مصر في الحسابات الأميركية على ضوء تقرير حقوق الإنسان
أثارت التعديلات الأخيرة التي أدخلتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تقارير وزارة الخارجية الأميركية السنوية بشأن حقوق الإنسان، جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والسياسية، لما تنطوي عليه من تقليص حاد في محتواها الرقابي، خاصة فيما يتعلق بتقييم أوضاع الحريات السياسية والمدنية في مصر وعدد من الدول. وقد تم حذف فقرات كاملة كانت تتناول، في تقارير سابقة، مسائل مثل ظروف السجون السيئة، والقيود المفروضة على حرية التعبير، واعتقال المعارضين، وانعدام الشفافية في المحاكمات، فضلاً عن حذف إشارات إلى القمع الممنهج ضد المجتمع المدني.
ولطالما شكلت التقارير الأميركية عن حقوق الإنسان مرآة دولية لرصد التجاوزات في دول العالم، ومصدر ضغط سياسي على الحكومات لإحداث تغييرات ملموسة في هذا الملف. غير أن التعديلات الأخيرة قد تُفهم باعتبارها تبنياً لنهج "غض الطرف" عن الانتهاكات في بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة، مقابل التعاون في ملفات إقليمية وأمنية.
وأعرب معارضون مصريون عن خشيتهم من أن يؤدي هذا التحول إلى تقليص الضغط الدولي الذي كان يمثل رافعة مهمة - وإن كانت محدودة - للمجتمع الحقوقي والمعارضة السياسية، خاصة في ظل استمرار ممارسات مثل الحبس الاحتياطي المطول، والملاحقات الأمنية للناشطين، ومنع التظاهر، وإغلاق المجال العام. وتساءل هؤلاء عما إذا كانت هذه التعديلات انعكاساً لتفاهمات أوسع بين واشنطن والقاهرة، خصوصاً أن مصر تؤدي دوراً محورياً في عدة ملفات إقليمية استراتيجية من غزة إلى السودان مروراً بملف الهجرة غير النظامية من جنوب المتوسط نحو أوروبا.
حسين هريدي: الإشارات الأميركية تأتي في إطار مقايضات ذات أبعاد إقليمية
وتُشير كل هذه العوامل إلى أن الإدارة الأميركية ربما فضّلت اعتماد "مقاربة براغماتية"، تُغَلِّب التعاون الأمني والجيوسياسي على الأولويات الحقوقية، ما قد يفسر إفراغ التقارير من مضمونها السابق، خاصة في ما يخص دولاً ترتبط بتحالفات أمنية أو مصالح إقليمية مع واشنطن. وأعربت منظمات حقوقية، مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش"، عن قلقها العميق من أن يكون هذا التغيير مقدمة لتآكل الدور الأميركي التقليدي في الدفاع عن الحقوق والحريات. وحذّرت من أن هذا النهج قد يُشجّع أنظمة على تكثيف القمع، دون خوف من المساءلة أو العزلة الدولية.
مقايضات ذات أبعاد إقليمية
وفي السياق، قال السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن التعديلات التي أجرتها الإدارة الأميركية على تقارير حقوق الإنسان لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الجيوسياسي الأوسع، مشيراً إلى أن "هذه الإشارات الأميركية تأتي في إطار مقايضات ذات أبعاد إقليمية، تمتد تأثيراتها على المديين المتوسط والطويل". وأضاف أن "هذه التوجهات تأتي أيضاً في سياق التغيرات المتسارعة في المشهد الإقليمي، بما في ذلك إعادة تموضع بعض القوى، وتبدل أولويات بعض العواصم الكبرى، وهو ما يدفع واشنطن إلى إعادة صياغة أدوات تأثيرها، وفي مقدمتها تقارير وزارة الخارجية السنوية، بما يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة".
ويعتقد خبراء أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن واشنطن، على الأقل في عهد إدارة ترامب الحالية، تُعيد ترتيب أولوياتها في السياسة الخارجية على أسس أمنية وجيوسياسية، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ الحقوقية التي طالما تبنتها في خطابها الرسمي. وقال المحامي خلف بيومي، مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، إن "إدارة ترامب سبق أن عبّرت صراحة عن موقفها من النظام المصري حين وصفت الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنه ديكتاتورنا المفضل، ولم تسمح بأي إجراءات حقيقية في مجال حقوق الإنسان خلال ولايته السابقة، ويبدو أنها اليوم تعود لتأكيد هذا النهج".
تفاهمات معقدة بين مصر وأميركا
أسعد هيكل: الممارسات التي تشهدها مصر لم تعد تحظى حتى باهتمام دولي يُذكر
من ناحيته، قال المحامي الحقوقي أسعد هيكل، لـ"العربي الجديد"، إن الإدارة الأميركية الحالية تُعد "إدارة تجارية في المقام الأول أكثر منها سياسية"، مشيراً إلى أنها تختلف في منهجها وأولوياتها عن الإدارات الأميركية السابقة، إذ تُعلي من شأن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية، وهو ما ينعكس على تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان، لاسيما في مصر. وأضاف هيكل: "علينا أن نُدرك أن ما يحكم سلوك الإدارة الأميركية تجاه مصر حالياً هو شبكة من التفاهمات المعقّدة في ملفات إقليمية حساسة، وعلى رأسها الوضع في غزة وملفات استراتيجية أخرى، مثل أمن الملاحة في البحر الأحمر، وتداعيات الحرب في اليمن، حيث تسعى الولايات المتحدة للهيمنة على خطوط النقل البحري الحيوية وصولاً إلى قناة السويس، بالتنسيق مع مصر. وهذا جزء من منظومة التعاون الممتدة منذ توقيع اتفاقية السلام عام 1979، والتي تستند إلى دعم أميركي عسكري واقتصادي مشروط بامتيازات استراتيجية". وشدّد على أن "قضية حقوق الإنسان باتت تحتل مرتبة متأخرة جداً في سلم أولويات الإدارة الأميركية تجاه مصر في ظل تصاعد المخاطر الإقليمية والرهانات الجيوسياسية، وعلى رأسها أمن إسرائيل". وعن الواقع الداخلي، أشار هيكل إلى أن "الممارسات التي تشهدها مصر، سواء من تجاوزات في الحبس الاحتياطي، أو المحاكمات الاستثنائية للمعارضين والنشطاء، لم تعد تحظى حتى باهتمام دولي يُذكر، ليس فقط من جانب الولايات المتحدة، بل من معظم الأطراف الفاعلة، في ظل انشغال المنطقة بأزمات كبرى، تمتد من السودان وليبيا إلى الحدود الشرقية مع إسرائيل".
بدوره، قال مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، بهي الدين حسن، لـ"العربي الجديد"، إن التعديلات الجذرية التي طاولت تقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي حول أوضاع حقوق الإنسان، تمثل "مؤشراً نوعياً إضافياً على عمق التحولات التي أجراها ترامب في غضون ثلاثة أشهر فقط على أسس السياسة الأميركية التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية". وأضاف حسن أن "مراجعة التزامات الإدارة الأميركية تجاه حقوق الإنسان لم تبدأ على الصعيد الدولي فقط، بل بدأت من الداخل الأميركي ذاته، منذ اليوم الأول لتولي ترامب مهامه، من خلال استهداف المواطنين الأميركيين أنفسهم، وتجريد بعضهم من وظائفهم، ومحاولة إغلاق سبل التقاضي أمامهم، فضلاً عن تقييد الحريات الأكاديمية في أهم الجامعات، وتهديد وكالات الأنباء العالمية وكبرى الصحف الأميركية". وأوضح أن "بوادر التراجع عن الالتزامات الدولية لواشنطن في مجال حقوق الإنسان بدت واضحة أيضاً، من خلال تصريحات تنضح بطموحات استعمارية علنية، مثل التلويح بالاستحواذ على كندا وغرينلاند، أو قناة بنما، فضلاً عن التصور المروّج له بشأن تحويل قطاع غزة إلى ريفييرا سياحية بعد تطهيره عرقياً من سكانه الفلسطينيين".
اجمالي القراءات
21