وما تدري نفس بأي أرض تموت:
وعاد طفل الاسكندرية

محمد عبدالرحمن محمد Ýí 2012-01-29


          صباح أمس لم تشرق الشمس .. في سماء الواحة.. وذلك مما يندر أن يحدث على مدار الشتاء ..!! والكهرباء تنقطع طوال اليوم إلا عشر ساعات في تلك الواحة ..

بالمستشفى التي أعمل بها، مولد كهرباء لم يعمل منذ سنوات ، ووحدة الطاقة الشمسية معطلة منذ سنتين ولا تعمل..

تأتي  حالات الطوارئ ليلاً ونهاراًً  للكشف الطبي  وحالات الولادة في الشتاء القارس  في آواخر الشهر القمري وحالات الربو التي تحتاج جلسة بخار نيبوليزر لتوسيع الشعب الهوائية فجراً وصباحاً والكهرباء مقطوعة ممنوعة.

 عمال ومهندسي شركات الاستصلاح الزراعي الخاصة يترددون على المكان لتلقي الرعاية الطبية عند الاصابات في العمل وفي الطريق  والجروح وغيرها.. في أحيانٍ كثيرة لانستطيع الكشف الطبي إلا عن طريق نور الموبايل..  

لأن الكشافات الرديئة الصينية الصنع تعطب في أقل من أسبوع  بعد إرسالها من مديرية الصحة بالواحة الأم العاصمة.

هل يمكن أن نعطي مريضاً للمغص الكلوي حقنة عن طريق الوريد لتخفيف آلامه المبرحة في هذا الظلام الدامس ..!!

 كنا نفعل ذلك بمشقة كبيرة على ضوء كشاف الموبايل.. أما عن حالات الولادة  حرجة التوقيت  فحدث ولا حرج

... فمعظم حالات الولادة تأتي قرب الفجر .. ولا يوجد كهرباء .. وإن أتت في الصيف فجدران  غرفة الرعاية تكاد تشتعل من شدة الهجير والحر حتى وقت الفجر.. والكهرباء مقطوعة ممنوعة ..فجراً

 أما إن أتت حالات الولادة في الشتاء .. ودائما يكون ذلك قرب الفجر .. فتكون درجة الحرارة تقترب من التجمد.. فمناخ الواحة قاري شديد الحرارة صيفاً وشديد البرودة شتاءاً ولا يوجد تكييف للصيف أو للشتاء .

 ومرات عديدة تأتي حالات الولادة في هذه الأوقات الحرجة وحالات المغص الكلوي وحالات الأزمة الربوية الحادة..

ولايكون لنا من مصدر للإنارة  إلا كشافات عربة الاسعاف الطائر... فنطلب من السائق أن يوجه كشافات السيارة شديدة الاضاءة لغرفة التوليد.. ونتابع العمل حتى يتم إنجاز المهام الصعبة..

مرات أخرى يأتي الطفل مريض الربو بأزمة ربوية حادة، ويحتاج إلى جلسة بخار نيبوليزر .. ولا توجد الكهرباء.. فنطلب من سائق الاسعاف أن يشغل جهاز النيبوليزر الخاص بعربة الاسعاف على بطاريات العربة .. ونقوم بإجراء جلسة بخار بهذه الطريقة الصعبة.. إلى غير ذلك من الظروف الصعبة التي يتسبب فيها انقطاع التيار الكهربائي.

لكل هذه الظروف الجميع متعاطفون وخصوصا الشركات الخاصة مثل شركة (جهينة) للمنتجات الغذائية والزراعية.. لها مساحات شاسعة بتلك الواحة تستصلح فيها وتنتج ، ويعمل بها عمالة من مزارعين ومهندسين وفنيين ميكانيكا وكهرباء.. الخ..

 علموا بمشكلة المستشفى .. وأن المولد الكهربائي عطلان منذ سنين.. وأن المديرية الصحية لم تهتم بذلك ولا مجلس المحلي للقرية الواحة ،  فعرضت تلك الشركة الخاصة  أن يقوم فنيوها بصيانة المولد  وشراء بطارية خاصة له.. ولاكور .. وتموين المولد بالوقود اللازم لتوليد الكهرباء في حال انقطاع الكهرباء عن الواحة مدة الأربعة عشرة ساعة كل يوم..

في هذا الصباح الغائم الملبد بالغيوم التي لا تسقط مطراً إلا نادرا جداً  .. أرسلت الشركة طاقم عمل .. وقبلها بيوم أرسلت بنّاء ليقوم ببناء غرفة حول المولد الكهربائي  وأرسلوا الطوب والأسمنت والرمل..   وبالفعل تم بناء نصف الغرفة  إلى منتصف ارتفاع الحائط..

 وحضر الميكانيكي الشاب وفني الكهرباء .. و تم فحص  حالة المولد الكهربائي... قاموا بتركيب البطارية.. وأكدوا أن المولد محتاج إلى  شئ يسمى .. ( لاكور..)  لم يكن موجودا معهم..

 كان سائق سيارة الشركة في هذا اليوم سوف يأخذ اجازته الشهرية.. ويذهب إلى بلده الاسكندرية.. لقضاء الاجازة.. وقال له زملائه سافر  أنت ونحن نقوم باصلاح المولد الخاص بالمستشفى.. فقال لهم:

 عايز آخد ثواب .. قبل ما أسافر أنا وابني الصغير فلابد ان نصلح المولد اليوم..  

لقد كان هذا السائق يصطحب ابنه معه وكان هذا الطفل وديعاً في عامه التاسع .. ربما جاء مع والده من الاسكندرية في الجبل (صحراء  الواحة) ليقضي  أسبوعين او ثلاثة في أجازة نصف العام.. لأن الآباء في هذه المناطق لايعيشون مع أبنائهم فترات طويلة في بيوتهم .. فأكثر من ثلثي الشهر على مدار العام هم بعيدون عنهم.

طلب فني المولدات  الــ (لاكور)  وذهب السائق ومعه ممرض وفني إلى مقر الشركة لإحضار اللاكور .. وترك السائق ابنه بجوار مولد الكهربائي مع أحد زملائه وأبناء بلده الاسكندرية داخل المستفى القروي..

  أحضروا اللاكور .. من الشركة التي تبعد ثلاثة كيلو مترات عن المستشفى القروي..  وهم في طريق العودة إلى المستشفى .. في منحى (ملف) ومطب مزدوج ..

 انقلبت السيارة .. مرات عديدة وكانت تسير بسرعة كبيرة.. فتطاير سقف العربة الجيب وأبوابها.. كأنها قطعة قماش يذروها الريح..

 تطاير السائق من السيارة لأكثر من ثلاثين مترا .. تطاير باقي الركاب معه الممرض والفني الميكانيكي.. على مسافات مختلفة تزيد او تقل عن الثلاثين او الأربعين مترا..

تطاير اللاكور وعدة الشغل .. في جميع الاتجاهات..  من كان على قيد الحياة قام يبحث عن رفاقه .. ومن كان مارا على موتوسيكل توقف هلعاً ليجد كل راكب في السيارة على بعد عشرات الأمتار من رفيقه..

سطقت السيارة في حفرة عميقة مقلوبة على  إطاراتها الأربع.. وكانه فيلم من أسوأ  أفلام المغامرة بل قل المقامرة.. من أجل لقمة العيش..

ذهبت سيارة الاسعاف الطائر إلى مكان الحاث في دقائق..

لكن.. . لكن كان السائق ينزف بشدة وعنف من أذنيه والدماء تملأ رمال الحفرة التي سقطت بها  هو أيضاً

فارق الحياة في دقائق.. لاتتجاوز العشرين.. او الثلاثين.. كالأمتار التي طارها والسيارة تنقلب به وبمن معه.!!

  طفل الاسكندرية ابن هذا السائق كان جالساً بجوار المولد الكهربائي .. لم يخبره أحد بشئ ولم نستطع ذلك..

 لكننا وجدنا طفل الاسكندرية يبكي بحرقة وألم من دون أن يخبره أحد منا بوفاة والده  ذو السابعة والعشرين عاماً ..

  ركب طفل الاسكندرية مع زميل والده وبلدياته.. ليعود إلى أمه ولكن بدون الأب .

(وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت )

اجمالي القراءات 11178

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (6)
1   تعليق بواسطة   نورا الحسيني     في   الإثنين ٣٠ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64268]

لذلك لا يجب التأجيل

شكرا لك أستاذ / محمد عبد الرحمن على هذه القصة الواقعية التي تأثرت كثيرا عند قراءتها .


ومن الواجب علينا نحن كمسلمين موحدين أن نتعظ من مثل هذه الحوادث ونعمل بجد واجتهاد من أجل الآخرة ، ولا نؤجل عمل الخيرات والتصدق والإحسان لأننا لا نضمن العمر وقد ينتهي في لحظة كما رأينا في القصة موضوع المقال .


رحم الله الأب الذي حرص على فعل الخير ونيل الثواب قبل سفره وعودته لأهله حتى أدركه الموت ولم يرى أهله .


وألهم أهله وأبناءه الصبر والسلوان .


2   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الإثنين ٣٠ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64272]

الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم..فيما آتاكم..

السيدة الفاضلة / نورا الحسيني السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. مزيد الشكر والتقدير لمطالعة الحدث الواقعي الآني.. والتعقيب المشكور تاليه.. 


كما أود أن ندعوا الله جميعاً ان يتغمد هذا الأب الشاب برحمته.. فهو قد كان يسعى لنيل لقمة عيش حلال له ولأسرته الثكلى.. فهو من أبناء الاسكندرية.. وهو سائق وميكانيكي  يُصْلِح المولدات الكهربائية.. ترك بلده الإسكندرية.. وما فيها من تمدن وإمكانيات.. ليكسب لقمة عيش كريمة  له ولأسرته..


 وإن كانت هذه اللقمة محملة بالمشقة والاغتراب عن أسرته وعن مدينته التي تربى فيها ..


اغترب عن أولاده معظم أيام الشهر والسنة إلا قليلا.. لينال فرصة عمل تحمل الأمل له ولأسرته..!


 كان مخلصاً في عمله محبا لفعل الخير.. مات في أجله المحدد الذي قدره الله تعالى له..


لكن الموت فجيعة وفراق..


 لكنه قد دخل الاختبار والابتلاء.. الذي كتبه الله على جميع الأنفس..


 رحم الله هذا الأب المناضل لأجل اسرته..


 فلم يسرق أموال المصريين ولم يرتشَ وكان سباقاً لخدمة سكان المنطقة التي يعمل بها..


 هو نموذج يحتذي لكل أب شاب مع محدودية ثقافته وثراء مخزونه الحضاري..


 ولنتذكر سوياً قوله تعالى.. ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم..)


3   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الإثنين ٣٠ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64274]

نحتاج الى هذه القصص الواقعية التى تنقل لنا معاناة الابطال الحقيقيين صانعى الحضارة

دائما أنحاز الى الشخص العادى الذى يظلمه الحكام المستبدون واعوانهم كما يظلمهم المؤرخون. ومن روعة الاعلام الأمريكى أن البطل الحقيقى الذى يطوف حوله الاعلام هو الشخص العادى فى أى مكان بغض النظر عن لونه ومكانته . فطالما حدث شىء يجوز عليه وصف الخبر المثير للاهتمام يؤتى بصاحبه سواء كان مغمورا أو مشهورا . الرئيس الأمريكى لا يحتل صدارة الأنباء إلا بمقدار أهمية النبأ نفسه . أما فى عالمنا الثالث فالاضواء مسلطة على أحطّ الناس ، وهم المستبد واعوانه والراقصين فى مواكبه التى لا تنقطع . السبب أن المستبد يملك الاعلام ويعتبر وزارة الاعلام وزارة سيادية ، بينما تمنع الديمقراطية الغربية ملكية الدولة للاعلام ، وتجعله ملكا للافراد والشركات المملوكة للافراد . وبهذا تسعى وسائل الاعلام الغربية الى تحقيق الربح بالتقرب للشخص العادى الذى يريد أن يرى نفسه فيها ليقبل عليها ، ولا يهمها الحكام إلا بمقدار ما يهتم به الشخص العادى.


القصة التى بين يدينا والتى يحكيها بصدق الدكتور الطبيب محمد عبد الرحمن محمد تحكى لنا عن ناس عاديين فى منطقة نائية من مصر ومنسية ، ولذا فهم يعانون لأنه فى نظم الاستبداد والحكم المركزى يتركز الاهتمام على الحاكم واعوانه والقريبين منه ومن محل سكنه ، لذا تعاظمت شرم الشيخ والساحل الشمالى وخليج السويس لأنها سكن الحكام ، أما الأحياء الشعبية فى القاهرة والريف والواحات فهى ساقطة من الذاكرة . ظلم فظيع وهائل ، وآن أوان التخلص منه بتأسيس حكم ديمقراطى لا مركزى يحكم فيه الناس أنفسهم بأنفسهم وينقطع دابر الاستبداد والفساد .


قل يا رب ..!!


4   تعليق بواسطة   محمد عيد     في   الثلاثاء ٣١ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64288]

أعانكم الله على هذه الظروف الصعبة

شيء غريب أن هناك مناطق في مصر لم يصلها تيار كهربي طبيعي كباقي المدن المصرية!


قصص واقعية وتوضح مدى المعاناة التي يعانيها سكان هذه المناطق النائية ومعها معاناة الأطباء الذين يتحملون مسئولية صعبة في ظل غياب وانعدام الامكانيات ، والعاملين في هذه المناطق البعيدة عن العمران .


جزاك الله خيرا  دكتور محمد عبد الرحمن وأعانك الله على هذه الظروف الشاقة  ،واعظم لك الاجر فهو جهاد بجانب أنها مهنة نبيلة تساعدون فيها المرضي الفقراء منهم خاصة ، لأنه من المؤكد أن المقتدرين لا يذهبون لهذه  المستشفيات معدومة الامكانيات . 


 


 


 


5   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الثلاثاء ٣١ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64299]

وما زال هناك الكثير من الوقائع الحية.. المشرفة .. !

إنه لمن دواعي سروري أن يَشْرُف مقالي القصصي هذا المتواضع بتعقيب من  أستاذنا العزيز  دكتور / أحمد صبحي منصور.. فهذا التعقيب منه قد أضاف للمقال وزاده بهاءاً وغنىَ .. وثراءاَ ..  كما انني قد وعيت اهمية أن يركز الكاتب والمفكر .. على الشخصيات المجتمعية المصرية الغير مشهورة.. والتي تتوه وسط الزحام .. زحام الحياة وزخمها بالانشغال والانغماس التام في الحصول على لقمة العيش ..


 تلك اللقمة التي ربما لا تأتي إلى على جثث وأشلاء الكثيرين مما نسيهم التاريخ والمؤرخين.. عن عمد .. وعن غير عمد..


 فالذي يصنع التاريخ ويوجهه هم ندماء السلاطين من الكتاب والمؤرخين..


آن الآوان ..  لأن يصنع التاريخ  أبطاله الحقيقيون.. من عموم أبناء الأمة وذلك يتم لو أن عموم أبناء الأمة قد قاموا بحكم انفسهم في قراهم وواحاتهم ونجوعهم.. في حكم محلي راشد غير مفروض عليهم..


 خالص الشكر والتقدير لك دكتور احمد .. ان لفت نظري إلى أهمية الكتابة عن البسطاء والمنسيين في مشوار العمر عمر الأمم وعمر الأمهات التي انجبت تلك الشخصيات الكبيرة  ولكهنا نكرة عند السلاطين وفقهاء السلاطين.


 والسلام عليكم ورحمة الله.


6   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الخميس ٠٢ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64329]

شكراً لك أستاذ / محمد عيد..

شكرا لك أستاذ م محمد عيد على المرور على المقال والتعقيب وعلى هذه المشاركة الوجدانية التي تدل على أن المصريين المخلصين لمصر لا يبخلون عليها بالعمل والتضحية  وحفظ ثرواتها .. التي أهدرها .. مستبدوا السلطة احفاط فرعون وهامان..


 كما أحب ان انوه إلى ان هناك الكثير من المناطق تعاني أكث من ذلك بكثير .


. حتى ولو أن  بها كهرباء في تلك المناطق.. ولو تطرقنا إلى هذا الموضوع لاحتجنا إلى عشرات الصفات للتذكير والتعريف بمشاكل وهموم تلك البقاع المصرية الأصيلة .


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2008-10-30
مقالات منشورة : 77
اجمالي القراءات : 1,417,903
تعليقات له : 1,952
تعليقات عليه : 498
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt