آحمد صبحي منصور
:
هنا يقع الفارق بين التجريد و التطبيق و التداخل بينهما بتنظير بعض الأهواء وادخالها ضمن المجردات المطلوب تطبيقها.
وعفوا وعذرا من هذا الكلام (الملعبك ) وأشرح المقصود منه.
القيم العليا هى قيم مجردة ، أى مجرد معانى ـ يتخيلها المصلحون و يتمنون تطبيقها ، وهى تمثل أروع و أبدع ما يكون ، ولكن تطبيقها واقعا بنسبة 100 % مستحيل لأنه إلغاء للشرور و الفجور الكامن داخل كل نفس بشرية ، وإلغاء لدور الشيطان ووسوسته ، وإلغاء للصراع وهو القانون الذى نزل به آدم وبنوه من الجنة الى الأرض حيث هبطا منها بعضهم لبعض عدو ، ثم هو إلغاء لحتمية اليوم الاخر و الثواب و العقاب و الحساب و الجنة و النار ، لأن ذلك يستلزم وجود خير و شر و صراع بينهما.
أى أن القيم العليا المجردة لا بد أن تتعرض لعوامل التعرية الاجتماعية و البشرية عند دخولها فى عالم التطبيق الفعلى ، بل أن ذلك المصلح الحالم بها لا يستطيع أن يطبقها 100 % على نفسه لأنه بشر يخطىء ويصيب . ولذلك فان أحلام البشر بالتغيير الاجتماعى تحت شعار العدل و الذى أنتج الشيوعية قد نحولت الى كابوس من الظلم ليس فقط فى إهدار الحرية و لكن فى تاكيد الطغيان والاستبداد الذى أضاع العدل ، وقد حدث هذا فى إطار مذهب بشرى اصلاحى .
وتصبح تلك المصيبة جريمة كبرى حين تحدث مع الدين الالهى ، وهنا لا يقتصر الأمر على خيانة التطبيق بل وتحويل تلك الخيانة الى نصوص دينية بالتزوير ـ فالمسلمون الصحابة عصوا الله تعالى بالهجوم وقتل و قتال من لم يقم بالاعتداء عليهم فيما يسمى بالفتوحات الاسلامية ، ثم جرى تسويغ ذلك وتبريره باحاديث مصنوعة قام عليها دين السّنة . أى أن الأمر يبدأ بالمعصية ثم تتحول المعصية الى تشريع يدخل ضمن التأطير والتجريد . وعلى سبيل المثال فان فريضة الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر هى دعوة لتطبيق المتعارف عليه من القيم العليا من العدل و الحرية و الرحمة و العطف و الصدق و البر و الاحسان و العفو و الشجاعة و الصبر ..الخ و النهى عن المتعارف على انه منكر قبيح من الظلم و الطغيان و البغى و القسوة و الجغاء والكذب و الخداع و الرياء والنفاق ..الخ .... ولكن تحولت بالتطبيق و التنظير و التجريد الى ما يفعله المطوعة فى السعودية وهو تطبيق للحديث الضال القائل ( من رأى منكم منكرا فليغيره .. ) وستأتى لنا وقفة تفصيلية مع هذا الموضوع فيما بعد بعونه جل وعلا.
هذا ما حدث مع ( المسلمين ) فى تطبيقهم للاسلام ـ بدءوا فى العصيان عند التطبيق للمبادىء المجردة و القيم ، ثم قاموا بتحويل العصيان الى تشريعات مجردة عبر الأحاديث و التفسيرات ودعاوى النسخ التراثى.
وهذا أيضا ما يفعله الغرب ( العلمانى )
هو يتفق مع المسلمين فى التطلع لتلك القيم المجردة ، ولكنه قد اعتاد على نمط من الحياة لا يستطيع التنازل عنه بسبب ايمانه بالحرية المطلقة للفرد ولو على حساب المجتمع ، ولكون الفرد فى المجتمع الغربى هو أساس المجتمع بينما تكون الأسرة فى المجتمع الشرقى هى أساس المجتمع.
المهم أن الغرب يحاول تبرير ذلك بالاعتراف بها وإقرارها ضمن منظومة فهمه للحرية ، أى يحول العصيان الى تراضى عليه فى إطار النقاش و الرأى و الرأى الآخر ، وحرية أن تفعله وأن لا تفعله.
والحرية تصحح نفسها بتفسها ، ونقول ـ من واقع التجربة و المعايشة للمجتمع الأمريكى ـ أن النقاش و الحوار الحر يقوم باصلاح حقيقى يأخذ مجراه الى التشريع والتصحيح .
وهنا يختلف الأمر مع مجتمعات المسلمين ، لأن الغرب العلمانى جعل كل تلك القيم المجردة وتطبيقها و الالتفات حولها و تغييرها ونقضها أو التمسك بها يدخل ضمن الجهد البشرى غير المعصوم ، أى إنها كلها أفكار بشرية و سلوكيات بشرية تخضع للنقد والنقاش. ولكن فى بلادنا الحزينة يتحول الإجرام الى فضيلة لا يمكن مناقشتها لأنها قد تحصنت بحديث نبوى و (سنة نبوية ) وقال صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يصبح قتل الأبرياء جهادا ، و قهر الأحرار واضطهادهم ومطاردتهم فرضا ضمن دين السّنة ، ومن يحاول النقاش يصبح منكرا للسنة.
باختصار نحن صرعى لأديان أرضية شيطانية جعلت الحق باطلا و الباطل حقا ، ونسبت ذلك لله تعالى ورسوله.
ولذك فانه خلال ما تبقى لنا من عمر ـ وهو قصير ـ لا بد من الدخول المباشر الى منبع الخطأ و الخطيئة ، وهى تلك الأحاديث و تلك السنن.
وخلف كل مصيبة يقع فيها المسلمون تجد حديثا ينسبونه للنبى محمد عليه السلام.
مقالات متعلقة
بالفتوى
: