كمال غبريال Ýí 2008-10-17
نستطيع أن نضع الليبرالية الجديدة في مقابل ما يمكن أن نطلق عليه الليبرالية المثالية، التي نقصد بها اعتناق مجموعة المبادئ والمقولات الليبرالية، ومحاولة تطبيقها كما هي، في كل الأوضاع وعلى كل الأمور، باعتبار أي محاولة للفحص والتمحيص، ومن ثم التفريق بين رأي وآخر، أو بين حالة واقعية وأخرى، هو نهج معاد لليبرالية، ويتم ذلك على حساب غض النظر عن النتائج العملية التي ستتحقق على أرض الواقع نتيجة لذلك التطبيق، فيما م&dil; مفهوم الليبرالية الجديدة كما نراها يشمل اعتناق ذات المبادئ الليبرالية، مع دراسة الواقع محل التطبيق، واتخاذ ما يلزم من مواقف، بما يكفل تطوير الحالة محل البحث، والسعي لتوافقها مع الليبرالية، فالليبرالية الجديدة إذن ليبرالية عملية، وهي ليبرالية فاحصة دارسة، وليست ليبرالية عمياء، تتعبد للمقولات النظرية، كما لو كانت أيديولوجيا أو عقيدة جامدة.
يحمل دخول نيكولا ساركوزي متوجاً إلى قصر الإليزيه في منتصف مايو الجاري أبعاداً تتجاوز حدود فرنسا، رغم أن الرجل كان وزيراً للداخلية، ومعظم ما يدور من جدل حوله يتعلق بسياساته الداخلية، وبالتحديد فيما يتعلق بقضايا الهجرة والمهاجرين، ومع أنه محسوب على اليمين المحافظ، إلا أنه بالطبع ينطلق من أرضية ليبرالية، لكنها ليبرالية تختلف كما نتوقع عن النمط الليبرالي الذي كان سائداً قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، ذلك النمط الذي تميز بأنه كان انفتاحاً محضاً على العالم، على البشر باختلاف أجناسهم، وعلى الأفكار بكل تنوعاتها وتعارضاتها، هي الليبرالية المعتبرة ساحة تتسع لكل ما في الكون، ولا تنتهج أي تصنيف أو فرز، لكل ما يدخل إلى ساحتها أو يخرج منها.
فبفضل هذا النهج تحولت أوروبا وأمريكا إلى مرتع لكل جماعات التطرف والإرهاب الأصولي، وتحولت مدنها وعواصمها إلى أوكار يتناسل ويتوالد فيها شياطين الإرهاب، وتخرج منها لتصيب بلدغاتها موطنها الأصلي في الشرق الأوسط، وكلما استغاثت حكومات تلك الدول من هول ما يطفح على بلادها من أوروبا مركز النور والاستنارة، سمع السادة الليبراليون الشماليون صيحات الاستغاثة وكأنها زئير القهر والاستبداد الشرقي العتيد، يريد أن يطال الثوار الذين فروا إلى بلاد الحرية والأحرار يحتمون بها، فكانت لندن (ومازالت) عاصمة جماعة الإخوان المسلمين، التي هي مرحلة التعليم الأساسي لكل جماعات الذبح والتفجير والتكفير، وكانت فرنسا الرحم الذي احتضن آية الله الخوميني، وامتد فيها نشاطه وتعاظم، ومنها خرجت تعليماته ومواعظه وتوجيهاته، حتى كان له ما أراد، وكان للشعب الإيراني والعالم ما قدر له، والليبرالية الأوروبية سعيدة بنفسها، وبالتزامها الحرفي بمقولاتها، رغم سقوط الشعب الإيراني بين فكي تنين الكراهية الأسطوري، وامتداد أصابع ثورته الإسلامية لتعبث في أحشاء جيرانها، في العراق ولبنان وفلسطين والبقية تأتي.
لا يتسع المجال هنا لاستعراض كل ما يسرح ويمرح في ربوع أوروبا من منظمات القتل والكراهية، حتى استيقظت أخيراً على دوي الانفجارات في نيويورك ولندن ومدريد، وعلى ما اكتووا بناره في مستنقعات الشرق في أفغانستان والعراق، وها هي لبنان توشك على السقوط، هكذا استحالت الليبرالية المثالية إلى ملجأ ومفرخة للفاشية الأصولية والإرهاب، وقد تم هذا تحت مظلة أن الليبرالية تتسع لجميع الأفكار، ولا تحجر على أي رأي، طالما لم يرتكب صاحبه ما يعاقب عليه القانون، ويعني هذا عملياً أن نترك الدعوات الفاشية تستشري، والتنظيمات الإرهابية تتشكل، ومصادر تمويلها تصبح شبكة عنكبوتية هائلة، ثم حين تحدث تفجيرات نبدأ في البحث عن الفاعلين، وإن وجدناهم نبدأ في جمع الأدلة الدامغة، وأثناء ذلك تكون تفجيرات وممارسات إجرامية أخرى قد حدثت هنا وهناك، ويكون الإرهاب قد صار تسونامي يكتسح كل ما أمامه، وكل ما أنجزته الحضارة الإنسانية في آلاف السنين، بفضل الرعاية المثالية للسادة الليبراليين الأنقياء الأتقياء، الذين بفضلهم تحولت منظمات حقوق الإنسان إلى منظمات نصرة الإرهابيين والذود عنهم، وتفرغت تقارير تلك المنظمات لإدانة الحكومات التي تقف موقفاً حاسماً لاستئصال شأفة الإرهاب من أراضيها، ليخلص المواطن البسيط المعرض لعصف الإرهاب من هذا، بأن ملجأه وحاميه هو تلك النظم السلطوية الشمولية، وبأن الليبرالية آخر ما يصلح لبلاده.
الليبرالية المثالية (ابنة أوروبا الحرة المعقمة من كل الموبقات) في عصر العولمة وتداخل الشعوب والثقافات، صارت أشبه بكيان رخو، بلا قشرة تحميه من الفيروسات والهوام التي تهاجمه، ما يتيح أيضاً لتلك الكائنات أن تتسلل إلى داخله، تقتات على مكوناته وأحشائه، فتنمو ويشتد عودها، حتى تفجره من الداخل، وتنطلق منه لتعيث فساداً في سائر أنحاء الأرض.
وهنا وبالتحديد بعد 11 سبتمبر 2001 ظهر الليبراليون العرب الجدد، يدعون لليبرالية قادرة على شق طريقها في بوادي الشرق ومستنقعاته وظلماته، تساندها ليبرالية جديدة في أوروبا وأمريكا وسائر العالم الحر، وها هو ساركوزي في أولى تصريحاته بعد إعلان فوزه برئاسة الجمهورية، يمد يده ويد فرنسا إلى أوروبا وأمريكا، ويلتفت جنوباً ليناشد دول حوض المتوسط (وجلها عربية) لتشكيل كيان يلعب دور همزة الوصل بين أوروبا وأفريقيا، ويعد بمساندة أفريقيا في قضية التنمية، لتستطيع المحافظة على أبنائها، فلا يضطرون إلى الهجرة هرباً من البؤس والفاقة، رؤاه إذن ليست معادية لذوات المهاجرين، لكنها ضد ما تشكله الهجرة العشوائية من تهديد لكيان فرنسا العلماني، فالهجرة العشوائية هي النواة التي ينبت منها الإرهاب ومعاداة العالم والحضارة، فالأمر في فكر ساركوزي ومن هم على ذات النهج ليس أمر تفرقة عنصرية، سواء كان أساسها الجنس أو الثقافة أو العقيدة، وإلا ما كانت الدعوة لشعوب البحر المتوسط للالتحاق بأوروبا، إنما هو موقف في مواجهة العشوائية وما تحمله من إمكانيات لاحتضان السخط وكراهية العالم والنقمة على الحضارة.
هي إذن الليبرالية، ليست الليبرالية المثالية مغمضة العيون، لكنها الليبرالية العملية، ليبرالية الممارسة على أرض الواقع بكل تناقضاته، تتفاعل معها بحثاً عن طريق النجاة، وعن الفاعلية في إيقاظ الشعوب من سباتها، والأخذ بيدها خطوة خطوة، ومساعدتها بكل الطرق المتاحة على تحطيم أغلالها، وليس تسليمها فريسة سهلة مخدرة ومكبلة لوحش الإرهاب، عبر تطبيق حرفي أعمى لآليات الديموقراطية التي لا تتوفر أدنى مقوماتها، كما حدث في الجزائر في التسعينات، وكما حدث أخيراً في فلسطين، ليضطر العالم الحر أمام بؤس النتائج المتحققة إلى أن يتناقض مع ذاته، ويعود ليقاطع ويحاصر الحكومة الفلسطينية التي تمخضت عنها الانتخابات، التي كان الغرب ذاته هو المحرض عليها.
نتوقع لفرنسا في ظل الليبرالية الجديدة أن تكون قوة أساسية وفاعلة في مقاومة الإرهاب، وأن تكون أكثر جدية في السعي لإعادة ترتيب منطقة الشرق الكبير لتهيأته لقبول الحداثة، وأن تكون عوناً (كما قال ساركوزي في أولى تصريحاته) للقوى التي تسعى لنشر الحداثة ومقاومة الإرهاب، وأن تتخلص فرنسا إلى الأبد من عقدة التميز والتفرد الديجولية، والتي تبدو خلفها عقدة إحساس بالدونية أمام العملاق الأمريكي، والتي نهج على نهجها جاك شيراك، وهو النهج الذي كان خصماً من مصداقية الشعب الفرنسي العظيم، ومن فاعليته في أداء الدور التنويري المنتظر منه، والكف عن مهادنة ومنافقة تيارات الغوغائية والجمود الشرقي، تسولاً لتأييد يرتد بالوبال على كل من شعوب الشرق والغرب.
نتوقع لفرنسا أيضاً المزيد من الفاعلية والريادة في قيادة أوروبا لتطير نفسها مما تسلل إليها من منظمات وخلايا إرهابية، لتكون قادرة بعد ذلك على متابعتها حتى آخر وكر لها على سطح الكرة الأرضية.
فرنسا التي بدأت منها أنوار الليبرالية الأولى، وخرجت منها شعلة الحرية إلى جميع أنحاء العالم، أمامها الآن رسالة إيصال الليبرالية إلى أبعد ما تستطيع من عالمنا، الذي صار الآن قرية واحدة، ولكي يتحقق لها هذا لا يكفي نشر الثقافة وفكر التنوير، فلابد وأن يرافقه المساهمة الإيجابية والعلمية في تنمية مناطق التخلف في العالم، وهو ما لن يتحقق إلا بمساعدة الشعوب على تحطيم أغلالها، وعلى هدم الأبنية العتيقة والأسوار العالية، والتي يقف بقاؤها سداً في وجه رياح التغيير والتحديث.
الجزائر الجارة لفرنسا تنتظر يد العون الفرنسية لاستئصال ذيول القاعدة التي بدأت تعبث بأمنها، مهددة تونس والمغرب وأيضاً، ولبنان تنتظر وقفة قادرة على إقالته من عثرته، وتخليصه من أنياب حزب الله وإيران المغروسة في رقبته، ينتظر الشرق الكبير فرنسا جديدة وجادة وفاعلة!!
دعوة للتبرع
الجلد لا القتل: سلام علی ;کم یا دکتر احمد صبح 40; ...
الزواج في الكنيسة : أنا أمريك ى مهاجر من مصر . أحببت زميلت ى في...
على بن ابى طالب: هل من الممك ن ان تصف لنا علي بن أبي طالب .. بمعنى...
حاش لله .!: قريت لحضرت ك يا دكتور احمد معنى دين الملك وان...
more