السيرة الهاشمية على الربابة الناصرية
-1-أثارت حلقتا حسنين هيكل في فضائية "الجزيرة" في الأسبوعين الماضيين حراكاً إعلامياً أردنياً غاضباً. وكانت آراء معظم المعلقين الأردنيين على هاتين الحلقتين، لا تخرج عن عواطف الشارع الأردني. بل هي في معظم الأحيان مرآة عاكسة لمشاعر وعواطف هذا الشارع. والشارع الأردني كبقية معظم الشوارع العربية الأخرى شارع عاطفي غرائزي غير عقلاني، تجمعه طبلة وتفرقه عصا. ومن استمع إلى حديث هيكل في الحلقة الثانية، يتبين له بكل وضوح، أن مواقف الراحل الملك حسيين المتفانية للاقتراب من مصر الناصرية، لم تكن إيماناً من الحسين بصحة التوجه الناصري، ولكنها كانت تحت ضغط وإلحاح الشارع الأردني المُعبَّأ عاطفياً في ذلك الوقت، والمُثار بمشاعره الغرائزية من أحاديث أحمد سعيد، ومقالات هيكل في "الأهرام"، وخطابات عبد الناصر التحفيزية العاطفية اللاعقلانية، التي أدت إلى خراب بيت وهزيمة لا مصر وحدها، ولكن مصر والأردن وسوريا اللذان اشتركا مع عبد الناصر في "الزحف القومي" في حرب 1967. وأدى هذا الزحف إلى هزيمة الأمة العربية بأكملها بالتالي، ممن اشترك بهذا الزحف، وممن لم يشترك فيه.
-2-أسلوب أحاديث هيكل في برنامج (مع هيكل.. تجربة حياة) سواء عن العهد الناصري، أو الهاشمي، أو السعودي، أو العلوي المغربي، أو غيره، هو أسلوب القصِّ الحكائي الصحافي الشعبي، على طريقة قصِّ السيرة الهلالية. وهو يعتمد على تفاصيل كثيرة، مُملَّحة ومُبهَّرة بعدة أنواع من البُهارات، لكي تُناسب وتطيب للمذاق العربي. ومن هنا قال بعض نقاد هيكل، أن هيكلاً في حديثه وكتاباته للعرب يختلف عن كتاباته للغرب. وهذا شيء طبيعي ومتوقع. فالمذاق العربي، يتطلَّب مأكولات خاصة، تثيره عاطفياً، وغريزياً، وجنسياً، أكثر مما تثيره عقلياً.
فأصحاب العقول في العالم العربي، لا يأكلون من الطبيخ الصحافي العربي المليء بالبُهارات الشرقية المثيرة للأحاسيس، والمُنيّمة والمعطِّلة للعقل.
-3-هيكل يمتلك ارشيفاً تاريخياً ضخماً، نتيجة لعلاقاته الصحافية العربية والعالمية الواسعة، باعتباره أكبر سادن لهيكل عبد الناصر المنهار بعد 1970. ونتيجة كذلك لتوفر هذا الأرشيف في وزارات الخارجية الأوروبية والأمريكية، التي تُتيح بعد زمن معين، الاطلاع على هذا الأرشيف لمن يرغب. ومعظم تاريخ العرب الحديث في ملفات الغرب. والصحافيون الغربيون ناشطون في الاطلاع على هذا الأرشيف. أما الصحافيون العرب، فهم في معظمهم من تنابلة السلاطين، ولا يهمهم الإطلاع على هذا الأرشيف. إذن، ما يسرده هيكل، ويقُصَّه علينا، ليس جديداً ولا مستغرباً عن الهاشميين، أو غيرهم. ولكن الجديد والمستغرب، هو أن يُضيء هيكل جوانب من هذا الأرشيف، ويُهمل جوانب أخرى. يُضيء التصرفات التي يعتبرها المتلقي العربي خاصة، سلبية وناقصة، ويُهمل الجوانب الأخرى، باعتباره طباخاً صحافياً متخصصاً في أطباق صحافية معينة تُعرف بـ (قائمة أطباق هيكل) HAIKEL’S MENU. ويستثني هيكل من قائمته هذه، نواقص وعيوب عهد عبد الناصر، وأخطائه القاتلة والمُهلكة. فلم نقرأ له، أو نسمع منه، حتى الآن، كلمة واحدة عن عيوب (الإله نصرو) أو تنتقده نقداً سياسياً سلبياً. ففي رأي هيكل أن كل ما فعله عبد الناصر كان صحيحاً وقويماً. والعيب لم يكن فيه ولكن في (حبايبه) ممن كانوا حوله من المساعدين والقادة في مصر، ومن الرؤساء والملوك العرب، الذين كانوا يخشونه، خوفاً من طول وسلاطة لسان إعلامه القذر في ذلك الوقت.
-4-لكل القادة في العالم من عرب وعجم، أخطاؤهم، وعيوبهم، ومثالبهم، ومناقبهم، وأسراهم، وخططهم الشيطانية والرحمانية، لصيانة عروشهم وعهودهم، والتحايل على خصومهم. والمهم للمؤرخ أن لا يتدخل في الحدث والواقعة. وهيكل ليس مؤرخاً، ولكنه حكَّاءٌ وقاصٌ صحافي شعبوي، يُخبر رواد مقهاه الشعبي العربي أو (المصطبة) العربية، بما يطربهم، وينعشهم ويسعدهم، ويسليهم، ويدغدغ مشاعرهم السياسية البدائية، ويدفعهم للجلوس أمامه أطول مدة ممكنة.
فالمؤرخ هو الذي يكتفي بسرد الوقائع التاريخية والحقائق الواقعية، دون تدخل منه، فلا يكون هو طرف فيها، ولكنه يدرس أسبابها ومسبباتها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والشخصية كذلك.
هيكل لا يفعل هذا، لأنه ليس مؤرخاً، ولكنه (حكواتي) صاحب (ربابة) صحافية شعبية. ويسرد وقائع وحقائق كما هي في ملفات وزارات الخارجية الغربية. ولكنه يُدخل في هذا السرد القصصي الصحافي الشعبوي بعضاً من خياله الواسع كمصري – والمصريون أكثر العرب تخيّلاً وخصباً في الخيال، ولذا ظهر عندهم معظم الشعراء، والروائيين، والقصصيين، والسرديين الصحافيين الشعبويين، ومنهم هيكل.
وهيكل شريك أساسي في كل حادثة أو واقعة يقُصَّها علينا. وهو يصنع الحدث مع السياسي بطل الحكاية. فهيكل هو الصحافي بطل الحكاية، كما هو السياسي بطل الحكاية الذي يتحدث عنه. فقصص هيكل وحكاياته الصحافية، يقوم بها بطلان فقط: السياسي وهيكل، ولا ثالث لهما، ولا شاهد عليهما.
ولا ينسى هيكل أن يحشر نفسه في كل حادثة وحكاية يحكيها لنا، إلى درجة الكذب الصبياني الفاضح في بعض الأحيان. ومنها قوله في الحلقة الثانية من سرده للسيرة الهاشمية على الربابة الناصرية، أن الملك حسين دقَّ باب غرفته بنفسه في فندق كلاريدج في لندن، ففتح هيكل الباب، ووجد الملك أمامه وجهاً لوجه. ودعاه الملك لتناول القهوة معه في (اللوبي). وكأن الملك كان بدون سكرتاريا، ولا حرس، ولا مرافقين، لكي يخبر واحد منهم هيكلاً برغبة الملك تلك.
-5-بقيت (بحصة) واحدة في فمي أريد أن (أبقها)، وهي موقف الإعلام الأردني الهائج والمائج والمُهيّج منذ ستينيات عبد الناصر حتى الآن، بفعل الفايروس السياسي الهيجاني الغرائزي الشعبوي الناصري، الذي أدى إلى هزيمة 1956، وهزيمة 1967، وضياع الضفة الغربية، وضياع الجولان، وانهيار الوحدة المصرية – السورية، وقتل عشرات الآلاف من الجنود والأفراد في الحروب المجانية، واستعمار سوريا للبنان طيلة ثلاثين عاماً، واغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم (الذي كان شوكة في حلق عبد الناصر)، وسيطرة حزب البعث على العراق، وظهور الدكتاتور معمر القذافي 1969 والدكتاتور حافظ الأسد 1970، والدكتاتور صدام حسين من بعده،، والدكتاتور علي عبد الله صالح في اليمن، وظهور التيارات الإسلامية السياسية الإرهابية، نتيجة لقمع الإخوان المسلمين وإعدام زعمائهم، وتهجيرهم إلى بلدان الخليج، وانكسار الأمة العربية هذا الانكسار والانهيار الذي هي فيه الآن.. الخ.
وأنا لا أريد أن أزيد هنا، عما قاله الباحث الأردني العقلاني د. عبد الفتاح طوقان في مقاله المهم هنا في "إيلاف" (عفريت الأستاذ "هيكل" في مخدع الملوك الهاشميين، 18/3/2009) وهو أنه " لم تخلُ صحيفة أردنية، ولم يبق ماسك قلم إلا وهاجم "الأستاذ " شاتماً ولاعناً وغاضباً عليه وعلى أهله. بل كاد الأمر يصل إلى حد نشر إعلانات الموتى في الصحف، ووضع شتيمة في كل إعلان وفاة، على لسان المتوفى، لاعناً هيكلاً. بل وأن يوقظ الموتى من سباتهم الأبدي للوقوف باصقين".
وأنا أسأل الدكتور طوقان:
أليست مدرسة السباب والردح الصحافي الأردني هذه، هي مدرسة الصحافة الناصرية والإعلام الناصري في الستينات؟
أليست هذه المدرسة، هي نتيجة حليب الصحافة الناصرية، الذي أرضعته مدرسة هيكل وأحمد سعيد للصحافيين العرب، والأردنيين منهم خاصة؟
والى أية مدرسة أخرى ينتسب معظم صحافيي الأردن خاصة، عدا هذه المدرسة؟
السلام عليكم.
اجمالي القراءات
11345