقيع اتفاقية مناهضة الإخفاء القسري رغم أنها جريمة تتعدى بشاعتها وأضرارها المختفي لأسرته وذويه، لذا أدرجتها اتفاقية روما ضمن الجرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم".

ورغم وجود آليات للتحقيق في الشكاوى، مثل مكتب النيابة العامة، تفيد العديد من التقارير بأن تحقيقات النيابة تفشل غالباً في معاقبة مرتكبي الانتهاكات. وتُظهر التقارير الحقوقية أن النيابة العامة لا تحقق في الشكاوى المقدمة في شأن حالات الاختفاء القسري، بل تؤرخ اعتقال الأفراد من تاريخ ظهورهم الأول أمام النيابة، وليس من تاريخ اعتقالهم الفعلي. وهذا التلاعب في التواريخ تكتيك قانوني متعمد يهدف إلى محو فترة الاختفاء القسري من السجلات الرسمية ما يمنح حصانة للجناة.
اجمالي القراءات 12
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق